قراءة في قصائد (جيم)
يوسف الحيدري
في إشارات التوحيدي الثماني عن الفجر والشكوى والهزيمة والحريق والموت والرؤيا والختام، علامات للوصول إلى النقاء والتطهّر والتضحية في سبيل أن يكون النقاء هو شرعة المبدع الحقيقي، لذلك حين يعجز هذا النقاء عن التحقق عبر إرهاصات الشاعر: النبي، فإنّ الموت على قارعة الطريق وحيدا ً عارياً إلاًّ من غطاء الحقيقة سيكون هو الطريق إلى الخلود:
(آهٍ.. يكفي
فأنا رجل أدّبتُ لساني
حتّى استخفى في الصمتِ
بقناع نبيّ) ص 15
ثمة حريق قبل الموت وعلى قارعة الطريق.. قد يكون بديلا ًعنه أو مدخلا ًإليه..
(احترقي تهويمة الروح وفجرَ الكلماتْ
احترقي.. ماذا جنيتُ من هوانا الضائعِ المضطربِ
إلاّ دموعاً تغتدي كوردةٍ من لهبِ
أو حسرةٍ ما تنتهي) ص 17
ويكاد الشاعر أديب كمال الدين مرّات عديدة أن يعقد مع الحياة أكثر من وشيجة حبّ وانتماء في مجموعته (جيم).. فيطرب لبلبل ويناغي عصفوراً ويتساءل كيف يسكن الهدهد في دفء العش ويحلم بين صغاره.. في حين يضيع هو بين أوراقه الغامضة وأقنعته العديدة وفُراته المريب:
(أنتِ في عشّكِ الدافئ
وأنا في عذابي المقيمْ
أنتِ في عشّكِ الغامضِ
بين أطفالكِ البيض والسمرْ
بين أزهاركِ العاريات وأحلامكِ اللاهثةْ
وأنا بين أوراقي الغامضةْ
بين أقنعتي وفراتي المريبْ) ص 47
في (مأدبة السيّدة) انتظار لقيام المطر الوحشي حيث تهتز الأرض ويفور التنـّور.. ليحترق الشاعر أو يتحول إلى صاعقة في عرشه.. وتتوإلى الصور المتنافرة الغريبة، لتشكل اللوحة الدرامية الضاجّة باللامعقول والسحري والمتخيّل والمذهل.. فبين ضحكات النمور وبكاء القنافذ.. تبتسم الخطايا السبع في الروح.. بعد مأدبة السيّدة تواجهنا أبجدية البحر بكلّ أغاريدها وسفنها البعيدة وشمسها الغائبة وأبوّتها الحانية:
(البحرُ غرَّد في دمي والبحرُ يقتاتُ الحنينْ
مالي أراكَ معذبا ًوالموج سيّدنا الدفينْ) ص56
هل يكتب البحر أخيراً قصّة الخطيئة أو يفرّخ في الدم سرباً من الموتى.. أي تساؤل مدهش يخلق الشاعر.. في حين قد يحنّ البحر أحياناً أو يقسو مثل أب صارم يحمل السكين ليذبح ابنه في حلكة ليل بهيم:
(البحرُ فرّخ في دمي سرباً من الموتى) ص61
(البحرُ أب يذبحني الليلة بالسكّين) ص69
أيّ عالم رهيب من الانفعالات والعذابات يعيشه الشاعر أديب كمال الدين الذي يذهلنا بصوره النادرة التي تتحدى الحدود القصوى لميتافيزيقا اللون والعلاقات اللامعقولة بين الأشياء. فكل ماتحت رؤية الشاعر من ظواهر كونية يمتزج بأحاسيسه ورؤاه الخالفة المذهلة.. فهو مع الحاضر والمستقبل.. وهو مع التاريخ حتّى في تراجعاته الحلمية الغريبة التي لا تتخلّى عن المنطقي والواقعي وفي أقصى تلك الهيمنات الروحية العذبة.. هاهو الشاعر يعانق فيلسوف المعرّة رهين المحبسين في حالة صعبة من التيه:
(باسمكَ قُدّرتِ الأقمار منازل والأيام سنينْ
ومضتْ من خلفي مئذنة
لم أرقبها والكأس تمزقني إرباً إرباً
ألأنّ الشمعة قد سقطتْ في الماءِ الآسن
أولدُ من موتي مرّاتٍ..
لأعُذّب منفياً في كلّ صباح؟) ص75
ولا يني الشاعر يؤكد ان بصيرة المعري هي الأقوى.. وحين تضيق الدنيا في صدره وتعتريه عذابات الوحدة والشعور بالانسحاق فإنه لا يلبث أن تصرخ و يرفض.. بل ويترجى وهو في أقصى دجات عذاباته كإنسان.. ويكاد النور هنا يجسد هاجسه المدمر..
(لا تتركْني للريحِ لتنبش أيامي
لا تتركْني للموتِ ليلقمني الوحشةَ والبحر ورائي
...............
لا تتركْني للطوفانْ
ودمي قد أبصر خفقَ حماماتٍ عادتْ
برحيقِ النور) ص 80
لقد انعكست عذابات المعرّي على الشاعر فغمره موج من اليأس لم يجد خلاصاً منه سوى النوم.. ولذا راح يبدي ضجره من الجري وراء السنوات.. وينكشف لديه زيف الأشياء كلما مرّ عام من عمره واقترب أكثر فأكثر من حافة العبث واللاجدوى وفقدان المعنى لكل ما كان يطمح إلى تحقيقه:
(أتعبنا الجري وراء السنوات
قد أتعبنا حرف كالثور الهائج، كيف تروّضهُ
بأظافرنا، وأظافرنا مُلئتْ بأنين الدم وأنين الراسْ
نمْ..
يا من أسقطت َالوردةَ في البئرْ
يا من أسقطتَ الوردةَ في بئر الحراسْ
نمْ..
لا عاصم، هذي اللحظة، من أمرِ الناسْ
والناسُ نيامُ... الناسْ) ص84
في قصيدة (الرجل) نداء حلاجيّ واستغاثة عميقة للخلاص من دناءة النفس وما في الصدر من غلّ ومقت إلى حد الدعوة لقيام الساعة وانهيار هذا العالم الذي طفحت القذارة فيه وانحسر النقاء والحبّ:
(أقم الساعة
سوركَ من حولي..
يا مَن باسمكَ يهتزّ القاع
وتغوص الطعنة في الأعماقْ.
امنحني عينينْ
شفةً ويدينْ
وانزعْ ما في صدري من غلّ وعذابْ
أقم الساعة
سوركَ من حولي..
يا مَن يتركني في الريبة..
أحيا وأموتُ وأبُعثُ كي أقبرَ وسط نباح الأمواتْ) ص88-89
ترى.. هل الزمن يمنح الأسماء للأيام.. أم يحدث العكس فتحدد الأيام هوية الزمن؟ هذا الهيولي واللانهائي.. وينسج الشاعر قصائده من هذه الجزئيات.. فاذا كان يوم الأربعاء مدخلاً للخميس وهو يسبق نهاية الأسبوع ...فإنّ اليوم الذي يليه إنما يشكل في فلسفة الخلق سابع أيامه.. مادام الخلق قد تم في ستة أيام.. ومنذ البدء.. بدء الديوان الشعري.. نتلمس هذه الإشارات الميثولوجية القابعة في لاوعي الشاعر.. تاريخياً ووراثياً.. وتتوهج هذه القوانين والصور الدينية في أكثر من قصيدة للشاعر لتمنح شعره المزيد من العمق والأصالة والصدق، لذلك تجيء هذه المفردات والجمل القدسية كافتتاحية مشرقة لقصائده:
(لو أنزلنا هذا الفجر المحموم على جبلٍ للغيرةِ والشمس
لرأيتَ الماء سعيداً) ص7
*
(الرحمنُ
خلقَ الإنسان
علّمه ما لم يعلمْ) ص19
ولوغادرنا هذا العالم الناضح بالإيمان الذي يمنح القصيدة خشوعاً ورهبة.. فإننا نظل لفترة أسارى لهذه المقاطع والصور الشعرية الغريبة من قصيدة (الأربعاء - الخميس):
(الأربعاءُ تناسلتْ وتمزّقتْ قطعاً ولكنّ الخميسْ
من موته يختار موضوعاً لأرسم طعنةً في الخاصرة) ص97
(الأربعاء تناسلتْ جثثاً بفجر الأقحوانْ
فمضى الخميسْ
في حلمه ذكرى بحار ٍما تزالْ
تشدو قليلاً.. ثم تعوي للرمالْ) ص97
قصيدة ـ أساطير ـ تشكيل شعري من أربعة مقاطع. ففي مقطع (الأفاعي) تلوينات رمزية. فمرّة للشجر وأخرى للسنوات وثالثة للعاشق الباكي و ثمة أفعى لا اسم لها.. بينما الأفعى الأخيرة هي للنزهة.. أية سخرية معبأة بالحزن تتساقط من أنامل الشاعر وأنفاسه معاً.. في مقطع (الحصار) عوالم غريبة من الاحباط والخوف.. وكل الطموحات غير المتحققة:
(أتقدَّم نحوكَ يا قلبي
بأساطيلي وملائكتي وجنودي..
أتقدّم أحمل سرّ الماء
وعذاب الشمس) ص102
*
(في عرشكَ أكتب: حاصرني
النمرُ الكاسرُ والليلُ الناريّ وحطّمني الزلزال) ص103
وتتنامى بقية المقاطع: ( الجبلي والهندي) و(الرواية) وبكل مقاطعها الجزئية لتشكل صوراً أخاذة:
(يا قلبي.. طفل أنت
أقلامكَ ضاعت
وحقيبتكَ الخضراء
سقطتْ في الطين) ص103ـ104
(وأجبتُ ورأسي فوق الرمح:
خذْ
ذكرى طعنات النمر الكاسر
طعنات الوحش، الإنسان) ص109
في قصيدة ـ جيم ـ التي اتخذها الشاعر عنواناً لمجموعته.. تتفتح الأزهار من جذع الليل ومن بين الرمال والحصى.. وتكبر لتصبح قصائده مليئة بالأوراق الوحشية والأثمار المرّة والأشلاء أيضا وتتحول القصيدة إلى حكاية عن ثلاثة في دار واحدة.. الشاعر وعذاباته النائمة وآخر لايعرفه.. وتبوح أشجار الليل بالأسرار:
(ماذا قالت أشجارُ الليل هناك
وبأيّ نسيج مقطوع الكفّينْ
باحتْ بالأسرار.. أية أسرار؟
ولماذا قامت تلك الجثة شقّتْ
كتّانَ الجسد الأبيضْ
ندبتْ.. وعوتْ
لم أفهم شيئاً) ص115
قصيدة ـ الثعالب ـ متفردة.. تخلق عالمها الخاص بها.. غير أنها تظل رغم ذلك واقعة في أسار التغريب والغموض إلى حد ما:
(أقفرتْ ليلةُ الحبّ
ودمي ثعلب ميّت
أترى امرأة صيغ ميسمها من حنان
ثم من رئة الكُشتبان؟) ص120
وتأتي قصيدة ـ طيور ـ حيث طائر الوهم لا يوحي إلا بحقيقة غريبة:
(بهدوءٍ أعمى
ينقر قلبي طيرُ الوهم
يوهمني أن لا معنى
إلاّ لفحيح الموتى) ص123
وحين يغيب الهدهد فإن الطائر الأسود أو غراب الليل يقرأ أسماء الناس بينما يبدو طائر الموت عارياً كالتفاحة وعميقاً كالموت.. أما طائر الشؤم فيخرج من منفاه ليحلّ في المبغى.. وفي قصيدة ـ كهيعص ـ تصدمنا صور غريبة شعرية ومطلسمة في الوقت نفسه..
(نخلة في دهاليز غامضة ظللتها السيوف
جذعها الكاف
جذرها الهاءُ والياءُ والصادْ
سعفها العينُ.. أورقتُ عينْ) ص 130
في قصيدة ـ طلسم ـ وهي آخر قصائد المجموعة تتوإلى الصور، كثيفة، ملونة.. تحمل من الترميز الشيء الكثير:
(طاءْ
طار الطائرْ
واشتاق إلى تيجانِ النخلْ،
صبواتِ الزيتون وألحاظ الماءْ
*
حام الطائر
حطَّ على قلبي الميّتِ أحياه
من كبوته وخطاياه) ص135
وأخيراً.. ومن خلال هذا النسيج الهارموني الشعري الإبداعي فقد تجسّد صوت الشاعر أديب كمال الدين بين عشرات الأصوات الشعرية المتصارعة المتداخلة متميزاً قوياً وفي هذا شرفه الإبداعي الأصيل.
***************************************
نُشرت في مجلة الآداب البيروتية – العدد11- نوفمبر- تشرين الثاني 1991
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 339 - 345