قراءة في: (أخبار المعنى)
يرتكس المعنى.. يرتكزالشكل
معين جعفر محمد
تكاد طروحات الشعرية الحديثة تتفق بالإجماع، على ضرورة أن ينفرد الكلام في النص بسمات استثنائية تتنتقل به من حقل التعبير العام إلى صياغة المجردة الخاصة، التي يكون الاهتمام فيها مركزاً لا على المعنى المنتج، ولكن على طريقة إنتاجه، بل إنّ بعضاً من الدارسين الحداثويين، بلغ بهم الأمر إلى حد الدعوة إلى الانفلات من شرك (المعنى) بوصفه إحدى الآفات التي يمكن أن تأتي على شعرية الخطاب وتحوّله إلى جسر فاقد لمقومات نموه. إنّ من شأن هذا الانفلات أن يتيح لعناصر نسيج الخطاب التحرر من أية موجهات محكومة بقصد ثابت، تأدية معنى لتصبح موجهة نحو الإشارة نفسها، على حد قول جبليولبسكي فيترتّب على هذا، أن يحقق الخطاب الشعري ذاته شكلاً محضاً، وهذا بالتحديد ما يحصل في (أخبار المعنى) المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر أديب كمال الدين، الذي كان قد نشرت له من قبل أربع مجموعات شعرية هي على التوالي (تفاصيل ـ 1976)، (ديوان عربي ـ1981)، (جيم ـ1989) ثم (نون ـ 1993).
لعلّ من المناسب أن نشير هنا إلى المغزى (الثيماتي) الذي يحمله عنوان المجموعة الخامسة هذه: (أخبار المعنى) فهو يشير ضمناً إلى (غياب) المعنى في أقل تقدير، وهذا عائد إلى طبيعة (الستراتيج) الذي يتبعه الشاعر في صياغته فهو يعمد، أولاً، إلى الإطاحة بالمعنى ليتفادى بذلك مخاطر إتيانه على قصدية الكتابة ثم يبدأ بعدئذ ببث ما كان مما يمكن أن يكون من أخباره علينا، فكيف ينفذ الشاعر هذا ( الستراتيج)؟
لابد من التسليم، بادئ ذي بدء، بخضوع القصيدة الشعرية عند أديب كمال الدين، لإجراءات نظمية. إنها (صناعة) من نوع (فني)، فيها يمارس الشاعر أقصى مهاراته فهو ينطلق من إدراك عميق لطبيعة المعنى ومصادر تشكّله، ثم يأخذ بعدئذ، بنسف هذه المصادر ليتمكن بالتالي، من نسفه هو، فإذا كان (معنى كلمة مجموعة علاقاتها الممكنة مع كلمات أخرى..) فإن نفي الأول يتم تفادي نشوء الأخيرة، أو بتعبير أدق، بقلب السيرورة المتضمنة في طرفي المعادلة. وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى أفراغ الكلمات من معانيها، يزجّها في أنساق خارجة على أعراف البناء الجملوي وأساسياته، بحيث تكتسب علاقات إسنادية جديدة مع عناصر أخرى لا تتحمل أصلاً مثل هذه العلاقات:
(أختارُ لموتي أسئلةً من طين، ومرايا تفضح أجساداً من قطن، ومعارك لم تحدث، وأناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتسترُ في أخفاءِ هزائم كلماتي كي أخرج محتفلاً والناس سكارى يرتجفون). (موت المعنى/ص 5).
على الرغم من أن الراوية هنا هو المعنى، فإنّ الحقيقة تتأكد عبر سيرورة فعل السرد نفسه. إن (موت المعنى) الذي يعد هنا واقعة متحققة، ليس مجرد عنوان مساق بصفته مفتاحاً لفكّ رموز السنن التي تتحكم بشكل نسيج الخطاب، وكشف خباياه التي ينطوي عليها فقط، بل إن فيه مغزى ثيماتياً، أيضاً، ينحو المنتوج الدلالي لجمل الخطاب الشعري كافة، باتجاه ترسيخه، حتّى إن الراوية نفسه، ينطلق في بث رسالته من كون (موت المعنى) حدثاً متحققاً، وهكذا تتبلور سمة فنطازية تنشأ من حيث يتم خرق المنطق العقلي وخلق منطق بديل يعزى إلى إطلاق العنان لملكة الخيال لتفعل فعلها في خلق تعالقات إسنادية بين عناصر لا تمتّ إلى اللغة إلاّ بصلات شكلية فحسب ذلك لأننا هنا (بإزاء كلمات مفرغة من معانيها من طريق تسخيرها بصفتها (إشارات مجرّدة) في خطاب مكثف بذاته، فهي لا تحيل إلى شيء خارجها، وهي تصلح لأن تكون مثالاً لما يسميه تودوروف بـ(اللغة المختزلة إلى ماديتها وحسب، إلى أصوات أو أحرف، إنها اللغة التي تفرض المعنى) والتي لا تهدف (..إلى تقريب دلالتها من فهمنا، ولكن إلى خلق إدراك خاص للموضوع).. وذلك بأن تخلق حالة يمكن تمثلها كرؤية في حدود مايتيحه منتوجها الدلالي الجديد وهو يحقق وضعاً استثنائياً في تفاصيله كافة، على هذا النحو تفقد الأشياء سماتها الأصلية مكتسبة أخرى متأتية عن العلاقات الإسنادية الجديدة الخارجة على أعراف القول المستند إلى قواعد انباء ثابتة.. وتتحول المجردات إلى أشياء ملموسة، أو هي تعامل على هذا الأساس.
وهكذا فإنّ إسناد الفعل (أختار) إلى (أسئلة) ينجم عنه نسق منطقي، ولكن تقديم عبارة (لموتي) أدّى إلى قلب نظام السيرورة، إذ نفى السمة المنطقية وأكسب الجملة المتشكلة بمقتضاه سمةً غرائبية، وعلى النحو نفسه، فإنّ للفضلة المؤخرة (من طين) مغزى يتأتى من طبيعة الوظيفة التي تؤديها فكونها هنا واصفة لـ(أسئلة) قد حقق للجملة درجة عالية من الانزياح، كذلك يمكن القول بأنّ إسناد (مرايا) إلى الجملة الفعلية الواصفة (تكشف أجساداً) يبدو في ظاهره تعبيراً عادياً، ولكن وصف المفعول به بعبارة (من قطن) تحققت من جرائه فضيلتان: الأولى: تحقيق انحراف في سيرورة المنتوج الدلالي، إذ تم الانتقال به من حيز المعنى الحقيقي إلى حيث يتخذ صفة منتوج دلالي غير خاضع إلاّ لمنطقه الخاص؛ والثانية أنه أدى إلى سلب الموصوف سماته الحقيقية وإعطائة سمات يصبح بمقتضاها دالاً (وضعياً) بذريعة أنّ المرايا التي يتوخاه الراوية في النص ليست كأية مرايا أخرى، بل هي من نوع خاص، لا تكشف إلاّ (أجساداً من قطن) ولك أن تتمثل ما يمكن أن ينبثق عن عبارة (من قطن) من ظلال معان تنحو باتجاه الإيحاء بزيف هذه الأجساد وخوائها. لكأنّ الشاعر أديب كمال الدين يمارس هذا الستراتيج عن سابق قصد، وهذا مايشي به قبول البنى الدلالية المامه إلى بعضها بتعالقات يترتب عليها إيحاء بفحوى تحرر من جبروت سلطة (المعنى)، فـ(هزائم كلماتي) تعبير منطو ضمناً على إدلال غير مباشر على خضوع الكلمات لسلطة المبدع وليس العكس، أي أن هذه الهزائم هي في الوقت نفسه سبب لتغلب فاعل سردها، ولذلك يقابلها في الطرف الآخر، خروجه (محتفلاً)؛ وحتّى الجملة الحالية (والناس سكارى..) لا تبتعد كثيراً عن الارتباط بفحوى هذا التأويل بدعوى أن السكر حالة من حالات فقدان الوعي، وأن إفراغ الكلمات من معانيها يجعل الآخرين فاقدي للقدرة على أدراك مضامينها ليبدوا، أخيراً، كما لو كانوا سكارى بالنسبة لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يحقق الشاعر استفادة واضحة من الخصائص السيميائية للحرف العربي بصفته وحدة تبين (علاماتية) دون أن يتخلّى عن ستراتيجه الثابت، حيث يبقى المعنى مغيباً عنده وراء نسيج من لعبة شكلية لكنها تدع للكلمات حرية أن تتخذ أنساقاً خاصة تنسجم مع المدلول الخاص المراد الإيحاء به:
(أشاورُ كلكامش ليلاً لنؤسس مكتبةً لحروف الحقّ، الحبِ، وحاء الشعراء المنسيين. وأختار لموتي مأساةً وأؤسس سيناً أخرى لا تدخلُ في كلماتِ اليأسِ، السورِ، السجنِ، سلامِ الرعبِ، سقوطِ الأسنان).
يلاحظ هنا بروز نسقين رئيسيين ـ الأول، متضمن كلمات تبدأ بحرف الحاء، حيث تتشكل متوالية حاملة لسمة فنية متمثلة بالجناس الاستهلالي الذي يعوّض النص عن غياب التقفية ويسدّ نقصاً مترتباً على هذا الغياب، إذ يؤدي وظيفة إحداث وقع موسيقى، ويجعل في سيرورة الإيقاع الخارجي، أما النسق الثاني، فيتشكّل من كلمات حاملة لصوتية حرف السين، وترتبط مسوغاته بالغاية نفسها التي تحكم النسق الأول. ويلاحظ أيضاً، أن اختيار الكلمات غير اعتباطي، وإنما هو محكوم بقصدية تنمو باتجاه خلق وضع موحٍ بفكرة معينة، حجتنا على هذا أن الكلمات المتنقاة تشكل مفردات محورية تنتمي في النهاية إلى حقل واحد، وذلك لأنّ كلمات من نحو (الحقّ، الحبّ) تمثل إحداها كينونة للأخرى، فالأولى لا تكون بغير تحقق محمول الثانية، والأخيرة تفقد محتواها الحقيقي ما لم تكن الأولى عمقاً وسمة لها. أما (حاء الشعراء المنسيين) فهي نسق ممتنع عن الإفضاء بحقيقة المدلولات المبنية في تضاعيفه، ولكنه يمكن أن يخبىء وراءه مجرّدات أخرى يستدل عليها من طريق وجود الحاء في مستهل النسق، حيث يصبح قابلاً للتفسير بصفته علامة للدلالة على معان غير صريحة أخرى من نحو: الحزن، الحنين، الحسرات، الحرمان.. الخ، وكلها محمولات ضمنية، يمكن بلوغها من طريق مراعاة (الحال) التي يكون عليها الشعراء المنسيون عادة، حرياً بالإشارة إليه، إنّ التركيز على صوتية السين ينضوي تحت طائلة التأويل نفسه، لأنّ كلمات من نحو( اليأس، السور، السجن، سلام الرعب، سقوط الأسنان..الخ) تمت بصلة إلى محور دلالي ينتمي إلى حقل الدلالات المنبثقة عن (سجن). أما نشدان الراوية (سيناً أخرى) غير سينات هذي الكلمات، فيمثل مناورة فنية تمارس بقصد الحفاظ على ديمومة عمل الستراتيج الثابت المنصب على التمويه على المتلقي بغية طمس سمة المعنى. وإذ يفعل أديب كمال الدين هذا، فإنه ينطلق من مبدأ لساني يقول باعتياطية نشوء الدلالة، فما دامت الأخيرة ذات وجود موضوعي (تقع خارج الدال) لأنها معطاة من عند الآخر دائماً.. فمن الذي يمنع الشاعر، إذن من اتباع طريقته الخاصة في فصل (الدال) عن (مدلوله) وذلك بخلقه تعالقات تستند إلى المنطق استثنائي من طريق توجيه اللغة على نحو يجعل الدلالات الجديدة المتوخاة، تتبلور عبر فعل تضامني لتكافل وحداتها في نسق غير معتاد، من نحو: (أدخلُ اليوم في هيئةِ الحرفِ والحروف روح/ فرحاً مثل رأس يحدّقُ في المقصلة/ قلتُ للألفِ: أني بريء، (وللامِ اني أضيعُ وللألفِ واللامِ: انها المسألة) (ألف المعنى ـ ص 19)
إنّ الدخول ( في هيئة الحرف) لا يدلّ على حالة تماهٍ، كما قد يبدو من ظاهر القول، بين الـ(أنا) من جهة، والـ(حرف) من جهة أخرى، بمقدار ما يحقق تشاكلاً يتحد في نسيجه الاثنان معا على أساس أن المشترك الدلالي بين الاثنين متمثل في (الهيئة) بما تعنيه من تمظهر خارجي، دون تعد إلى ما وراء هذا التمظهر، إلى الجوهر الخفي، لكن هذا التخارج الذاتي (أنا ـ الحرف) يقابله تخارج موضعي آخر (الحرف ـ روح) يتم عبره نفي مسافة التعارض بين (أنا) و(الروح) إذ تنشأ بين الاثنتين علاقة حلولية ترسخ محايثة الأولى بالنسبة إلى الثانية..
*******************************
نُشرت في صحيفة العراق29 - تشرين ثاني 2000.
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 285 - 289