"شجرة الحروف" لأديب كمال الدين:
عندما تثمر الأشجار حروفاً
فرات إسبر
"شجرة الحروف" في حيرة تأخذني، تتراءى أمامي فيما ترمي إليه الحروف، حيث الشعر بوضوحه وغموضه. الشعر يشبه الماء من حيث خصائصه. تحتار فيه من حيث عذوبته، كمذاق مختلف وكأننا على ضفاف نهر واسع من اللغة والمعاني. معجم حروفي تتلاقى فيه-الأخوات الحروف- لتثمر في حديقة أديب كمال الدين القصيدة :
أخذوا النونَ واستووا عليها
فكانت لهم مركباً طيّباً
ولي سندباد خوفٍ ونارٍ وموجٍ وتيه
وأخذوا الجيم
واغتالوا شبابها في توابيت من خمر
وتوابيت تنضحُ ماءً
يمرّ من تحت قدميّ المذعورتين
وأخذوا الشين
صارت بأيديهم أساطير من ذهب
ودَوَلاً من سوادٍ وخوف.
............
باسمكَ أيّها الرأس المثقل بالأسى والحروف
نؤسسُ مملكةً للحتوف
سنرقصُ فيها على الطبل
ونترككَ في عطشٍ ترتجف
في جلالٍ ونورٍ تموت.
من قصيدة: "شطحات النقطة ".
في هذه المجموعة نلاحظ كيف يستخدام الشاعر حروفه. استخدمها في دلالات وصور ومنحها الحياة بالوصف والتعبير عنها واستنطاقها بأفكار جميلة وغير مألوفة مفجّراً فيها المعاني بشكل فريد من الغرابة والجمال كاشفاً سرّه بها وسرّها به. يقول:
النون هي النون
فلا تضعوا على لساني
كلماتٍ لم أقلها
ولا حروفاً لم أعرف سرّها ونجواها.
النون هي النون.
من قصيدة: " توضيح حروفي".
الكتابة الشعرية عند أديب كمال الدين هي نوع من الكشف، الكشف الشاق عن مكامن الألم، الألم الذي يغلّف النصَ والرؤية، الألم المعاصر لتاريخ قديم تعددت فيه الصور والذكريات. تاريخ لم يترك لنا سوى حاضراً ممزّقاً بكلّ ما نراه اليوم.
ولعل الشعر هو النديم الذي يخفف وطأة هذا التاريخ الذي لا نستطيع الخروج منه، ولو خرجنا منه وقفنا على حافة اللا تاريخ. وها هو اليوم يظهر من جديد في ثياب بغداد:
تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم
تعبتْ وبكتْ
وحين طلبتْ جرعةَ ماء
أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح.
ويتابع بحسرة الشاهد على تاريخ يُذبح:
بغداد هاجمها كلُّ ذئابِ الكون
نهشوا وجنتيها، شفتيها،
نهشوا ثدييها ويديها،
بالوا في دجلتها
حين رأوا دجلة
تتألقُ في الشمس
وحين رأوا فيها مئذنةَ الحرفِ الذهبية
تمتدّ إلى ما شاء الله
مارسوا فنَّ التفخيخ
وفنَّ القصف
وفنَّ الرجم
وفنَّ الذبح
من قصيدة: "بغداد بثياب الدم".
يمكن قراءة تجربة أديب كمال الدين من عدة محاور، فالدارس والمتتبع لهذه التجربة
وما لمسناه من مجموعة الآراء التي كُتبت في الصحافة العربية والإشارة إلى الفن
الجديد الذي يمارسه الشاعر في طريقته الشعرية الجديدة من خلال علاقته باللغة التي
يحركها كما العدسة ويرسم بها الصورة، فتلعب الكلمة - الصورة ، ما تلعب به عدسة
الكاميرا بلغة تكشف أسرار المعنى بكل ما يعطيه الشاعر من بعد للتأمل في مخاطبة
الآخر والذات.
يقول في نص "ممتع، غريب، مدهش!":
* ما اسمكَ أيها الشاعر؟
- اسمي الطائر.
* وبعد؟
- السمكة.
* السمكة؟
- نعم.
* ذلك ممتع!
* ما لون البحر أيها الشاعر؟
- السفن والنساء.
في الشعر لا تجفّ المعاني بل تأخذنا كنهر، ونقطفها ثماراً. والنضج وحده يمنح الثمار طعمها الخاص. وهذا ما نلحظه في تجربة الشاعر الذي غادر العراق إلى منفى مترامي الأطراف عبر محيط ممتد بعيداً عن بغداد الشعر والشعراء، بعيداً عن بغداد بمدارسها المتعددة، مدارس الكوفيين والبصريين ومدارس النحو التى كانت بغداد فيها نجمة الدنيا وعود الريحان. حبذا لو تعود كما كانت وكما يراها أبناؤها بأشعارهم وحبهم لها بعيداً عن الخراب والدمار، بعيداً عن الفتن والطائفية. حبذا لو عادت كما يحلم الشعراء حروفاً تزينها النقاط.
مجموعة الشاعر هذه صدرت عن دار أزمنة، ولوحة الغلاف للفنان ستار كاووش، وتحتوي على أربعين نصاً شعرياً تتلاقى فيه النقاط بالحروف لتشكّل لوحة الشاعر الشعرية بجديد ألوانها وحروفها.
***********************
نُشرت في صحيفة الأهالي بتاريخ 6 شباط- فبراير 2008
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة