النهايات في مجموعة "شجرة الحروف"
جمال حافظ واعي
سؤال النهايات وخريف المصائر ذلك ما اختزنته ( شجرة الحروف ) وهي المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر أديب كمال الدين. فما نحن إلا نشيد العدم المؤجل في حروف الشجرة، شجرة الوجود والسلالات والأسئلة والمراثي وهي كينونة الشاعر وحيرته، ذلك النشيد المبثوث في أنساغها وتضاعيفها. فالحروف سدنة الأزمنة وسردياتها الكبرى، الشاهد الذي يتأمل الخلائق وهي تروج لذبولها، هو درسها الأول والأخير. إنها الرائي الذي يزيح الغبار عن مرويات التاريخ ويتقصى الأثر المطمور بصرامة الاركيولوجي لتتكشف له القرون.
تبتدئ قصائد المجموعة بقصيدة (وصف) التي تُساءل النهايات وهي مهداة إلى صديقنا المشترك الناقد صالح زامل، والقصيدة حوار موجع بين الكارثة التي حلّت بالناقد وفقدانه لعائلته في العراق وبين الحزن الكوني الخالص الذي يمتد من يعقوب عليه السلام حين ابيضت عيناه من الدمع حزناً على يوسف إلى البراءة المقتولة في هذا الزمن:
"هكذا في دمعة واحدة
اضاءت له الدنيا جميعاً
فاحتار الشاعرُ كيف يبدأ، كيف يقول
ثم رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلاّ."
ص9
فإن تستبق النهايات لا يعني أنك تستقدمها اليك والحلوى التي تقدمها لك الحياة - الذهب وبريقه - هي رشوة لاستبعاد العقل. صور مشوهة ترتب ألبومها وتمنحك ذواتها المتداخلة وعليك أن تتقبلها على انها حياتك!! لكن الشاعر، مأهولاً بتراجيديا النهايات وما تبثه شجرته الحروفية، يروي لنا تفاصيل ذلك الاجترار التلقيني الذي هو في أرقى تحولاته نسخ للتكرار، فعقل النهايات لديه وقفة تخاطب العدم. ورغم أن الحياة تفتح أذرعها هنا، في المكان الذي يحيا فيه الشاعر - المجموعة كُتبت في أستراليا في عامي 2006 و2007 - في تلك البقعة التي تنمو خارج سطوة المحددات لكنه ينأى عن التزاحم اليومي مستظلاً بشجرة حروفه يتأمل الحياة من مرقابه (( ورأسه الذي يعيشُ بشغفٍ عزلةَ العارفين ص62 )) تاركاً الآخرين في جنون احتدامهم! فهو ليس ملفّاً من ملفّات الحياة الجاهزة لكي يضيع في أدراجها المتداخلة أو يكون قابلاً للاستعادة متى ما تذكرته الحاجة. إنه يمارس التمرين القاسي على وجوده من أجل أن لا تستهلكه اللافتات المشاعة:
يقول الشاعر في قصيدة (( وقال الذي )) :
"وقالَ الذي عنده شيء من السرّ:
إنّ الذي ضيّع نقطته
عند نهر الفرات
لن يجدها عند المحيط: أيّ محيط
وعند الخليج: أيّ خليج.
وقالَ الذي عنده شيء من الحرف:
إنّ الذي ضيّع حرفه
عند نهر المحبّة
لن يجد حرفه بعدها
عند أيّ محيطٍ أو خليج.
وقالَ الذي عنده شيء من العشق..
وقالَ الذي عنده شيء من الروح..
وقالَ الذي عنده شيء من السحر..
وقالَ الذي عنده شيء من الذي عنده شيء..
ثم جاءَ الذي عنده شيء من الموت
فقالَ قولاً يسيراً
قالَ: ميم، واو، تاء.
فانتهى كلُّ هذا الهراء
في هدوءٍ غريب!"
ص113 – ص114
عندما يولد الإنسان يكون في شيخوخة الموت كما يرى هيدجر وقد سبقه إلى ذلك الإمام علي عليه السلام عندما قال : نَفَس المرء خطاه إلى أجله. أي أنك في اللحظة التي تستنشق فيها الهواء تتسرب اليك حروف المحو وتتوطد في سجلات الإقصاء والغياب، وثنائية الحرف في هذه الشجرة هو ظاهرها الذي يلوح لك مُستقبِلا وباطنها الذي يودعك!
فأية لحظة تلك التي ينبغي أن تستأنفها وأنت محض خاتمة مرجأة تستغفل نهايتها بالنسيان؟ سيرة النهايات هي ذاتها سيرة الجسد السائر إلى حتفه، ذلك التتويج الحافل هو شهقتنا الأخيرة في براري الأيام، اللهاث والتدافع وفوضى المثول واحتشاد الحواس كلها لحظات مخدرة لمواصلة ركضة اللاجدوى. الوهم مرصدنا الكبير وكلّ ما نراه يفلت منه مهما ادعينا حيازته:
" نعم
كلُّ شيء سينقلب إلى تراب
وسيبقى ، أيضاً ، القليلُ من التراب."
ص18
أو :
" فذهبتِ أنتِ وردةً حمراء إلى الحياة
وذهبتُ أنا طائراً أبيضَ إلى الموت."
ص52
النهايات في شجرة الحروف قصد منتزع وعبثاً تحاول تفاصيل الحياة أن تلحق نفسها به، فهذه الحروف لا تخلق فرصة لمتعلقات الوجود لكي تتعثر بها طالما أن الحياة تعضد ملاحقها التي صنعت في غفلة منها من أجل تبرير هذا الوجود.
فمن ذا الذي يعيد البهجة لحروف الشجرة ومن يعيد الحياة إلى حرف الـ ( ن ) الذي خسر نقطته في احتفال جنوني وهو يصرخ بكلّ فجائعية الفقدان:
"واأسفاه
سأبقى مثل ذراعين تائهتين
دون نقطة أعشقها وأعبدها كلّ يوم."
ص77
حتى الشمس حين يحدّق إليها الشاعر، وما تستدعيه من محمول قرآني، يراها توطئةً للنهايات:
"ونظرتُ للشمس
فاذا هي نقطة من دخان."
ص77
***************************************************
شجرة الحروف - شعر: أديب كمال الدين - أزمنة للنشر والتوزيع- عمان، الأردن 2007