أديب كمال الدين:
حوار : محمد محمد السنباطي
[في كينونتي
أعني في ارتباكي الكبير
ثمّة حرف
وثمّة نقطة.]
بعد صدور المجلد الخامس من أعمال شاعر العربية الكبير أديب
كمال الدين، والذي له سموقه ورفعته، وتجربته ورؤيته، وعشقه
للحروف، وتفانيه في الجري وراء غزالاتها، واقتفاء آثار
نعاماتها، بل وقبل صدور المجلد الخامس بأزمان، أخذني شوقٌ
لمحادثة شاعرنا، والوقوف على شاطئ عطائِهِ السَّخِيِّ حرفًا
ونقطة، تنفسًا ووميضَ عين، هو الذي يبدو وكأنما يكتب ببساطة،
لكنه ينكوي بنار تَفَرُّدِهِ جَريًا في قيظِ الرمال الصحراوية،
ومجاراةً للسيولِ الجبلية تنشره وتطويه حتى لكأنه بعضٌ من
دفقها الكاسح. لا أزعم أني قرأتُ كلَّ أشعاره فما أصعب ذلك على
قارئ مثلي. تحتاج قراءة شاعرنا إلى التأنِّي واعتناق المُراوغ،
والصبر لدى فَكِّ الشفرات. الحرف والنقطة، شجرة الحروف،
الأصابع التي هي الحروف، الحرف والغراب... الخ الخ. غامرت ذات
سرورٍ وحَلَّلْتُ قصيدتَهُ (البحر والمرآة)، ثم ألقيت بنفسي في
خضم مجموعته التي ترجمها وقدم لها المترجم التونسي ناجح بغام
"الحروف وقطرات الحب"، فقرأتها بعربيةِ الشاعر العذبة،
وبالفرنسية الموسيقية التي تُرجِمَت إليها المجموعة، فكانت
وجبةً شهية أترعتني بفرحٍ جميل.
وفي نهاية القرن التاسع عشر انشغل الشاعر الفرنسي آرتور رامبو
بالحروف، وخاصة المتحركة، والتي تحل محل الفتحة والضمة والكسرة
في لغتنا العربية، فألبسها ألوانًا اختارها لها، وسمى الحرفَ
الأولَ منها وألبسه اللونَ الأسودَ، والثاني الأبيض، والثالث
الأحمر والرابع الأخضر والخامس الأزرق. معلنًا أنه سيعلن ذاتَ
يومٍ عن ميلادها الكامن: فأما أولها وهو الـ
A
فـ "كُورسيه" مخمليٌّ من ذبابٍ لامع يطنُّ حولَ عفنٍ وَحشيٍّ
وخلجانٍ من ظلال. وثانيها الـ
E
طهارةُ الأبخرة والخيام، رماح ثلوج متغطرسة، ملوك بيض، رعشةُ
أزاهيرَ خيميةٍ. والثالث
I
أرجوان، دم مبصوق، ضحك شفاهٍ جميلة في الغضب، أو في السكرات
النادمة. فإذا ما انتقلنا إلى الحرف المتحرك الرابع
U
فهو دوائر، واهتزازات قدسية لبحار اخضرارية، وسلامُ مراع
مبذورة بالحيوانات، وسلام تجاعيد تطبعها الكيمياء على الجباه
المجتهدة العظيمة. فإذا ما وصلنا إلى الخامس
O
وجدناه بوقًا ساميًا، متخمًا بصريرٍ غريبٍ، وصمتٍ يعبُرُهُ
بشرٌ وملائكةٌ، بل هو "أوميجا"، شعاع عينيها البنفسجي.
فإذا ما رجعنا عبر الزمن مئات السنين ووصلنا عند الشعراء
الصوفيين المشهورين لوجدنا اهتمامًا جليًّا بالنقطة والحرف
وإلباسهما ثوبًا حلوليًّا ربما، بل وقام شعراء عاديُّون بإعطاء
الحروف قيمة عددية فصار كل حرف يقابل رقمًا حسابيًّا استخدموه
للتأريخ في أشعارهم، لكن الجديد هنا ربما هو أن أديب كمال
الدين يؤنسِنُ الحرف والنقطة ويجعل الناس كلمات، بل ويتهم
النقطة أحيانًا بالخيانة، تلك التي تركت الحرف يبكي ويصرخ
ويولول وسط صهيل الكلمات، أعني وسط صهيل الناس. (ضجة في آخر
الليل. الموسوعة العالمية للشعر رقم القصيدة 79909)
والآن، أسمح لنفسي أن أبدأ بسؤال يشغلني كثيرًا وهو: هل للحرف
دلالة خاصة به دون أن يَدخلَ في حيز كلمة؟
أو بصيغة أخرى: هل ترى في الحرف اختصارًا لكلمةٍ أو جملةٍ أو
فكرةٍ أو بَريق فيقف الحرف منفردًا شاهرًا تجلياته؟
* تستمد
حروفيتي أصلها وسرها ومعناها من القرآن المجيد.
فالحرف
العربي
حمل معجزة القرآن المجيد ولا بدّ لحامل المعجزة من سرّ له، كما
أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في بداية العديد من السور
الكريمة وكان في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي يُضاف الى سرّ
القرآن المجيد نفسه. وإذن فمِن
القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم
بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي
واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء
والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم
وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ
التوحيد والمحبّة والسلام واحترام الآخَر وعدم تحقيره أو
الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب
وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية
والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف
الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية
ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم، لكنني حين تأمّلت
في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت أكثر من أربعة عقود،
ولم تزل متواصلة بحمد الله، وجدت أنّ للحرف العربي ما يمكن
تسميته ب(المستويات). فهناك المستوى التشكيلي، القناعي،
الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي،
السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات
من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع،
وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات
تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف
عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني
للنهاية.
لقد نشأت حروفيتي في بغداد نهاية السبعينيات وكانت مجموعتي
الحروفية الأولى (جيم) ثم (نون) ثم (أخبار المعنى) ثم (النقطة)
ثم (حاء). وحين وصلت إلى أستراليا واصلت مشواري الحروفي
وعمّقته فأصدرت (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) ثم (شجرة
الحروف) ثم (أربعون قصيدة عن الحرف) ف (أقول الحرف وأعني
أصابعي) ف (مواقف الألف) ف (الحرف والغراب) ثم (إشارات الألف)
ثم (رقصة الحرف الأخيرة) ثم (في مرآة الحرف)، وأخيرا أصدرت
(حرف من ماء) ولله الحمد. كما أصدرت أعمالي الشعرية الكاملة في
خمسة مجلدات.
- وماذا عن النقطة التي هي مركز العالم في الفكر الصوفي؟ وهل
هي القطرة في مجموعتك "الحروف وقطرات الحب؟"
*
إن النقطة بلغة التصوّف هي الكينونة ومركز الكون والعالم
الأكبر. هذه هي النقطة كرمز صوفي. لكنني انطلقتُ إلى استخدامات
أخرى عديدة للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط، فبدت النقطة في
الكثير من قصائدي مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد
ومركزاً للرؤيا. إنّ ما يميز تجربتي الحروفية عن الاستخدام
الصوفي الحروفي القديم هو أنّ هذا
الاستخدام كان ذهنياً على الأغلب، وأحيانا طلسمياً لا يفهمه
إلّا خواص الخواص. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله شعرياً عبر
الصورة المجسَّدة، ذلك أنّ الذهنية برأيي هي أشد أعداء الشعرية
ضراوة. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب هذا الاشتغال مُشاعاً
للكلّ دون أن أفقد الخواص ولا خواص الخواص. وفي ذلك يكمن
التحدي الجمالي: الشعري الفلسفي لتجربتي الحروفية. أما الحرف
فهو في شعري يظهر بصور شتّى وهيئات لا تُحصى فهو العاشق
والمعشوق، والملك والصعلوك، والدليل والتائه، والحكيم والضائع،
والزاهد والشهواني، والعارف والخاطئ، والوليّ والمُهَلْوِس،
والذاكر والناسي، والمتأمّل والمعربد، والشيخ والطفل، والرجل
والمرأة، والصوت والصدى، والروح والجسد، والسلام والحرب،
والجلّاد والضحيّة، والبعيد والقريب، إلخ.
- حتى أصابعك سيدي عَنَيتَهَا حين قلتَ الحروف، فهل ثمة تفسير
لذلك؟
* إنه الاندماج الكامل بين الشاعر وحرفه حتى أصبح الشاعر حرفا
والحرف شاعرا!
وتحضرني هنا
مقولة متميزة للناقد والشاعر الدكتور عبد الإله الصائغ عن
خصوصية استخدامي للحرف،
نشرها في دراسة نقدية له ضمها كتاب (الحروفي: 33 ناقداً يكتبون
عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية)، إعداد وتقديم الناقد د.
مقداد رحيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان
2007 . أذكرها لعمقها وطرافتها ولطفها. يقول الصائغ: استطاع
أديب كمال الدين خلق شعريته الخاصة
من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن
النقطة !فأنت لا
تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وإنما تقرأ الحرف كما
يراه الشاعر!وليس
ثمة سوى التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف
ثالثة في فضاء لا نهائي تتوحّد فيه الأصوات والمرئيات
والمشمومات والمجرّات والحبيبات حتّى يعسر وضع
حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع
شديدين عالم القصيدة والقصيدة
أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ
مجموعته "ديوان عربي"! يمكن للقصيدة
هنا أن تطوِّع عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كلّ مفردات
القصيدة وأعني كل مفردات
التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن
بطقوس الرؤية لدى الرائي!
الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك!
القتلة حروف والمقتولون
حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك!
الثنائيات حروف الليل والنهار،
الموت والحياة، الإبداع والاتباع! ليس ثمة مشكلة على مستوى
الرؤية! ولكن كلّ
المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد
محسوساً! أن تؤنسن مفردات
الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!! أن تتصبب
عرقاً وأنت تكابد موسيقا
الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك
وأن تدخل وعيك بمجذوبيتك!
أهذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن الانتماءات
المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لا شيء
يشغل بال القصيدة
عند أديب! لا شيء يشغل باله يقيناً! نعم المتلقي قارئاً سامعاً
لا يشغل بال القصيدة عند أديب. تجنيس
القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو
الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية
حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته.
- تُعَبِّرُ شاعرَنا الجميلَ عن كينونتك بـ "الارتباك الكبير".
أليس هذا ضجرًا وقلقًا وجوديًّا، بينما الصوفية وهي تترسخ
بداخلك قوامها السكينة والطمأنينة؟ وهل يمكن لروح الشاعر أن
تحتضن المشرق والمغرب وتروِّض قاموس التناقضات؟
* هذا سؤال مهم لأنه يناقش رأيا مقبولا حد التسليم عند
الكثيرين في أن التصوف هو وصول إلى الطمأنينة! لكن الحقيقة غير
ذلك: التصوف برأيي هو محاولة إلى الوصول إلى الطمأنينة! لأن
هذا الوصول صعب
إلى الطمأنينة المطلقة وتحقيقه عسير دون شك. انظر
إلى النّفّري شيخ التصوف الأكبر وما كتبه في المواقف
والمخاطبات تجد بوضوح أن
الرجل يقول الشيء ونقيضه. الشيء ونقيضه دون زيادة أو نقصان!
إنه كمن يصطاد سمكة عظيمة حتّى إذا فرح بها، وفرح بها مَن
رآها، انزلقت فعادت إلى البحر أو النهر فذُهِل القائل ودمعت
عينا الرائي.
نعم، ذُهِل القائل الذي سيسارع ليقول نقيض ما
قاله سابقاً. وذُهل الرائي حتّى أكله العجب فهو لم يرَ سمكة
بهذا الكبر تُصطاد ثم بسرعة تنزلق إلى الماء، وكأنّ مَن أمسكها
كان عاجزاً لا يمسك شيئاً أبداً. ثم يعيد النِّفَّري المحاولة
ليقف في موقف جديد أو في مخاطبة ثانية أو في رؤية ثالثة ليصطاد
سمكة أكبر من السابقة، سمكة تتلألأ تحت ضوء الشمس بندرتها
وجمالها ونشاطها، ولكن لن يكون مصيرها الاّ كسابقتها. فأيّ حظٍ
سعيد هذا وأيّ خيبة مريرة؟ هكذا كانت تتشكّل مواقف النفري
ومخطباته لتمّحي، وتكبر لتنهار، وتنمو حتّى تكون عمارة ثم
تختفي، وكأنّ الكلام في كلّ ما سبق وقيل لم يُقل البتة.
- [النون هي النون
فلا تضعوا على لساني
كلمات لم أقلها
ولا حروفًا لم أعرف سرَّها وَنَجوَاها]
وقد قدمت المجلد الثالث من أعمالك بالآية الكريمة (ن، والقلم
وما يسطرون) سورة القلم الآية1
ما دلالة حرف النون عند أديب كمال الدين إن جاز لي أن أسأل
شاعرًا عن دَلَالَاتِ خَوَافيه؟
*
كان الحرف
ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية لكن الوصول اليه
لم يكن سهلاً البتة
لكنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في
حضرته حتى الهيام والتماهي. ثم تعرّفت إلى أسراره فكانت
(النون)
هي نون النص المقدس، ونون النسوة، ونون بهجة المحبّ وحليب
العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك.
وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب
والدم لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ
الأعظم وفيها الطلسم
الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه
الذي لا يعرفه سوى
الخواص وخواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية
والحنان دون شك، لكنها
حاء الحرب والحريق والحقد، قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم
الجبار الذي
يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.
ثم توالت عندي بقية الحروف كالميم والشين والسين. متوالية
الحرف عظيمة لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي
هذا بعض العزاء لي بأن سكني في
لحاء الحرف وقلبه لم يكن عبثا.
لقد عالجت كوارث الدنيا وظلامها
الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى
لكن الظلام كان
مزمناً فصار عليّ
أن
أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم)
إلى (النون (إلى
(الحاء) إلى (النقطة) ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما
يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان
ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي
والذوبان. ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق
وتهيم وتجنّ
وتشطح وتشرق أبداً.
في قصيدة لي بعنوان (أقوال) منشورة في مجموعتي (أقول الحرف
وأعني أصابعي):
قالَ الحرفُ الحكيمُ للنقطةِ الشاعرة:
تعالي إليّ!
فأجابت النقطة:
بل أنتَ تعال إليّ!
قالَ الحرفُ:
إن جئتكِ عشقتك
وأصبحتُ ساحراً،
وأنا لا أحبُّ السِّحِر.
فأجابت النقطة:
إن جئتكَ ذبتُ فيك
وأصبحتُ نبيّةً،
والنُبُوّة لا تصلحُ للنساء!
فالحرف
كما أرى شبكة لصيد البهجة والألم العظيم. الحرف، قبل كل شيء،
سرّ عظيم لا يعرفه حق المعرفة إلا القلة. وكلما ازدادوا معرفة
به ازدادوا معرفة بالعالم، وكلما ازدادوا معرفة بالعالم
ازدادوا جهلاً بأنفسهم وبالشعر وبالحرف حتى!
- لكأن الحروف عندك هي حدائق بابل المعلقة حيث رأيتَ النورَ
أول مرة، فهل نَشَأَتْ غُربتُك أيضًا في مهدِكَ الوطنيِّ فوقَ
ترابِ بابلَ، أم كانت أستراليا مفجرة نبعِ الغربةِ فيك؟
* غربتي نشأت منذ صرختي الأولى وأنا أستقبل الحياة ببابل،
وسترافقني حتى آخر يوم من حياتي. فأنا أنتقلُ من بلدٍ إلى آخر
ومعي صرخة روحي: أسئلتي الكبرى عن مصير الإنسان في هذه الحياة:
ما الجدوى وما الفائدة؟ الناس في شُغِل عن الموت: سؤال الحياة
الأول والأخير وهم في شُغِلٍ عمّا ينتظرهم في ما بعد الموت، بل
هم في شُغِلٍ عمّا ينتظرهم بعد حين من الدهر، فهم أبناء يومهم
وأبناء ملذّاتهم ودنانيرهم ومشاغلهم اليومية البسيطة والساذجة
إذا ما قارنها بمسألة الموت الخارقة.
نعم، وأنا أنتقل ومعي، في الوقت ذاته، إحساسي العميق بالسحر:
سحر الجسد والبحر والشاطئ والجبل والصحراء والغابة. فتراني
أتأمل هذا السحر الذي يسمّونه الجمال بعين مَن يراه للمرّة
الأولى أو للمرّة الأخيرة. وبين رؤية المرّة الأولى للجمال
ورؤية المرّة الأخيرة يلعب القلب لعبته العجيبة: لعبة الشعِر
والحرف والحبّ والشوق العظيم!
أما أثر الغربة أو المنفى عليّ فكبير: كل ما أكتبه الآن هو شعر
غربة ومنفى! لكنْ ليس المنفى الجغرافي الذي أعاني منه فقط بل
المنفى الروحي والإنساني والثقافي والديني والصوفي والاختلافي.
مثل هذه المنافي لم تظهر فجأةً في أستراليا بل كانت لها جذورها
الشديدة الوضوح وأنا في العراق، منذ أن ولِدتُ فيه!
هكذا فأنا
أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها
على أية حال. وهكذا
أيضاً وبسبب من تعقيد المسألة وتجذّرها في الأعماق، فإنني
"وضعت" الغربة في "كيس"
خاص في جسدي. هل سمعتَ بحالة يعاني فيها
الإنسان من إصابته
بإطلاقة نارية لتستقر الرصاصة في جسده، ولأسباب كثيرة، في
مقدمتها رغبة الجسد
في البقاء على قيد الحياة، فإنه
يقوم ب"تكييس" أو "تلييف"
الإطلاقة فيحدّ من خطرها المميت ويحدّ إلى حدّ ما من آلامها الوحشية؟
لقد استقرّت الغربة-الرصاصة في أعماقي داخل كيس خاص. ما اسم
هذا الكيس الذي
أحاط بالغربة- الرصاصة وروّضها إلى حدّ ما؟ أهو
الشِّعر؟ أهو
الحرف والنقطة؟ أهو الحرفنقطة؟ المهم أن الغربة بمخاطرها
وآلامها تحت السيطرة حتى
الآن، ولكن ليس لدرجة التصالح
على الإطلاق!
- للصوفيين سلوكهم الروحي الذي هو منهاج حياة، ولهم لغتهم التي
وكأنما يمليها عليهم ما يشبه الوحي وإن لم يكن وحيًا، هو وحي
معاناتهم الجسدانية والروحية، وتلطمهم في بحر قهر الجسد
وحرمانه حتى يمكن لسراج الروح أن يبرق وتتوهج جمرة النار فيه.
قولهم يتلفظ به جرحهم الذي لا يلتئم ما داموا أحياء، فهل يمكن
لشاعر أن يعايش مثلَ هذه الحال وهو يعاني التجربة الشعرية
وحدها؟
* لي سلوكي الصوفي اليومي لا أفارقه ولا يفارقني ولله الحمد.
بيد أن الأمر أكبر من السلوك، فالروح روح شاعر والقلب قلب صوفي
والعكس صحيح! وفي هذا بحد ذاته ابتلاء لا يعرفه إلا الشاعر
الصوفي! ويزداد الأمر أسى حين تعيش في مجتمع لا يعرف الروح ولا
التصوف ولا القلب. مجتمع يعبد الجسد ويقدس الدولار حد الجنون!
- تقترب كثيرًا من القصة القصيرة في كتاباتك الشعرية، ويحضرني
هنا قصيدتك "أخي الكافكوي"، ذلك الذي كان في غرفتك الرطبة وتحت
سريرك ذي القوائم العالية، كان ينام فتتساقط أسنانه دون أن
يشعر به أحد، ويبيض شعره، ويكاد يفقد بصره ولا أحد يهتم به،
وقد استأمنك على سر موته ولم يمت في الوقت الذي حدده، وعندما
حان حينه وأنزلته إلى حفرة قلبه خرجت من قلبه حمامتان حلقتا في
السماء
مما
جعلك تبكي بحرقة وأنت عائد إلى البيت لتنام وحدك للمرة الأولى.
وحيدا كتابوت على حد تشبيهك لنفسك. يا لها من قصة أم يا لها من
قصيدة؟!
* في تراثنا الشعر العربي القديم تجد مسألة "القصيدة الأقصوصة"
أو "القصة الشعرية" موجودة بكثرة.
أما في شعرنا المعاصر، وفي قصيدة النثر تحديداً فإن الأمر
ازداد وضوحا حقا. حيث أفادت قصيدة النثر من القصة والسيناريو
والحوار والمسرح والسينما واللوحة التشكيلية لأسباب كثيرة منها
أن هذه القصيدة منفتحة وغير منغلقة، وتحاول الحضور إبداعيا
بشكل جديد، مختلف، وغير تقليدي. ومنها أن القصيدة تحاول أن
"تعوض" فقدان الوزن والقافية بهذا الانفتاح الكبير حتى صار
لدينا ما
يُسمى بتداخل الأجناس الأدبية. وقد صدرت الكثير من الكتب
والدراسات والأبحاث التي تناولت إفادتي من القصة والسيناريو
والحوار والمسرح والسينما واللوحة التشكيلية أذكر منها كتاب
الناقد سمير عبد الرحيم أغا المعنون: "جماليات التشكيل اللوني
في شعر أديب كمال الدين"
منشورات جامعة ديالى، العراق 2017، ودراسة" المنحى
السردي في "شجرة الحروف" للناقد صلاح زنكنة،
و(دلالات
الألوان في شعر أديب كمال الدين) وهي رسالة ماجستير للباحثة
ليلى يادكاري،
كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة خليج فارس، إيران 2016
و"توهّجات
حكاية المقهى" للناقد مالك مسلماوي وهي محاضرة أُلقاها الناقد
بدار بابل للثقافة والفنون والإعلام بمحافظة بابل، 14
مايس 2011.
تناولت هيمنة السرد في مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)
وغير ذلك كثير.
أديب كمال الدين في سطور
أديب كمال الدين (1953
-
بابل) شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا.
تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل
على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999،
وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب
أستراليا 2005.
أصدر 19 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، كما أصدر
المجلّدات الخمسة من أعماله الشّعريّة الكاملة. تُرجمتْ أعماله
إلى العديد من اللغات كالإيطاليّة والإنكليزيّة والأورديّة
والإسبانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والكرديّة. نال جائزة
الإبداع عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل
القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012
على التوالي.
صدر أحد عشر كتاباً نقديّاً عن تجربته الشّعريّة، مع عدد كبير
من الدراسات النقديّة والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل
الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشّعريّة وأسلوبيته
الحروفيّة الصّوفيّة في العراق والجزائر وإيران وتونس. موقعه الشخصي
www.adeebk.com
****************************
نُشر الحوار في مجلة عالم الكتاب المصرية : أبريل 2019
|
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة