(الحرف والغراب) المجموعة الشعرية
الجديدة لصديقي الشاعر المغترب
أديب كمال الدين، تومض بالشعر
ومضات تضيء أحواله وأحوالنا، نحن
أبناء الجيل الشعري الواحد،
وتقرّبنا
من
عناوين محفورة في ذواتنا قبل
ذاكرتنا ولا يملك النسيان أيّة
وسيلة لابتلاعها، ولا سيّما إذا
أعارها الشاعر حروفه ثياباً
وألبسها نصوصاً ما تنفكّ تزيدها
رسوخاً، لا على الورق وبين غلافين
أنيقين حسب، بل على نقاط هذه
الحروف التي لا تعود تعني شيئاً
بدونها.
فإذا
كان (نوح) وغرابه وحمامته يصلحان
– منذ ألف عام -
لتشكيل
رؤوس مثلث شعري قابل للتحوّل إلى
مفاهيم تداوليّة تقترب وتبتعد
كيفما يحلو لها- لا للمتلقي ذاته-
من مدن الشعر المسكونة، صارت مدن
العالم وعواصمه المحكومة بالحركة
وضجيجها، النقيض المستبد الذي
يفرض على الشاعر مكرهاً من ذلك
المثلث الشعري، لينشغل بانطباعاته
(الخارجية) قبل أن يتذكر أن عليه
أن يعود إلى أدواته الجراحية
يستخرج بها من معدة النسيان تلك
العناوين الشاخصة، والحيلولة دون
هضمها أو تلوثها ب(العصارات
الهضمية) الخبيثة.
أقول
هذا وقد نظرتُ في (الحرف والغراب)
مليّاً لأقف على مثلث (نوح) النبي
الذي واجه الطوفان ورافقته
الحمامة مثلما رافقه الغراب ومعهم
ممثلو الحيوانات بشراً وغير بشر ،
ولأقف بعده على مدن وعواصم زارها
الشاعر ضيفاً أو لجأ إليها
هروباً، وصارت مطاراتها وشوارعها
وفنادقها وتفاصيل مشاهداته فيها،
ذلك النقيض المتسيد الذي أشرت
إليه ، ثم لأقف ثالثة على تلك
العناوين التي وصفت في سطور
المستهل، فأدهشتني التقاطات
الشاعر لدوال دقيقة منها، مكّنته
من ابتكار مداليل ظاهرة ومغيّبة
لها وفيها، مثلما فعل في نصّ
(لوركا) الذي انتهى به أن يبعثه
إلى الحياة الدائمة، وكأنّه أخرجه
من أنياب الطوفان، ولم سيتنقذه –
حسب- من أيدي قتلته والباكين عليه
والباحثين عن قبره المفقود:
سيقتلكَ فرانكو
أو
أتباعُ فرانكو
أو
رصاص فرانكو.
وستموت
بل
ستشبعُ موتاً
أنتَ
الذي لم تشبعْ من الحياة
مثلما
الحياة
لم
تشبعْ منك.) (ص 14).
ولكن
سينتهي أديب إلى أن ذلك الذي حصل
للشاعر العالمي الإسباني القتيل
لا يهم لأن قصائده الملونّةُ
كموعدِ حبّ
(واللذيذةُ كملعقةِ عسلٍ في فمِ
طفل،
قد
عبرت الأزمنة
وطارتْ فوقَ القارّاتِ والأمكنة)
-
وطارت ولو حذف جملة طارت لكان
الشطر غدا أجمل_
(وطارتْ فوقَ الحدود ونقاط
التفتيش
وطارتْ فوقَ غيوم المستحيل
حتّى
صارتْ تشارك أهلَ الأرضِ أحلامَهم
وتضيء
لهم وحشتَهم الفسيحة
وتكفكف دموعَهم وحرمانَهم.) ص 16
فقد
امتلأ الشاعر القتيل بالحياة على
رغم أنف الموت الشنيع الذي تعرض
له. وفي نصّ (قنّينة
جان دمّو)
الشاعر الذي عاش ثملاً ليلَ نهار،
وكان مثلما وصفه الصديق أديب:
(ضميرُنا
الذي يكتبُ الشعر
دونَ
أنْ نقرأ له قصيدةً واحدة!
ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة
وشعراءَ الطغاة
والشعراءَ المرتزقة
والشعراءَ السَفَلة،
ويحقدُ على الزمانِ الذي لم
يمنحْه
سوى
وسام العربدة
وعصا
الصراخِ بالحقيقةِ المرّةِ
كالعلقم.) ص 27
سيجعل
من قنينة الخمرة التي رافقت جان
دمّو إلى مهجره الأسترالي حيث مات
تحت جسر سدني، المدلول الأوفر
حظّاً في تحديد علاقة دمّو
بالحياة، وإذ:
(تعبتْ
من شدّةِ صراحته
ودموعه الطفوليّة
ووحشةِ قلبه التي عجزت الملائكةُ
والشياطين
عن
فهمِ وجعِها اليوميّ وعذابِها
السحريّ.
قنّينةُ الخمرةِ هذه
كانتْ
صديقته الوحيدة،
صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه
بهدوءٍ أسْوَد
وهي
تقبّله بشغفٍ أسْوَد
قُبْلةَ الحياة.) ص 26 و27
إذ
جعل أديب من فم القنينة وسيلة
حياة جان دمو وموته، لشغفها
الأسود في تقبيله في جميع أوقاته.
إما
في نصّ (نوم) فسيستعيد الصديق
أديب كوابيس الدماء والحروب التي
غادرها، ليقف بنا في مقطعها
الثالث عند طفولته وأحلامها
السعيدة :
(المرّة
الوحيدة التي أفقتُ فيها
من
النومِ سعيداً
كانَ
الوقتُ عيداً.
وكانَ
حذاءُ الطفولةِ الأحمر
قربَ
مخدّتي
يحرسُ
سعادتي!) ص 30
قبل
أن يعود في المقطع الرابع منها
ليطلق سؤالاً بدا له محيّراً
(لِمَ تنام؟) ليجيب عليه أو على
نفسه السائلة:
(النومُ عادةُ السعداء
والمُهرّجين
وأصحاب الملايين أيضاً.
أما
الشعراء فلا ينامون
يكفيهم النوم
وسط
أحلامهم المضمّخة بالدموع
والحرمان،
ووسط
قصائدهم التي تكاثرتْ
ولم
تعدْ تكفيها
مصاطبُ الحدائقِ العامّة.) ص 30 و
31.
وينقلنا الشاعر الحروفيّ أديب
كمال الدين عبر نصّ (مبادلة) إلى
متاعب رحلته المريرة بين المدن
التي عاش فيها أو انتقل ليقيم-
أخيراً- فيها. إذ يتمنى على الحرف
أن يعطيه أولاً نقطة (باء) بغداد
ليعطيه من جانبه :
(وسأعطيكَ طابعَ النسر
بمنقاره المعقوف
وذكرى
حروبه البشعة.) ص 32
أو أن
يعطيه نقطة (باء) بابل- مدينة
طفولته وما تحمله من مداليل
ظاهرة- ليعطيه بالمقابل:
(وسأعطيكَ طابعَ رأسِ كلكامش
وقد
قُدَّ من صخرةِ الخيبةِ والخذلان
بعدما
سرقت الأفعى
عُشبةَ الروحِ منه
وهو
نائمٌ يتوسّدُ حلمَ الخلود).
وهي
المداليل التي سرعان ما ستظهر ما
خفي منها في السطور التالية:
(أو
سأعطيكَ
رأسَ
صباي الذي كادَ أنْ
يلقي
بنفْسه في لُجّةِ النهر
فألقاها بعد أربعين عاماً
وهو
يتأمّلُ في البحر،
في
لُجّةِ البحر.) ص 33
حتى
إذا ما أقام في (سدني) بأستراليا،
بعيداً عن دياره الأولى، آملاً أن
يعيش بعيداً عن وحشية الحروب وبؤس
الحرمان، رأيناه يكشف عن مدلول
أكثر بؤساً، حين أراد أن يستبدل:
(طابعَ امرأةٍ من فتنةٍ واشتهاء
بيدها
زهرة من هباء،
وطابعَ كهلٍ يهذي قصائده
المتشظّية
وهو
يقلّب كفّيه
على
ما أنفقَ من عمرِه
في
شقّتِه الضيّقة.) ص 33. بنقطة نون
سدني وهي نقطة حرف قاربَ أن يسقط
من الاسم في نقطتي (ياء) سدني
التي ليس بعدها إلا الهاوية!
والهاوية ما يختتم أديب نصّه هذا:
(ولن أعطيكَ طابعَ الجسرِ
المحدودب) الذي لا يؤدي لشيء، بل
لا يرغب بإعطائه:
(طابعَ الأوبرا
فكلّ
موسيقاها الهائلة
تسحقُها قطاراتُ المدينةِ كلّ
يوم،
قطاراتُ المدينةِ التي لا تكفّ
لحظةً
واحدة
عن
ممارسةِ الجنسِ والليلِ والموت.)
ص 24.
فيا
للأسى والمرارة! وانتقالاً إلى
نصّ (تسعة عشر مقطعاً) سيوقفنا
الشاعر في عتبة النصّ أو في مقطعه
الأول على محنته التي انتهت إليها
رحلته في النصّ آنف الذكر. إنه
يذكر:
(حين
خرجَ الحرفُ من الحربِ، دخلَ إلى
الصحراء التي سلّمتْه إلى الجبلِ
الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ
التي سلّمتْه بدورِها إلى البحرِ
الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ
بدوره إلى نَفْسِه.
وهكذا
عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن
جديد!) ص 46
تكمن
مداليل المقاطع المغيبة في هذا
الانتقال الذي جعله الشاعر شبيهاً
بدوامة لا تتوقف تنقل الحرف أو
تنقله هو ذاته لا فرق ماداما
توحّدا معاً. في حضور الانتقالات
المتسارعة المتلاحقة وغياب أية
علامة ترقيم (الفوارز مثلاً) يمكن
أن تشير إلى حدوث توقفات ولو
قصيرة، اللهم غير البياض الذي
أظهره النصّ بعد تلك الدوامة، قبل
أن يعود الحرف- بل الشاعر- إلى
مكانه الأول حيث الحرب أو الخيبة
المرّة! وهذا ما سيكشف عنه المقطع
الثاني:
(الرقصةُ،
أعني
الرحلة،
كانتْ
كاذبة
لأنّها كانتْ مليئةً بدموعِ
التماسيح
وطبولِ السحرةِ المُزَيَّفين.)
وهذا
ما سيؤكده المقطع الخامس:
(مِن
المهمِ أنْ لا ننهار.
ولكي
لا ننهار
ينبغي
أنْ نرممَ أجسادَنا المنهارة
ليلَ
نهار
وهي
تُلّوحُ تلويحةَ الوداع.) ص 47 و
48
وما
سيكشف عنه بمداليل شديدة الوضوح
في المقطع الرابع عشر:
(أنفقَ الحرفُ عمرَه وهو يحلمُ
بمُستقرّ.
فلم
يحظَ، في نهايةِ المطاف،
إلا
بحقيبةِ سفر
وجواز
سفرٍ وهميّ
صادرٍ
عن مملكةِ النقطة،
المملكة التي لا وجود لها بالطبع
إلا
خارج حدود الجغرافيا.) ص 50 و 51
لقد
كان على أديب أن يلغي السطرين
الأخيرين لأنهما أضاع شعرية
المقطع بتقديري ونقلاه إلى نثرية
عادية. غير أنه استطاع أن يعيد
التوازن إلى نصّه في المقاطع
المتبقية من النصّ الأصلي، ولا
سيما في المقطع التاسع عشر/
الأخير:
(سيبدأُ الحرفُ الليلة
كتابةَ قصيدته الجديدة
ليكتشفَ أنَّ النقطة
لم
تكتفِ ببناءِ سجنٍ كبيرٍ له
بل
أعدّتْ له منصّةَ الشنقِ أيضاً!)
ص 52
وفي
نصوص تالية، يلجأ الصديق الشاعر
أديب كمال الدين إلى استعادة
حيوات آخرين، بينهم الشاعرة
الأمريكية (سلفيا بلاث) زوجة
الشاعر تد هيوز التي انتحرت،
والشاعر الكبير يوسف الصائغ،
والفنانة عفيفة اسكندر، والمطرب
عبد الحليم حافظ، وهو لجوء يبدو
لي اضطراراياً لأنّ أديباً فيه
يكتفي بنقل تصورات خارجية أو
مشاهد مما تختزنه ذاكرته عمن كتب
عنهم، وهي، ولن أكون قاسياً في
حكمي، لا تكفي إلا لما يشبه أن
يكون ملء فراغ روحي مرّ به
الشاعر، وقد فعل هذا كثيراً في
نصوص لاحقة ، لكنه أدهشني حقاً
عند قراءتي نصّ (أعشاش) بما حمل
من مداليل ثرّة ، جاء فيه:
(أحدهم طارَ فوقَ عشّ الموت
والآخرُ طارَ فوقَ عشّ الفجر
والثالثُ فوقَ عشّ الضحك.
الرابعُ طار فوقَ عشّ الدموع
والخامسُ فوقَ عشّ الممنوع
والسادسُ فوقَ عشّ السَمَكة.
السابعُ طارَ فوقَ عشّ النساء
والثامنُ فوقَ عشّ الشيطان
والتاسعُ فوق عشّ المطر.
لكنَّ
العاشر لم يطرْ أبداً
بل
قرّر أنْ يموتَ بهدوءٍ أُسطوريّ
على
سريرِه الضيّق
ويكتب
كلّ يوم
قصيدةً مليئةً برفيفِ الأجنحة
عن
تلك الأعشاش المعلّقة بالسماء!) ص
70 و71