ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة
شعر
أديب كمال الدين
أزمنة للنشر والتوزيع،
عمّان، الأردن، ط
1 ، 2006
الأعمال الشعرية الكاملة المجلد
الثاني، منشورات ضفاف، بيروت
لبنان 2016
ترقيم
الصفحات حسب طبعة الأعمال الشعرية
الكاملة المجلد الثاني
غلاف ط 1 للفنان أياد القره
غولي
القصائد
أصدقائي الأوغاد والمنفيّون
والسذّج
265
هو أزرق وأنتِ
زرقاء
269
ضجّة في آخر الليل
275
تمثال
277
مطر أسْوَد، مطر أحْمَر
279
يا بائي وبوّابتي
283
اعترافات النقطة
288
جُثّة في
البئر
291
اذهبوا للجحيم
293
ساحر
298
شجرة وحيدة
300
قصيدتي المغربيّة
302
حوارات النقطة
307
عرق ودم 316
صيحات النقطة
317
قصة حُبّ
325
جسور
327
حصانان أسْوَد
وأْحْمَر 331
قطرات الحُبّ
333
حاء3ات
336
امرأة بشعر أخضر
337
حقائب سُود
340
مباهج
الرندلمول
342
إلى أين
344
سؤال
346
جسر بعشرات الثقوب
348
حمامة
350
صورتان لبئر 352
فخّ
354
الأعزل 356
شعراء الحرب
359
وداعاً 360
أمل
361
ألوان
363
اختباء 365
سهرة
صامتة 366
بكاء الحاجب
367
خنجر أسْوَد، صرخة بيضاء
370
سجود
372
أصدقائي الأوغاد والمنفيّون
والسذّج
.1
حينَ جلستُ إلى الساعة،
كانت الساعةُ شابّاً مقتولاً
قربَ كنيسةِ أحزان العالم.
جاءَ أصدقائي الأوغادُ والمنفيّون
والسذّج
ووضعوا صليباً خشبيّاً
قربَ دماءِ الجُثّة
ووضعوا ورداً لا اسم له
وآساً وفاكهةً مُعفّرةً بالتراب.
قالوا: مَن هذا المقتول؟
وما معنى الساعة؟
2.
حينَ جلستُ إلى المرأة،
كانتْ جسداً بَضّاً
من عسلِ الوحلِ وريشِ البومة.
كانتْ ملآنةً بالعُريّ الذهبيّ
وبالعُريّ الفضيّ
وبالعُريّ الأسْوَد.
جاءَ أصدقائي الأوغادُ والمنفيّون
والسذّج،
قالوا: ما معنى المرأة؟
وكيفَ يكونُ العريُ أسْوَد؟
3.
كيفَ يكونُ اللحنُ على هذا الحال؟
كيفَ سأصفُ، اللحظة، موتي الأبديّ
وضياعي في جسدٍ من لعنةِ الحُبّ
وعذاباتِ الرغبةِ والشوق؟
كيفَ يكون الحالُ على هذا
المنوال؟
من غيمتي الصغرى،
أعني من غيمتي الخضراء
إلى درجٍ يمضي إلى مأساةٍ
من عسلِ الوحل،
إلى درجٍ يمضي حتّى الأسفل
ليلامسَ أياماً تتطايرُ كالريش،
إلى درجٍ يمضي
حتّى جُثّة ذاك الشاب المقتول
وصيحات صليبه الخشبيّ
وفواكه قلبه المُعفّرة بالتراب.
آ. . .
كيفَ يكون –
يا مَن قالَ:
"كنْ فيكون" –
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضاً؟
4.
لا
لا
سأعيدُ كتابةَ هذا النصّ!
فلقد احتجَّ أصدقائي الأوغادُ
والمنفيّون والسذّج
على العنوان:
جاءوا في الليل،
قلعوا الصليبَ الخشبيّ
ووضعوا تراباً فوقَ دمي المتناثر.
وحاولَ بعضٌ منهم
أنْ يأكلَ فاكهتي المُلقاةَ على
الأرض.
واحتجّوا على متنِ النصّ:
أخرجَ أوّلهم سكّيناً ليهددني
وقامَ الآخرُ بشتمي
وقامَ الثالثُ بكتابةِ تقريرٍ
سحريّ أو سرّيّ
عن غيمتي الخضراء
ودرجي الهابط إلى الأسفل
وأيّامي: أيّام الريش.
5.
بعدَ سنين من كتابةِ نَصّي هذا
قُتِلتُ قربَ نهرٍ ميّت
في آخر قارّاتِ العالم.
جاءَ أصدقائي الأوغادُ والمنفيّون
والسذّج
حملوني في تابوتٍ أسْوَد،
حفروا الأرضَ ووضعوني فيها.
قالوا: لم نفهمْ ما قال!
كانَ يكتبُ حروفاً ونقاطاً صوفيّة
ويصفُ الدنيا كسريرِ امرأةٍ من
عسلِ الوحل
ويصفُ المنفى ككتابِ مجانين
وعُراة!
أحياناً يضحكُ من فوق الدرج
ليقول:
هذا درجٌ يمضي حتّى الغيمة
أو حتّى أيام الريش!
أحياناً يتحدّثُ عن عُريّ ذهبيّ
أو فضيّ أو حتّى أسْوَد!
قالوا: لم نفهمْ!
هل كانَ إلهيّاً أم كانَ
خرافيّاً؟
إنسيّاً أم جنّيّاً؟
هو أزرق وأنتِ زرقاء
1.
أنتِ تشبهين البحرَ في كلِّ شيء.
نعم،
هو أزرق
وأنتِ زرقاء.
هو ساذجٌ أخرق
وأنتِ ساذجةٌ أكثر ممّا ينبغي.
هو صاحبُ المعاني التي تبدأُ
بالفِرَاش
وتنتهي بالموت.
وأنتِ صاحبةُ الفِرَاش
هناك يبدأُ معناكِ بالظهور
شيئاً فشيئاً
لينتهي بالغرقِ والموت.
2.
نعم،
البحرُ يشبهُ جسدكِ المليء بمشاعل
النار
فلهُ أثداءٌ من الرغبة
تهبطُ وتعلو
ولكِ ثديان من الحمّى
يعلوان أبداً.
وله سيقان من الحلم
ولكِ ساقان من الزلازل
يبدأ عذابهما بالقُبلِ التي تصعد
يميناً ويساراً
لتنتهي قربَ بابِ الخرافة
بما يشبه القتل الجماعي
لمئاتِ الفارّين من المعركة.
3.
وعلى ذكرِ القتلِ والزلازل،
فالبحرُ يخرجُ أثقالَهُ بين حينٍ
وحين
ليذبحَ عشّاقه ومُحبّيه
وأنتِ تخرجين أثقالكِ
كلّ يومٍ وليلة
كي تذبحي عاشقكِ الخائن
ولكنْ ليس برعبِ الزلازل
بل بسكين تغرقُ في الصدأ والطين.
4.
ما أحلاكِ إذن
وأنتِ تفسدين عليَّ حفلتي منذ
الصبا
وأنتِ تفسدين عليَّ قصيدتي من
المطلع
وأنتِ تفسدين عليَّ أنفاسي
بأنفاسكِ المليئة بالرغبة.
حينها لا يبقى لي من مُتسع
سوى أنْ أتعرّى أمامكِ
مَليئاً بالهذيان.
وأنتِ تتعرّين أمامي
مَليئةً بالمكائد والأسرار،
مَليئةً بناركِ وأمطاركِ وأغانيكِ
ودموعك،
مَليئةً بصيفكِ وربيعك،
مَليئةً باستسلامكِ الشجاع
ومَليئةً، في آخر المطافِ، بضياعي
الأعمى.
5.
أنتِ تشبهين البحر
لا شكّ في ذلك!
ولكنْ أيّ معنى يختفي خلف هذي
الحقيقة؟
لقد ضعتُ بين يديكِ قبلَ أربعين
قرناً
طفلاً ملعوناً،
وملاكاً مُصاباً بحمّى الجذام،
وشيخاً منفيّاً في أقاصي العالم،
وشاعراً يشكو أبداً من وحشةِ
الشمس،
وشمساً تتقلّبُ في سماءٍ ضيّقة،
وسماءً تلعبُ تحتَ عرشِ الذهب،
وذهباً يتقاتلُ من أجله السافلُ
والملك،
وملكاً لا يأبهُ لصيحاتِ شعبه
الذي يحيطُ بقصره
حاملاً، كلّ ليلة، المشاعلَ
والسكاكين.
6.
أنتِ تشبهينَ البحر
لاشكّ في ذلك!
لكنْ أيّ معنى يختفي خلفَ ذلك
البحر،
خلفَ تلك الزرقة العجيبة التي
تبدأ
لكي لا تنتهي
أو تنتهي كي تبدأ من جديد؟
خلف تلك المراكب الضائعة
والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون
على سطحِ سفنهم المُبحرة أبداً،
خلفَ تلك المدن التي تنتظرهم
لتنساهم أبداً،
خلفَ ذاك البياض الذي لا أفهمه،
خلفَ ذاك السواد الذي لا أتقبّله،
خلفَ ذاك الاحمرار الهابط الصاعد،
خلفَ تلك التي تعجزُ عن وصفها
الحروفُ والكلمات،
خلف ذكراكِ الحيّة الميّتة،
خلف ذكراكِ المُقدّسة؟
7.
أنتِ تشبهين البحر!
كم يتقلّب البحر!
انظري:
جسدكِ مُسجى
وأنا أتلمّسُ بأصابعي شمسكِ
الحارقة،
أهبطُ مرعوباً إلى بابِ الخرافة.
كم حلمتُ بها
أيّتها الضائعة أبداً،
المُسجاة قربَ جسدي أبداً،
كم حلمتُ ببابِ الخرافةِ وشمسِ
الخرافة.
ولذا مثل مَن يستسلم
لقدرهِ الذي يشبهُ سيركاً من
المجانين
تركتُ أصابعي قربَ تلك الباب
تتلمّسُ طفولتي وشبابي وشيخوختي،
تتلمّسُ حروفي ونقاطي.
آه
كم حلمتُ بتلك الشمس المُتقلّبة
كموجةِ بحرٍ تولد
من اليمينِ إلى اليسار،
من الطيرِ إلى الغيمة،
من الأزرقِ إلى الأصفر،
من الوقوفِ إلى الهرولة،
من الرفضِ إلى الاستسلام،
من النارِ إلى الثلج.
لا
لا
لا ثلج أبداً
هناك نارٌ تتنقّلُ معي
كما تتنقّلُ لعنةُ الجذامِ في
الجسد،
كما تتنقّل لعنةُ الفقرِ مع
الفقراء،
كما تتنقّل الإشاعةُ بين أفواه
العجائز،
كما تتنقّل الحروفُ من كلمةٍ إلى
كلمة
ومن قصيدةٍ إلى قصيدة
ومن موتٍ إلى موت!
ضجّة في آخر الليل
قالت النقطة:
انظروا إلى هذا الأرعن الذي ملأ
عليَّ الشارع
ضجيجاً وصُراخاً.
وقالَ الحرف:
انظروا إلى هذه الخائنة التي
سرقتْ
قلبي وفلذّةَ كبدي
وتركتني أنامُ على الرصيف.
صمتَ الناس،
أعني الكلمات.
صمتت الكلمات،
أعني الناس
واحتاروا في أمرِ هذه الضجّة
العجيبة
آخر الليل.
جاءَ أحدُهم وصبَّ الماء
فوقَ رأسِ الحرف.
وجاءَ الآخر
ليسألَ الحرفَ عن مدلوله ومعناه.
وجاءَ الثالث
ليحدّقَ كالمشدوهِ في هذا الحرف
المرمي في آخر القصيدة.
أمّا النقطة
فاختفتْ وسطَ بيتِ خيانتها المنيف
لتتركَ الحرف يبكي ويصرخُ ويولول
وسطَ صهيلِ الكلمات،
أعني وسط صهيل الناس!
تمثال
في نوبةِ غضبٍ مجنون
أحرقتُ صورَكِ كلّها.
ولم أعرفْ حينها
أنّ رمادَ صورِكِ
قد تجسّدَ في ذاكرتي
تمثالاً كاملاً لا ينقصهُ أيّ
شيء،
تمثالاً ألمسهُ بأصابع البخيل
كلّ يوم
فأُدْهَشُ
لأنَّ الحرارةَ لم تزلْ فيه.
وأدهشُ
بعدَ أنْ أقبّلهُ مَرّاتٍ ومَرّات
أنّ قلبهُ ينبض!
نعم،
كلُّ تماثيل ذاكرتي
كانتْ مُهشّمة، دونَ رؤوس.
وحده تمثالك
كانَ كاملاً
ولا ينقصهُ إلّا الكلام!
مطر أسْوَد، مطر أحْمَر
.1
بعدَ أنْ خرجنا من الحرب
نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون
اتجهنا إلى بغداد
يتقدّمنا صاحبُ الجند
مُمتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً
ونحن من خلفه نجرُّ أقدامنا جرّاً
حُفاةً، شبه عراة.
قالَ، حينَ ظهرتْ مآذنُ المدينة،
"سأختارَ لكم موتاً جديداً".
فضحكنا
وتساءلَ الشيوخُ منّا
عن الموتِ الجديدِ وَجِلين
أما نحن، خيرة الجند،
فتصوّرنا الأمرَ مزحةً عابرة.
.2
لم تمرّ سوى شهور
حتّى قرّر صاحبُ الجند
أنْ يشنّ حربَ النار
على جيرانه النائمين في العسل.
فبدأنا بالحرقِ، حرقِ كلّ شيء:
المواشي والأغنام والمزارع،
الأسواق ومخازن الغلال
ثُمَّ حرقنا بيوتَ الشرطةِ
والتجّار
والمخابزَ والمدارسَ والمطاعم.
ثُمَّ
أُمِرنا أنْ نحرقَ
المساجد.
ارتبكنا قليلاً
كيفَ لنا أنْ نحرقَ المساجد؟
غيرَ أنّ صاحبَ الجند
مَثّلَ أمامنا بجُثّةِ جنديّ رفضَ
الأمر.
فما كانَ منّا
إلّا أنْ دخلنا بيوتَ الله
نحرقها ونطلق صيحاتِ الرعب،
الرعب من الله
الرعب من أنَفُسنا
والرعب من الرعب!
3.
مرّتْ سنين طويلة
حتّى غطّتْ بغداد
غيمةٌ لا أوّل لها ولا آخر
وبدأتْ تمطر.
كانت الغيمةُ سوداء كجهنّم
فنزلَ المطرُ أسْوَد كالقير.
ضحكَ الأطفالُ أوّل الأمر للمطر
لكنهم بكوا
حينَ أصبحتْ وجوههم كالقير.
واستبشرَ الزرّاعُ خيراً
لكنّهم وجموا إذ رأوا أشجارهم
تموتُ ببطء
ثُمَّ جاءَ الدورُ للسحَرَةِ
الذين وقفوا
في أزقّة المدينة
ينتظرون المطر ينزلُ في أوانيّهم.
كانوا يرقصون
فهذا المطرُ رديفٌ للسحْرِ
الأسْوَد،
قالوا إنّهم سيسحرون به كلَّ شيء
حتّى صاحب الجند نَفْسه!
4.
استمرَّ سقوطُ المطرِ سنوات
وسنوات.
كبرُ الأطفالُ وهرموا وماتوا
اغتمَّ الفلاحون
بل ماتوا من الغمّ.
وحدهم السَّحَرَة كانوا يرقصون.
فالمطرُ الأسْوَد
كانَ عوناً عجيباً للسحْرِ
الأسْوَد.
هكذا سحروا المدينةَ كلّها:
سحروا الجندَ فصاروا لصوصاً
وقَتَلة
وسحروا الشيوخَ فصاروا كذّابين
وتافهين
وسحروا صاحبَ الجند
فاختفى في حفرةٍ داخل الأرض
تاركاً لهم قصوره وذهبه وحصانه
الأبيض
ثُمَّ سحروا المطرَ الأسْوَدَ
نَفْسه
فصارَ مطراً أْحْمَر:
مطراً من الدمِ القاني
صبغَ وجوهَ السَّحَرةِ ولحاهم
وأوانيهم
ثُمَّ صبغَ طلاسمهم وحروفهم
وبخورهم
ثُمَّ صبغَ ذاكرتهم وصيحاتهم
وأصابعهم
حتّى ضاعوا إلى الأبد
وضاعتْ معهم بغداد إلى الأبد.
يا بائي وبوّابتي
1.
معَ أنّني أطلقتُ عليكِ اسمَ
الباء
ثُمَّ أطلقتُ عليكِ اسمَ النقطة
(بعدَ أنْ قيلَ لي إنّ كلَّ
الباءِ في النقطة)
فإنّني لم أُشْفَ بعد مِن جراحي
التي سبّبتْها
سكاكينُكِ وشراشفُكِ وروائحُك.
نعم، لم أُشْفَ
معَ أنّني كتبتُ
سبعين ملحمة في ذكراكِ
وسبعين قصيدة لتمجيدكِ
وسبعين بيتاً لِعدِّ دموعي
المُتساقطة
في الطرقاتِ من أجلكِ
وسبعين، سبعين.
نعم،
فلقد سطا عليكِ الزمان
وتناهبتكِ اللذّة ذاتَ اليمينِ
وذاتَ الشمال.
وحينَ كنتِ بين ذراعيّ
تلثغين بمفاتن نهديكِ وساقيكِ
سطا خدمُ العرشِ ليسرقوكِ منّي
ونهبوا عرشَ ذهبكِ ومفاتنكِ
وملابسكِ الداخليّة.
2.
كانَ المشهدُ أكثر كابوسيّة ممّا
أحتمل.
إذ كانَ يتطلّب أنْ أقلعَ عينيّ
وأنْ أقطعَ رأسَ الحروف
وأعلّقها على بوّاباتِ العبث
ولم تكنْ لديّ حروف بالمَرّة.
وكانَ المشهدُ يتطلّبُ أنْ أخرج
إلى الشارعِ عارياً،
عارياً تماماً.
وما كانَ هناك من شارعٍ في الأرض
يمكن أنْ أمشي عليه
بقدميّ المُلتصقتين ببطني،
يا ملكةَ العُري والفجيعة
يا بائي وبوّابتي
يا بليّتي وبَلبَلَتي.
3.
كانَ خروجي مُدوّياً
لأنّني كنتُ مَن يحملُ رأسَه
بنَفْسه
فوقَ رمحٍ عظيم.
وكانت النسوةُ والملائكةُ تهربُ
منّي
وهي تحملُ طبولَها وأبواقَها
الكبيرة.
خرجتُ،
لم أجدْ مَن يقول: نعم
لرأسٍ محمولٍ على رمحٍ عظيم.
كانت الطرقاتُ جافّةً
والشمسُ ساطعةً
والغرباءُ يتلعثَمون
وهم ينظرون إليّ:
ما هذا؟
أهو جِنّيّ أم أنسيّ؟
أهو صوفيّ أم مُلحد؟
أهو قربان أم خرافة؟
4.
وخرجتُ،
عبرتُ الأسلاكَ والحدود،
عبرتُ المعنى والكلمات
المُتقاطعة،
عبرتُ النقطةَ والوحشةَ والحلم،
عبرتُ الأحشاءَ الداخليّةَ
والأعضاءَ التناسليّة.
عبرتُ الذي خرّبَ البلاد
وباعها من أجلِ حفنةٍ من الجراثيم
وعبرتُ الذين باعوا كلَّ شيء
من أجلِ حفنةٍ من الشتائم.
وعبرتُ، عبرتُ
حتّى لم يعدْ هناك مِن شيء أعبره.
يا فجيعتي،
يا مَن قتلتني في سنِّ العشرين
وظلّتْ تلاحقني حتّى السبعين.
أما مِن راحة؟
أما مِن هدنة؟
أما مِن صوابٍ
لهذا الخطأ الذي يحتاطُ لكلِّ
شيء،
لهذا الخطأ الذي يقودني من خطأٍ
إلى آخر أكثر فتنة وصواباً؟
5.
انظري
لقد تركتُ
- من أجلِ أنْ أنساكِ –
الفرحَ الذي يتصاعدُ من دَرْبَكةِ
الخيول
والحمامَ الذي يتصاعدُ من
حَمْحَمةِ الرغبة.
وتركتُ الأنهارَ المُقدّسةَ وغير
المُقدّسة
والجبالَ التي يقفزُ عليها
السكارى
وتنامُ عليها الوحوش.
تركتُ – مِن أجلِ أنْ أنساكِ –
حتّى ما لا ينبغي تركه
لأيّ عاقلٍ أو مجنون
دونَ أنْ أنالَ ما أريد.
يا كَرَبي وبلائي،
يا بهائي ولوائي،
يا شبابي المُدمّى
وموتي الأبله الذي ينتظرني
ساهماً في آخِر قارّاتِ العالم.
اعترافات النقطة
قالت النقطة:
مرَّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربّما أربعون.
لم أعدْ أتذكّر الرقم
لكنّني أتذكّرُ أنّني قدتُكَ إلى
الهاوية
- أيّها الحرف -
قدتُكَ إلى السعيِر، فجهنّم،
فَسَقر
ثُمَّ ألقيتُ بكَ في مهاوي
الجحيم.
أتذكّرُ أنّني نسفتُ معناك
وأشعلتُ ذاكرتك
وألقيتُ القبضَ عليك
باسم الحُبّ
ثُمَّ خنتُكَ في أقرب فرصة!
أتذكّرُ أنّني علّمتُكَ كيفَ
يطيرُ الطير
بل أنّني خلقتُ منكَ طيراً،
أنّني
علّمتُكَ كيفَ يسيرُ النهر
بل أنّني فجرّتُ منكَ نهراً
وفجرّتُ منكَ مِئذَنةً وقبراً
وفجرّتُ منكَ خرافةً للشعراء
والمجانين
وعرّفتُ بكَ إذ كنتَ طيناً
فصرتَ أسطورةَ كلّ شيء حيّ
وأسطورةَ كلّ شيء يموت.
نعم، أيّها الحرف،
هلّا تذكّرتني
هلّا تذكّرتَ يوم كنتُ أنفخُ فيكَ
الروح،
روحَ اللذّة.
وما كنتَ تعرفُ معنى الروح
ولا معنى اللذّة.
هلّا تذكّرتَ يوم جعلتكَ تتلمّسُ
المعنى
وتدخلُ بابَ المبنى
وكنتَ غرّاً غريراً
وكنتُ أفعى!
هلّا تذكّرتَ دمعاً يصبُّ من
عينيّ
قربَ باب الذهب.
هلّا تذكّرتَ أنّني وردة
وعطاياي لهب.
وكانتْ بصدري تفّاحة الماء
ورمّانة من عنب
ثُمَّ صلبتُكَ – بالمُكرِ – عندَ
بابي
وادّعيتُ عليكَ فضعتَ
كما يضيعُ الرملُ في العاصفة.
هلّا تذكّرت
أنّني بعضكَ الحيّ
أو بعضكَ الجمر
خلّفتُ من بعدِكَ الدهر
يقومُ ويعوي
مثلما الكلب.
وخلّفتُ من بعدِكَ الشمسَ حذاءَ
طفلٍ يتيم
والقمرَ يتعرّى عندَ كلّ بابٍ
قليلاً
فيطردهُ الناس
ثُمَّ إلى نومِهم يرجعون.
جُثّة في البئر
1.
كنّا أولاداً
ولنا أب شيخ
حينَ غيّبه الموت،
لم يتركْ لنا شيئاً
سوى بئرٍ طيّبة الماء.
غيرَ أنّ أحدنا،
لسببٍ ما، بالَ في البئر.
فضربه إخوته حتّى كادوا أنْ
يهلكوه.
قلتُ لهم: لا بأس
لم يزل الماءُ نقيّاً
فالبئرُ، كما أظنُّ، تجدّدُ
ماءَها
والصحراءُ التي تحيطُ بنا من كلِّ
صوب
لا ترحم.
2
مرّتْ سنواتٌ وسنوات
حتّى صارَ أخونا رجلاً.
غير أنّه لم يزلْ يبول في البئرِ
كلّ يوم
حتّى إذا أمسكَ به إخوته هذي
المرّة
لم يتركوه إلّا جُثّةً هامدة
ألقوا بها في البئر
وبقوا يشربون من البئر.
فالبئر، كما يظنّون، تجدّد ماءها
والصحراء التي تحيطُ بهم من كلِّ
صوب
لا ترحم.
3
أمّا أنا فاخترتُ الصحراءَ هذه
المَرّة.
قلتُ لنفسي
وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي:
نعم
العطشُ أرحم.
الموتُ - أعني الصحراء-
أرحم!
اذهبوا للجحيم
1.
كانَ
بإمكاني أنْ أروّضَ شيئاً
من جمهرةِ الحروف لأعلنَ أنّ الكأسَ
كأسي. لكنّ الدورَ كانَ صعباً
حدّ الطوفان والجسد ضعيفاً
كان.
2.
كانَ
الدورُ صعباً إذ كانَ دوري هو
دور أوديب ودور هاملت ودور
الساحراتِ اللواتي قلنَ لماكبث ما
قلن ودور المُهرّج ودور
المأمون ودور الرضا ودور الذي
حُمِلَ رأسُه فوقَ الرماح ودور
الذي صُلِبَ على جسرِ الكوفة
ثُمَّ ذُرَّ
وسطَ الفرات ودور الذي صُلِبَ على بابِ بغداد
ورماه مريدوه بالورد. كانَ
دوري دور ابن المُقفّع،
والتوحيديّ،
والشريف الرضيّ ودور
مالك بن الريب وصولاً إلى
السيّاب.
3. أيُّ
دور، إذن، هوذا؟ بل أيّة
مسرحيّةٍ ينبغي أنْ أقومَ ببطولتها؟ مَن هو المخرج، هنا، أيّها
الأصدقاء؟ مَن سيضعُ لنا
الموسيقى التصويريّة لنرى دمَ أوديب يتدفّقُ من بين عينيه؟ مَن سيصمّمُ
الملابسَ للساحرات وماكبث،
والمهرّجِ،
والشريف الرضيّ؟ مَن
سينصبُ لنا خشبةً لصلبِ الحلّاج؟
مَن سيشعلُ التنّورَ لنرمي فيه
ابن المقفّع؟ ومَن سيقودُ
السيّاب في الشارع وقد
خذله جسدهُ الضعيف؟ نعم، أيّها
الأصدقاء كانَ الدورُ صعباً
والجسد ضعيفاً كان.
4
. لكنّه دوري الأثير دوري الذي أُرغِمْتُ على
فعله، على فعلِ كلِّ
تفاصيله.
أيّ دورٍ،
إذن، هوذا؟
أيّة مسرحيّةٍ هي ذي أيّها الاصدقاء؟ مَن هو المخرجُ
الذي سيقودُ كلَّ هذا
الخراب دونَ
أنْ تشعروا
بالملل؟ انتبهوا أيّها
الاصدقاء، كفّوا عن التلفّتِ
والتدخين، كفّوا عن الكلام،
كفّوا رجاءً. فلقد بدأت
المسرحيّةُ فعلاً. ها هي
الستارة تُسْحَبُ بهدوء
والمسرحُ خالٍ وخالٍ وخال،
المسرحُ مظلمٌ مظلمٌ مظلم.
وليسَ هناك مَن يبدّدُ هذه الظلمة
المُرعبة إلّاي. صفّقوا
أيّها الأصدقاء، صفّقوا قليلاً قليلاً،
صفّقوا كثيراً كثيراً إنَني
أنحني
أمامكم. صفّقوا آهٍ... صفّقوا. فلقد انتهت
المسرحيّة دونَ
أنْ تشيرَ
إلى شيء، دونَ
أنْ تقولَ
أيَّ
شيء! شكراً إنّني
أختفي.
بابُ الموتِ رائعٌ بانتظاري والأرضُ، أمّي الطيّبةُ،
تريدُ جسدي. والتاجُ، رغم
البريق، مُزيّف كمزحةٍ قالها
المُهرّج. والساحراتُ امتطين
غيمةَ الحلم عاريات تماماً
وطرن فوقَ الفرات وفوقَ السؤال
وفوقَ الزمان وفوقَ المُمثّلين
الذين اختفوا ماكبث الذي هو
أنا
وأوديب وهاملت والشريف الرضيّ
والسيّاب. كلُّ شيءٍ تبخّرَ في
هدوءٍ عجيب. صفّقوا أيّها
الأصدقاء صفّقوا. إنّها
ساعة الافتراق، ساعة الرعب،
ساعة
أنْ نكونَ
أو
لا نكون. صفّقوا ثُمَّ اذهبوا للجحيم!
ساحر
حينَ افترشَ الأرض
وأخذَ يعزفُ موسيقاه الشجيّة،
بدأ بعزفِ الطفولة
فتساقطتْ من حوله بالوناتُ
الأعياد
والفراشاتُ المُلوّنة.
وحينَ بدأ بعزفِ الربيع
تساقطتْ من حوله الأثمارُ
والأزهار.
وحينَ بدأ بعزفِ الصيف
تساقطتْ من حوله صيحاتُ مراكبِ
البحر
وملابسُ النساءِ وضحكاتهنّ
ومَراياهنّ الصغيرة.
وحينَ بدأ بعزفِ الخريف
اظلمّت السماءُ واكفهرّتْ
وأحاطتْ به عواصفُ البرقِ والألم.
لكنّه حينَ عزفَ الموت
ذُهِلَ على الفور
إذ أحاطتْ به مئاتُ الجُثث
من كلِّ جانب
وبدأتْ ترقصُ رقصةَ العذابِ
الكبرى.
ارتبكَ الموسيقيّ
بل أصابهُ الفزع
ودمعتْ عيناه
بل أجهشَ في البكاء
وأخذَ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجُثث.
لكنَّ الجُثث لم تفهمْ
أيَّ كلمةٍ من كلماته
واستمرتْ ترقصُ وترقص!
شجرة وحيدة
مرّتْ قرون طويلةٌ على فراقنا.
غرقَ مركبُ نوح ثانيةً في الطوفان
فصارَ على الناجين
أنْ يجرّبوا الصبر
من دونِ نبيّ.
واحترقت المدنُ العظيمة
خلفَ الجبالِ والزمنِ والأمطار
واحترقت الأحلامُ كلّها:
أحلامُ العصافيرِ وأحلامُ الطغاة،
ولم أزلْ أنتظر
أنْ ألتقي بكِ يوماً
لأستعيدَ معكِ
قصةَ رحلتنا الأولى مع نوح،
مع الأمل،
مع الحمامةِ والغراب،
لأستعيدَ معكِ
ذكرى المدنِ العظيمةِ التي
احترقتْ بعيداً،
وأستعيدَ معكِ شيئاً من الحلم
على سريرنا الضيّق.
نعم
لم أزلْ أنتظركِ
لأقولَ لكِ ما لم يقلهُ أحدٌ مِن
قبل،
ولأشيرَ إليكِ
بإصبعي الوحيد الباقي حيّاً في
كفّي:
لم أزلْ أنتظركِ
مُستمتعاً بانتظاركِ
مثلما تنتظرُ شجرةٌ وحيدةٌ في
الصحراء
صاعقةً أقبلتْ إليها من السماء
مليئةً بالنارِ والموت.
قصيدتي المغربيّة
1.
قالت النقطة:
حبيبتي المغربيّة
لها ميمٌ رطبةٌ دافئة
وسينٌ فتحتْ لبّها للوحوشِ
المُهذّبين
ولها ألف مثل أفعى الكلام.
2.
حبيبتي المغربيّة
لها باءٌ غير باء البسملة
ولها حلمٌ من جنونٍ مؤكّد
أحتاجُه مثلما أحتاجُ إلى
حبّةٍ مِن هواء.
3.
سأبدأُ كتابةَ هذه المغربيّة
لكنْ، بماذا؟
أحتاجُ، هنا، إلى أبجديّةٍ مِن
معاول،
أبجديّةٍ مِن سكاكين،
إلى أبجديّةٍ من هذيان مُركَّز
ونزيفٍ مُؤكَّد.
4.
يا إلهي
أحتاجُ أنْ أطيرَ بجناحيّ نسرٍ
وعينيّ صقر
من قارّةِ الكنغرِ الوحشيّ
إلى قارّةِ البرابرةِ الناعمين.
من قارّةِ دخولِ المعنى في
اللامعنى
إلى قارّةِ السِّحْر الأسْوَد
واللغة التي تفتحُ ساقيها رويداً
رويداً.
5.
أعنّي إلهي
فقصيدتي المغربيّةُ تومضُ لي،
أنا نقطةُ المعنى
أنا نقطةُ الغرباءِ المحرومين
أنا نقطةُ جنونِ الشاعرِ وهذيانه
المُرّ.
أعنّي إلهي
فقصيدتي المغربيّةُ تومضُ لي
أنا نقطةُ الجنونِ الأبهى
أنا نقطةُ الملائكةِ في مرايا
الطفولة
أنا نقطةُ مَن قالَ لكَ شيئاً
مُريباً
وولّى بعيداً
أنا نقطةُ مَن يتهدّجُ بالدمع
حينَ يسمع صيحاتِ حرفك
أنا نقطةُ مَن لا حرف لهم
أنا نقطةُ مَن لا نقطة لهم.
إلهي
تباركتَ
تعاليتَ
كيفَ لي أنْ أطيرَ بجناحيّ نسر
من بلادِ الكنغر
إلى مدنِ السِّحْر؟
كيفَ لي أنْ أعانقَ فاس ومكناس،
أنْ أبايعَ عرّافةَ السِّحْر
والجنس
في بلادِ الرباط؟
6 .
تباركتَ
باركْ هذا الحلم،
بَسملْه بالبسملة،
حَوْقلْه بالحوقلة
وأطلقْ له جناحين من جبرائيل
وصيحةً من إسرافيل
وقلْ له وأنتَ تنظرُ للماءِ
والشمس:
كنْ فيكون
فإذا بالمغربية صارتْ كلامَ الجسد
وجسدَ الكلام
وإذا بها غيمةً من هيام
وإذا بها تنفثُ في روحي سحرَ
الكتابة،
وتطلقني ـ أنا النقطة ـ فأهبطُ من
أعلى عليين
إلى أسفل سافلين،
أهبطُ معي نارُ الغزاة
ونارُ البدو
ونارُ الهنودِ الحمر
ونارُ القراصنة
ونارُ الفراعنة
ونارُ أنكيدو وكلكامش
ونارُ أور وبابل
ونارُ آلاف المشاعل.
أهبطُ
فيها رويداً رويداً
وأجتاحُها بالطلاسم
وأجتاحُها بالهذيانِ المُركَّز
وأجتاحُها فجراً ففجراً
ليلاً فليلاً
وأجتاحُها قوساً فقوساً
نهداً فنهداً
ثُمَّ أصعدُ أو أهبطُ في سهلها
المغربيّ
حتّى أصل إلى نهرِها المقدّس
وأبدأ إحراقها شيئاً فشيئاً
أحرق كفَّها التي قبّلتْني
وأحرق نهديها اللذين استجابا
كالعبدِ لي
وأحرق بطنَها الذي أكلَ لبَّ حلمي
وأحرق أجراسَها وأحراشَها
وساحلَها البربريّ
وأحرق بوّابتها المقدَسةَ الكاذبة
وأحرق أسرارها: سرّاً فسرّاً
ثُمَّ أتلاشى معها غيمةً مِن
دخان.
حوارات النقطة
1.
قالت النقطةُ: مَن أنا؟
قالَ الحرفُ: أنا مَن؟
قالت النقطةُ: مَن أعطاني تاجاً
أنا الذي ادّعى كينونتي الأولياءُ
والصالحون؟
قالَ الحرفُ: مَن سرقَ حذاءَ
طفولتي
أنا الذي نسفَ ذاكرتي الكذّابون
والشويعرون؟
قالت النقطة: هل يكفي أنْ أطلقَ
رصاصةً
على رأسِ شاعري لأموت
وأريحه من عذابِ الموت؟
قالَ الحرفُ: هل يكفي أنْ أباغته
بخرابِ الماءِ وفضيحةِ الماء
ليموت كاتبي
وأموت قبله فرحاً دونَ ذنب؟
قالت النقطة:
يا لهذا الارتباك الفسيح الذي
يغطّي الكون!
فقالَ الحرف:
يا لسماء الارتباك التي بدأتْ
بغيمةٍ
ولم تنتهِ بأخرى أبداً!
2.
* قالت النقطة:
هل تصدّقُ أنّ شِعْركَ سيغيّرُ
من كتابِ الثّمَرة؟
- قالَ الحرفُ: لا.
* وهل سيغيّرُ من كتابِ النهر؟
- قالَ الحرفُ: لا.
* وهل سيجعلُ الشمسَ أكثر
اصفراراً أو احمراراً؟
- قالَ الحرفُ: لا.
* وهل سيجعلُ الثدي أكثر لذّة أو
إخلاصاً؟
- قالَ الحرف: لا.
قالت النقطة: إذنْ كُلِ الثّمَرة
أيّهذا المُغفّل،
وامتطِ البحر
أيّهذا الضائع،
ونمْ على رملِ الشاطئ المُشمس
أيّهذا المحروم،
وقبّل الثدي تقبيلاً
أيّهذا المهووس.
نعم، فالموتُ سيأكل الثّمَرة
ويمتطي البحر
ويجفّف الثدي
وحتّى الشمس لنْ تسلم منه!
3.
قالَ الحرف: هل النقطةُ جسد؟
أجابت النقطة: جسد مَن؟
قالَ الحرف: هل النقطةُ ميناء؟
أجابت النقطة: لسفينةِ مَن؟
قالَ الحرف: هل النقطةُ تجديف؟
أجابت النقطة: لِمَ لا تحسن
السؤال؟
قالَ الحرف: ولِمَ لا تحسنين
الإجابة؟
قالت النقطة: يا لخواء الحرف!
قالَ الحرف: يا لحكمة النقطة!
4.
قالت النقطة:
انظرْ إلى نقطةِ الدم
إنّها
تشبهني.
قالَ الحرف:
انظري إلى النخلةِ التي زرعوها في
الأندلس
إنّها تشبهني.
قالت النقطة:
أيّهذا المُعذَّب
أنا بعضٌ منك!
ضحكَ الحرفُ وقال:
أيّهذي المُعذَّبة
أنتِ بعضٌ منّي!
5.
سألت النقطةُ الحرف:
كيفَ تعرّفتَ إلى جنونِ الموت
ولم تتعرّفْ إلى جنونِ الحقيقة؟
قالَ الحرف: لأنّني شغلتُ بنَفْسي
فأنا الموت وأنا الحقيقة!
6.
وسألت النقطةُ ثانيةً:
ما الذي أتى بنا من الشرقِ إلى
الغرب
من الحزنِ إلى الكآبة؟
فأجابَ الحرف:
هل كُتِبتْ علينا اللوعة في
اللوحِ المسطور
أم كُتِبَ علينا الحرمان إلى أبد
الآبدين؟
7.
قالت النقطةُ للحرف:
انظرْ إليَّ، ما أجملني!
انظرْ إليَّ، ما أشهاني!
هكذا ستظلّ تبكي جمالَ جسدي
ورقّةَ حضوري،
ستظلّ وتظلّ
حتّى تفنى أو تتحوّل إلى محضِ
خيال!
وكانَ الحرفُ، حقّاً، محض خيال!
8.
وسألت النقطةُ ثالثة:
هل مِن الشؤمِ أنْ أرتبط بكَ
ارتباط
الأرضِ بالسماء،
وارتباط الحلمِ بمُخَيّلةِ
الشاعرِ/ الطفل
وارتباط الجيمِ بالجُثّةِ
والجنون؟
هل مِن الحقِّ أنْ تضيع معي
بحثاً عنّي
وأنا بعض منك؟
أم مِن الحقِّ أنْ أضيع معك
بحثاً عنكَ
وأنتَ بعض منّي؟
9.
فأجابَ الحرف:
نعم، أسيرُ سعيداً
من منفى مظلمٍ إلى منفى مضيء.
ردّت النقطةُ بهدوء عجيب:
أسيرُ من منفى ضيّقٍ كالقبر
إلى آخر شديد الاتساع كالزلزال
في حبورٍ ما بعده حبور!
10.
أتذكرُ كيفَ استباحوا جميعاً
طائرتنا الورقيّة؟
كيفَ أستبدلوا حلمنا بلَحْمِ
الكوارث
وصبانا بألمٍ كافر؟
أتذكرُ كيفَ كنّا نركض
مثل المجانين وسطَ الشوارع
حينما تحضرُ الروح
من حلمِها الذي يشبهُ غيمةً من
تراب؟
أتذكرُ كيفَ أضعنا الصواب؟
هكذا تساءلت النقطة
وهي تبكي قربَ بابِ الذهب.
قربها الحرف كان
دمعةً من لهب.
11.
كنتُ سيّدة الماء،
سيّدة الطيور الحُمْر والفراشات
الصُفْر،
سيدة النوم والصبا،
سيدة الجَمْر والقُبلات العسل.
- هكذا تذكّرت النقطةُ أمجادَها
الغابرة-
كنتُ، لكنّهم أفسدوا حفلتي
بسكاكينهم الطوال،
أفسدوا إذ أقاموا على بابِ قلبي
تماثيلهم القاسية
واستباحوا دمي
جمرَه، نومَه في الرحيق.
ذبحوا طيرَ صدري،
أكلوا عسلي قُبْلةً قُبْلةً،
أكلوا جسدي من ألفه إلى يائه
ومن يائه إلى يائه.
يا لهم
يا لسكاكينهم
يا لأحقادهم
يا لدمي الذي فاض كدجلة وقتَ
الغروب
ووقتَ السكارى
والذي دمدم
بكلِّ حروفِ الأرضِ حزناً
كحزنِ الفراتِ المقدّس.
12 .
قالت النقطة:
ما الذي حدثَ لكَ وقادتكَ صبواتكَ
إليّ؟
لم تكنْ أكثر من كأسٍ
- أيّها الحرف -
فكيفَ همتَ في الطرقات،
وركبتَ البحار
وامتطيتَ الغيمةَ بحثاً عنّي؟
لم تكنْ أكثر من كأسٍ
- أيّها الحرف -
فكيف خلقتَ موتَكَ بيدِكَ
وخلقتَ أرجوحةَ حياتِكَ
من ثيابِ طفولتي المُمزَّقة؟
أيّها العارف
كيفَ ضعتَ بكلِّ هذه البساطة؟
وكيفَ سرقتكَ من جحيمِ معرفتِكَ
وطمأنينتك
إلى جنّةِ جهلي وجنوني وجبروتي؟
ما الذي حدثَ لك
لتتلقّى كلّ يومٍ طعنات القصيدة
وحراب الكلام
وأسنّة الموت؟
ما الذي حدثَ لك
لتقودكَ خطاكَ إليّ
أنا ملكة الرغبة
وصيحة الماء التي لا حدود لها؟
عرق ودم
كتبَ صديقي الشاعر
قصيدةً عن النجمة
فأُصِيبَ بالتهابِ السحايا،
ووجدوه بعد أربعين عاماً
ميّتاً في الشارع
وبيده قنّينة العَرَق.
أما أنا فكتبتُ قصيدةً عن الغيمة
فأُصِبتُ بالجنون
ومتّ في آخرِ قارّاتِ العالم،
لكنهم، لحسن الحظِّ، لم يجدوا
جُثّتي
ووجدوا، بدلاً عنها، قنّينةَ دم.
صيحات النقطة
1.
قالَ الحرف:
لم أعدْ مِن نَفْسي بعد،
ضعتُ في نقطتِها القاسية
وتضاريسها المليئةِ بصورِ الموت.
لم أعدْ مِن نَفْسي بعد.
فلِمَ كلّ هذه القصائد الوحشيّة
بانتظاري؟
2.
استبدلتُ جلّادي بجلّادٍ آخر،
كانَ الأوّلُ طويلاً وكذّاباً
وكانَ الثاني قصيراً مليئاً
بالسمّ.
استبدلتُ أغلالي بأغلالٍ أُخَر،
الأولى كانتْ صدئة
والثانية مليئة بالمجهول.
واستبدلتُ مدينتي بمدينةٍ أُخرى:
الأولى كانتْ بلا هواء أو نساء
والثانية كانتْ بلا ماء أو شمس.
3.
لم يعد الشِّعرُ قادراً
على مُجاراةِ ما يجري.
فالواقعُ تحوّلَ إلى مزحةٍ سوداء
يردّدها كلّ دقيقةٍ عقربا الساعة
دونَ أنْ ينظرا إلى الخلف
أو إلى الجمهور.
4.
* هل تتذكّر الجبل؟
- أتذكّرهُ كَلُغْم.
* هل تتذكّر دجلة والفرات؟
- أتذكّرُ دجلة كراقصةٍ تخرجُ من
الملهى
تقتلُها الخيبةُ والإعياء.
وأتذكّرُ الفراتَ سكّيراً
يشخرُ أمامَ الملهى ذاته.
* هل تتذكّر الصحراء؟
- أتذكّرُ قمرَ الرعبِ فيها
فأموتُ من الرعبِ فيها.
. 5
* هل تؤدّي، في العادةِ، أدواراً
مسرحيّة؟
- نعم،
أُؤدّي دورَ الزاهدِ بفشلٍ تام،
وأطرقُ بابَ الموتِ كلّ يوم
علّه يعطف عليّ
فيدخلني في دهليزه الضيّق.
6 .
*
ما الذي فعلتهُ لتنالَ كلَّ هذا
العذاب؟
- أظنُّ أنّني حلمتُ بقوّة،
حلمتُ بشغفٍ،
حلمتُ بعنفٍ.
وكانَ حلمي أبيضَ كفراشة
وطيّباً كمعلمِ قرية
ولذيذاً كصباحِ عيد.
7 .
* هل جرّبتَ الموت؟
- نعم.
* هل أناديه مِن أجلكَ؟
- ولِمَ تناديه وهو ينظرُ إليّ
من خلالِ عينيكَ ويديكَ وكلماتِك؟
8 .
لكنّني كلّ حين
أنظرُ في المرآة
لأتأكّد أنّني لم أمتْ بعد!
9 .
عجيب
ما علاقةُ المرآة بالموت؟
بل ما علاقةُ المرأة بالموت؟
بل ما علاقةُ المرآة بالمرأة؟
وما علاقةُ الموت بالموت؟
10 .
المرأةُ مطربةٌ من طرازٍ فريد
تنفخُ الحياةَ في أعضائي
وتقودني إلى حديقةِ البهجة،
إلى حديقةِ الكتابة.
لكنّني أتفتّتُ من الألم.
جسدي صُنِعَ، وا أسفاه، من
الرماد:
رماد القصائد المُريب.
11.
لاسمكَ طعم الشهدِ على لساني.
نعم،
فبعدَ أنْ شربتُ كأسَ الفراق
وكأسَ اليُتم
وكأسَ الذئبِ في الصحراء
وكأسَ الشمس
وكأسَ الحُبّ
وكأسَ الخيانة.
وأخيراً
بعدَ أنْ شربتُ كأسَ الموت
وطوّحَ السُّكْرُ بي
وألقاني على أرصفةِ العالم،
صارَ لاسمكَ طعم الشهدِ على لساني
يا إلهي.
12 .
نعم
سكنَ الليل
وسكنَ القلب
وسكنَ البؤبؤ.
صارتْ سعادتي حيّةً
كراقصةِ باليه
تدورُ حولَ جسدها
تدورُ، تدورُ، تدور
حتّى يبزغ الفجر.
13 .
وقال
الحرف:
يا إلهي
لماذا أتحدثُ كثيراً عن الموت
لا عن الفجر؟
ألأنّني رأيتُ التابوتَ وجلستُ
فيه؟
أم لأنّني أحملُ تابوتي فوقَ ظهري
حينَ يختفي الناس
وأحمله بين ضلوعي
حينَ أدخلُ الأسواق
وأصافحُ السُّوقَةَ
والببغاوات؟
14 .
يا
إلهي،
ومضةً من نقطتِكَ تخفّفُ من عذابِ
قلبي.
ومضةً قبلَ أنْ نفترق،
وتذهب أنتَ مُضيئاً إلى عرشِكَ
المُضيء
وأذهب أنا مُظلماً إلى تابوتي
الأسود.
. 15
ومضةً
يا إلهي
أنتظرها مثلما تنتظرُ الأرضُ
العطشانةُ الغيث،
مثلما ينتظرُ المريدُ شيخَه الذي
ضاع
قبلَ سبعين دهراً،
مثلما ينتظرُ الميناءُ المهجور
سفينةً، أيّ سفينةٍ كانتْ
حتّى لو كانتْ سفينة القراصنة،
مثلما ينتظرُ البحرُ الغروبَ الذي
سيلبسه
لباسَ الدمِ الراقص،
مثلما ينتظرُ اليتيمُ أباه
بعد ألف سنة من الدمعِ والبرد،
مثلما ينتظرُ المحكومُ عليه
بالإعدام
لحظةَ إطلاقِ النار.
. 16
ومضةً
فلقد أتعبني الرقصُ فوقَ حبالِ
اللغة
وفوقَ جبالِ اللغة.
ومضةً
فلقد تعبتُ من الرقص
مشياً على الرأس
ومشياً على الكأس.
وتعبتُ أكثر
من انتقالاتِ نقطتي المُرّة
وصيحاتِها: صيحاتِ الهنودِ الحمر
وصيحاتِ أطفال الملجأ
وصيحاتِ الدراويش!
قصّة
حبّ
1.
عندَ ساحلِ البحر
وجدتُ الكثيرَ من العظامِ البِيض،
عظام لسلاحف منقرضة،
لكلابٍ سائبة،
لطيورٍ ذات أحلامٍ كبيرة،
لخيولٍ وبغالٍ وجِمَال.
كيفَ اجتمعتْ كلُّ هذه العظام في
الساحل؟
هل حدثَ زلزالٌ ما؟
فيضانٌ من نوعٍ خاص؟
2.
كانَ المشهدُ مُغرياً،
صرتُ أجلسُ كلّ يومٍ عندَ ساحلِ
البحر
وأكتبُ قصّةَ حُبّي بواسطةِ
العظام.
أبدأُ بجمعِ العظامِ الصغيرة
وأرتّبُها واحداً بعدَ الآخر
حتّى أصلَ إلى العظامِ الكبيرة.
لكنّي،
وا أسفاه،
لا أستطيع أنْ أنهي قصّةَ الحُبّ
هذه!
لماذا؟
لأنّني أبحثُ عن جمجمةٍ
أضعُها في النهاية
فلا أجد!
تُرى: كيفَ اجتمعتْ هذه الخيول
والبغال
والسلاحف والجِمَال
والكلاب والطيور
ليغيّبها الموتُ كلّها،
كلّها هنا،
دونَ أنْ تتركَ جمجمةً واحدةً،
جمجمة واحدة أنهي بها قصّةَ
حُبّي؟
جسور
1 .
قالت النقطةُ للحرف:
لم يكنْ قلبُكَ مُولوداً في برجِ
الحمل
بل في برجِ العذاب.
كانَ قلبُكَ وميضاً من القُبْلةِ
والخطيئة،
من الرغبةِ والطيورِ التي تحلّقُ
من قارّةٍ إلى قارّة،
كانَ وميضاً من الكلمةِ التي
مزّقتها السكاكين
والكلمة التي طُلِبَ من الممثّلِ
الأخرسِ الأعمى
أنْ يطلقها في نهايةِ المسرحيّةِ
البلهاء
ليعلنَ نهايةَ العالم!
2.
قالَ الحرفُ للنقطة:
هل تتذكّرين الجسورَ التي
عبرناها؟
كانتْ جسوراً
مليئةً بالفراتِ والسمكِ اللابطِ
تحتَ أشعةِ الشمس.
كانتْ جسوراً مليئةً بالدوّي
والدخان،
مليئةً بالعيونِ التي كادتْ أنْ
تفترسَ جمالَكِ،
وكانتْ مليئةً، بعدئذ،
بالخناجرِ التي مزّقتْ جسدَكِ
البضّ
وحلمكِ العظيم.
ياه...
هي ذي جسور علي بن الجهم
حيث لا رصافة،
وجسور الرصافة
حيث الكرخ يحترقُ كلّ يوم
ويغرق.
3.
وقالَ الحرف:
هل تتذكّرينني بعدَ هذا الفراق؟
هل تتذكّرين ذلك الأعمى الذي غسلَ
قدميكِ بالحليب
أربعين عاماً،
ذلك الصبيّ الذي كانَ يغرقُ كلّ
يوم
في فراتكِ العالي ونهدكِ الناري،
ذلك المهووس إذ افترشَ الصوفَ
النتن
وارتجفَ تحتَ ذيلِ الكلب
كي يرى نورَكِ الأسْوَد؟
وهل تعرفين مغزى أنْ أطير
من أجلِ عُريكِ العجيب
من كلمةٍ عجيبةٍ إلى كلمةٍ أعجب،
ومن قصيدةٍ مُلغَّزةٍ إلى قصيدةٍ
أكثر تلغيزاً وارتباكاً،
ومن بحرٍ أحْمَر إلى بحرٍ أكثر
احمراراً
ومن قارّةِ الطغاةِ والجياعِ
والملعونين
إلى قارّةٍ أشدّ شراسة من النمر
وأجمل من قفزةِ الكنغرِ الوديع؟
4.
وقالَ الحرف:
هل تتذكّرين كم أرادوا أنْ يكشفوا
سرَّكِ؟
كانوا يطرقون البابَ كالمجوسِ
يحملون ناراً مُزيّفة
ليبادلوها بوهجكِ الأسْوَد
أو يحملون ريشاً مُنهَكَاً وقطناً
مُبَلَّلاً بروائح زَنِخَة
أو أطرافاً آدمية وُضِعَ عليها
الجبس
ويصرخون:
أيّها الحرف
لِمَ لا تنزل نقطتكَ من الأعالي؟
ألا تعجبكَ هدايانا: الريش والقطن
والجبس؟
أما تعبتَ من الجلوسِ فوقَ الجبل
وكتابةِ القصائدِ فوقَ سطحِ البيت
حيث الصيف المُقمر والعذاب
المُزدهر؟
وقالوا،
أو قالَ بعضُهم:
يا لسرّكَ
يا لإعجوبتكَ الماثلة أيّها الحرف
لقد أُعْطِيتَ نقطة ففرحتَ
وأُعْطِينا لغة كاملة فلم نفرحْ.
ياه،
أيّتها النقطة،
لم يعرفوا أنّكِ أعظم
من لغةٍ كاملة
لأمّةٍ مُعذَّبة تنامُ فوقَ سطحِ
البيت
حيث الصيف المُقمر
والأشباح التي تقفزُ عاريةً كعُري
السكاكين.
حصانان أسْوَد وأحْمَر
1.
كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء
حينَ
اقتربَ منّا حصانان أسْوَد
وأحْمَر.
فقمتِ بعينين دامعتين
وقبّلتِني القُبْلَة الأخيرة.
فدُهِشتُ
ثُمَّ امتطيتِ الحصانَ الأسْوَد
وقلتِ بصوتٍ مُرتجفٍ: وداعاً.
فذُهِلتُ.
لكنّي قلتُ لنفْسي:
سأمتطي الحصانَ الأحْمَر
إنْ عصفَ بي الشوق
وعذّبني الحُبّ.
هكذا اقتربتُ من جسدِكِ العاري
لأقبّلَ شفتيكِ وثدييكِ
ولأراكِ تختفين مثل سهمٍ في
الصحراء.
2.
مرّت ساعاتُ الذهول
ساعة إثر أخرى
وأنا أنظرُ إلى جسدِكِ العاري
يمتطي الحصانَ الأسْوَدَ ويختفي
في الأعماق.
ثُمَّ سرعانَ ما عصفَ بي الشوق
وعذّبني الحُبّ
فالتفتُ إلى حصاني الأحْمَر
لم أجده.
ووجدتُ الشمسَ تغيبُ على امتدادِ
الصحراء
مثل أسدٍ أحْمَر.
قطرات الحُبّ
1.
كانتْ تقطّرُ قطراتِ الحُبّ
قطرةً قطرةً في فمي
وهي تحاولُ أنْ تطفئ عطشي
الجُنونيّ
ورغباتي الجُنونيّة.
كانتْ تقطّر
وهي تجلسُ نصفَ عاريةٍ
بدثيين عامرين بالنار
وبساقين عامرتين بالسذاجةِ
واللذّة.
كانتْ تقطّر
وهي تجلسُ فوقَ سريري الضيّق
في غرفتي الخضراء ذات الستائر
الثقيلة
خوفاً من جيراني الفضوليين،
في درجي المؤدّي إلى جهنّم
المظلمة
وسقفي الرطب الذي سرعانَ ما انهار
فسقطَ درجي المؤدّي إلى الماضي،
إلى الماضي الذي يشبهُ حبلَ
مشنقةٍ
قتلَ آلافَ الأرواح.
وسقطَ جيراني الفضوليّون الواحد
تلو الآخر
وسقطتْ ستائري الثقيلة
وسقطتْ غرفتي الخضراء
وسقط َسريري الضيّق
ثُمَّ
سقطتُ
أنا
عضواً
فعضواً
إلى القاع،
إلى جهنّم المُظلمة،
إلى الماضي الذي يشبهُ حبلَ
مشنقةٍ
قتلَ آلافَ الأرواح.
2.
وحدها
حبيبتي بقيتْ مُعلّقةً في الهواء
وهي تقطّرُ قطراتِ الحُبّ
قطرةً قطرةً
نصفَ عاريةٍ
بثديين عامرين بالنار
وبساقين عامرتين بالسذاجةِ
واللذّة.
بقيتْ هكذا
تقطّرُ قطراتِ الحُبّ
في فمي العطشان حدّ الجنون،
في فمي الذي لا وجود له
بقيتْ تقطّر
دونَ جدوى
دونَ أمل.
3 حاءات
بمسمارٍ طويل
ثقبتِ قلبي
لاهيةً، ضاحكةً، عارية
كشمسٍ تشرقُ فوقَ البحر.
وحينَ بدأ قلبي ينزف
جمعتِ قطراتِ قلبي
وكتبتِ بها،
كتبتِ بإصبعكِ على صدري:
"الحقد".
فاستمرَّ قلبي ينزف.
ثُمَّ كتبتِ:
"الحرّيّة".
فاستمرَّ قلبي ينزف.
ثُمَّ تعرّيتِ تماماً
وكتبتِ:
"الحُبّ".
فتوقّفَ قلبي عن النزيف
وتوقّفتْ شفتاكِ عن الهذيان.
امرأة بشَعر أخضر
1
لخمسين عاماً
كانَ يرسمُ اللوحةَ ذاتها، لوحة
الموت:
امرأة دون عمر مُحَدَّد
تسوقُ سيّارةً سوداء،
سيّارة مُسرعة
تسوقها امرأةٌ عارية.
عبرَ نافذة السيارة
ترى ثديي المرأةِ عاريين
وترى شعرها أخضرَ منثوراً
وترى ملامحها الساذجة.
خلفها توابيت،
توابيت مَن؟
السيارةُ مُسرعة
والرسّامُ مُرتبكٌ
لأنَّ المرأة ذات الشعر الأخضر
بثدييها العاريين،
بعينيها الكبيرتين،
بملامحها الساذجة
تحدّقُ فيه طوالَ الوقت.
هل كانتْ تدعوه؟
لأيّ شيء؟
2 .
مرّ خمسون عاماً
ولم يكمل اللوحةَ بعد.
لكنّه في صباحٍ عجيب
رأى عبر شبّاكه ما رأى:
آه، إنها شجرة الليمون مثمَّرة،
يا إلهي!
بسكّينٍ حادة
قطع ليمونتين من الشجرة
وبسرعة
قطعهما إلى أربع شرائح
وبسرعة
أخذ أنبوبةَ الصمغ
ليضع الصمغ
على الجانبِ الرطبِ من الليمونتين
ثُمَّ لصقهما كعجلاتٍ لسيارةِ
الموت.
الآن اكتملتْ لوحته
لم يعدْ ينقص سيّارةُ الموتِ أيّ
شيء!
3.
كان فرحاً كطفلٍ، كطفلٍ حقيقيّ
لكنّ وجهه يشحبُ بسرعة
ليصبحَ بلونِ الليمون
فيما كانت المرأة
بشعرها الأخضر المتطاير،
بثدييها العاريين،
بعينيها الكبيرتين،
بملامحها الساذجة
تسوقُ السيّارةَ بسرعة
لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ
شيء!
حقائب سُود
عندَ بابِ المحطّة
وقفَ الحرفُ وصاح:
يا سائقَ القطار
أريدُ أنْ أركبَ قطارَكَ
ولكنْ معي حقائب ثقيلة كالصخر.
معي حقيبة الطفولة؛
حقيبة جدّتي ودموعي ولعبي وسطَ
المزابل.
ومعي حقيبة الصبا؛
حقيبة العزلة القسريّة في الغرفةِ
العالية
والشمس المقسومة إلى قسمين
والحرمان الأعمى
والأحلام،
آه الأحلام التي لا تكفُّ عن
التناسل.
ومعي حقيبة الشباب؛
حقيبة الضياع واللاأين
والارتباك ما بينَ طيبة قلبي
وصبوات شبابي،
ما بينَ نقطة الباء وباء النقطة،
ما بينَ الألف والنقطة.
ومعي حقيقة الكهولة؛
حقيبة الأسقام والأوجاع،
حقيبة مَن ينتظرُ اللاشيء،
أعني مَن يريدُ أنْ لا ينتظر
شيئاً
ومَن ضيّعَ عمرَه في الانتظار.
ومعي حقيبة المنفى،
حقيبة العذابِ المَسلوقِ
والمُملّح.
ومعي...
آ...
آ...
لماذا تركتني يا سائقَ القطار؟
لماذا هربتَ وملأتَ كلَّ شيء
بالبخارِ والضجيج؟
لماذا تركتني أصرخ
كالطفلِ الضائع
وسطَ وحشةِ المحطّة؟
مباهج الرندلمول*
1.
شارعٌ ملؤه الورد،
ملؤه الحلم،
ملؤه سيقان حوّاء يمتدّ
من أقصى النساء
إلى أقصى المساء.
والسماءُ هنا سجّادةٌ
فرشتها الموسيقى بأحلامِ مَن جاء
مِن أقصى المساء
إلى أقصى الظلام.
2.
قلتُ للرندلمول:
هل يمكنُ أنْ تمسحَ من شاشةِ
النوم
صورَ الطفولةِ
العارية
وعذاباتِ الفراتِ وشمسه الحافية؟
قلتُ له:
هل يمكنُ أنْ تمسحَ من شاشةِ
الرأس
ازدحامَ الأسئلةِ في موقفِ الرأس،
وازدحامَ الحروفِ في موقفِ الصمت؟
هل يمكنُ أنْ تمسحَ من شاشتي
مخاوفَ من طينٍ وجمرٍ ودمع؟
3.
قلتُ
له:
إنّني أعمى
هل تستطيع أن تقودني إلى جسدِك
لأنام بين الثديين
وأقبّل فيكَ سماءً
وماءً وجمراً وورداً ودمعاً؟
ضحكَ الرندلمول
وصبَّ فوقَ رأسي كأساً من الورد
ثُمَّ صبَّ فوقه غيمةً من موسيقى
ومضى راقصاً، عارياً، وخفيفاً.
********************************************
الرندلمول: الشارع الرئيس في
مدينة أديلايد الأسترالية حيث
يقيم الشاعر. وعلى جانبيه تفتح
المحلّات
التجاريّة أبوابها، وفي وسطه
محلات بيع الزهور، ويفترش
الموسيقيّون الجوّالون أرضه
ليعزفوا أو يغنّوا.
إلى أين؟
1.
الشراعُ وسطَ السفينة.
السفينة وسطَ البحر.
البحر وسطَ قلبي،
قلبي الذي يغرقُ
شيئاً فشيئاً
في حلمه الهادئ العنيف.
2.
السفينةُ وسطَ البحر،
السفينةُ تمضي بجسدينا
أنا وأنت.
أنتِ عاريةٌ كالرغبة.
وأنا الرغبة نفْسها، عريها، نارها
الخالدة.
أقبّلكِ من أقصى الصباحِ إلى أقصى
المساء،
أقبّلكِ من أقصى الشفتين إلى أقصى
القدمين،
أقبّلكِ من أقصى الدمِ
إلى أقصى البحر.
والبحرُ يمضي بنا عاريين
إلى أين؟
أصرخ:
يا إلهي، إلى أين؟
سؤال
1.
حينَ وصلَ إلى القصيدةِ الأربعين،
قرّرَ أنْ يكتبها عندَ البحر
فذهبَ إلى البحرِ وقتَ الليل.
لم يجدْ أحداً
ووجدَ سفينةً على وشكِ الإبحار.
صرخَ بالقبطان المُلتحي
أنْ يأخذه معه
فلم يردّ عليه
واستمرَّ يدخن غليونه.
وصرخَ بالمرأةِ العارية
فلم تردّ عليه
وبقيتْ تنظرُ إلى البحرِ المُخيف.
وصرخَ بالكلبِ القابعِ عندَ
قدميها
فردَّ عليه بالنباح.
2.
أبحرت السفينة
فأخذَ يركضُ خلفها كالمجنون
ثُمَّ التقطَ، في غضبٍ، حجراً
ورماه عليها
فكسرَ شُبّاكاً في السفينة.
أيّ شُبّاكٍ هذا؟
أهو شُبّاك القبطان؟
أم شُبّاك المرأة؟
أم شُبّاك الكلب؟
3.
هذا هو السؤال الذي ظلَّ
يُعذّبه لسنين وسنين
منذ أنْ عادَ من البحر!
جسر بعشرات الثقوب
1.
كانَ
يحملني بين يديه الطيّبتين
ويعبرُ بي جسراً ضيّقاً من
الحديد،
جسراً مثقوباً بعشراتِ الثقوب،
كلُّ ثقبٍ يقذفُ بكَ إلى الماء،
بيسرٍ شديدٍ إلى الماء،
والماءُ قويّاً كان
كساحةِ إعدام.
2.
كانَ يحملني بين يديه الطيّبتين
دونَ أنْ يحذّرني
من النظرِ إلى الثقوب،
إلى الماءِ العنيف،
إلى جُثثِ الأطفالِ التي كنتُ
أراها
من ثقوبِ الجسرِ تطفو
والنساء القرويّات يحاولن إنقاذها
دون جدوى.
لم يحذّرني أبداً
ولذا بعدَ أنْ عبرتُ الجسر
صرتُ أُلقي بالأطفالِ في الماءِ
العنيف
وأبقى مذهولاً حينَ أراهم
يطفون من تحتِ ثقوبِ الجسر،
الجسر الذي صرتُ أعبره وحدي،
وحدي كلّ يوم
وأنا أموتُ من الرعب.
حمامة
يوماً ما
كانتْ لنا حمامة بيضاء.
أحببناها بشغفٍ،
أحببناها بجنون،
ولأنَّ السماء مليئة بالعواصفِ
والصواعق
فقد قُتِلت الحمامةُ فجأةً،
هكذا فجأةً.
فأخذتِ أنتِ ساقَها الجميلة
وأضفتِ لها ساقاً
وصنعتِ منها سريراً للّذّة.
وأخذتُ أنا جناحَها الكسير
وعلّمته الكتابةَ والحروف،
فصارَ يعلّمني الشِّعْر؛
قصيدةً إثر قصيدة
وكتاباً إثر كتاب
حتّى أصبحتُ شاعراً
لا همَّ له سوى الحديث عن
الحمامة:
الجناح الذي صارَ حرفاً
والساق التي أصبحتْ سريراً.
صورتان لبئر
1.
ذكراكِ تشبهُ بئراً مهجورة
تخرجُ منها الأشباحُ كلّ ليلة
لتعنّفني بإشاراتها وحركاتها.
وحين تجدُ أنّني لا أفهمُ
البَتَّة في لغةِ الإشارة
تصرخُ
وتولولُ باكيةً
ثُمَّ تعودُ من حيث أتتْ!
2.
ذكراكِ تشبهُ بئراً سوداء
اعتدتُ لأربعين عاماً
أنْ ألقي الحجارةَ فيها
علَّ نبعاً سحرياً يبزغُ منها،
علَّ طيوراً بِيضاً تباغتني
بأجنحتها،
علَّ أحلاماً ذات سيقان طوال
تخرجُ من جدرانها،
علَّ وعلَّ.
لكنّ الذي يخرجُ فعلاً
- بعد أن ألقي مئاتٍ من الأحجارِ
في البئر-
هو سلاحف غامضة تتحركُ في أعماقها
فأبقى أراقبها مدهوشاً
كأيّ مجنونٍ سعيد!
فَخّ
كانَ كلُّ شيءٍ يجري سريعاً
مثل لعنة مكتوبة منذ الأزل.
سريعاً دخلتُ أحراشَ جسدِكِ
لأستسلمَ بين تلاله
مثل جيشٍ من المُغفّلين.
وسريعاً جلستُ في حديقةٍ صيفيّة
لأرى بقلبٍ أزرق
الوحوشَ وهي تحتفل
لتطلقَ كالبالوناتِ قهقهاتها
وترّهاتها.
وسريعاً
توهّمَ الطفلُ في داخلي
أنّه يستطيع
أنْ يمثّلَ – مثلكِ – دورَ الوحش.
وسريعاً
تركتِني وحيداً
في غرفةٍ سوداء بفندقٍ يطلُّ على
نهرِ العذاب،
تركتِني أزحفُ إلى جهنّم زحفاً،
تركتِني أتدرّبُ على دورِ الميّت
حتّى الموت.
الأعزل
1.
إلهي
أرسلْ إليّ ذئبكَ: الموت
حتّى يواجه قلبي الأعزل
ويمزّقه إرباً إرباً.
إلهي
أرسله إليّ
لن أطرده،
لن أقاومه،
لن أهربَ منه.
ولماذا أفعل ذلك
وقد تحوّلتْ حفلتي إلى سيركٍ من
المجانين
وشمسي إلى شمعةٍ سوداء
وكينونتي إلى مزحةٍ سوداء؟
2 .
إلهي
سأخرجُ إلى الشارع
لألتقي بذئبِكَ
أمّا ملائكتكَ بأجنحتها البِيض
فإنَّ قلبي الجريح
لم يعدْ يُحسن الإنصات
إلى رفيفِ أجنحتها.
إلهي
أعذرني
وأعذرْ لغتي
العارية
ذلك أنّ كائناً أعزلَ مثلي
لا يستطيع أنْ يتحمّل،
كلّ يوم،
تراجيديا نوح
وغرابه وحمامته وطوفانه العظيم،
لا يستطيع أنْ يتحمّل نارَ
إبراهيم
وحفلةَ الرعبِ التي ألقاه
الكَفَرةُ فيها
راقصين مبتهجين،
ولا يستطيع، كما فعل يوسف
الصدّيق،
أنْ يواجه أسطورةَ العذاب
لذلك الطفل الذي عاشَ في البئر،
وفي القصر،
وفي السجن،
وفي العرش.
إلهي
أرسلْ إليّ ذئبَك
فربّما يُجفّفُ الموت
مستنقعَ حياتي إلى الأبد،
وربّما يكون فمُ الذئب
شجاعاً
بما يكفي لإنهاء
حفلة الطوفانِ والنارِ
والعبوديّة.
شعراء الحرب
حينَ ألقى البحّارةُ أصحابُ
العيونِ الزرق
القبضَ على صاحبِ الجندِ في حفرته
العجيبة،
فرَّ شعراءُ الحربِ جميعاً:
فرَّ كبيرُهم إلى بلادِ الظلام،
وفرَّ صغيرُهم إلى بلادِ الضباب،
وفرَّ الثالثُ إلى بلادِ الواق
واق،
وفرَّ الرابعُ إلى بلادِ
الأسكيمو،
وفرَّ الخامسُ إلى بلادِ الراياتِ
السود
وفرَّ السادسُ إلى بلادِ الراياتِ
الصُفْر
وفرَّ السابعُ إلى بلادِ الفلافل
وفرَّ الثامنُ إلى بلادِ القلاقل
وفرَّ التاسعُ إلى بلادِ العماليق
وفرَّ العاشرُ إلى بلادِ
المنجنيق.
وهكذا انتشرتْ جرثومةُ الحرب
في أرضِ اللهِ كلّها!
وداعاً
حينَ وصلَ إلى الشاطئ المهجور
قرّرَ أنْ يكتبَ قصيدته الأخيرة
ويقول وداعاً، وداعاً لكلّ شيء.
هكذا خلعَ ثيابَه جميعاً
ثُمَّ أزالَ جلدَه عن جسده
ثُمَّ رمى اللحمَ والعظمَ جانباً
فلم يبقَ منه إلّا القلب.
أمسكَ القلبَ بعينين دامعتين
فسمعَ البحرَ يدقّ بآلاف الأيدي
على جوانب قلبه
حينها قرّرَ أنْ يستسلمَ للبحر،
فترك قلبه يطفو فوقَ الموج،
فوقَ الموجِ الذي أخذَ يدفعه
شيئاً فشيئاً
إلى الملح،
إلى الأعماق،
إلى المجهول،
إلى الأسماكِ المُتوحّشةِ التي
أثارها
مرأى الدمِ وهو يطفو فوقَ الموج.
أمل
مرّتْ قرون طويلة
منذ أنْ تمنيّتُ أنْ أراكِ.
تقلّصَ النهار
وصارتْ ساعاته بعددِ أصابع اليد.
وصغرت الشمس
وأصبحتْ، كما يقول العارفون،
بحجمِ برتقالة،
مثلما أصبحَ القمرُ بلونِ البحر،
والبحرُ بلونِ الصحراء
والصحراءُ بلونِ قلبي.
نعم،
مرّتْ قرون طويلة
منذ أنْ كفّت الأفعى
عن تجديدِ ثوبِها كلّ ربيع،
وكفَّ الموتى عن الشعورِ بالألمِ
أو الندم،
وكفَّ الماضي عن ملاحقتي
في الشوارعِ الخلفيّة،
لكنّي لم أزلْ أتمنى أنْ أراكِ
لأقولَ لكِ الكثير
أو لكي لا أقول لكِ أيَّ شيء على
الإطلاق.
ألوان
قالَ الطبيبُ الذي يرتدي قميصاً
أبيض
وبنطلوناً أبيض
وحذاءً أبيض
- هل كانتْ طفولتكِ بيضاء؟
· (لا).
- هل كانَ شبابكِ أبيض؟
· (لا).
- هل كانتْ شيخوختكِ بيضاء؟
· (لا).
- قالَ الطبيبُ: إذن، ماذا
تنتظرين؟
· قالت: (أنتظرُ الموتَ ليأتي
ويأخذني
مرتدياً طفولةً سوداء
وشباباً أسْوَد
وكهولةً سوداء.)
مدّ الطبيبُ يده ذات القفّاز
الأبيض
إلى الضحية.
فأبعدها الموتُ برفق
كانَ الموتُ يبكي على الضحيةِ
بدموعٍ سُود.
لكنّ الضحية نَفْسها
وجدتْ في الأسْوَد،
في آخرِ المطاف،
طمأنينةَ الألوانِ كلّها.
اختباء
حينَ قرّرتُ أنْ أراكِ ثانيةً،
بدأتُ أزيلُ الأحجار
عن وجهكِ الدافئ الذي أختبأ خلفها
(يا إلهي: مِن أين جاءتْ هذه
الأحجار؟
أهي سنواتُ الفراقِ التي تحجّرتْ
بفعلِ الصواعقِ والأمطارِ
والحروب؟)
هكذا بدأتُ أزيلُ الأحجارَ
الثقيلة
الواحدة تلو الأخرى
بأصابعي التي عذّبها الحرمان
حتّى إذا وصلتُ إلى الحجرِ
الأربعين
اختفى وجهُكِ من جديد
تاركاً لي أنفاسَه الدافئة
كأثرٍ ساحرٍ لا يزول.
سهرة صامتة
كلّ يومٍ أموتُ عندَ الصباح
ثُمَّ أستيقظُ عند الليل
فلا أجد أمامي،
على مائدتي
سوى شمعة عتيقة ذابَ نصفها.
أشعلُها
فيحضرُ على الفور
ملاكُ الحياةِ وشيطانُ الشعر،
ليجلسا، في هدوءٍ مريبٍ، حولي.
أحدهما في اليمين
وثانيهما في اليسار
وأبقى بينهما
صامتاً كالحجر
حتّى الصباح!
بكاء الحاجب
وقالَ الحرف:
يا سيّدَ الملكوت،
يا سيّدَ الموعد والقيامة والبذرة
والزوبعة،
يا سيّدَ الحيّ والميّت،
ياسيّدَ التراب والماء،
أيُعْقَل أنّ هذا الذي يقف
ببابِكَ
يحمل مرايا شمسه المنكسرة
وشظايا قلبه
وبقايا عظامه وجُثّته
لا يجدّ ردّاً على خرابه الشاسع
وموته الساطع؟
أيُعْقَل هذا
يا سيّدَ القباب الذهبيّة
والأنهار المُقدّسة
أنْ أبشّره بأنّ قصائده الآتيات
سوف تجيء من غيرِ شمسٍ ولا ماء
وأنْ لا مناص له
مِن أنْ يرمي جُثّته
تحتَ عجلاتِ قصيدةٍ مُدمّاة
أو قطارٍ أبله
أو نهرٍ منفيّ مثله؟
أيُعقَل
وقد كتبتَ لي -
وأنا خادمكَ
المخلص وحاجبكَ المطيع-
أنّني لن أظلم حبيباً أبداً
ولن أحطّم مرآةَ عاشقٍ البَتَّة
ولن أضيّع نقطة
ولن...؟
أيُعقَل وأنا أزحفُ على رأسي
وكأسي
وأنا أقودُ كينونتي التي تشبهُ
مرآةَ أعمى
عبرَ صراطكَ المُتكلّم
وقدركَ المُتكلّم،
وأنا أنتقلُ فيكَ وبكَ ومنك
من جلجلةٍ إلى جلجلة
ومن قارّةٍ إلى قارّة
ومن رعبٍ إلى رعب
ومن زلزلةٍ إلى زلزلة
ومن واقعةٍ إلى واقعة؟
أيُعقل
أنْ أجلسَ أربعين عاماً عندَ
بابكَ
-
وأنا الحاجب
-
فلا يُفْتَح لي
ولا يُردّ على صرخاتي
التي ملأتْ جسدي طيوراً مَيِّتة
من أقصى جسدي إلى أقصاه؟
أيُعْقَلُ
يا مَن اختصَّ نَفْسه براءِ
الرحمة
وميمِ الملكوت
يا مَن جلسَ على عرشِ ال(كنْ
فيكون)
أنْ أشربَ من كأسِ دمي
كلّ يوم وليلة
فلا أموت
وأنتَ الذي يسمعُ نبضةَ سرِّي
ونوني وكافي وقافي؟
أيُعْقَلُ
أنْ تتركني أتشحّط بدمي
ودمي يتشحّط بي؟
خنجر أسْوَد، صرخة بيضاء
كانَ يتبعها وهي تنتقلُ من شارعٍ
إلى شارع،
ومن زمنٍ إلى زمن،
ومن منفى إلى منفى.
كانَ يتبعها دونَ أنْ يعرفَ
سرَّها،
دونَ أنْ يصلَ إلى رحيقِها.
مَن هي؟ يا إلهي، مَن تكون؟
لم يكنْ يعرفها أو يعرف سرّها.
فقط
كانَ يعرفُ أنّه جزء منها.
ربّما هي الشمس وهو البحر
أو الأم وهو الطفل
أو الأنثى وهو الذكر.
ربّما هي النقطة وهو الحرف
أو المعجزة وهو النبيّ
أو اللعنة وهو الشيطان.
لم يكنْ يعرفها أبداً.
فقط
كانَ يتبعها
ضائعاً مثل دمعةِ طفلٍ يتيم.
وكلّما اقتربَ من سرِّها،
أو خُيّل إليه أنّه اقتربَ من
سرِّها،
التفتَ ليرى خنجراً أسْوَد يثقبُ
ظهره،
ويرى صرخةً بيضاءَ تخرجُ من فمه
وتتناثرُ كالزجاج.
سُجود
إلى: عيسى حسن الياسري
1.
حينَ وصلَ الشاعرُ إلى بَلاطِ
الملك
قال: حرفي مقدّسٌ كسرِّ الفرات
ونقطتي طيّبةٌ جميلةٌ كدجلة.
فقالَ له الملكُ: اسجدْ!
رفضَ الشاعرُ أمرَ الملك
فَطُرِدَ من البَلاطِ شرّ طردة.
وحينَ وصلَ الشاعرُ إلى أعداءِ
الملك
قال: حرفي عظيمٌ كسرِّ الفرات
ونقطتي زاهدةٌ غامضةٌ كدجلة.
فقالَ أعداءُ الملكِ: اسجدْ!
رفضَ الشاعرُ الأمر
فَطُرِدَ، كذلكَ، شرَّ طردة.
2.
هكذا انتقلَ الشاعرُ من ملكٍ إلى
ملك
ومن سجودٍ إلى سجود
ومن رفضٍ إلى رفض.
انتقلَ، أولاً، إلى ملكِ الشقاقِ
والنفاق
ثُمَّ انتقلَ، ثانياً، إلى ملكِ
القلاقلِ والفتن
ثُمَّ إلى ملكِ الحرب
ثُمَّ إلى ملكِ الجنس
ثُمَّ إلى ملكِ الأكاذيبِ
والترّهات
ثُمَّ إلى ملكِ "الصد مارد"
ثُمَّ إلى ملكِ "الواق واق"
ثُمَّ إلى ملكِ المنافي السعيدة
ثُمَّ إلى ملكِ المنافي التعيسة
ثُمَّ إلى ملكِ الراياتِ السُود
ثُمَّ إلى ملكِ الراياتِ الصُفْر
ثُمَّ إلى ملكِ الذهب
ثُمَّ إلى ملكِ الرماد
ثُمَّ إلى ملكِ اللصوص
ثُمَّ إلى ملكِ التُيوس
ثُمَّ إلى ملكِ الإذاعة
ثُمَّ إلى ملكِ الخَلَاعة
ثُمَّ إلى ملكِ العذاب.
وعندَ كلِّ ملكٍ يُطْلَبُ منهُ
السجود
فيرفض.
فيُطرَدُ من البَلاطِ شرَّ طردة.
3.
لم يكتفِ بعضُ الملوكِ بالطرد
بل أمرَ جلّاديه بسحلِ الشاعر
من البلاطِ حتّى الشارع.
وقامَ بعضُهم بسحلِ الشاعرِ
بنَفْسه.
وقامَ الآخرُ بجَلْده بنَفْسه.
ثُمَّ قامَ الأخير–
وكانَ أكثرهم غلوّاً وعتوّاً –
بإطلاقِ كلابه السُود
لتنهشَ حتّى الموت
جسدَ الشاعرِ الهزيل.
4.
حينَ ماتَ الشاعر
التقى بملكِ الحروفِ الذي هشَّ له
وبشّ
وقالَ له: لنْ آمركَ بالسجود
بل سأجلسكَ معي على العرش!
رغمَ أنَّ عرشي شديد البساطة!
ثُمَّ نهضَ ملكُ الحروف
وشقَّ قميصَه من الفرح،
فبانت الحروفُ مُشرقةً كالشمس.
وقالَ للشاعر: اخترْ حرفَك!
فاختارَ الشاعرُ العينَ والياءَ
والسينَ والألف.
ضحكَ ملكُ الحروفِ وقال:
أيّها الشاعر
لقد اخترتَ أنْ تُصلَب
وأنْ تمشي إلى الجلجلة!
ما أعظمك!
وأنتَ تُصلَب هنا أو هناك
دونما أتباعٍ أو أحبّة،
دونما تلامذةٍ أو مُريدين،
دونما وردةٍ تُعلّقُ على جبينك
أو تُرمى عليك،
دونما أيّ شيء سوى اسمك،
دونما أيّ شيء سوى حرفكَ ونقطتك!
|