فكّ حروف الطلسم
د. رياض الأسدي
هاتان القصيدتان من خزين واحد ولكن لا تكمل احداهما الأخرى. على الرغم من تشابه عالميهما الشعري: طلسم وكهعيص. مايدهش الرائي داخليا في هذين النصين هو التوقيت المدروس لاستعمال الحروف في البناء الشعري. ومن المناسب، في هذا المقام، ألاّ نغفل تجارب الفنان شاكر حسن آل سعيد في الاستخدام الجمالي للحرف العربي في لوحاته، فضلا عن تنظيراته في هذا المجال؛ ولكن من الصعب ان نحيل هذين النصين إلى هذه التجربة في هذه الآونة على الاقل؛ وفي الوقت نفسه من الصعب ايضا ان ننفي تأثير هذه التجربة الثرة على قصيدتي أديب كمال الدين. واذا كان الشاعر قد سبق القارىء إلى نشر كهيعص ثم طلسم، فإني، أرى ضرورة البدء بطلسم لكونها مفتاح كهيعص، وهي الأرضية التي قادت اليها. أما كهيعص فهي حالة ناتجة عنها، وليس لنا أن نحتج بتاريخ النشر فنياً البتة
تبدأ طلسم بالحرف (ط): يحيلنا هذا الولع المباشر بهذا الحرف إلى طاء الحلاج في ( الطواسين ) مباشرة ، لأن القاموس التراثي للشاعر واضح الملامح ، وهو يستقي منه على الدوام. غير ان طاء أديب كمال الدين غير طاء الحلاج دون شك ، للاختلاف البيّن في التجربة والمعالجة لكليهما.
(طاء
طار الطائر
واشتاق إلى تيجانِ النخل)
البدء، من تدفق روحي رآه الشاعر موازياً لمواريثنا الروحية في الطاء والهاء: من حروف الرسول محمد (ص). وتكرر الطاء في البيت الثاني من القصيدة على نحو يؤكد شروعه الخاص. فالطاء هنا مفتاح للحركة. وهكذا درج الشاعر على اعتباره سرا ً من أسرار القصيدة حتى النهاية:
(ونظرتُ إلى جسدِ السرّ: إلى سرّ
الطاءِ، إلى طاءِ اللامِ، إلى لامِ السين
وإلى سينِ الميم)
فالطاء يتحول ليشمل هنا كل كلمة طلسم ، وهذه التحولات الطائية ما هي الاّ تقابل درامي شعري مع الساحر .. الساحرالذي يحرق الحروف الأربعة. الطلسمية والساحر موضوعتان متلازمتان ولافكاك لهما سواء في الموروث الروحي العربي أو في القصيدة. وعلى هذا الأساس فإن أديب كمال الدين بلغ شأوا ً كبيرا ً في ترسيخ قصيدته على ميراث صلب من العلائق بين الشعري والتراثي.
وهكذا فقد تم وضع الوحدات الداخلية للقصيدة على نحو متميز. ثم انه قد تجاوز هذا البناء نفسه ليكون طلسمه الخاص/ عالمه وخرابه أيضا؛ والخراب تأتى من سيطرة الساحر على الطائر ( وهي موضوعة شبه مكرورة من قصص ألف ليلة وليلة)؛ هذه السيطرة سماوية، حلّقت به في عالم لازوردي يقهقه فيه الساحر كالمجنون. انها سيرة النصر على الحقيقة الأرضية. على أية حال (حطّ الساحر فوق الطائر/ ارتفع بالساحر). بيد ان هذا اللقاء لم يأت عفويا ً البتة، فما أن لامس الطائرُ الأرض حتى تحوّل إلى فحم أسود ، وهنا مكمن الخراب ، كلّ الخراب تقريباً. فثمة رفض مبطن للأرضي ، وولع غريب بالسماوي إلى حدّ الهوس- الخلاص.
انّ رابطة الطائر بالساحر تستمر حتى نهاية – بداية القصيدة على نحو متميز، ولكن هذه العلاقة
الساحر الطائرX
لا ينتج عنها التيه المطلق. وهي موضوعة أخرى أراد أديب كمال الدين من خلالها أن يمنحنا حلاً روحياً غريبا ً لمجمل دراما العالم ، أراد أن يعلن صراحة لاجدوى هذه العلاقة ازاء حركة الطبيعة : تيجان النخل ، صبوات الزيتون ، ألحاظ الماء؛ وهذا التوهان يصدر من طلسمية الحروف نفسها – على غير ما هو عليه الحلاج من دراية باطنية في مكنون الحرف .. وهي تقابلية درج عليها الشاعر بشكل دقيق في ( إشارات التوحيدي ) قصيدته الطويلة الأخرى . ومن الملاحظ ايضاً ان الشاعر عمد إلى مفردات من الطبيعة : النخل،الزيتون ، الماء ، وهي مفردات وردت مقدسة في مجمل كتب الموروث الديني العربي .. ولذلك فقد حتمت عليه (الضرورة التراثية) اللجوء إلى هذه الثلاثية ، وهي دون شك ليست من اختياره المحض . فقاموس أديب كمال الدين- على الرغم من جماله ودقته- مستعار.. ويبدو اننا سنبقى ننتظر لحين اعلان البدء بقاموس جديد هو من توليف الشاعر نفسه. مع ذلك ، فإن قابلية الاختراع تكمن في الثنايا دون شك.
أما ( كهيعص ) هذه المملكة الوليدة عن طلسميات أديب كمال الدين ، فلا تهب نفسها بسهولة ؛ فهي تقترب من ( الحل الروحي) الذي أضاعه الشاعر في تيه طلسم. وهذه القصيدة هي : خطاب إنسان:
(انبرى للملائكةِ الواقفين
سيّداً من يقين
صار للجنّ قاموسَ موتٍ مضيء)
هذا الحل في شجرة النخل / الوطن الروحي للشاعر الذي لايعرف غيره وطن ، والرؤيا التي صنعتها حروف الكاف والهاء والياء والعين والصاد . على الرغم من مطاردة الوحوش للشاعر الذين هم ضيوف الجحيم ! وما يمكن أن ينتج عن ذلك من استنهاض للروح وصيحاتها الأزلية ، لكن الحل موجود ؛ وهذا نقيض طروحة طلسم الأولى عن التيه ، وتكمن وجودية الحل في الحروف
الحل يأتي من النخلة ، والنسغ العجيب لها ، هذه الشجرة التي ما برحت مصدراً ملهما ً للعديد من الشعراء .. فمن يمكن أن ينسى صيحة الشاعر حسب الشيخ جعفر ( يا نخلة الله الوحيدة في الرياح ) (1)؟ يبد ان نخلة أديب كمال الدين هي نتاج آخر من الرؤية والمعالجة الفلسفية على الرغم من تشابه الموضوعة. فالأب في بدء كهيعص يشمله الوصف الخلاصي على نحو معجز، إذ مايلبث أن يكون ربّاً وأسطورة (الأب + الربّ = الحلّ الروحي)
وهو حل يكمن في طلع النخلة بشكل خاص. فلايعني أديب كمال الدين من العالم سوى الثمر ؛ وعلى ذلك، فقد وضعنا أمام خيار صعب بين التيه والحل. ويبدو انه اختار الثاني ولذلك فاننا سنبقى ننتظر مرّة أخرى ماينجم عنه هذا الحل من رؤيا شعرية جديدة ، لأننا لا نتصور البتة أن يكون هذا الحل نهائيا ً بايّ حال من الأحوال ، والإّّ فقد وقعنا أسيري الفذلكة الجاهزة ليس إلاّ .
الشاعر أديب كمال الدين في هاتين القصيدتين الجميلتين يضيف إلى تجربته بعدا ً جديدا ً ويفتح قبالته أبوابا ً صعبة وخيارات أصعب ، ولكنه في الوقت نفسه يأمل – كما أرى – ألاّ ينتهي من فكّ حروف الطلسم على هذا النحو السريع ، فما زال أمامه الكثير لكي يعود إلى صناعته الخاصة وهو جدير بها دون شك.
********************
(1) انظر: حسب الشيخ جعفر، الأعمال الشعرية 1964- 1975 ص 57 -60.
(2) نـُشرت قصيدتا( طلسم) و( كهيعص ) في مجموعة ( جيم ) دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد 1989
طلسم
شعر: أديب كمال الدين
طاءْ
طار الطائرْ
واشتاق إلى تيجان ِالنخلْ،
صبوات الزيتون وألحاظ الماءْ
كانَ الطائرُ مهووساً بجناحيه الطفلين
وبنظرته الخضراء لغصنِ اللذةِ.. لامْ
حامَ الطائرْ
حط ّعلى قلبي الميّتِ أحياه
من كبوته وخطاياه
فبكيتُ كأفعى تُقسَمُ قسمين
ونظرتُ إلى جسدِ السرِّ: إلى سرِّ..
الطاءِ، إلى طاءِ اللامِ، إلى لامِ السينْ
وإلى سين الميمْ
كانَ الساحرُ مشتعلاً في أقصى أركان اللذة كالتنّينْ
يحرقُ ذاكرةً لحروف أربعة عمياء يراها الأبكم
ويراها الرائي مبصرةً لزمان يتخثرُ فوق كفوفِ الشيطان
ضحك الساحرُ إذ أبصر َحيرةَ..
هذا الطائر، قهقه كالمجنونْ
ورماه بتيارٍ من فمه الأدردْ
فاحترق الطائر فحماً حتّى وصل الأرضْ
فتلقّاه الساحرْ
بأعاجيب الميم
حطَّ الساحرُ فوقَ الطائرْ
ارتفعَ الطائرُ بالساحرْ
حلّق في صيحاتِ الغيمةْ
تيجانِ النخلْ،
صبواتِ الزيتونِ وألحاظِ الماءْ
حلّق حتّى تاه.
كهيعص
شعر: أديب كمال الدين
لأبي، منجم الوقت، خمسون اسماً عجيباً وقلباً نبّياً..
ومرآة حبّ كبيرة
لأبي، سيّد الماء، أنف وقور، وعينان من أرقٍ
وامتحان، وتيجان غيم ونور، وكفان قد قُطّعا
في الليالي إليّ (فجاءا) برأسي إليَّ
فابتسمتُ وأوماتُ للريحِ أن احضري اليومَ عرسي..
وقومي كما ينبغي للضيوف: الوحوشْ
مثلما ينبغي الآن مثلي.
لأبي، سيدّ الوقت، تيجان زهو تحلّى بها نصف لحظةْ
ثم فارقها ميّتاً فارقَ الفجرَ ظلهْ
وانبرى للملائكةِ الواقفينْ
سيّداً من يقينْ
صارَ للجّنِ قاموسَ موتٍ مضيء..
فأورقتُ في الليل ظلاً
وأورقتُ في النورِ فجراً..
على بابه المحتفي كنتُ في حرفه نحني
أو أقاوم في جسدي ما أرى من دمٍ نازفٍ
نخلةً في دهاليز غامضة ظللتها السيوفْ
جذعها الكاف
جذرُها الهاءُ والياءُ والصاد
سعفُها العينُ. أورقتُ عينْ
وتجاوزتُ ما قاله الحقُ لي
عن ضرورةِ شقِّ الفراغِ إلى قطعتينْ
وقتَ تقسيمَ جرحي البليغ على بابهم كي يروا
في قرون ستأتي مرآةَ قلبي المضيء
من دمي أورقَ الياسمينْ
الوحوشُ استداروا إليّ: اطعنوا يا ضيوف الجحيمْ!
من دمي أورقتْ سورةُ الرملِ والأنبياء:
ألف لامٍ وميمْ
الوحوشُ استداروا إليَّ
صارَ للربّ أسطورة، للعروش مفاصلها القاضمةْ،
للسنين الأكاذيب في مهدها لامعةْ
فاهبطي يتها المعجزةْ
واسمعي إنني الدمدمةْ
إنني عطشُ الجمجمةْ
إنني..
نبشوا صيحةَ الروح
حملوا صيحةَ الروحِ فوق الرماحْ
صارَ للربّ أسطورة: نخلة من دهاليز غامضة ظللتها الحتوفْ
طلْعها الكافُ والهاءُ والياءُ والعينُ والصاد
طلْعها الله.
**************************************
فنُشرت في صحيفة العراق - 22 تشرين أول 1988