أديب كمال الدين : طرق على باب القلب واللغة
عبداللطيف الحرز
في ديوان: (تفاصيل) وتحت عنوان :(قصائد صغيرة) قال أديب كمال الدين:
{ما نفع الأشعار
إنْ لم تأخذ بيدي؟}
فإلى أين أخذ الشعر بيد هذا المثقف بعد ما يقارب الألف صفحة من الكتابة وبعدما يناهز الثلاثين عاماً من مواصلة لم تنقطع في مساءلة الحرف ومساجلة النقطة؟! إلى أين وصل الشاعر الذي بدأ بـ (تفاصيل) التي كتبها في الوطن عام 1976 وانتهى بـ (ما قبل الحرف... ما بعد النقطة) التي كتبها في المنفى عام 2006 ؟!
أديب كمال الدين علامة مميزة في التجربة الكتابية لأجيال ما بعد السياب، حيث انها تجربة نأتْ عن كتابة النص المفتوح وطلاسمه وتنحّتْ عن هلاميات انشائية راحت تدافع عن فقرها بتنظير حول قصيدة النثر كقناعٍ تستّريّ، لكن من دون أن يعني ذلك التخلص التام من كل ذلك بكل تأكيد. لكن من المؤكد أيضاً اننا مع أديب كمال الدين أمام أسلوبية خاصة تصل الى حد الفرادة التعبيرية، رغم أن القصيدة لو أخِذَتْ كأجزاء متفككة مثل استخدام الأسطورة الشخصية والومضات السريعة والجمل القصيرة وإدخال أسلوبية الحوار وتعدد الاصوات، لوجدناها عناصر سبق أن استخدمها ويستخدمها الكثير من الشعراء، بيد أن فرادة أديب كمال الدين هي في طريقة المزج من جهة وجعل هذه العناصر أصواتاً كاشفةً عن خبيئات الحرف والنقطة.
لكنْ إذا كان الشِعر هو في الأساس وبدءاً وختاماً عبارة عن تفعيل لغوي، فأيّ معنى ياترى لترك الجملة والكلمات وترحيل القصيدة صوب الحرف والنقطة؟!
هنا نفهم بأنه اذا كان للشعر عموماً جمهوره الخاص فإنّ التجربة الخاصة شعرياً تتطلب جمهوراً أخص. فاذا كان الشعر مردّه الى نوع من أنواع الخطاب فهو بالتالي يتطلّب نوعاً من أنواع المتلّقي، وهو أمر بالتأكيد يحلّ الكثير من معضلة جدل الشِعر والجمهور تجاذباً أو بؤساً . لكن ماهو الحرف، وما المقصود بالنقطة؟ يطلق الحرف ويراد منه العبد، وقيل بأنّ أصل الحرف هو العبد ثم استخدم للاصوات ورموز الكلام والكتابة لكونها تؤدي خدمة ايصال المعنى .وبهذا يتضح قول الخليفة الرابع علي بن ابي طالب :{ مَن علّمني حرفاً ملّكني عبدا} وذلك بتشديد كلمة (ملّكني) أي أعطاني وليس المعنى بأنه هو الذي ملكني أنا وأصبحتُ ملكاً له . طبعاً تصح قراءة التخفيف على ضوء مدرسة التفكيك الحديثة وتنظيرات الخطاب والصوت المعاصرة . أما النقطة فيتوهّم الكثير بأن المقصود منها هي هذه القطرات الصغيرة فوق الحروف في حين المقصود من النقطة هي نقطة الحبر في بداية كتابة أي حرف وفي علم الخط نقول حرف الألف يتكون من سبعة نقاط (راجع : قواعد الخط العربي لهاشم محمد الخطاط ) وبهذا حينما نجد رواية تقول :{جُمِعَ القرآن في الفاتحة وجُمِعتْ الفاتحة في البسملة وجُمِعت البسملة في الباء وجُمٍعتْ الباء في النقطة، وأنا النقطة}. لابدّ أن يكون المعنى غير متعلق بقطرة الحبر التي نضعها اليوم تحت حرف الباء لكون هذا التنقيط وجد بعد فترة طويلة جداً من صاحب القول الذي ينسب اليه هذا الكلام وهو الخليفة الرابع والا فالرواية ستكون مكذوبة يقيناً . وإن كانت هناك نصوص ممكن أن تدل على انسياق الشاعر خلف الفهم الشائع الاّ ان نصوصاً أخرى ممكن أن تثبت عكس ذلك كما هو حال نص (صيحات النقطة) في مجموعة ( ما قبل الحرف ..ما بعد النقطة ) حيث يقول أديب كمال الدين :
{ قال الحرف :
لم أعد من نفسي بعد
ضعتُ في نقطتها القاسية
وتضاريسها المليئة بصور الموت.
لم أعد من نفسي بعد
فلِمَ كلّ هذه القصائد الوحشية بانتظاري ؟}
أو قوله في ص 31 من المجموعة ذاتها:
{مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء
ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة
بعد إن قيل لي أن كلّ الباء في النقطة}
إنّ نص أديب كمال الدين هو عبارة عن بذل الشعر تحرّياً لإصطياد المعنى، لكن بما أنّ (المعنى) بمطلقيته وعموميته لا يكتنف الاّ ضمن أحجية الوجود فستكون كلّ ممارسة شعرية في التحرّي من هذا القبيل هو مسعى نحوالحكمة والاستكشاف لما هو صالح كموقف في الحياة لها أو بالضد منها . بيد ان ذلك الى ينتهي بالشعر الى أن يكون فلسفة خالصة أوإشارات حكمية فالوجود بهذا الشكل هو في النهاية نشاط لغوي ، إذ أساساً: {الوجود الذي يمكن أن يُفهم هو لغة} حسب تعبير (غادمير) فنحن إذ نستوعب موقفاً للوجود أو الحياة، فإننا في واقع الأمر نكون قد اتخذنا موقعاً ما داخل هوية اللغة وإجراءات التعبير. وهذا ما سوف يسعفنا في مقاربة تجربة الوعي الشعري لدى أديب كمال الدين بكونها نصوص يقظة عقلياً للوجود والموت والحياة والطبيعة وكل ماهو عام، وليس محض قول شعري يبتهل به الكاتب بأن يكون ترويحاً للذات أو تعبيراً فردياً لها عساه يكون خلاصاً . في ص22 من مجموعة ( ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة ) يقول أديب كمال الدين :
{ قالت النقطة :
انظروا إلى هذا الأرعن الذي ملأ
عليّ الشارع
ضجيجاً وصراخاً.
وقال الحرف :
انظروا إلى هذه الخائنة التي سرقت
قلبي وفلذة كبدي
وتركتني أنام على الرصيف.
صمت الناس
أعني الكلمات
صمتت الكلمات
أعني الناس} .
فإذن ماعساه يكون الاّ الهروب من نوع هروب بومة مريفا رمز الوعي الحكمي ذاك الذي يترك الكلمات ويتشبث بالحروف بحثاً عن معنى النقطة ؟! فإذ لا كلمات لاناس هناك وبالعكس . بيد أن الكلمات لا تمثّل الجسور الرابطة مابين الناس والناس فمَن يتركها يقع في الاغتراب والهجرة والاعتزال بل الكلمات هي أيضاً حمولات المقولات العقلية ، من يتركها لابد أن يختار أحد السبيلين : الأول: الانتماء الى مدرسة تقول بأنّ الفهم ليس احتكاراً عقلياً بل العقل هو أحد وسائل المعرفة والاّ فإنّ المعرفة أوسع من ذلك بكثير أو بتعبير الفيلسوف الالماني هيدجر : إنّ التفكير لا يبدأ بذلك الاّ متى جربّنا أن العقل الممجّد منذ قرون هو الخصم الأكثر عناداً للفكر }.الثاني : الانتماء الى كون العقل محبساً إنسانياً وان الخلاص يقع في نقيضه أي في الهذيان والجنون ولذة التلاشي. ونحن عند تتبع نصوص أديب كمال الدين نجد كلا الاتجاهين له حضور وافر في هذه التجربة الكتابية ، يقول ص 54 من مجموعة ( ماقبل الحرف ..مابعد النقطة ) :
{حبيبتي المغربية
لها باء غير باء البسلمة
ولها حلم من جنونٍ مؤكّد
أحتاجه مثلما أحتاج إلى حبّةٍ من هواء.
*
أحتاج هنا إلى أبجديةٍ من معاول
أبجديةٍ من سكاكين
إلى أبجديةٍ من هذيان مركّز
ونزيف مؤكّد}
و في ص 55 يتمنى العروج صوب مدن اللامعقول من برابرة وسحرة فيقول:
يا الهي {
أحتاجُ أن أطير بجناحي نسر وعينيّ صقر
من قارةِ الكنغر الوحشي
إلى قارةِ البرابرةِ الناعمين
من قارةِ دخولِ المعنى في اللامعنى
إلى قارةِ السحرالأسود
*
أعنّي إلهي
فقصيدتي المغربية تومضُ لي
أنا نقطة ُالمعنى
أنا نقطة ُالغرباءِ المحرومين
أنا نقطة ُجنونِ الشاعرِ و هذيانه المرّ
*
أنا نقطة الجنون الأبهى }
نعم بعض الأحيان يرفدنا أديب كمال الدين بتعليلٍ ليس بفلسفيّ ورؤية وجودية في الاختلاف ما بين الشاعر وسواه، وانما هذه العزلة والافتراق هو عزاء الواقع الاجتماعي الفاسد ومعضلة المحنة السياسية المستمرة مثلما يقول بوضوح ص 73 من مجموعة ( ما قبل الحرف ..) :
{لم يعد الشعرُ قادراً
على مجاراة ما يجري
فالواقع تحوّل إلى مزحةٍ سوداء
يرددها كلّ دقيقة عقربا الساعة
دون أن ينظرا إلى الخلف
أو إلى الجمهور}.
ولكي يترك الجمهور لابد أن يترك الكلمات ويكتب عن الحرف والنقطة لكون الكلمات هي الناس. بيد أن أديب كمال الدين له صداقات واسعة وعلاقات ممتدة مع محيطه الاجتماعي ، وبالتالي فليس هو بمدّعٍ في الاعتزال، لذا فهجران الكثرة قد يكون معلولاً للسبب الثاني: الاجتماعي والسياسي وليس لرؤية فلسفية، هذا ماتبوح به حالات الأسف والاحساس بوحشة الوحدة كحال نصه المعنون: (أغاني رأس السنة) في مجموعة (ديوان عربي) الصادرة عام 1981 :
{"لم يحضر أحد للحفلة"
فاجأني الخادم
في قمة حلمي،
فزجرته.
"لم يحضر أحد للحفلة"
فاجأني الشمع
في قمة فرحي
فنهرته.
"لم يحضر
أحد ....."
فاجأني الكأس
فرميته
"لم يحضر ...."
فاجأني حزني فصمتُ، نظرتُ:
لم أجد الخادم
من أين يجيءُ الخادم؟!
لم أجد الشمع
من أين يجيء الشمع؟!
وانكسر الكأس الفارغ.
ونظرتُ الحزن أمامي
يتضاحكُ، يفتتح الحفلة!}
والشاعر المكثار من ذكر البحر يخاف أن يكون الختام عزلة مطبقة كحوت ميت على شاطئ لا أقل ولا أكثر. هذه صورة البدايات التي بقيت راسخة لدى أديب كمال الدين في مجموعات نصوص عديدة ، تلت تصويره هذا الوارد تحت عنوان : (قصائد صغيرة ) في مجموعته الأولى ( تفاصيل ) الصادرة عام 1976 :
{ أخشى أن تسرقني أقماري السود
أخشى أن تتركني كالحوتِ الميّتِ عند الشاطئ
أقماري السود}.
وقد تكون هذه نوبة من نوبات التعب، حيث معنى الحرف غابات من الوحشة والانفراد كما هو حال الابانة الموجودة في ديوان: ( النقطة ) تحت عنوان ( محاولة في الموسيقى ):
{ حتى الحروف صارت تتعبني
فهي الوحيدة التي تزورني في وحشتي الكبرى
دون أن تحمل في يدها باقة شمس
أو حفنة قمر
أو قبلات ريش.}
فليس هنالك موقف قبلي وإنما محنة خارجية كما يوضّح ديوان (النقطة) أكثر تحت عنوان (محاولة في العزلة):
{بعد أن سقط الأصدقاء والأشقاء
في بحر الكراهية
ركبتُ زورقي متجهاً إلى بحيرة دمي
مجاذيفي الحروف
ووجهتي النقاط
يتبعني جمع من النونات}.
لكننا سنوضّح في الفصل اللاحق انه لابد الى حد الضرورة من وجود موقف قبلي مسانخ مع مغايرة النقطة وانفصالية الحرف والتي تقتضي الخروج بنمط مغاير للجموع سواء في رؤية النص أو التعامل مع الحياة .
بهذا بات لدينا حسب النص التعبيري لأديب كمال الدين ، منجزان : منجز يتمثل بالنقطة بكونها نوع من المقذوفية بوجه لغة الكلمات . ومنجز يتمثل بشخص الشاعر بكونه نوع من المقذوفية بوجه حشد الجماعات . لذا تراه يقول في مجموعة (ديوان عربي) تحت عنوان (مقابلة ثانية) :
{ في الليل الأسود
يتحدث هذا القلب الغامض
عن حرف
استلقى فوق فراش الأرض وغطّى
عينيه بقبعة الحلم البيضاء
عن حرفٍ ممتلىءٍ بأنين الأشياء
عن حرفٍ محترقٍ مجنون.}
فهناك احتراق لقلب فردي يتحدث عن حرف يتلمّس به معنى الأشياء عامة وكليّا .ومن كلا المنجزين ينزاح وعي فردي واقعي وكتابي (=الشاعر ونصه) بكونه محاولة في دمج ماهو لغوي عام بماهو واقعي فردي ، فكانت النقطة مرآة تمثيل لمعاناة الشاعر وقصّ تفاصيل حياته ويومياته . في ص 155 من مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) يوثّق الشاعر حواراً أُجري معه، فيردّ ضمن الحوار التصريح: {لقد عمدتُ في قصائد مجاميعي الشعرية: (جيم)، (نون) ، (أخبار المعنى)، (حاء)، (النقطة) وكذلك في قصائدي الجديدة الى إجراء حواريات بين هذه المستويات التي يمتلكها الحرف وخلطها أحياناً لاستخراج تركيبات جديدة من المستويات أو استخراج مستويات جديدة في الصور الشعرية أو معناها الملغّز . إنّ هذا الحوار أو هذا الخلط أو التركيب سيؤدي الى كشف مستويات إبداع شعري تندمج فيها طفولة الحرف بطفولتي وطلاسم الحرف بطلاسمي ورموزه برموزي وقناعه بنقاعي وإيقاعه بإيقاعي وأساطيره بأساطيري ، وهذا برأيي أقصى عناوين الشعر. }
هنا يجري استبدال طريف، فبدل أن يكون الشِعر هو قناع للشاعر كما هو الدأب المعروف يكون الشاعر قناعاً للشِعر، حيث يتم جريان لقاء تبادلي بين الضفتين: يتلابسان ويتمازجان فيكرّس المخيال الشعري لبناء عوالمه الفنية في مساحات ما قبل العقل وما بعد الجنون، وما قبل الحرف وما بعد النقطة . وهكذا يكون أديب كمال الدين قد حقق نوعاً من أنواع المكر الكتابي الذي هو باب أساسي من أبواب التعبير الفني والجمالي ليس في الشعر وإنما في المشغل الفني ككل.