بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حاء

شعر: أديب كمال الدين

 

 

المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1 ،  2002

 

الأعمال الشعريّة الكاملة، المجلّد الثاني،  منشورات ضفاف، بيروت، لبنان  2016

 

غلاف ط 1 الفنان زهير أبو شايب

 

ترقيم الصفحات حسب طبعة الأعمال الشعرية الكاملة

 

القصائد                    رقم الصفحة

    

خسارات                   121                        

زمن أرعن                 124                   

وحشة الرأس              127                        

ملك الحروف              131                 

مَلَل                         142              

صورة الولد في ورق اللعب  146     

دمعة مضيئة                151                     

كلمات                       153                      

جيم شين                    157                    

كيس الحروف             160                     

حاء                          162          

سرقة                        169

ثلاث صور للموت        172                          

تبّاً لكِ!                       174        

مائدة الغرباء               178            

مشهد                        179           

غزل حُروفيّ              181           

برقيات سعيدة جدّاً         184            

العازف                     188             

جيم سين دال               190                  

حوار مع طاغور          193         

زلزال                       198                   

النار والسندباد              202         

غزل على طريقة فان كوخ  205                          

بانتظار أن تهبط حبيبتي   207          

نونيّات جديدة                210                   

أخطاء                        215                    

ثنائيّة                         218                   

الغراب                       236         

شكراً أيّتها الموسيقى       230             

أمجاد النقطة                 231        

اركعْ فركعت                232        

دجلة                         236          

الزمن يركض، الزمن يغرق 238        

خرافات                      242                   

حوريات الفردوس          245        

ارتباك الزاي                248        

ضحك                        252       

رسالة الحروف             254           

الحفلة                        259

 

 

 

 

 

 

 

خسارات

 

 

 1.

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمَل

فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقعَ في أخرى.

فأنا – على سبيلِ المثالِ – متّ،

متُّ منذ زمنٍ طويل

وشبعتُ موتاً.

وحينَ قرّرتُ أنْ أقومَ من موتي

لابساً الأخضر بدل الأسْوَد

وراكباً الغيمة بدل الدرّاجة الهوائيّة

صدمتُ بفسادِ الغيمة

وتمزّقِ ثيابها الداخليّة.

2.

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمَل.

دخلتُ في النارِ واحترقتُ كما ينبغي

وحينَ قمتُ من رمادي

وجمعتُ رمادي

وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد،

صُدِمتُ حينَ عرفت

أنّ مَنْ ألقاني في النار:

أصدقائي الذين أعطيتُهم نورَ الأخضر

وأحبّتي الذين منحتُهم شمسَ الغيمة.

فارتبكتُ لأنّني لم أهيّئ نَفْسي لدورِ الفادي

ولم أكنْ أتصوّر أنّ دورَ يهوذا

سَيُعاد عرضه في كلّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق.

3.

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمَل.

صرتُ أقلّبُ أسماءَ المدن

فأجدها مُتشابهةً كالموت،

وأقلّبُ أسماءَ الأزمنةِ والأمطار

والجروحِ والصواعق والنساء

فأرتبكُ

لأنّ جسدي الذي قامَ من موته عشرات المرّات

وقلبي الذي قاومَ العاصفةَ والدمَ والذهب

بكيا أمامي كطفلين يتيمين،

واشتكيا لي من ضياعِ الحلم

بل صرخا من ضياعِ الحلم

وخرجا كمجنونين في الشوارع.

فما الذي سأفعله سوى أنْ أعلن:

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمل،

لم تعدْ، لم تعدْ تُحْتَمل.

ولذا سأعلنُ عن ترتيبِ الأنهار

لأجعلها تذهب من الجنوبِ إلى الشمال

لأخفّفَ من آلامي،

سأعيدُ ترتيبَ الغيوم

لأجعلها تسافر بالرسائل البريديّة

لأخفّفَ من عُري طفولتي،

سأعيدُ ترتيبَ الدموعِ لتكون أكثر غموضاً

حتّى أعالج حنينَ منائري الذهبيّة

فلا يلحظ بكائي أحد

ولا يشمت فيَّ أحد.

 

 

 

 

 

 

زمن أرعن

 

 

 

1.

حُبّكِ خطأٌ يتكرّرُ في الدقيقةِ ستيّن مَرّة.

2.

حُبّكِ ساعةٌ لا تقفُ لتنظرَ إلى الوراء

إلّا لتدفنَ رأسَها في الرمال.

3.

حُبّكِ ساعةُ صراخِ طفل

وشاعر صعلوك

ومدينة تغرقُ في بحرِ الجوعِ والعنف.

4.

حُبّكِ عقاربُ زمنٍ أرعن.

5.

حُبّكِ ساعةٌ تكذبُ لتصدق

وتصدق لتمارسَ أكاذيبها وترّهاتها.

6.

حُبّكِ أكذوبةٌ وساعتكِ طفلٌ لا أب له.

7.

دمي ساعةٌ لا بدء لها إلّا مَع عُريكِ.

وهكذا فقد حُكِمَ على ساعتي بالتوقّفِ الأبديّ.

8.

أيّتها الفارغة

كيفَ امتلأتِ بحركةِ اليد؟

أنتِ الساعة التي أردتُ لها

أنْ تسيرَ بحلمِ الجواهر 

وزقزقةِ الحروف

وبهجةِ الشِعْر.

9.

أنتِ ساعةٌ تدقُّ، تدقُّ، تدقّ:

تك... تك... تك...

وتنادي راعي جسدها المُتوحّش

لتسلّم له – كلّ ليلةٍ – دقّاتِ قلبي

في فرحٍ غبي

وحيوانيّة كاملة.

10.

أنتِ ساعةٌ تتوسّلُ وتتسوّل.

11.

أنتِ ساعةٌ لا تكفُّ عن الدوران

في صحراءِ العبثِ الكبرى.

12.

حُبّكِ مذبحةُ الساعاتِ الميّتة

التي حطّمها هجومُ الزمنِ المفاجئ.

13.

حُبّكِ ساعةُ البرابرة،

ساعةٌ روحُها الأنيابُ والعِصِيّ

والسكاكينُ البرّاقةُ وسطَ الشمس.

 

 

 

 

  

 

وحشة الرأس

 

 

 

1.              

في عليائي

سمعتُ صوتَ الأيّامِ: أرامل مِن سَواد.

في شحوبي

سمعتُ صوتَ الحرسِ وهم يتناهبون

صباي وشبابي وبياضَ لحيتي.

فارتبكتُ: أإلى هذا الحدّ كانَ النحاس

رخيصاً أمامَ الذهب؟

 2.

في عليائي وشحوبي

عيناي ثقيلتان فلا تبصران

فصرتُ أرى بأذني

وأبصرُ بقلبي.

كانت الوحدةُ مُطلقةً،

كانت الوحدةُ تشبهني تماماً

أنا الأعزل الذي طُعِنَ حتّى أربكه

منظرُ الدمِ غزيراً كشلّال،

منظرُ الدمِ جامداً هادئاً كترنيمةِ طفل.

 3.

في عليائي وشحوبي

أُنْقَلُ من حربٍ إلى حرب

ومن صحراء إلى صحراء

ومن سفينةٍ إلى سفينة

ومن ارتباكٍ إلى ارتباك

ومن نحاسٍ إلى نحاس.

لكنّ الذهب يترصّدني،

أصدقائي - قبلَ أعدائي - ينحنون أمامَ بريقِ الذهب

فيسلمونني خلسةً إلى يهوذا.

ويهوذا قبلَ أنْ يفيقَ الجميع

من نومِهم القلق،

من جشعِهم المرّ

يقودني إلى منفاي وَسَقَري،

يقودني إلى رمحي الطويل.

4.                 

ياه...

يا لرمحي الطويل

كلّهم يحملون رماحَ النحاس

ورمحي أطولهم!

ياه...

يا لبرودة جبيني

وطمأنينة حلمي.

يا لجمال طيوري

تلاحقني من عينٍ إلى عين

ومن حاءٍ إلى حاء.

ياه...

كلّهم يرون فلا يفقهون،

كلّهم يتعذّبون برماحِ النحاس

وهي تدخلُ في عيونهم التي أعماها البريق.

يا لصيحاتهم،

يا لآهاتهم،

يا لخيباتهم!

5.

في عليائي،

في وحشتي وشحوبي

ورحيلي العظيم،

سمعتُ صوتَ كلِّ شيء

وأبصرتُ بالعينِ والأذنِ والقلبِ كلَّ شيء.

فسخرتُ من بريق ِالذهبِ والنحاس،

من بريقِ الحرس،

من بريقِ الأيام،

من بريقِ الكلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملك الحروف

 

 

 

1.

النقطةُ فضّة

والحرفُ ليرةُ ذهب.

فما أسعدني أنا ملك الحروف.

2.

النقطةُ بسمة

والحرفُ ضحكة.

فما أسعدني أنا ملك القهقهة.

3.

النقطةُ بخور

والحرفُ رقصةُ السَّحَرة.

فما أسعدني أنا ملك الجِنّ

صاحب الجناحِ الأخضر الكبير.

4.

النقطةُ موت

والحرفُ جريمةُ قتل.

فما أسعدني أنا طاغية العصر.

5.

النقطةُ ندى

والحرفُ دمعة.

فما أسعدني أنا العاشق الأعظم.

6.

النقطةُ شِعْر

والحرفُ أغنية.

فما أسعدني أنا صاحب الأناملِ الذهبيّة.

7.

النقطةُ هرطقة

والحرفُ تجديف.

فما أسعدني أنا الكبريت الأحمر.

8.

النقطةُ بلاء

والحرفُ طوفان.

فما أسعدني أنا الذي رأى كلَّ شيء.

9.

النقطةُ دفّ

والحرفُ طبل.

فما أسعدني

أنا الغجريّ الذي يضعُ الأقراطَ في أذنيه

والأساورَ في معصميه

ويرقصُ وسطَ النساء.

10.

النقطةُ خمرة

والحرفُ كأس.

فما أسعدني أنا أبو نؤاس الذي لا يتوب.

11.

النقطةُ سخرية

والحرفُ هجاء.

فما أسعدني أنا الحُطيئة وابن الروميّ

والأحوص وابن هرمة وأنا..........

12.

النقطةُ طفولة

والحرفُ عيد.

فما أسعدني أنا الطفل الذي لم ينمْ

ليلةَ العيد بانتظارِ شمسه المُلوّنة.

13.

النقطةُ عُري

والحرفُ جسد.

فما أسعدني أنا كزنوفا القارّات.

14.

النقطةُ عروس

والحرفُ عُرس.

فما أسعدني أنا لابس البدلة البيضاء

وواضع الزهرة البيضاء في أعلى البدلة.

15.

النقطةُ حرمان

والحرفُ وحشة.

فما أسعدني أنا المحكوم عليه بالسجن المُؤبّد.

16.

النقطةُ خرافة

والحرفُ أسطورة.

فما أسعدني أنا سيّد العصور.

17.

النقطةُ باء أو نون

والحرفُ ألف.

فما أسعدني أنا صاحب الخورنق والسدير

والشويهة والبعير.

18.

النقطةُ دم

والحرفُ قلب.

فما أسعدني أنا المُعذَّب دوماً

والمصلوب حتّى الموت.

19.

النقطةُ فراغ

والحرفُ فراغ.

فما أسعدني أنا الغريق

بلا اسمٍ ولا معنى ولا مكان.

20.

النقطةُ دمعة

والحرفُ عين.

فما أسعدني أنا النائحة في كلِّ بيت.

21.

النقطةُ حرف

والحرفُ أبجديّة.

فما أسعدني أنا بهلوان الكلمات.

22.

النقطةُ وداع

والحرفُ إشارة الكفّ الأخيرة.

فما أسعدني أنا مُفرّق الجماعات

وهادم اللذّات.

23.

النقطةُ نزيف

والحرفُ نهر.

فما أسعدني أنا المقتول على نهرِ الفرات.

24.

النقطةُ لقاء

والحرفُ قُبَل.

فما أسعدني أنا المُراهق الخطير.

25.

النقطةُ سكّين

والحرفُ رصاصة.

فما أسعدني أنا المُهَلْوِس الأكبر.

26.

النقطةُ نقطة

والحرفُ حرف.

فما أسعدني أنا ابن الشارع الذي لا يفقهُ شيئاً.

27.

النقطةُ نور

والحرفُ شمس.

فما أسعدني أنا الموحِّد المذهول بنورِ بَصَري.

28.

النقطةُ تظاهرة

والحرفُ حشود.

فما أسعدني أنا الهاتف بحاءِ الحُبِّ والحرّيّة

حتّى الرمق الأخير.

29.

النقطةُ نظّارة

والحرفُ ناقد.

فما أسعدني أنا الذي أقيسُ

كلَّ شيءٍ بالمسطرة.

30.

النقطةُ حشيشة

والحرفُ سيكارة.

فما أسعدني أنا الحشّاش الأصفر.

31.

النقطةُ جمرة

والحرفُ دخان.

فما أسعدني أنا سيّد إعلانات هذا العصر.

32.

النقطةُ لعبة

والحرفُ سيرك.

فما أسعدني أنا المُهرّج الكبير.

33.

النقطةُ قُبْلة

والحرفُ امرأة.

فما أسعدني أنا سيّد الواهمين.

34.

النقطةُ فلوت

والحرفُ أوركسترا.

فما أسعدني أنا جايكوفسكي

المليء بعواصفِ الربيع.

35.

النقطةُ سعال

والحرفُ شيخ.

فما أسعدني أنا الذي سيموتُ بالسلّ

عمّا قريبٍ في غرفته المُظلمة.

36.

النقطةُ عقل

والحرفُ مستشفى مجانين.

فما أسعدني أنا المجنون الذي يشكُّ

في عقولكم جميعاً!

37.

النقطةُ رصاصة

والحرفُ موتٌ مجانيّ.

فما أسعدني أنا الذي سيموتُ قريباً

على يدِ جلّادٍ مُحترفٍ أو سيّارةِ تاجرِ حرب.

38.

النقطةُ ماء

والحرفُ بحر.

فما أسعدني أنا الذي حملَ البحر

إلى المرأةِ العارية.

39.

الحرفُ حياة

والنقطةُ بَعْثٌ من الموت.

فما أسعدني

أنا الملاك الذي يحملُ السرَّ في جناحه الأيمن

وسرَّ السرِّ في جناحه الأيسر.

40.

النقطةُ وحي

والحرفُ تنزيل.

فما أسعدني أنا مَن يحملُ إشارةَ العارف

بين عينيه

ويلبسُ عمامةَ الشهيد.

 

 

 

 

 

 

 

مَلَل

 

 

 

1.

مَللتُ من النظرِ إلى الدبَبَة

وهي تأكلُ بشراهةٍ

من عطايا دبِّها الكبير

ومن القِرَدَة

وهي تتسلّقُ، كلّ يومٍ، الأشجار 

لترمي الثمار

وتملأ الهواءَ صراخاً وزعيقاً.

مَللتُ من الكلاب

وهي تتشمّمُ الجُثث،

ومن الببغاوات

وهي تدهسُ الكلمات،

ومن الحمامة

وهي تتركنا، كلّ يوم، لنموت

وسطَ سفينةِ الحروف 

بحثاً عن نوح وطوفانه العظيم.

 2.

مَللتُ من الانتظارِ واللاانتظار، 

من الجدوى واللاجدوى،

من الصدقاتِ والخبزِ المغموسِ بالدم،

من رائحةِ المعنى ورائحة اللامعنى،

من الجنّةِ التي لا تجيء

ومن جهنّم التي تتعرّى كلّ يوم

لتكشفَ عن ساقيها ونهديها،

لتكشفَ عن مفاتنها العارمة

وسطَ سيركِ العذابِ العظيم.

 3.

مَللتُ من البكاءِ والصمت،

من الدمعِ والدمعِ الذي تحجّر،

من الذين عبروا البرزخ

وباعوا ثيابنا،

ومن الذين أحاطوا بنا

وسرقوا حروفنا

في ابتهاجٍ عظيم.

4.

مَللتُ من البريدِ وصندوقِ البريد،

من الأصدقاء الخونة

والأصدقاء الأجلاف

والأصدقاء اللصوص،

من الحرفِ وهو يتألّق

فلا يجد مَن يرى نوره،

ومن الحرفِ وهو يموت

فلا يجد مَن يقرأ عليه سورةَ الفاتحة،

مَن يقرأ عليه سبعاً من المثاني

والقرآن العظيم.

5.

مللتُ من الحربِ والسلام،

من المطاردةِ والاختباء،

من الفقرِ وشبحِ الفقر،

من الجوعِ ودبِّ الجوع،

من الجمرِ يُوضَعُ على اللسان

والملح يُوضَعُ في أساسِ الجدار،

من سيقان الجواري والمُخنّثين،

من أثداءِ العَوانس

وأكفِّ المُتسوّلين، 

من زمنٍ يتفتّتُ رملاً وقشّاً ورماداً. 

مَللتُ منكَ أيّاً تكون

وأينما تكون

ومَللتُ مِنّي: أنا الملول العظيم! 

 

 

 

 

 

 

صورة الولد في ورق اللعب

 

 

 

1.

 في طفولته

جلسَ في الشارعِ يستجدي أمّاً.

في صباه

جلسَ في المقهى المقابلِ للمقبرة

يستجدي أباً.

في شبابه

جلس في التاريخِ يقلّبُ السنين

يستجدي جدّاً.

وحينَ شاخ

تذكّرَ أنَه لم يلعب القمارَ أبداً

فقامرَ ليخسرَ كلَّ شيء:

الشارع والمقهى والتاريخ

الطفولة والصبا والشباب.

2.

بعد خسارته المُرعبة

فتّشَ جيوبه تحتَ شمسِ الغروبِ الكبيرة

فوجدها فارغةً من كلِّ شيء

إلّا من صورةِ الولدِ في ورقِ اللعب،

صورة الولد التي، ربّما، دسّها الدهر

في جيبه المُتشظّي

ليعمّقَ خرابه وزلزاله.

 3.

كانَ الولدُ جميلاً

فقطعَ من أجله الصحراء الكبرى

ليراه.

نعم، كانَ أجمل من دمعةِ ملاك.

وحينَ كبرَ الولد

تغّيرَ كلُّ شيء.

قيلَ له: إنّ الولد هو الشيطان،

إنّ الولد هو الشين،

هو النون،

هو النقطة.

4.

الولد قال،

قالَ الولد:

إنّ مَن تجلس بجانبِ الملك

لا تستحقّ ذلك

لأنّها تلعب لعبةَ الآه.

وقال: إن مَن تجلس تحتَ قدمِ الملك

لا تستحقّ ذلك

لأنّها تلعب لعبةَ التعرّي

وإنّ مَن يحمل مروحةَ الملك

ويسوق عربته

لا يستحقّ ذلك

لأنّه يعرف أنّ الهواءَ فاسدٌ ولا يتكلّم

ويعرف أنّ العربةَ ترجعُ إلى الوراءِ فقط

ولا يرفع الشارعَ مِن الخلف.

وقالَ الولد

وقال.

5.

قيلَ: إنّ الولدَ بدعة

والولد ضلالة

والولد هلاك مبين،

ما دمنا نركبُ السفينةَ الخطأ

في البحرِ الخطأ،

في الاتجاهِ الخطأ،

ذاهبين إلى شمسِ الخيانةِ والنحاس

لا شمس الطمأنينة والذهب. 

6.

ما الذي جعلني أصدّقُ بما قالَ الولد؟

كانَ الولدُ جميلاً

يضعُ على رأسه تاجَ الشباب

ولؤلؤةَ المعنى

وساعةً بلا عقارب.

كانَ الولدُ صادقاً كالسيف،

كالسيفِ الذي قطعَ رأسَ أجدادي

ورأسَ حلمي

ورأسَ حرفي ونقطتي.

7.

 إلى أين المسير الآن؟

هل كانَ الولدُ يكذبُ أم يبالغ؟

هل كانَ الولدُ يحلمُ ويهذي؟

أم كنتُ أنا مَن يحلمُ ويهذي؟

هل كانَ الولدُ في ورقِ اللعبِ حقاً؟

أم  كانَ اللعبُ في صورةِ الولد؟

مَن مِنّا الولد، ومَن مِنّا الأب؟

هل كانَ الولدُ هو الأمير؟

هذا ما أقولهُ بالتأكيد

وأقولُ كلمةً واحدة:

الولدُ هو ما تبقّى لي

بعد أنْ خسرتُ كلَّ شيء.

الولد هو المنفى

المنفى الذي أراه الآن

من شرفتي الملكيّة

المُحاطةِ بالنارِ والشتائم والحشودِ العارية.

المنفى الذي أراه

دونَ عينين

دونَ شفتين.

المنفى الذي تتدحرجُ أحجاره

ببطءٍ وألمٍ عظيمين. 

 

 

 

 

 

 

 

 

دمعة مضيئة

 

 

 

1.

رأى دمعتي

مَن يسوسُ الناسَ كما يسوسُ البغال

فأرادها نجمةً تزّينُ كتفيه العريضتين

وسنواته العجاف.

ورآها الطفلُ فأرادها لعبةً

تسلّيه وقتَ المساء

ووقتَ الصباح.

وأرادتها المرأة

لتزّينَ بها

عقدَها المُتدلّي بين النهدين.

2.

غيرَ أنَّ الله

رأى دمعتي في جوفِ الليل:

ليل أرضِ السواد،

فقال: خذْها نقطةً تُسمّي الشيءَ واللاشيء،

تُسمّي الوطنَ واللاوطن،

تُسمّي الرعبَ والطمأنينة.

قالَ: خذْها

ونمْ

فدمعتكَ صارتْ نقطةً

تضيءُ بزهدِ الأصلعِ البطين

وتتألّقُ بنجومِ المُعذَّبين،

وتعيدُ - يا أسفي على يوسف- ليعقوب الأعمى

مَن ضاعَ في البئرِ صبيّاً،

وتعيدُ الحمامةَ إلى نوح الذي بكى

على كلٍّ شيءٍ ولّى: الولد والغراب،

وتعيدُ يدَ موسى بيضاء

مِن غيرِ سوءٍ آيةً للناظرين.

وتربطُ على قلبِكَ

فلا يُبدي مِن السرِّ شيئاً

سوى السين والراء

سوى الماء.

 

 

 

 

 

 

كلمات

 

 

 

1.

 كلّما أريدُ أنْ أشربَ الكأس:

كأس السمّ

كما فعلَ سقراط

أتذكّركِ

فأرمي بالكأسِ بعيداً.

2.

كلّما أريدُ أنْ أسافرَ خارجَ الملكوت

كما فعل دانتي

أو أضيّعَ أخي ونَفْسي

كما فعلَ إخوةُ يوسف

أو أدخلَ النار

كما فعلَ إبراهيم

أتذكّركِ

فأكفّ عن السفر،

والضياعِ،

والنار.

3.

لابأسَ إذن

أنْ تأخذي بيدي ثانيةً إلى الحياة،

لابأس.

ولكنْ ما العمل

وصديقي المخلص: صديقي الموت

لا يكفُّ عن طرقِ الباب؟

أخبريه

ببراءةِ قلبكِ المعجونِ بألوانِ الفراشات

ألّا يرجع

إلّا بعدَ أنْ نلتقي

على قمّةِ جبلِ الحرف،

أو المنفى

أو الخُرافة.

4.

لابأسَ إذن

أنْ أرجعَ لأمارسَ دوري

في مسرحيةِ البشريّةِ الضائعة،

مسرحية تمتدُّ فصولها من بابل إلى بغداد

إلى بيروت إلى برلين إلى لندن

ثُمَّ إلى جهنّم بالتأكيد.

لابأسَ إذن

أنْ أرجعَ لأمارسَ دوري

كأبٍ لكِ

ولكنّي لا أحسنُ الكلامَ معكِ

لأنّ أبجديّتكِ عمرها ستة آلاف سنة،

ولا أحسنُ الرقصَ معكِ

فكريّاتُ دمي البِيض والحمر

دمّرها القهرُ والسبي،

ولا أحسنُ إسداءَ النصائحِ لكِ

لأنّكِ أكثر نضجاً

من ملكةِ النحل.

5.

هكذا إذن

أنحني أمامكِ

كأسدٍ أعجف

حطّمته السنين والوحشةُ والزلازل.

أنحني أمامكِ

وأطلبُ منكِ ثانيةً،

بل أتوسّلُ كشحّاذٍ هنديّ،

أنْ تسمحي لي بشربِ كأسِ السمّ

وأعدكِ بأنّني لن أشربها ثانيةً

يا ابنتي!

 

 *********

 (كلمات) هي ابنة الشاعر.

 

 

 

 

 

 

 

 

جيم شين

 

 

1.

هل للوحشةِ ذوائب أم أنياب؟

هل للوحشةِ تأريخٌ أم جغرافيا؟

هل للوحشةِ غناءٌ أم زعيقٌ أم أنين؟

هل للوحشةِ معنى؟

2.

هل جاءت الوحشةُ من التراجيديا أم من الكوميديا؟

هل جاءت الوحشةُ من الكواليس أم من الكوابيس؟

هل كانَ الماءُ مُوحشاً

فانتحرتْ أوفيليا فيه،

أم كانتْ أوفيليا مُوحشةً

فأُصِيبَ هاملت بسهمِ الجنون؟

 3.

الوحشةُ حبيبتي

هي التي اختارتني.

كنتُ فرحاً لأنَّ الزلزالَ لم يخترني

ولا الجنون.

كنتُ ساذجاً

لأنّني منذ أنْ تعرّفتُ إلى الوحشة

نبتتْ لي ذوائب وأنياب،

ونبتَ لي تاريخٌ دمويٌّ وجغرافيا زرقاء،

ونبتَ لي غناءٌ سِرّيٌّ عميقٌ كالفرات،

وزعيقُ رغباتٍ وحشيّة

تحاصرني كما تحاصرُ الدبّابةُ أعمى في البرّيّة،

ونبتَ لي أنين طوله مليون سنة

منذ أنْ بكى نوح ابنه

وهو يغرقُ أمامه،

منذ أنْ صرختْ أمُّ موسى

وهي ترى ابنها يتموّجُ وسطَ البحر،

ونبتَ لي معنى،

معنى وحشيٌّ أسْوَد

كرمحِ (وحشي) الذي اغتالَ به سيدَّ الشهداء. 

4.

آه مَن يستبدلُ الوحشةَ بالزلزال؟

فالزلزال موته كلمحِ البصر

والوحشة موتها بطيءٌ كسلحفاةٍ هرمة.

آه مَن يستبدلُ الوحشةَ بالجنون؟

فالجنون موته أحمر

كحرفِ الجيم

كحرفِ الجُثّةِ والجلجلةِ والجمجمة

والوحشة موتها عديم اللون

كحرفِ الشين

حيث الشهوات

والشيطان

والشقاء.

 

 

 

كيس الحروف

 

 

 

 1.

حينَ أفاقَ الطفلُ من نومه،

وجدَ اللقلق

قد ألقى إليه بكيسٍ من الحروف.

رقصَ الطفلُ فرحاً،

قال: أريدُ الحاء:

حاء الحنينِ والحُبِّ والحلم. 

مدَّ يده

فأخرجَ أو فخرجتْ له

- وا أسفاه – 

حاء الحرمانِ والحقدِ والحرب.            

ارتبكَ الطفل،

قال: أريدُ الباء،

باء الكونِ والبسملة.

مدَّ يده

فأخرجَ أو فخرجتْ له

باء البرابرة. 

2.

دمعتْ عينا الطفل،

وعادَ إلى النوم

فحلمَ أنّ اللقلق

جاءَ وحملهُ إلى الغيوم.

هناكَ رأى غيومَ الحاء

ورديةً مليئةً بالحُبّ

ورأى غيومَ الباء

بِيضاً كثيابِ العيد.

بكى الطفلُ ثانيةً في الحلم

ثُمَّ أفاق

فوجدَ كفّه مليئةً بالدم.

3.

منذ ذلك اليوم

قرّرَ الطفلُ ألّا ينام.

لكنّ اللقلق لم يأتِ.

وقرّرَ الطفلُ ألّا يمدَّ يده

في كيسِ الحروف.

فمرَّ زمنٌ قصير

ثُمَّ اختفى كيسُ الحروفِ إلى الأبد.

 

حاء

 

 

 

1.

حاءُ الحياةِ حلمٌ ورماد

وتاؤها ألمٌ ونومٌ ونسيان.

2.

هي ذي مدنٌ لا معنى فيها

وأخرى لا شمس فيها

وأخرى لا ماء فيها.

وحينَ نصلُ إلى الشيخوخة

نصلُ إلى مدنٍ لا هواء فيها.

3.

مِن المُحزن

أنْ أكتبَ قصيدتي

قربَ شُبّاكٍ مُقفل

خلفه شجرة تينٍ جرداء.

4.

وصلتْ حياتي إلى الشاطئ الأخير

دونَ أنْ تجدَ خرافتَها المُقدّسة.

5.

يبدو أنَّ هناك خطأ ما في الرحلة.

ربّما كانَ العنوانُ مَكتوباً بلغةٍ مُنقرضة

أو كانَ العنوانُ من دونِ نقاطٍ أو حروف

أو كانَ العنوانُ تنقصهُ الفكاهة.

6.

عجيبٌ هذا الذي يحصل

لقد وُعِدنا بالكثير:

الشمس،

والحُبّ،

والنساء،

والأنهار،

والنار.

لكنْ حدثَ أنْ استُبدِلت الشمسُ بالضباب

والحُبُّ بممارسةِ الجنس

والنساءُ بالثرثرة

والأنهارُ بالرمال

والنارُ بالرعب.

7.

بعدَ أنْ عبرتُ الفراتَ ودجلة

والحدودَ والأسلاك

واللامَ والشين

والخوفَ والطمأنينة

والإفلاسَ والخيانة

والرضا والاحتجاج،

أما آن لي أنْ أستريحَ قليلاً؟

8.

أفهمُ أنْ تتوقفَ عيناي عن الرؤية

ولساني عن الكلام

وأذني عن السمع،

ولكنْ كيفَ يتوقّفُ قلبي عن الحلم؟

كيفَ يتوقّفُ قلبي عن خَلْقِ الحروف؟

إذنْ، يا إلهي، كيفَ يسيرُ الدمُ في جسدي

يا إلهي،

يا إلهَ القلبِ والحلمِ والحروف؟

 9.

الحياةُ مُدّونةٌ من حروفٍ مُتناثرة

يكرهُ بعضُها بعضاً

ويحسدُ بعضُها بعضاً

ويتآمرُ، في حقدٍ أسْوَد،

بعضُها على بعض.

يا لتعاستي

كيفَ أحكمُ مملكةَ الحروفِ هذه؟

أنا رجلُ المعنى والسلام،

رجلُ الطفولةِ والطير،

رجلُ الفراتِ ودجلة،

رجلُ النقطة. 

10.

هل ينبغي كتابة القصيدة

من الأمامِ إلى الخلف

أم من الخلفِ إلى الأمام؟

من اليمين إلى اليسار

أم من اليسارِ إلى اليمين؟

أم من اليسارِ إلى اليسار؟

من الثلجِ إلى النار

أم من النارِ إلى الماء؟

من الماءِ إلى البحر

أم من البحرِ إلى الأرض؟

من نيويورك إلى بغداد

أم من بغداد إلى الجحيم؟

من الخرافةِ إلى النقطة

أم من النقطةِ إلى الجنون؟

11.

ينبغي على الشاعرِ أنْ يَتعرّى،

يَتعرّى تماماً

ليظهرَ جمالَ طفولته المُعذَّب

وطائرَ أبجديته القريب جدّاً

كغيمةِ تائهةٍ تجلسُ على سطحِ الدار.

12.

احترقتْ حروفي فكانتْ قصيدتي

رجلاً يطرقُ بابَ الجحيم

وهو يطيرُ من السعادةِ والحبور. 

13.

رغمَ أنَّ الموت الأسْوَد

أكلَ نقطةَ الحياةِ بوحشيّةٍ لا تُوصَف،

فإنَّ حاءَ الحياةِ بقيتْ حبيبتي.

 14.

نعم،

حاءُ الحياةِ حُبّ

رغمَ الزلازل والفواجع والحروب.

هكذا قالَ الله.

15.

عجبَ الحروفيّ من هذه الحاء.

فلقد رآها مَرّةً راقصةً أسطوريّة

ومَرّةً رآها توابيت عارية

ومَرّةً رآها ذهباً، وجمراً، ودموعاً، وسكاكين.

فاحتار.

قيلَ له: اخترْ لهذه الحاء كلمةً واحدة

ولا تزدْ.

فقال: حاءُ الحياة......

ومات.

16.

أظنّ الحروفيّ قال:

حاءُ الحياة حُرّيّة.

أو أنّه قال:

حاءُ الحياةِ حريقٌ أو حُطام.

17.

حاءُ الحياةِ حاء

حملها الحسينُ رأساً كرأسه

فوقَ رأسِ الرماح.

وحاءُ الحياة حاء

حملها الحلّاج

مقصلةً من ذهب

ومسامير نار.

 

 

 

 

سـرقة

 

إلى: علي جبار عطية

 

 

 

1.

تركني الحرفُ وانزوى بعيداً.

لم يعدْ يحتمل

جبالَ الأحزان التي يحملها عقربا ساعتي،

لم يعدْ يحتمل

وحشتي الجنونيّة،

ولا طفولتي التي اتسعتْ

فصارتْ بحراً لا نهاية له،

ولا سنواتي التي شارفتْ على الخمسين كارثة.

فانزوى بعيداً

وضعَ رأسَه بين يديه

وبكى،

فبكيتُ حتّى سالتْ روحي

فرددتُها إلى حرفي.

وبكى حرفي حتّى سالتْ نقطته

فرددتُها إليه... إلى الله.

2.

هكذا كُتِبَ عليّ

أنْ أرى رأسي يُحْمَل فوقَ الرماح

مثل رأس الحسين،

وأنْ أرى جسدي يتقرّحُ ويموت

مثل جسد أيوب،

وأنْ أحملَ على ظهري صخرةَ  اللعنة

لأبادلَ جنونَ الوطنِ بجنونِ المجهول،

ورمادَ الفراتِ برمادِ الأنهارِ الكسيحة،

وبهجةَ دجلة ببهجةِ الغيمة

ذات الملابس الداخليّة المُتهرّئة.

3.

كانَ يوماً سعيداً

ذلك الذي جلبتُ فيه رغيفَ خبز

لأطفالي المنفيين في أقاصي الحلم

دونَ أنْ أحرقَ بغداد في حروبِ هولاكو

ولا أقتلَ البسطاءَ العُزّلَ في حروبِ تيمورلنك

ولا أسلبَ الجواري في حروبِ جنكيزخان،

دونَ أنْ أركعَ إلى فرعون العصر

دونْ أنْ أرفعَ علمَ البرابرة

دونْ أنْ أحشرَ أنفي

في حروبِ المدنِ الكسيحة.

كانَ رغيفاً حَارّاً

خبزته بحلمِ الحرفِ الطيّب

والنقطةِ السماويّةِ التي فرعها ثابت

وقلبها في السماء.

لكنّ اللصوص كانوا بانتظاري:

لصوص الفراعنة

ولصوص هولاكو

ولصوص تيمورلنك

ولصوص جنكيزخان

ولصوص البرابرة

ولصوص المدنِ الكسيحة

فسرقوني في وَضَحِ النهار،

قطعوا يدي وأطفأوا عيني،

وسرقوا رغيفي الحار.

فما الذي سأقوله الليلة لأطفالي؟

فما الذي سأقوله الليلة لقلبي؟

فما الذي سأقوله الليلة لحرفي ونقطتي؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثلاث صور للموت

 

 

 

1.

حينَ جاءَ الشرطيّ

وطرقَ البابَ بعنف،

قلتُ له: ما تريد؟

قال: روحك.

ضحكتُ وقلتُ: إنّني أبحثُ عنها

منذ نصف قرنٍ دونَ جدوى!

وأغلقتُ البابَ بهدوء.

2.

حينَ جاءَ الشرطيّ في المرّةِ الثانية

وطرقَ البابَ بهدوء،

قلتُ له: ما تريد؟

قال: روحك.

قلتُ: حسناً.

وخرجتُ إلى الشارع

أقفزُ من الفرح.

أخيراً

سأقابلُ الموتَ الذي سيضعُ حدّاً

لهذه المهزلة التي اسمها: الحياة

التي اسمها، بالضبط، (حياتي)!

3

في المرّةِ الثالثة،

حينَ جاءَ الشرطيّ

وطرقَ الباب،

خرجتُ مذهولاً.

كانت الغيمةُ تهبطُ في الحديقة

فرفعتُها قليلاً كي أمرّ.

قال: ما هذه الغيمة؟

قلتُ: حياتي.

قال: أريدها.

قلتُ: خذْها.

فأمسكَ الشرطيّ بيدِ الغيمة

وهي تصرخُ وتبكي وتزرقُّ وتزرقّ.

 

 

 

 

 

تبّاً لكِ!

 

 

1.

أيّتها النون

عذّبني جسدُكِ:

قادتني عيناكِ من صحراء إلى صحراء،

ومن غيمةٍ خضراء إلى غيمةِ حروف،

وقادني نهداكِ إلى آسيا الطغاة

وهلاكِ الروحِ في كأسِ الخمرة

قطعةً قطعة.

أما بطنك

فكانَ تعويذة ضدَ المعنى

وضدَ الخرافة

وضدَ النعومة.

أيّتها النون

عذّبني جسدُك

لأنَّ أدغالكِ هي أدغال الأفعى التي أبكتْ كلكامش

إذ سرقتْ منه سرَّ الخلود.

2.

أيّتها النون

أعذريني

فعذابُكِ خلاصةٌ لعذابِ الطغاة

ولهَوَسِ الغجر

ولرعبِ سيوفِ الغدر

وللرؤوسِ المرفوعةِ فوق الرماح،

خلاصةٌ لمطرِ الأطفالِ الرعاة

ولتغريدةِ العندليبِ الوحيد.

عذابُكِ خلاصةٌ للسذاجةِ والسخف

ولصيحاتِ الجسد

ورغباته التي قادتني كأعمى

من منفى إلى منفى

ومن جحيم إلى جحيم.

3.

أيّتها النون

أعذريني لأنّكِ حرف كامل:

الداخل فيه هالك

والخارج منه هالك

والمتبرئ منه هالك.

إذنْ، أجيبي على سؤالي الطفل:

كيفَ الخلاص منكِ

وأنتِ الحلم والسرير

وأنتِ التاج والذهب

وأنتِ اللؤلؤ والمرجان

وأنتِ العُري: عُري النقطة

وأنتِ العُري: عري اللذّة حتّى الموت؟

4.

أيّتها النون: اللعنة عليك!

كيفَ لي أنْ أدخلَ معبدَك

وأخرج منه برأسٍ لم يُقْطَع

وأطرافٍ كاملةٍ وعقلٍ غيرِ ذاهل؟

بل كيفَ احتفظتُ

وأنا خادمُ معبدكِ الذليل

وكاهنكِ المجنون

وساحركِ الهرطيق

برأسي فوقَ كتفي لأربعين عاماً،

وأنا أنتقلُ فيكِ وبكِ ومنك

من قوسكِ حتّى نقطتك

من عُريكِ اليوميّ الفادح

إلى حبيائيل وغدرائيل

إلى قمعائيل وغربائيل

إلى خسرائيل وموتائيل؟

5.

أيّتها النون

يا صاحبةَ الجسدِ الفادح

والقهر التتريّ،

الفرعونيّ،

الجنكيزيّ،

الآشوريّ،

الأسطوريّ،

يا صاحبةَ القهرِ الأبديّ

سُحقاً لكِ سُحقاً!

تبّاً لكِ تبّاً! 

 

 

 

  

 

 

 

 

مائدة الغرباء

 

 

 

التقى الغرباءُ على المائدةِ: مائدة قلبي.

كانَ كبيرُهم مُعمّماً

والآخرُ زاهداً

والثالثُ شَهوانيّاً

والرابعُ سكّيراً،

الخامسُ عارفاً بكلِّ شيء،

السادسُ هازئاً

والسابعُ ساحراً.

وبدلاً مِن الحديثِ الممتع

في شؤونِ الطيرِ والنساءِ والموت،

تبادلَ الجميعُ الشتائمَ والسباب.

ثُمَّ اقترحَ أحدُهم إطلاقَ النار 

حتّى كدتُ أموت

أنا الثامن الأخرس! 

 

 

  

 

 

 

مشهد

 

 

 

جلسَ الشحّاذون على بابِ الجسر

وافترشوا الأرضَ بأسمالٍ وأنين،

وافترشوا المشهدَ بلحى بِيض.

قالَ الأوّل: أنا جائع منذ قرون يا ناس.

قالَ الثاني: مزّقني الفقرُ بسيفِ عذاب.

صرخَ الثالث: سُحْقاً يا دنيا تبّاً.

بصقَ الرابعُ فوقَ الأرض

وتطلّعَ نحوَ الماء

ومدَّ يديه إلى كفِّ الشحّاذِ الخامس.

فقالَ الخامسُ: مَن أنت؟

يا هذا لا تسخرْ مِن أعمى!

قالَ السادس: ارزقني يا رزّاق،

ارزقني يا مَن لا ينسى عبدَه،

ارزقني في فجرِ الجوعِ رغيفاً.

كانَ الشحّاذُ السابعُ طفلاً

مدَّ يديه ببراءة

قال: انظروا.

فتوهّجَ دينارٌ ذهبيٌّ في كفّه.

هجمَ الشحّاذون على الدينار

- حتّى الشحّاذ الأعمى معهم –

وانتزعوه كما البرق.

واشتبكوا، اقتتلوا بمرارة.

صرخَ الطفلُ بهم: انظروا.

أخرجَ كفّيه لهم كفّين مِن الذهبِ الخالص.

فبهتَ الشحّاذون وصاحوا:

ما نفعل؟

هل نقطعُ كفّيك؟

ضحكَ الشحّاذُ الطفلُ.

نزلَ مِن فوقِ الجسرِ إلى الجرف.

ألقى أسماله،

قالَ: وداعاً يا إخواني

فبكى الشحّاذون وأنّوا.

كانَ أنينهم يملأُ كلَّ الدنيا وجعاً ودموعاً.

قالَ الطفل:

وداعاً يا إخوان الفقر،

يا أهلَ الدنيا.

وألقى بجسده فرحاً وسطَ الماء.

 

غَزل حُروفيّ

 

 

 

 1.

هذي المَرّة

لن تكوني مثل كلّ مَرّة

امرأةً من لحمٍ ودم.

فلقد تعبتُ من دمكِ العاري وجحودكِ الأسطوريّ،

من خيانتكِ التي تشبهُ مشنقةً دون حبل.

وتعبتُ أكثر

من انتقالاتكِ المُرّةِ الحامضةِ بين البراءة والذنب،

ومن أغنيتكِ: أغنية الكأسِ والسكّين.

ولذا

هذي المَرّة

ستكونين امرأةً مِن حرف.

أُخرجُكِ متى أشاء

أمامَ جمعِ الوحوش

بيضاء مِن غيرِ سوء،

بيضاء لذّة للناظرين.

2.

عسى –

حينَ تكونين حرفاً –

أنْ أمسكَ طيرَ الفرحِ بقلبي

بعد أربعين قرناً من الطيرانِ الأعمى.

عسى

أنْ ألتقي نقطتي فألتقط منها

طلسماً للحُبّ والطمأنينة،

وألتقي هلالي فأراهُ يركضُ نحو العيد

بدشداشةِ العيد.

وعسى

أنْ ألتقي دمي

فلا أجده أسْوَد

ككفٍّ قُطِعَ منها الإبهام.

3.

هذهِ آخر محاولات جغرافيّتي المُمزَّقَة

وتاريخي الذي يشبهُ معناي الذي لا معنى له.

هذهِ آخر محاولات الطفلِ فيَّ

وآخر محاولات الساحرِ فيَّ

والمجنونِ والشاعر

والوليّ

والزاهدِ والراكضِ من بحرٍ لبحر.

هذه آخر محاولات دمي:

أنتِ الآن امرأة مِن حرف.

لا دم عندكِ ولا لحم

لا مؤامرات، لا مكائد، لا دسائس،

لا هرطقات،

لا نزوات

لا ولا.

4.

أنتِ الآن امرأتي

وشمعة داري!

 

 

 

 

 

 

 

برقيات سعيدة جدّاً

 

 

 

إلى صاحب الشاهر

************

أيّها الشاعر

بعدَ عشرين عاماً من الموت

كيفَ أصبحَ لونُ ابتسامتِكَ الربيعيّة؟

كيفَ أصبحَ شكلُ الطفلِ في روحِكَ الطفوليّة؟

 

إلى أصدقائي المنافقين

**************

أيّها الأعزاء

شكراً لأنّكم قدتموني بكراهيتكم المُرّة

إلى نهرِ الحُبِّ العذب

حتّى وصلتُ إلى عمقه الخطير،

وأخرجتُ جواهرَ كلامه جوهرة فأخرى.

 

إلى أحزاني

********

شكراً لأنّكِ لم تطلقي عليَّ حتّى الآن

رصاصةَ الرحمة.

 

إلى المطر

******

شكراً لأنّكَ تهبطُ في حضنِ دجلة

كما تهبطُ صيحاتُ الشحّاذين على الجسرِ العتيق

وكما تهبطُ الرحمةُ على الأرض

فتفتّشُ عن قلبٍ يحتضنها فلا تجد.

حينها تعودُ من حيث جاءتْ.

 

إلى الشتاء

*******

 شكراً أيّها النبيّ الصغير

شكراً لغيومِكَ التي وصلتْ أخيراً بالبريدِ المُسجّل

شكراً لغيومِكَ التي جاءتْ وعليها طوابع الطفولة،

الطوابع التي ما أن رفعتُها حتّى بدأتُ أغرق

وحتّى أخذ قلبي يحترقُ بأنينِ الحروف،

وصيحاتِ الكلمات،

وطوفانِ النقاط.

 

إلى طوابع العالم

**********

شكراً

لو اجتمعتم جميعاً

بكلِّ طيورِكم وتيجانِكم وشموسِكم،

فلنْ تعيدوا إليّ

حلماً من أحلامِ طفولتي

التي سرقها ساعي البريد.

 

إلى الزمن

********

شكراً يا أخي الكبير

شكراً أيّها الجلّاد الجميل.

 

إلى الجَمَال

*******

شكراً لأنّكَ اكتشفتَ الزرقةَ في روحي

فاكتشفتُ الخطوطَ  في يديك،

واكتشفتَ الربيعَ في كلماتي

فاكتشفتُ المعنى في شفتيك،

واكتشفتَ الموسيقى في حروفي

فاكتشفتُ انزلاقَ روحي في روحِكَ حدّ الهذيان.

 

إلى النقطة

*******

شكراً لصبركِ العظيم معي

حتّى ضياع آخر حروفي في حانةٍ مُزيَّفَة

أو شارعٍ يبيعُ ما لا يُباع

أو مدينةٍ عفا عليها الزمن

أو تاريخٍ بالتْ عليه جموعُ الكلاب

وأكلتْ سمكَه الطيّبَ حرابُ البرابرة.

 

 

 

  

 

  

 

العازف

 

 

 

1.

وسطَ غيمةٍ صفراء وزرقاء وبرتقاليّة،

أجلسُ وأنظرُ من زمنٍ إلى زمن

ومن عمرٍ إلى آخر.

توقّفت الغيمة

كانَ هناك صوت ناي جميل،

صوت ناي عذب

كنافورةِ ماءٍ وسطَ الصيف.

توقّفت الغيمة

فنظرتُ مِن عَلٍ كي أرى العازف.

كنتُ أتصوّره أبي.

(لم يكن).

كنتُ أتصوّره ابني.

(لم يكن).

ربّما أكون أنا.

(لم أكن).

لم يكنْ أحداً أبداً،

كانَ صوتاً جميلاً مُذهلاً

يملأُ كلَّ شيء بهجةً وذهباً.

2.       

تعبت الغيمة.

فنظرتُ وجدتُ أبي

يستلقي وسطَ غيمةٍ أمامي

وابني يمتطي غيمةً تسيرُ في أثري.

تعبت الغيمةُ من الوقوف

فتحرّكتْ بهدوءٍ إلى النهاية.

لكنّ غيومنا،

وا أسفاه،

أخذتْ تفقدُ ألوانَها البهيجة

وتسودُّ شيئاً فشيئاً.

 

 

 

 

 

 

 

جيم سين دال

 

 

 

1.

جسدُكِ مُغلَق

مثل دائرة من السِّحْر

رسمتُها بدمي

فسرقَ الجِنُّ حرفَها الطلسميّ.

جسدُكِ مُغلَق

مثل خرافة تسيرُ على قدمين،

مثل ظهر سلحفاة عظيمة.

 2.

لم أحاول أنْ أفتتحَ جسدَكِ.

كانت تعوزني السكاكينُ والرقصاتُ الوحشيّة،

كانت تعوزني المعاولُ والحراب،

كانت تعوزني المفاجأةُ والمعنى.

 3.

معنى مَن؟

معنى الأكاذيب المعاصرة.

(كنتُ صادقاً كَنَبيّ).

معنى مَن؟

معنى المطر الاصطناعيّ.

(كنتُ مليئاً بالماءِ كَفُراتٍ عظيم).

معنى مَن؟

معنى البيع والشراء.

(نعم، كنتُ الخاسر الأعظم).

 4.

جسدُكِ مُغلَق.

قلتُ للزمنِ:

أعطني رمحاً لأكسرَ ظهرَ السلحفاة.

فأعطاني حرفاً.

والحرفُ –

أيّتها المرأةُ اللغزُ –

لا يكسرُ ظهرَ السلحفاة

بل يكتبُ عليها التمائمَ والألغاز.

5.

جسدُكِ مُغلَق.

كنتُ مُحتاجاً أنْ أدخله لأرى الشمس،

أنا الأعمى الذي فقدَ بصرَه

قبلَ ميلادِ المسيح بألفِ عام.

كنتُ مُحتاجاً أنْ أدخله لألمسَ العيد،

أنا اليتيمُ الذي ضيّع أباه

في زحمةِ السوق،

ولأجلسَ على العرش

أنا الأميرُ الذي ضيّعَ المُلْك

في زحمةِ الدسائسِ والمؤامَرات،

ولأكتبَ القصيدة

أنا الحرفُ الذي ضيّعَ شاعرَه النابغة

في زحمةِ الصورِ والمعاني،

ولأمسكَ طائرَ النبّوة

أنا الدمُ الذي ضيّعَ قلبَه

في زحمةِ العبثِ العظيم.

جسدُكِ مُغلَق.

كنتُ مُحتاجاً أنْ أدخله لأفتحَ أبوابَ الجنّة،

أنا الوليّ الذي صلبَه أنصاره

في زحمةِ الواقعة،

في زحمةِ الزلزلة

ثُمَّ بكوه حتّى الموت.

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

حوار مع طاغور

 

 

 

1.

حينَ ذابت الشمسُ في النهرِ المُقدّس،

التفتَ إليَّ وقال:

حينَ تذوي الحروفُ القديمةُ على لساني

فإنّ حروفاً جديدةً مُنعشة

تنبثقُ في القلب

لتتكلّم عن العسل

والحُبِّ المليء بالجمر.

وحينَ تضيعُ آثارُ المسافرين المُنهَكين

فإنّ أرضاً جديدةً تبزغُ للتوّ

لتملأ العين التي اغرورقتْ بالدموع،

لتملأها بنورِ الفجر.

2.

كانَ يوماً غامضاً

ذلك الذي زرتني فيه

ووسمتَ بعضَ لحظاتي بميسمِ الذهب.

وها أنذا، حينَ أفلسُ من المعنى،

أجلسُ لأذرَّ رمادَ حياتي

فتبزغ بعضُ اللحظاتِ الذهبيّة

تلك التي وسمتها بميسمِك

وأنتَ مسرعٌ

كملاكٍ يقفزُ من نجمةٍ إلى نجمة.

3.

حينَ رحلَ الجميع

صوبَ الجسد

ورنين الجسد،

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

قربَ ضفاف الغانج والفرات،

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوانِ والفراشات،

نلعبُ بحبّاتِ الدموع،

نلعبُ برموزِ الوهمِ حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمةِ تسوّلِ المعجزات

عند ضفاف الأنهار المُقدّسة،

بتهمةِ انتظارِ مَن لا يجيء أبداً.

 4.

ربّما وشيتْ بنا لحيتُكَ البيضاء

أيّها المُعلّم

فأصحابُ البنادقِ السريعة

والكروش المُندلقة

يكرهون اللحى.

ربّما وشيتْ بنا قصائدُكَ الكبرى

لأنّهم لا يحبوّن الشِّعْر.

ربّما وشيتْ بنا طفولتي المُمزَّقة

وفراتي الأبكم العظيم

وحروفي: حروف النقطة والهلال

ربّما لأنّهم يكرهون الهلال.

5.

وهناكَ في الظلمةِ كتبتَ:

اللذّة أُكذوبةٌ واللذّة خلاص،

الليلُ شموعٌ والليلُ عبث،

المعنى لا معنى له

واللامعنى مليء بالمعاني العظام.

فارتبكتُ وقلت:

أيّها المُعلّم

يا صاحبَ الربيع والطفولة

يا صاحبَ العصفور والغراب

يا صاحبَ الديك والأفعى

يا صاحبَ الفجر والموت والرماد

يا صاحبَ اللصوص والمجانين والأنبياء

لنرجع إلى ضفافِ الأنهارِ المُقدّسة،

دعنا نرجع إلى الماضي.

قلتَ: هيهات

فالتاءُ ممتدّةٌ كقبر

والهاءُ أسطورةٌ من لحمٍ ودم.

6.

ثُمَّ قالَ المعلّمُ بعدَ صمتٍ عظيم:

ارجعْ إلى الحروف

والعبْ معها كطفل.

انتظرها كما ينتظرُ المُتسوّلُ قطعةَ الذهب

وامشِ في أرضِها كالحمامة

وراقصها كما يفعلُ العندليب.

ارجعْ إلى الحروف

واجعل الشينَ شمساً وشوقاً

والباءَ باباً،

اجعل الدالَ درباً

والجيمَ جوعاً

والحاءَ حاءَ الحقيقة

واجعل النقطةَ سرّي وسرّك.

 

 

 

 

زلزال

 

 

 

1.

لستِ نوني.

أنتِ ألفي ونوني،

صادي وصيرورتي،

رائي وطفولتي،

موتي وبَعْثي مِن الموت.

2.

جمالُكِ حيرةٌ وارتباك

وطولُكِ جبلُ حلمٍ وإيقاع ماء.

3.

آ... كأيّ قصيدةِ حُبٍّ أنتِ

تبدأ بالرقصِ والتعرّي

وتنتهي بالدفوفِ والخناجر.

4.

هذا الذي بداخلي مهووسٌ فيكِ

وأنا محتار فيه:

أأقتله فأموت

أم يقتلني فتموتين؟

5.

هذا الذي بداخلي مجنونٌ

يتوسّلُ بالكلماتِ ليسحركِ

وبالنقاطِ ليفتنكِ

وبالحروف،

فأخبريه أنَّ زمننا أمّيّ

لا يحسنُ القراءةَ والتهجّي

لا يحسنُ شيئاً سوى التعرّي.

6.

لا أعرفُ عنكِ شيئاً

سِوى أنّ طولكِ يحيطُ بي

وجسدكِ يعلّمني الأزرقَ والأخضر.

7.

جسدُكِ موسيقى

الكلُّ فيها ضائع.

جسدُكِ زلزال

الكلُّ فيه ممسكٌ ببوّابةِ الموت.

8.

جسدُكِ عدوان،

جسدُكِ اختطافٌ وقتلٌ في وَضَحِ النهار.

9.

أعِيني قلبي على بلواي فيكِ

بكلمةٍ

أو قُبْلَةٍ

أو موعدٍ

أو طعنةِ خنجر.

10.

لستِ نوني

فنوني سُرِقتْ وضاعتْ.

لستِ ألفي

فألفي مُحطّمٌ مثل فجر مُحطّم.

لستِ سيني

فسيني سمٌّ وسرٌّ وسكّين.

فمَن أنتِ

يا موتي وبَعْثي مِن الموت؟

مَن أنتِ

يا موتي وبَعْثي مِن الزلزال؟ 

 

 

 

   

النار والسندباد

 

 

 

النار

****

نارُ مَن تلك التي أحاطتْ بنا

كما تحيطُ المشاعلُ بساحرةٍ عارية:

نارُ جهنّم أم نارُ المجوس؟

نارُ الشوقِ أم نارُ البسوس؟

 

الحُبّ

****

في أسفارِ وَهْمي العظيم

مزّقتُ نقطةَ الحُبّ

فوجدتُ فيها الفراغَ أبيضَ كالموت

أو أسْوَد كشمسِ عيدٍ قتيل.

 

الحرف

*****

الحرفُ بستانُ قلبي وتفّاحةُ دمي،

الحرفُ سيّدي وشيخي الأعمى الذي يدحرجني

مِن جبلٍ إلى جبل

ومِن صحراء إلى صحراء

ومِن مركبٍ غريقٍ إلى آخر يحترقُ بجمالٍ أخّاذ.

 

عائلة السندباد

*********

الطبلُ دمي

والبحرُ أخي

والأسفارُ أختي

والنارُ حرفي

والحرفُ حبيبي.

فَمَن أنت

أيّها الصارخ الدهر كلّه: (النجاة، النجاة)؟

أأنتَ ابني أم أبي؟

 

تعليق

****

السندبادُ مسكين

لأنّه يحاربُ المَللَ والموت،

أمّا أنا فعليَّ أنْ أحارب المَللَ والموتَ والنار.

نعم، عليّ أنْ آكل النار

كلّ صباح

وأنْ أتعلّق بحرفٍ غريق

لأصلَ إلى أرضٍ تغرقُ كلّ ليلة

وتطفو كلّ صباح

مثل سندبادٍ ملَّ مِن نَفْسه

وعنوانِ بيته.

 

 

 

 

  

 

 

 

 

غزل على طريقة فان كوخ

 

 

 

 1.

لأجلِ أنْ أشمَّ عطرَ حرفِكِ المُطَلسَم

الذي يشبهُ عطرَ عشتار وبلقيس

فإنّني مستعدٌ أنْ أنبشَ بقلبي

مكتبةَ آشور بانيبال

وأرتدي درعَ  نبوخذ نصّر ومعاركَه الغامضة

وأصفَ للفقراءِ والمساكين

مزايا قوانيني: أنا حمورابي العظيم.

2.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفِكِ اللاذعة

فإنّني مستعدٌ أنْ أضيع

كقبيلةٍ يقتلُها العطشُ في الصحراء،

كمدينةٍ يمزّقها زلزالٌ مفاجئ،

كسحرةٍ يأكلُ بعضهم بعضاً.

3.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفِكِ البضّة

فإنّني مستعدٌ أنْ أهديكِ أذني

كما فعلَ فان كوخ

وأنْ أبكيكِ العمر كلّه

مُحاطاً بالنسورِ والصقورِ والثعالب

كما فعلَ غويا

وأنْ أتركَ الحوت يبتلعني

كما فعلَ ذو النون

وأنْ أضيّعَ قائدَ جُنْدي إلى الأبد

كما فعلَ داود.

4.

لأجلِ أنْ أمسكَ

جمرةَ حرفِكِ التي تملأُ الكفّ

فإنّني مستعدٌ أنْ ألقي بنَفْسي

في النهرِ

كأيّ مراهقٍ يُحبُّ لأوّل مَرّة

ويجنُّ لآخر مَرّة.

 

 

 

 

 

 

بانتظار أن تهبط حبيبتي

 

 

1.

رأيتُكِ في أعلى السُلّمِ واقفةً

على جبينكِ تاج الذهب

وعلى كتفيكِ الثلجيين

طيلسان الفضّة الغامضة.

كانَ السُلّم عالياً كالجنّة

وعميقاً كجهنّم

وأنا في أسفل سافلين

أقفُ كمتمردٍ أعزل إلّا من حجارةِ البهجة،

كشاعرٍ مجهول الهوية،

كفيلسوفٍ أرعن

وكحوذيّ كفيف

مُنتظراً

أنْ تفتحي لي بابَ شتائمكِ المليئة بالعظام

والسياط العرجاء

أو تفتحي بابَ طيلسانك

ليخرجَ جسدك الملكيّ البضّ

فيلقي القبض

على أحزاني الكبرى

ووساوسي وجنوني

منذ كلكامش وأنكيدو،

منذ أنكيدو وسرجون،

منذ سرجون وديك الجِنّ،

منذ ديك الجِنّ وتلبّسي بثيابِ الجِنّ.

2.

الآن اتضحت الصورةُ تماماً.

لقد تلقّفتُ سرَّكِ الأعظم

ووقفتُ أرعى ظلّكِ

كمُهرّجٍ مُبتهجٍ بسخفِ جمهوره،

كأعمى مُبتهجٍ بشكوى الناسِ من نارِ الشمس،

كليلٍ فقدَ فجره في حانةٍ مُرعبة.

وكلّ ما أرجوه الآن:

أنْ تهبطي من عليائكِ الزائفة

إلى حضيضي اليوميّ

لتكتشفي الحُبَّ على هيئةِ جمرة

توضعُ على الشفتين

أو بين العينين،

ولتكتشفي عزلتَكِ الباردة

حينَ ترين أعواني من الجِنّ بالآلاف،

ولتتعرّفي على أُمّيّتكِ المُطلقة

حينَ تقفزُ أمامَ عينيكِ المذهولتين

حروفي المسحورةُ ونقاطي الملوّنةُ بالعنفوان.

3.

يا أسطورتي الكبرى،

إنّ مشهدكِ لمحزن

فهناك ألف درجةٍ في السُلّم الذي تقفين في غيمته

وأقفُ في بئره السوداء.

فحاولي أنْ تختصري المسافةَ – أرجوكِ –

ببهجةِ أعلاكِ.

وحاولي أنْ تغتالي المسافةَ – أرجوكِ –

بومضةِ أسفلك. 

وتذكّري وأنتِ تشعلين قارّات جسدكِ السبع

ألّا مرآة تستطيعُ معرفةَ لغاتكِ السبع

إلّا مرآة عُريي،

ولا معنى يقومُ لحرماني المجنون

إلّا إذا وضعتِ رأسي فوقَ الرمح

وحملتهِ إلى جهاتِ الشمسِ الأربع

بعربتكِ السوداء التي تجرّها خيولُ الطغاة.

 

 

 

 

  

 

 

 

نونيّات جديدة

 

 

1.

يا نوني الغامضة،

منذ أنْ طردتِني إلى ساحةِ البحر

حملتُ معي حروفي كلّها

وصنعتُ لها سفينةً من دمي

وحميتُها من زلازلِ عجرفتكِ

بصيحاتِ قلبي المليء بالندوب.

وحينَ وصلتُ إلى جبلِ النهاية

وقفتُ فأطلقتُ نقطتَكِ فلم تعدْ إليّ

ثُمَّ أطلقتُ هلالَكِ فعادَ إليّ ببياضه وفتنته.

فعرفتُ أنّها اليابسة

وأنّكِ مُستقرّي الجديد.

هكذا نزلتُ من سفينتي

ونزلتْ معي حروفي ونقاطي

لنفترش الأرضَ فرحين مسرورين

بانتظارِ طوفانكِ القادم أبداً!

2.

ها أنتِ تحوّلتِ إلى سريرٍ جديد

يحميه عصفوران لا يكفّان عن الزقزقة

وعينان تنظران طويلاً في اللاشيء.

أما أنا فانتقلتُ إلى سريري الأسْوَد

ووضعتُ لحراستي جَمْعاً من الثيرانِ المُجنّحة،

ورممته ببقايا نقطتكِ

التي تحّولتْ إلى ترياقي المُفضّل

أنا مَلِك اللاشيء.

3.

نحن لم نلتقِ!

كنّا نمثّلُ دورَ العاشقين فقط:

أنا المؤلّف المُكتوي

وأنتِ العاشقة المُدلّهة.

لكنّنا سرعانَ ما غادرنا مسرحيتنا

بعد أنْ أُغلِقَ باب المسرح

وطُرِدَ آخر مشاهد مخمور،

فخرجتُ أنا من النافذةِ المليئةِ بالأعشاش

وخرجتِ أنتِ من السردابِ الخلفي.

4.

ما الذي سيحدثُ لي بعد أنْ تحطّمتْ نونُك

وصادرها الكذّابون والطفيليون؟

هل سأصرُّ على دورِ الزاهدِ الهنديّ

الذي يريدُ أنْ يردّد حرفَكِ لسبعين سنة قادمة؟

أم أنتبه إلى أنّ مسرحيتكِ مسرحية مُهرّجين

لابد أنْ تنتهي بقهقهةٍ فارغة

أو بمُلاكمةٍ مُدهشةٍ بين الجمهور والممثلين؟

5.

يا نوني

كم تبقّى منكِ إليّ؟

فحتّى نقطة نونكِ

رأيتُ مَن يرفع سكّينه

في وجهي لأنساها

وهيهات.

6.

كم مِن روحكِ تبقّتْ إليّ؟

فحتّى نافذتنا الخضراء

جاءَ مَن يطالبُ بها

ليضعها في عمارته: عمارة اللصوص.

7.

كم مِن معناكِ تبقّى إليّ؟

فحتّى أدراج جسدِكِ

صادرَها الأزواجُ المراؤون.

8.

كم مِن معناكِ تبقّى إليّ؟

فحتّى أنتِ

قرّرتِ أنْ تكوني معَ مَن يمحوكِ مِن الأبجديّة

لا مَع مَن يكتبكِ ويترجمكِ

إلى سبعين لغة حيّة ومنقرضة.

9.

يا حبيبتي

لقد تحوّلتْ نقطتُكِ إلى نشيد

وهلالُكِ إلى ملحمة

ونونُكِ إلى مسرحيةٍ كبرى.

لكنّ ألفي، ألفي الذي كتبَ كلَّ شيء

ورأى كلَّ شيء

وبنى كلَّ شيء

وحلم بكلِّ شيء

وبكى كلَّ شيء

وضحك مِن كلِّ شيء

واشترى كلَّ شيء

مِن أجلِ اللاشيء

بقي حرفاً مليئاً بالطلاسمِ والجنون!

  

 

 

 

أخطاء

 

إلى المبدع الراحل: واثق الدايني

 

 

 

 1.

قالت النقطةُ الماكرةُ للحرفِ الحكيم:

أراكَ هرمت

واشتعلَ الرأسُ شيباً.

فقالَ الحرفُ الحكيم:

لأنَّ انتصاراتي لكِ

وهزائمي لي وحدي.

2.

بعد أنْ أكملَ الرسّامُ لوحتَه المليئةَ بالفتنة

والتي تبدو فيها المرأةُ قارّةَ جمال،

رفضت المرأةُ النظرَ إلى اللوحة:

قالتْ: كيفَ تتغزّلُ بي؟ هذا لا يكون!

فَصُعِقَ الرسّام

ثُمَّ قهقه ساخراً من كلامِ المرأةِ العجيب.

 3.

بعدَ أنْ عادَ الحرفُ مُنهَكاً من الحرب

أخطأ في توزيعِ عطاياه:

فأعطى الثعلبَ زيتوناً وجبناً

وأعطى الديكَ سمكاً وخبزاً

وأعطى المرأةَ كلمات مليئة بالشمس

وأعطى لنفْسه عدّةَ أوسمةٍ صدئة

ونامَ كما لم ينمْ مِن قبل.

4.

واذ أشرقَ الفجر

خرجَ الحرفُ للصيد

ضائعاً مثل طفل يتيم،

شاحباً مثل دمعة.

وبدل أنْ يلاحقَ طريدته

بقي طوال الوقت يرقصُ ويرقصُ ويرقص

حتّى نسي نَفْسه

وعنوانَ بيته.

5.

كلّ يومٍ أحاولُ إكمالَ قصيدتي الكبرى

نشيداً عن الخلْقِ ولحظةِ الخلْق.

لكنّني كلّما تقدمتُ خطوةً فيها

وجدتُ قلبي مُحاصراً بالنسورِ والصقورِ والبُوم

ووجدتُ أطفالي يصرخون من الرعبِ والجوع.

6.

ما معنى أنْ نكتبَ الشِّعْر:

إذا كنّا نَصرُّ على إعطاءِ الثعلبِ زيتوناً وجبناً

ونصرُّ على رسمِ النساءِ المليئات

بفتنةِ الشحمِ والغباءِ العظيم؟

ما معنى أنْ نكتبَ الشِّعْر:

إذا كنّا نرقصُ وقت الصيد

لنصطاد وقت الرقص

دبّاً من الرعبِ والجوع؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثنائيّة

 

 

 

1.

القُبْلَةُ غزالة

والموعدُ عينان وصحراء وبندقيّة.

2.

القُبْلَةُ قصيدةُ حُبّ

والموعدُ طعنةٌ في البطن.

3.

القُبْلَةُ فراشة

والموعدُ سمكةٌ ذهبيّة.

4.

القُبْلَةُ حنين عجيب

والموعدُ سريرٌ عظيم.

5.

القُبْلَةُ عيد

والموعدُ أطفالٌ مُبتهجون

وسطَ الشوارعِ الملأى بعرباتِ الخيول.

6.

القُبْلَةُ غموض

والموعدُ محاولةٌ لفكِّ الألغاز.

7.

القُبْلَةُ أُكذوبة

والموعدُ شاهد زور.

8.

القُبْلَةُ فراق

والموعدُ أغنيةٌ تمجّدُ الفراق.

9.

القُبْلَةُ بسمةٌ هامدةٌ على فمِ السكّير

والموعدُ شظايا الكأس.

10.

القُبْلَةُ أسطورة

والموعدُ مؤتمرٌ عالميّ للأساطير!

11.

القُبْلَةُ عينُ العيد

والموعدُ نونُ النوم.

12.

القُبْلَةُ انتظار

والموعدُ قصائدُ الانتظارِ المكتوبة

بالمسماريّةِ والسنسكريتيّةِ والعربيّة

على لوحِ الوجود.

13.

القُبْلَةُ قدّاح

والموعدُ حديقةٌ مليئةٌ بالعسل.

14.

القُبْلَةُ شاطئٌ أخضر

والموعدُ شاعرٌ لا يكفُّ عن تدخينِ الأمل.

15.

القُبْلَةُ نجوم

والموعدُ سماء بكفِّ امرأةٍ عاشقة.

16.

القُبلةُ غريق

والموعدُ بحرٌ لا قرار له.

17.

القُبْلَةُ رمشُكِ المُذهل

والموعدُ ابتسامتُكِ التي تقودني

كلّ ليلةٍ إلى الموتِ اللذيذ

ولا تتركني إلّا عند صياح الديك.

18.

القُبْلَةُ نقطةُ نونكِ أو نونُ نقطتكِ الضائعة

والموعدُ أبجديّةٌ كشفتْ عن طلاسم العالم

لكنّها لم تعرفْ كيفَ تعيدكِ إلى البيت.

19 .

القُبْلَةُ صداقة

والموعدُ ارتباطٌ حتّى الموت.

20.

القُبْلَةُ كرسيّ

والموعدُ سرير.

21.

القُبْلَةُ مفتاح

والموعدُ جسد.

22.

القُبْلَةُ كمان

والموعدُ رقصةُ الحُبّ.

23.

القُبْلَةُ دمعة

والموعدُ رشقةُ مطرٍ تبلّلُ العاشقين

في حديقةِ المسرّة.

24.

القُبْلَةُ صرخة

والموعدُ مؤامرةٌ غراميّة.

25.

القُبْلَةُ غرفةٌ خضراء

والموعدُ ستائر مغلقة.

26.

القُبْلَةُ حلم

والموعدُ حاءُ الحلم

ولامُ الحلم 

وميمُ الحلم.

27 .

القُبْلَةُ أغنية

والموعدُ مطربٌ وملحّنٌ وشاعر

بكوا لجمالِ اللحنِ والكلمات.

28.

القُبْلَةُ ضوضاءٌ عذبة

والموعدُ ممرّاتُ صفصافٍ سِرّيّة.

29.

القُبْلَةُ طفلٌ ضائع

والموعدُ عروسٌ تبكي حظّها العاثر.

30.

القُبْلَةُ حلمُ يقظة

والموعدُ هرطقةٌ وَهلْوَسَة.

31.

القُبْلَةُ قصيدةٌ في ذروتِها

والموعدُ ديوانُ حُبّ:

كلّ سطرٍ منه حرفك

وكلّ حرفٍ منه اسمك.

32.

القُبْلَةُ شُبّاك

والموعدُ بيتٌ ريفيّ

يطلُّ على الشمسِ والبطّ.

33.

القُبْلَةُ لذّة

والموعدُ دعوةٌ لكتابتها

موتاً عميقاً لا شفاء منه.

34.

القُبلةُ عيناكِ الحالمتان

والموعدُ شفتاكِ اللتان غادرتا بخلهما العجيب.

35.

القُبْلَةُ ساعةُ حُبّ

والموعدُ ليلةُ العرس

وشموعُ العرس

وبدلةُ العروسِ البيضاء.

36.

القُبْلَةُ نونكِ

والموعدُ حروفي التي تألّقتْ في نونِكِ

وأزالتْ عنها الصدأ والتراب.

37.

القُبْلَةُ أنتِ

والموعدُ أنتِ... طبعاً!

  

 

 

 

  

 

 

الغراب

 

 

 

1.

حينَ مرَّ الغرابُ من فوقِ رأسِ الموت

قال: أنا الغراب.

قال الموتُ: ثُمَّ ماذا؟

قال الغرابُ: أنا الغرابُ الأسْوَد!

فضحكَ الموتُ وقال: أنتَ بالنسبةِ لي

أكثر بياضاً من الثلج!

2.

البارحة تذكّرتُكِ

أنتِ التي لا اسم لكِ ولا عنوان،

أنتِ التي نسيتُكِ قبلَ بدء الطوفان

فرقصتُ من دونِ يدين

ولا قدمين.

3.

حينَ حملوا جسدي عارياً إليك

ضحكَ الناسُ من بياضِ قلبي

وسوادِ جُثّتي.

4.

موسيقى الألمِ لا تُنْسَى

وأكاذيبُ الحُبِّ حقيقيةٌ كقُبْلةِ مُراهق.

5.

لماذا يطاردكِ الزمن؟

ألأنّكِ تملكين ثديين مِن الرمّان

وبطناً مِن العاج

وعينين ضيّقتين كقاربٍ جنوبيّ

ومصيراً يشبهُ مصير الغراب؟

6.

الموسيقى عزفتْ مصيرنا.

لم يكنْ هناك الكثيرُ مِن الألوان: 

كانَ هناكَ أسْوَد كالدم

وأبيض كالدمِ أيضاً.

7.

مَن أنتِ أيّتها الضائعة؟

سمّيتُكِ النون وكنتُ مُخطئاً.

سمّيتُكِ الباء وكنتُ مَجنوناً.

سمّيتُكِ الحاء وكنتُ مَحظوظاً

لأنّني لم أزلْ أحمل رأسي حتّى الآن

 فوقَ كتفي.

8.

ها أنذا أعود إلى الشِّعْر

مثل كلّ مَرّة

بسببكِ أنت.

أعودُ لأشاهدَ حروفي

يضربها الزمنُ بسوطه العظيم.

أعود لأرى نقطتي الكبرى التي تشبهُ مدينةً كبرى

تضيع وسطَ البحر.

9.

قُبلاتُكِ لم تصلْ.

ربّما لأنّ ساعي البريد كانَ يشعرُ بالغيرةِ منّي.

ربّما لأنّ لغتكِ بيضاء جدّاً كالغُراب.

10.

قُبلاتُكِ لم تصلْ

رغمَ أنّ عنقكِ كانَ دافئاً

نعم، فلقد كنتِ في صيفكِ الملآنِ بالأسرار.

11.

كنتِ مليئة بالموسيقى،

مقمرة كليلةِ صيف،

طيّعة كجوهرةٍ تضيءُ في الظلام،

ساذجة كببغاء تلثغ،

وخرقاء كضحكةِ مجنون.

12.

أنتِ مَن علّمني الرقص:

الرقص فوقَ جثثِ الحروف

وركام الساعات الكبيرة المُحترقة.

13.

أنتِ غرابي.

كانَ ينبغي أنْ أقولها في بدءِ القصيدة

لأُريحَ وأستريح.

 

 

 

 

 

 

 

شكراً أيّتها الموسيقى

 

 

 

 

شكراً أيّتها الموسيقى.

شكراً لأنّكِ تغسلين دمي من هذيانه

وروحي من شظاياها.

شكراً لأنّك تثبتين لي أبداً

أنَّ البحر أكثر سواداً ممّا ينبغي،

وأنَّ أصدقائي الغرباء

أكثر سذاجة وعناداً ممّا ينبغي،

وأنَّ بانتظار حروفي

نقاطاً لا تنتهي عندّ حدّ.

شكراً أيّتها الجميلة كطفلة

والعذبة كقُبْلَة

والضائعة كمستقبلي الذي يشبهُ سيركاً من الأعياد:

أوّلها عيد السمّ

وآخرها عيد الموت جوعاً.

شكراً!  

 

 

 

 

 أمجاد النقطة  

 

 

أيّتها النقطة

ما الذي أعطيتِني مِن أمجاد؟

أنا عبدكِ الفقير

وخادمكِ المخلص الذي خدمكِ أربعين عاماً

وأعلَى صرحَكِ حتّى جاوزَ الغيوم؟

أهو مستقبلكِ الوديع كلُغمٍ أرضيّ

أم دنياكِ القادمة بهيئةِ نمورٍ ومروّضي نمور،

بهيئةِ مُهرّجين وطبّالين وآكلي حشرات،

بهيئةِ شعراء حفاة لا يجيدون فنَ الأتكيت

أو السير وراء اللافتات

أو الجلوس إلى مائدةِ اللئام؟

أيّتها النقطة

كيفَ سرقتِ عذابي وعُريي؟

وبِمَ قايضتِ حروفي وخربشاتي وجرحي؟

وأين كتبتِ اسمي:

مع شعراء الوهم أم شعراء المُستحيل؟

مع شعراء الحُبّ أم شعراء الأسى؟

مع الشعراء التماسيح أم شعراء دموع التماسيح؟

 

 

  

  

 

 

      اركعْ فركعت

 

 

  

1.

حينَ نظرتُ إلى ساعتي

لم أجدْ فيها أيّاماً ولا سنوات

بل وجدتُ فيها أنهاراً من الحلمِ والموسيقى والكلمات.

فحلمتُ ولعبتُ وكتبت

حتّى كدتُ أموت من الحلمِ والموسيقى والكلمات

حتّى كدتُ أموت من الغرق.

2.

حينَ طردتُ الموتَ من النافذة

دخلَ من الشباك.

وحينَ طردتُه من الشبّاك

دخلَ من النافذة.

هكذا خرجتُ من الباب

لأجدَ الموت

يحملُ سيفاً ودرعين

مسدساً وثلاثَ بنادق

ومدفعاً من النوعِ الثقيل. 

3.

حينَ احتضن الآباءُ أبناءَهم

والعشّاقُ حبيباتهم

والفجَرَةُ دنانيرهم،

لم أجدْ مَن يحتضنني إلّا الله

الذي قالَ: (اركعْ). فركعتُ.

فانشقَّ صدري وطارَ منه طائرُ الخوف.

وقالَ: (اسجدْ). فسجدتُ

على سجّادتي الصغيرةِ المُمزَّقة

حتّى تحوّلتُ إلى دمعة،

بل نقطة. 

4.

من الصباحِ إلى المساء،

ومن المساءِ إلى الصباح،

لعبَ الأطفالُ بكرةِ الفرح

وثيابِ العيدِ الزاهية.

أمّا أنا فلم أجدْ ما ألعبُ به

سوى الحروف:

حروف زاهية كعيدٍ غامضٍ عجيب.

5.

ولكنْ، كيف تحوّلت الحروفُ هكذا؟

كيفَ تحوّلتْ حاءُ الحرّيّةِ إلى حاءِ الحرب،

وسينُ السّرِّ إلى سينِ سقوطِ الأسنان،

وميمُ المُرادِ إلى ميمِ الموت؟

6.

حينَ نظرتُ إلى ساعتي

لم أجدْ فيها أيّاماً ولا سنوات

بل وجدتُ فيها أنهاراً من ميماتِ الموت

وواواتِ الموت

وتاءاتِ الموت.

فبكيتُ شبابي وشموخي وشروخي

وبكيتُ شكوكي.

7.

نظرَ اللهُ إليَّ وقالَ: (انهضْ). فنهضتُ.

وقالَ: (اركعْ). فركعتُ.

فانشقَّ صدري

وطارَ منه طائرُ الموت

كغيمةِ حزنٍ زرقاء،

كغيمةِ حزنٍ كبرى. 

 

 

 

 

 

  

دجلة

 

 

1.

سقطتُ من الحرف

فتلقّفتني النقطةُ عصفوراً ضَالّاً

وألقتْ دجلة القبضَ عليّ

بتهمةِ حيازةِ الحروفِ الممنوعة.

2.

دجلة، يا دجلة، يا دجلة

مَن سمّاكِ بهذا الاسم العجيب؟

ومَن علّمَ أجسادنا على الغرق

حينَ تلامسُ ماءَك الغامض؟

 3.

دجلة، يا دجلة، يا دجلة

يا حوريّةً صغيرة

وضفيرةً صغيرة

يا عاشقةً صغيرة

أحُبّكِ

أحُبّكِ

أحُبّكِ.

فمَن علّمكِ أنْ تشيحي بوجهِكِ

حينَ أريدُ أنْ أقبّلَ شفتيكِ الدافئتين؟

4.

دمعي أحاطَ بي

فرفعتُ عيني إليكِ

يا دجلةَ السحرِ الأسْوَد والعُري الأسْوَد.

كانَ جرحي أكبر من عنوانِكِ السرّيّ

وأعظم من غرقى فراتكِ الطفل.

وبدأتُ أتمتمُ عند قدميكِ العاريتين

نجمةً تهبطُ تهبطُ تهبطُ

حتّى تضيع في أقصى سماواتِكِ الوحشيّة.

 5.

دجلة، يا دجلة، يا دجلة

ما الذي حوّلني مِن مَلِكٍ إلى شحّاذ؟

ومِن فيلسوف إلى مجنون؟

ومِن ضحكةٍ إلى تابوت؟

 

 

 

الزمن يركض، الزمن يغرق

 

 

1.

الزمنُ يركضُ يركض

كلصٍّ يطاردهُ شرطيّ شاهراً مسدسه الكبير.

الزمنُ يغرقُ

كطفلٍ يلفظُ أنفاسَه الأخيرة

أمامنا نحن الفقراء

الذين خُلِقنا دونَ أيدٍ أو أقدام. 

2.

الزمنُ شيخٌ كبير

طيّبٌ كلحيته البيضاء

لكنْ حينَ أردتُ أنْ ألقي عليه تحيةَ الوداع

فوجئتُ بغرفته المليئة بآثارِ الحنّاء

مليئةً بالمرابين والجلّادين واللصوص

وقهقهاتهم وترّهاتهم وأنفاسهم الثقيلة.

 3.

الزمنُ حروفي ونقاطي التي حاصرتني بأذرع الساعات.

والزمنُ ساعاتي التي تبحثُ دونَ جدوى

عن ذراعين طيّبتين

وشفتين مليئتين بالدفء والقدّاح.

 4.

الزمنُ قارورةٌ سُكِبَ فيها الفرح

ووضِعَتْ على رفِّ قلبي.

غير أنَّ القطط السُود كسرت القارورة

فلم أخرجْ لطردِها

لأنّ قلبي ماتَ من النزيف،

ماتَ من الفرح.

5.

الزمنُ امرأةٌ تتعرّى

أمامَ كلابٍ عالية الظهر،

قويّة ومُبتهجة

كأذنابها المرتفعة.

6.

الزمنُ أُمٌّ ألقتْ ابنها من فوقِ الجسرِ الحديديّ

مخافة الجوع

فبكى طفلها الرضيع على أخيه الغريق

أربعين سنة كاملة.

7.

الزمنُ خرافة نحاولُ تصويرها

وترميمها بالأصباغِ المُزيَّفة

وإلصاق قصائدنا الساذجة

على سياجِها المُنهار. 

8.

الزمنُ أصدقائي الذين ماتوا دونَ سبب

سوى أنهم ارتبكوا قليلاً

أمامَ شبحِ الحُبّ

أو شبح الموت.

9.

الزمنُ شمعةٌ لا تكفُّ عن إشاعةِ الظلام

وأيّام أُلقِي القبض عليها

بتهمةِ التعرّي في الأسواق.

10.

الزمنُ عودٌ ودفٌّ وناي

غرقوا في دفء أغنيتكِ

التي تطاردني من شارعٍ لشارع

ومن بيتٍ إلى بيت.

11.

الزمنُ ثرثرةٌ لا تُطاق

وسخافاتٌ لا نهاية لها

وجعجعةٌ تصمُّ الآذان.

12.

الزمنُ إطلاقةٌ ناريّة

فقفْ أمامها هادئاً

لتصلَ إلى قلبكَ الطيّب!

 

 

 

 خُرافات

 

إلى: عبد الرزاق الربيعي

 

 

  

1.

الخُرافةُ اتّسعتْ

لتشملنا جميعاً جميعاً،

والحفلةُ التنكّريةُ اكتملتْ.

اخترنا أنا وأنتَ يا حرفي الجارح

دورَ العُراة

ليسَ لأنّنا نحبّ العُري فقط

بل لأنّنا لا نملكُ الملابس.

وحتّى لو أُعْطِينا شراذم الملابسِ المُستعملة

فمَنْ يؤكّدُ لنا أنّنا نستطيع ارتداءَ ما يَسترنا

بعد هذا التعريّ العجيب؟

2.

الخُرافةُ اتّسعتْ.

* أطفالنا في المهدِ، مَن لهم؟

- اللهُ لهم.

* وأحزاننا في المهدِ، مَن لها؟

- السوطُ لها.

* وأساطيرنا في الحرفِ، مَن لها؟

- اللاجدوى لها.

* بل العبث يا حرفي المُغفّل.

فالخُرافة اتّسعتْ واشترتْ

مظلّةً لأحلامِها المَثقوبة

وخرجتْ عاريةً إلى الشارع

فتبعها كلُّ سفهاءِ الأرض.

3.

الخُرافةُ اتّسعتْ.

(مَن أنتَ؟ ومِن أينَ أتيت؟) سألني السائل.

فدهشتُ وأنا أحملقُ في عينيه.

(مَن أنتَ؟ وإلى أينَ ستذهب؟) سألني السائل.

فاحرنجمتُ ودمعتْ عيناي

(مَن أنتَ؟ وأينَ ستموت؟)

نظرتُ إلى جُثّتي: لم تزل الحرارةُ فيها

فبكيت.

4.

الخُرافةُ اتّسعتْ.

في العواصم التي ترتدي العقالَ والمايوه

بحثنا لأحزاننا عن مَنافٍ جديدة

فهربَ الأصدقاءُ منّا،

تركونا نؤكل في الصحراء.

الخُرافة ُاتّسعت اتّسعتْ

حتّى أنّني أنا الذي حملتُ حرفي صليباً

وسطَ العواصم

بكيتُ وغنّيت،

غنّيتُ وصلّيت،

صلّيتُ وتهجّدت.

ونظرتُ فلم أجدْ مَن يعينني على حفرِ قبري

سوى الموتى الذين استقبلوني وجُثّتي

في شلالِ ضحكٍ هادر.

 

 

 

 

 

 

 

 

حوريات الفردوس

 

 

 

 1.

تلمّستُ دمعتي: صادقةً كصادٍ، كقاف.

تلمّستُ طفولتي: عاريةً كثيابِ شحّاذ،

وتلمّستُ أزمنتي: زمهرير آب. 

2.

تلمّستُ عُريي: هباءً منثوراً.

تلمّستُ هبائي: حفنةً من نساء،

وتلمّستُ نونَ نسوتي: حفنةً من تراب. 

3.

تلمّستُ ترابي

فكانَ قسيمُ النارِ معي وأمامي

قدّامي، وسطَ حروفي.

وجلستُ، تلمّستُ ماضيي،

فرعبتُ من بياضِ لحيتي

واتساعِ خرقتي

وقلّةِ حيلتي. 

4.

تلمّستُ فصولي

يميناً كيمين

وشمالاً كشمال

وما لا يجيء قد لا يجيء

وما لا يُرى قد يُرى.

فخرجتُ من جسدي :

ميّتاً في زيّ حيّ

وحيّاً في تابوتِ ميّت. 

5.

تلمّستُ فراتي فكانَ غريباً.

تلمّستُ غربتي: بحراً من الظلام

وتلمّستُ ظلمتي، فوقعتُ في شقِّ قبري. 

6.

وتلمّستُ قبري دافئاً كإصبعِ طفل

والترابُ منه يسّاقطُ بالعبث،

يسّاقطُ بالفرح،

أنا الذي بَصَمتُ حاءَ الفرح

وحاءَ الحرّيّةِ والحنين والحُبّ

أجلسُ قربَ قبري،

ألعبُ بطيورٍ بِيض،

أنامُ وأصحو،

أدخلُ وأخرج،

أبتسمُ وأرتجف،

وطيوري تحلّقُ حولَ قبري

حروفاً من نور. 

7.

تلمّستُ جَدّي:

أعنّي على بلواي

صرختُ: أعنّي على طفولةِ حُبّي

وصيحاتِ جسدي،

أعنّي على غربانِ ليلي وهشيمِ حروفي،

أعنّي على جفافِ حَلْقي وهباءِ يومي. 

تلمّستُ جَدّي دهراً فدهراً

حتّى سجدتُ على بابِ جهنّم

وأنا أتنفّسُ حوريات الفردوس.

 

 

 

 

ارتباك الزاي

 

 

 

1.

كانت الزاي ارتباكاً جديداً

بنقطتها التي تشيرُ إلى فوق. فوق ماذا؟

فوق جبل؟

فوق لغم؟

فوق ظلماتٍ لا حدّ لها؟

فوق ماذا؟

فوق ركامِ كلماتٍ ضائعة

وأشباحٍ تجرُّ خيباتها؟

فوق ماذا؟

موسيقى فارغة كفؤاد أمّ موسى،

وجِنّ يبكون وليّهم الذي ماتَ مصعوقاً برؤياه

وتركَ دمه يبلّل لحاهم وثيابهم القصيرة؟

2.

كانت الزاي ارتباكاً جديداً

وأنا أقايضُ ارتباكاً بآخر،

أنا تاجر الارتباك،

أنا مُموّل المُرتبكين الحالمين

بجهنّم باذخة خالدة.

3.

كانت الزاي واضحةً

وبسيطةً حدّ الارتباك،

ساذجةً كخربشاتِ طفل.

لكنّ نقطتها تشيرُ إلى فوق...

فوق ماذا؟

وجوه دونَ ملامح

ورؤوس أينعتْ وحانَ قطافها اللذيذ.

فوق ماذا؟

فوق نساء ضائعات: عوانس وأرامل

وساعات تنتظرُ غودو

الذي جلسَ في مقهى العدم

يدخنُ سكائره الرديئة

ويحلمُ، ويشتمُ، ويحلم.

يحلم بماذا؟

لكنّي رأيتُ الزاي ولمستُ نقطتها

فخذاً مرسوماً على الجدار

وأكاذيب حقيقية

وأزمنة حميرٍ مُلوّنين

يغنّون:

يا للجمال،

يا للبهجة،

يا للذهول!

4.

هل الزاي نونٌ جديدة؟

ضحكتُ لطيبةِ سؤالي

فالقوافي واحدة

والمدن واحدة

لكنّ الحروف اختلفتْ باختلافِ الأهلّة،

باختلافِ النقاط، 

باختلافِ مجرّاتِ الدم.

5.

كانت الزاي مُدناً جديدة

بنساء تُركنَ في الممرّات

للزمنِ يأكلهنّ

ويحطّمُ أثداءهنّ.

تُركنَ للزمنِ يسحقُ أفخاذهنّ

بسيارته ذاتِ الدخان الأسْوَد

وهنّ يُولْوِلْنَ

ويُوَلْوِلْنَ.

ويُوَلْوِلْن. 

6.

ثُمَّ ماذا؟

الزاي تتحرّكُ وتبيع

وتبادلُ لهجتَها القديمةَ بأخرى مُزيَّفة

وتنشرُ أغاني المراهقين وترّهات الأمل.

ثُمَّ ماذا؟ ثُمَّ ماذا؟ ثُمَّ ماذا؟

لكنّ الزاي أغنية لا تجيء

وإنْ أتتْ فغزلها عنيف،

عنيف كقنبلة. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ضحك

 

 

سقطَ المطرُ

قطرةً قطرةً،

مَوجةً مَوجةً،

بحراً فبحراً

حتّى طلعت الشمسُ راقصةً بنورها العجيب.

ضَحِكَ الأطفال

وطاروا خلالَ أشجار اللوز والتفّاح والبرتقال.

ضَحِكت الصبايا الصغيرات

وانتبهن إلى نهودهنّ الجميلة

وضَحِكت العاشقاتُ اللائي حطّمهنّ العشق

وصيحاتُ الجسدِ المكبوتِ كلّ ليلة.

ضَحِكت العصافيرُ والزرازير

وسطَ النورِ والدخان.

ضَحِكت الساعاتُ والمستشفيات

والمرضى الذين يبحثون عن وميضِ الشفاء.

ضَحِكَ الشرطيُّ والطاغية

ومفجّرُّ القنابلِ والموظفُ البليد

وحرسُ الحدودِ المُرتشون.

ضَحِكَ الأولياءُ والذاهلون والمنفيّون.

ضَحِكت الراقصاتُ بملابسهنّ العارية

وضَحِكَ تلامذةُ المدارس

ومحاسبو المصارف

وسائقو التكسيّات.

ضَحِكَ الحمّالون

وبائعو الفواكه واللصوصُ والمُخبرون.

ضَحِكَ العباقرةُ وأنصافُ العباقرة

والمُخنّثون والعابرون.

ضَحِكَ المُبتهجون بالعُري

وامتلاءِ المائدةِ بالنبيذ.

ضَحِكَ القتلى والغرقى

ثُمَّ ضَحِكَ الموتى جميعاً.

واشتدَّ الضحك

اشتدَّ

اشتدَّ.

وحدي كنتُ أتأمّل المشهد

وأبكي.

وحدي كنتُ أتأمّل المشهد

وأموتُ ببطء.

 

رسالة الحروف

 

 

  

1. 

أيّتها الرسالة: مَتى تَصِلِين؟

مَتى تفتحين عليَّ الباب

لتمسحي عن حروفي الأنين

وعن نقاطي الدموع؟ 

2. 

كم انتظرتكِ!

مرّتْ طيورُ الطفولةِ ولم تَصِلِي.

ومرّتْ طيورُ الصبا

وطيورُ الشباب

وطيورُ الدهور

وأنتِ لا تنعمين عليّ بريشِكِ

ولا بمنقاركِ الدافئ الصغير. 

3. 

آ..........غموضُكِ أذهلَ روحي

فتطلسمتُ في حروفكِ،

وتنقّطتُ بدمكِ المسفوح

وبكيتُ في غرفتكِ العاريةِ وثيابكِ العارية. 

4. 

يا رسالتي: مَن أنتِ؟

ومَن كتبك؟

5. 

أخافُ أنْ أموت دونَ أنْ أقرأ

سينَكِ الكبرى

ولامَكِ المُقدّسة العظمى! 

6. 

يا رسالتي المُحترقة كباخرةٍ مُحترقة

دمعتي حاصرتني

حينَ تذكرتُ موتَ ساعي البريد. 

7. 

أرجوكِ

تعبتُ من الرجاء

فَلُمّي حطامي.

وبدّدي ذكراي

بأزرقكِ وأحمرك

وطوابعكِ ذات الطواويس. 

8. 

يا رسالتي

قيلَ إنَّ في ظرفكِ شمسي

فتعجّبتُ.

وقيلَ إنَّ فيه طالعي

فدُهِشتُ

بل قيلَ إنَّ ملائكتي قد دخلتْ فيه

لتحتفلَ بغموضِكِ القادمِ ليبدِّدَ وضوحي

فجُننتُ!  

9. 

آ..........

قُوديني إليك

كما يقودُ المبصرُ أعمى إلى الفرات

ليسبحَ فيه

ويبصر طفولته العذبة

وشموسه المنطفئة وسطَ النخيلِ وصيحاتِ البطّ. 

10. 

أيّا يكونُ مُرسلكِ... تعالَي.

أيّا يكونُ مُرسلكِ: حيّاً أو ميّتاً،

ضائعاً، غريقاً، مرميّاً في المجاهيل... تعالَي.

فلقد سفحتُ

أربعين عاماً

أنتظرُ قدومَكِ المفاجئ عندَ ضفاف الأنهار

وعندَ خضرة الأولياءِ وحنّة حيطانهم 

وعندَ دموع طسم والم وكهيعص. 

11. 

يا أعجوبتي الضائعة في بريدِ اللامعنى، 

يا مغنّيتي التي أشعلتْ قلبي بذكرى الربيعِ الميّت 

وذكرى طيران الأساطير وانتحارها في الأزقّة،

كيف ينبغي لي أنْ أخاطبكِ

لأوهمكِ بصدقي

وأصدقكِ بوهمي؟ 

12. 

يا نقطتي التي لم تصلْ بعدَ أربعين موتاً

من التعلّقِ بقشّةِ الحروف

ها أنذا أجلسُ في نَفْسي درويشاً أعمى

مُتمترساً في غيبتي ووسوستي 

أنتظركِ

وأنتظركِ

وأنتظرك. 

13. 

يا رسالتي

إنْ لم تَصِلِي فسوفَ أسوّفُ سينَكِ،

وألمّ لامنا وآلامنا في قارورةِ العبث 

ثُمَّ أذروها في راءِ فراتِ طفولتي

إلى أنْ أموت!

 

 

 

 

 

 

 

الحفلة

 

إلى: صلاح كمال الدين

 

 

 

 

سقطَ الحرف

وضاعَ العمرُ الذي يتعكّزُ ليلَ نهار.

سقطَ وضاع،

ضاعَ وتزحلق،

تزحلقَ وامَّحَى،

امَّحَى وتكهرب،

تكهربَ وذاب،

ذابَ وغاب،

غابَ فانكسرت الأبواب

ودخلتُ على فرسِ الخيبةِ أحملُ سيفي،

أمتشقُ عذابي وكلماتي، حقّي ونوري،

وصرختُ.

لكنّ الحرف انكسر الليلة

فأقمتُ له مأتماً

ولم أدعُ إليه أحداً سوى نَفْسي.

وحين حضرتْ نَفْسي فتّشتُها كثيراً

وتأكّدتُ أنّها لا تحمل شيئاً ممنوعاً

ثُمَّ سلّطتُ عليها ضوءَ دمي

فخرجَ منها شيءٌ فيه جلال القاف

وصور الطفولةِ الحافية

ونهر الفراتِ الأدرد

والخيبات التي لا تنتهي عند حد.

حينها صرخت:

آهٍ سقطَ الحرف

أيّها المجانين.

انتبهوا فالحفلةُ عارمةٌ

(وأنتم لا تخلون من الأكاذيب)

الحفلةُ ستبدأُ بالأكاذيب

(فاحذروا الدخول من بابِ الراقصات)

ثُمَّ تبدأ الدموعُ بالهطول

وسأشرحُ لكم ألفَ مشهد بكائيّ لي

ولآبائي وأجدادي وأبنائي.

فاحذروا 

فَمَن سيشاركني سيُمحَق في هذه الحفلة المجنونة،

احذروا

احذروا. 

سقطَ الحرف

ولذا سأقرأُ عليكم روحي في سندان القصيدة

والقصيدة في سندان الموت

والموت في سندان الفجر

والفجر في سندان الأحلامِ المخنوقةِ بالماء،

الماءِ، الماءِ، الماء

وأقرأُ عليكم عُريي الظاهر

لنهبطَ إلى عُريي الباطن

وأحلم أن تموتوا كي تتخلّصوا من ضحالتكم

أيّها الأجلاف الحُفاة

أيّها الشعراء الذين ضيّعوا أنفسهم فلم يضيعوا.

انتبهوا 

صوتُ الموسيقى مُدوّياً مُدوّياً يجيء

ليغّطي صوتَ سقوطِ الحرف

لكنْ...

لا...

فسقوطُ الحرفِ بهيٌّ أيّها العُراة.

انتبهوا 

انتبهوا 

الموتُ على الباب

ونحن ضيّعنا شموسنا بحثاً عن الخبز

فلم نجد الملح.

وبحثنا عن الملح

فلم نجد الذاكرة.

وبحثنا عن الذاكرة

فلم نجد اللباس.

وبحثنا عن اللباس

فلم نجد القميص.

وبحثنا عن القميص

فلم نجد العمامة.

سقطَ الحرف

احذروا

احذروا

وجدتُ العمامةَ مُلطّخةً بالدمِ، مُعطّرةً بالحلم

وفي وسطها شمس المرايا تسطعُ، تسطع. 

فهلّلتم.

قلتُ لكم: هلّلوا

هلّلوا أيّها الحُفاة. 

الحرفُ يسقطُ يسقط

ونحن نضيعُ وسطَ عرينا الأسْوَد

الذي ملأ علينا كلّ شيء.

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home