حاوره/ علاء المفرجي
أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي.
ولد عام 1953 ، العراق. تخرّج من كلية
الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد 1976.
كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من
كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى
دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد
التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.
أصدر 25 مجموعة شعريّة بالعربيّة
والإنكليزيّة، منذ مشواره الشعري الذي
بدأه مع مجموعته الأولى: "تفاصيل"
1976، منها: "نون"، "النقطة"، "شجرة
الحروف"، "الحرف والغراب"، "مواقف
الألف"، "في مرآة الحرف"، "حرف من
ماء"، وفي الإنكليزية صدرت له
مجاميعه: " أبوّة"، " ثمّة خطأ"، "
حياتي، حياتي!".
كما أصدر المجلّدات الستة من أعماله
الشعرية الكاملة، وفيها يظهر جليّاً
تفرّده باستخدامه الحرف العربي ملاذاً
روحياً وفنيّاً.
تُرجمتْ
أعماله إلى العديد من اللغات
كالإيطالية والإنكليزية والفارسية
والأوردية والإسبانية والفرنسية
والكردية. نال جائزة الإبداع عام 1999
في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن
أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة
بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على
التوالي.
صدر 16 كتابا نقديّا عن تجربته
الشعريّة، مع عدد كبير من الدراسات
النقدية والمقالات، كما نُوقشت الكثير
من رسائل الماجستير والدكتوراه التي
تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته
الحروفيّة الصوفيّة في العراق
والجزائر والهند والمغرب وإيران وتونس.
ومن أهم أعماله: تفاصيل، ديوان عربيّ،
جيم، نون،أخبار المعنى، النقطة،
حاء،ما قبل الحرف، شجرة الحروف،
أبوّة، أربعون قصيدة عن الحرف، مواقف
الألف، أقول الحرف وأعني أصابعي،
مواقف الألف،ثمّة خطأ، الحرف والغراب،
تناص مع الموت، إشارات الألف، رقصة
الحرف الأخيرة، الحرف وقطرات الحُبّ،
حرف من ماء، دموع كلكامش وقصائد أخرى،
في مرآة الحرف.
- حدثنا عن المراجع والمصادر التي
قادتك الى الشعر في الطفولة... وبمن
تأثرتَ في تلك الفترة؟
* وُلِدتُ عام 1953 في أسرة علم ودين.
وكنتُ منذ صغري ميّالاً للقراءة بل
كنتُ عاشقاً لها. وساعد وجود مكتبة
عامرة في البيت على أن أقرأ منذ وقت
مبكر في حياتي مختلف الكتب وفي
مقدمتها قصص ألف ليلة وليلة وروايات
جورجي زيدان. وقد ألهبت هذه الكتب
خيالي بشكل عميق جداً. وبخاصة قصص
ألف
ليلة وليلة التي جعلتني أبحر كلّ ليلة
مع شهرزاد لتحدثني عن السندباد
البحري، وعن علاء الدين ومصباحه
السحري، وعلي بابا ولصوصه. كنتُ أعيش
القصص هذه بكل نبضات قلبي وأسرح
بعيداً في دنيا الخيال إلى الحدّ الذي
كنت أحلم بمصباح علاء الدين وجنّيه
الظريف!
أمّا الشعر فأتذكّر أنني وجدت في
مكتبة البيت
دواوين
كثيرة للشريف الرضي، والمعري، وشاعر
المهجر إيليا أبو ماضي الذي أحببتُ
شعره منذ صباي، وكأنني منذ ذلك الحين
على موعد
مع الرحيل إلى المهجر أو
المنفى!
وكان لموت والدي رحمه الله بين يدي
وأنا صبي، بعد أن عانى لسنوات طويلة
من الشلل النصفي، الأثر العميق الفادح
في حياتي. فبه تعرّفت إلى الموت
واليتم والفقدان دفعة واحدة، دفعة
شديدة القسوة أثرّت عليّ، فجعلتني
أفكر
كثيرا منذ ذاك الوقت بالموت
وسطوته! وجعلتني أتمسّك بكتب القصص
والأشعار وأتخذها ملاذاً وصديقاً ليل
نهار.
أنهيتُ دراستي الجامعية في قسم
الاقتصاد بكلّيّة الإدارة والاقتصاد-
جامعة بغداد عام 1976. وعدتُ للدراسة
ثانية في قسم اللغة الإنكليزية
بكلّيّة اللغات- جامعة بغداد لأتخرج
عام 1999. وما بين الزمنين عملتُ
محرراً ثقافياً في ألف باء وآفاق
عربية. وصلتُ إلى أستراليا مطلع عام
2003 بعد عامين قضيتهما في الأردن،
لألتحق بالمعهد التقني لولاية جنوب
أستراليا وأنال الدبلوم في الترجمة
الفورية.
- ما الذي جعلك تتجه الى الشعر.. هل
لفهم أسرار الحياة أم هو محاولة
لفهمها أم لطرح الأسئلة الوجودية عبر
الشعر؟
* اتجهت إلى
الشعر
بمركب الألم
تدفعني
ريح
عاصفة! جئتُ
مدفوعا إلى الكتابة بمزيج عجيب من محن
الذات وأسئلتها الوجودية، من مِحَن
الحرمان والحرب، من مِحَن القمع
والحرية، من مِحَن الجوع أو مِحَن
الذهب، من مِحَن الحلم والموت، من
مِحَن الطفولة الضائعة والشباب
المحروم والشيخوخة المتوحدة، مِحَن
الوطن والغربة، من مِحَن أن تكون أو
لا تكون.
من كل هذا المزيج العجيب الغريب،
المضحك المبكي، بدأت أنسج حروفي
محاولاً
التكيّف مع الحياة
ومحاولا
فكّ شفرة الحياة نفسها لفهم أسرارها
العميقة والزائلة، الجميلة والبشعة،
المبكية والساخرة.
ولعل مركب الألم المدفوع بعاصفة لا
تهدأ والذي قادني إلى الشعر هو الذي
جعلني غزير الانتاج، مثلما جعلني أقدس
دور الشاعر حتى صار عندي أن تكون
شاعراً فذلك يعني أن تكون ضمير
الإنسان الكوني وقلبه النابض بالجمال
والصدق واللطف!
نعم، فدور الشاعر كبير، بل عظيم، في
تحقيق روح المحبّة والسلام والوئام
للإنسانية في كل مكان من العالم. وهو
بوصلة روحية كبيرة تشعّ شمسَ حروفٍ
تكتب كلمات السلام وجُمل المحبة
وقصائد التأمل في المغزى الحقيقي
للحياة، وتنبذ، بقوّة وشجاعة، لغةَ
التطرف والكراهية والعنف والعنصرية
والطائفية بكل صورها وأشكالها.
ولا شك فإنّ هذه الرؤية تتطلب ثمنا
باهظا للتمسك بها خاصة لشاعر عاش أغلب
عمره في العراق، تحت وطأة المؤسسة
الإعلامية للطاغية التي كانت تنظر
للشعر على أنه فقط وسيلة "لتثبيت
الكرسي" والدفاع عنه حتى النَفَس
الأخير. وهذا الامتهان الخطير للشعر
سبب طوفاناً من الرداءة الشعرية،
العمودية خصوصاً، في عقد التسعينات:
عقد الحصار
القاسي،
والتي اكتسحت الصحف اليومية والمجلات
على اختلافها. وقبلها كانت سنوات
الحرب العراقية الإيرانية حيث طغت
"دواوين المعركة" على كلّ شيء، واضطرت
دواوين الوجع الإنساني والروحي إلى
التستر والاختفاء حفاظاً على نفسها
وعلى أرواح شعرائها.
فأنا لم أستطع من نشر مجموعتي
الشعرية "جيم" إلّا عام 1989 أي بعد
انتهاء حرب العبث المخيفة تلك التي
أكلت الملايين من شباب العراق وإيران
ورمّلتْ مَن رمّلتْ ويتّمتْ مَن
يتّمتْ، وأهدرت المليارات من
الدولارات حتى خرج العراق منها يرزخ
تحت طائلة ديون أسطورية وهو الذي
بدأها بفائض مالي كبير. وماهي إلّا
شهور معدودة حتى دخل العراق في الحرب
مجدداً ليعود شعر الحرب ليتسيّد
الخطاب الإعلامي من جديد وبشكل مفجع.
وكنتُ قد نشرتُ مجموعتي "ديوان عربي"
عام 1981 أي توقفتُ أو أُرغِمت على
التوقف بعبارة أدق لمدة 8 سنوات
بالتمام والكمال.
كان كلّ شعر لا يخدم الطاغية هو شعر
لا ضرورة له حسب تعبير مسؤولي الإعلام
في الحقبة السابقة المنهارة. وكلّ شعر
لا يمجّد حروبه وغزواته وصولاته هو
شعر مريب ومشكوك فيه، وشاعره يعيش في
الوقت الخطأ والمكان الخطأ. نعم، لا
وقت لشعر كهذا على الاطلاق وسط وسائل
النشر والصحافة التي تسيطر عليها
الدولة سيطرة مطلقة.
حقاً كانت محنة قاسية، والتهميش الذي
ولّدته في روحي هذه المحنة سبب لي هو
الآخر معاناةً كبيرةً وألماً فادحاً.
وقد تحمّلتُ كل هذا التهميش وذلك
التجاهل بصبر أيّوبي منطلقاً من
إيماني الأكيد بحقيقة أن الشعر هو صوت
الإنسانية النبيل والعميق والنادر،
وكل ابتذال له انما هو ابتذال لا
يُغْتَفر ولا يمكن تبريره بأيّ شكل
كان. ولقد أعانني التصوف على مواجهة
هذا الألم الثعلبي الرمادي لسنوات
وسنوات رغم شعور المرارة الفادح.
- بدأت بقصيدة التفعيلة، ثم تحولتَ
الى قصيدة النثر ابتداء كما أرى منذ
مجموعتك (نون).. هل لك أن تحدثنا عن
تلك التحولات في شعرك؟
*
مرّت قصيدتي بمراحل عديدة منذ صدور
مجموعتي الأولى (تفاصيل) عام 1976 لعل
من أهمها تحوّلي من كتابة
قصيدة التفعيلة إلى كتابة قصيدة النثر
التي تتيح، إذا أُحسِنَ استخدامها،
فضاء شعرياً أكثر اتساعا من قصيدة
التفعيلة. إذ كانت مجاميعي (تفاصيل)
و(ديوان عربي) و(جيم) و(أخبار المعنى)
قصائد تفعيلة. وبصدور مجموعتي (نون)
بدأت رحلتي مع قصيدة النثر وتواصلت
حتى الآن. ثانياً، صدور أكثر من
مجموعة ذات ثيمة محددة كما في
مجاميعي: (أخبار المعنى) و(مواقف
الألف) و(أشارات الألف) و(حرف من
ماء). وفي كل تفاصيل رحلتي الشعرية،
فإنني حين أكتب نصّاً جديداً، سواءً
أكان قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر،
أخضعه بصرامة إلى مسألة القاموس
الخاص، والاقتصاد في اللغة، والنمو
العضوي للقصيدة.
إنّ أيّ شاعر مبدع ومتميز وخلّاق ينبغي
أن يمتلك قاموساً شعرياً خاصاً به.
ومن دون هذا القاموس يكون الشاعر
عبارة عن درهم ممسوح لا تعرف ملامحه
حقاً. امتلاك القاموس الخاص لا يتمّ
بالتمنّي والترجّي بل بالمكابدة
الروحية والإبداعية، والتبحّر في
قراءة الشعر قديماً وحديثاً، غرباً
وشرقاً ودراسته وتأمّله. ويأتي عبر
تراكم كمّي ونوعي عند الشاعر بحيث إن
قصائده تلد قاموسها اللغوي بنفسها
وتبدعه وتشير إليه بفرح حقيقي وزهو
مبارك.
ثمّ تأتي مسألة الاقتصاد باللغة.
الشاعر الذي يجيد استخدام المفردة
بطريقة مبدعة دون تعسف ولا تحجّر هو
شاعر حقيقي وليس مفبركاً. وهذا
يتطلّب منه معرفة حقيقية بأسرار
الصورة الشعرية وتفاصيلها
كي
يعرف متى يحذف الصورة المهلهلة أو
الضعيفة أو المقحمة دون مسوّغ فني أو
يعيد كتابتها إلى أن يكون وجودها
ضرورياً لجمالية القصيدة.
وأخيراً هناك مسألة النمو العضوي،
حيث ينبغي للشاعر أن يراقب بوعي دقيق
وصارم مطلع القصيدة ونهايتها التي
ينبغي أن تحتوي ضربتها الشعرية
معالجاً الاستطرادات داخل النص بالحذف
أو إعادة الكتابة لتكون القصيدة في
نهاية الأمر كتلة متماسكة متراصّة من
المطلع إلى الخاتمة، بحيث إذا حذفتَ
منها مقطعاً اختلّت وارتبكت وإذا
أضفتَ إليها مقطعاً اختلّت وارتبكت
أيضاً.
- هل كان لقصيدة النثر ضرورات معاصرة،
هل يحتم هذا ان يجهل كتّابها أسس
البلاغة العربية وجمال اللغة؟ فكثيرا
ما نقرأ لغة ركيكة وكلاما لايمت للشعر
بشيء؟
*
للأسف، فإنّ ما ذكرته صحيح عن جهل
الكثير
من كتّاب قصيدة النثر بأسس
البلاغة العربية وجماليات اللغة.
لكن
هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية
أصبحت مسألةً مؤكّدةً لا تقبل النقاش
بسبب السيل الجارف من القصائد
والمجاميع الشعرية التي تُكتب وتُنشر
من خلالها في مختلف البلدان العربية.
وهذه الهيمنة الشديدة المتحققة في
الوقت الحاضر تؤكّد الهيمنة
المستقبلية بالطبع، إضافة إلى ما
تمتلكه قصيدة النثر نفسها من أسباب
فنية تعينها بقوّة على البقاء حيّة
كالتحرّر من الوزن والقافية،
والمرونة، والومضيّة، والتداخل مع
الأجناس الأخرى.
وبعيداً عن الشكل الشعري المستخدم،
سواءً أكان قصيدة عمودية او تفعيلة أو
قصيدة نثر، فإنني أرى الشعر اكتشافاً
لإعماق الحياة في ومضة روحية وفنية
نادرة وبأقل عدد من الكلمات. فإذا
طبّقنا هذا "التعريف" سنجد أن في سيل
قصيدة النثر الهائل المنشور يومياً
غَلَبة واضحة للقصائد الضحلة المرتبكة
الفارغة! وقد زاد من فداحة الأمر أنّ
قصيدة النثر تفتقد إلى الوزن والقافية
فتصوّر الكثير من كتّابها أنّها يمكن
أن تكون أيّ شيء!
إذن، هناك أزمة واضحة في الحصول على
الشعر الحقيقي المتفوق المبدع، لأنّ
الكثير من الشعراء والشاعرات في
بلداننا العربية يفتقدون إلى الفهم
الدقيق لمسألة بُنية القصيدة، ولمسألة
النمو العضوي، والاقتصاد في اللغة،
والقاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون
من الخواء الروحي والإنساني أحياناً.
الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو
إنسانية ذات شأن أو عمق بحيث تستحق أن
تُكتب أو ترى النور. وتجد جملهم
الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالهذيان
حتى تحوّلت قصائدهم إلى ما يشبه ركّاب
عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم
بعضاً، ولا يجمعهم أي جامع سوى
العربة!
نعم، سيكون حضور الشعر الحقيقي
والعميق نادراً على الدوام. والغلبة
في الظهور للنماذج غير الأصيلة،
للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة
في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة
الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل
عميق ومبتكر.
إنّ معادلة الإبداع في الشعر مهما كان
شكله صعبة حقاً وصدقاً، وتتطلّب من
الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية
وشعرية، مع مران مستمر، وإيمان حقيقي
بالشعر ودوره الإنساني الخلّاق.
- يصف البعض قصائدك أنها يسيطر عليها
الجانب الصوفي فضلا على اهتمام
القصيدة بآيات القرآن الكريم، وقصص
الأنبياء ومروياتهم.. ما تعليقك؟
* نعم أنا شاعر متصوّف لكن ليس كلّ
شعري هو شعر صوفيّ. فقد كتبتُ القصائد
الصوفية ونشرتها في العديد من
مجاميعي. كما كتبت مجموعتين صوفيتين
هما (مواقف الألف 2012) و(إشارات
الألف 2014). وقد لفت ذلك انتباه
النقاد. فمن النادر جداً عراقياً
وعربياً أن يفعل ذلك شاعر معاصر. ولذا
كتبوا عنهما الكثير من المقالات
والدراسات، خاصة وأن
التناول الصوفي فيهما كان
مبتكراً، كان تناولا حروفياً حتى
أصبحت تجربتي تُدعى بالصوفية
الحروفية.
لكنني من جانب آخر، كتبت مئات القصائد
عن الحب والمرأة، بل كتبت مجموعتيّ
حبّ، كانت الأولى بعنوان (نون 1993)
والثانية
بعنوان
(حرف من ماء 2017). وأنا بصدد
الانتهاء، بمشيئة الرحمن،
من
كتابة المجموعة الثالثة التي تحوي
قصائد حبّ فقط، وعنوانها (لم
يبقَ من "أحبّكِ" سوى نقطةِ الباء).
وهي قد استمدت عنوانها من إحدى قصائد
المجموعة القصيرة، وفيها أقول:
على مرآةِ حياتي
لم أكتبْ سوى كلمةٍ واحدة:
"أحبّكِ"
لكنَّ مرآةَ حياتي تشظّت
حتّى صارتْ سبعين شظيّة.
فلم يبقَ من "أحبّكِ"
-
وا أسفاه-
سوى نقطةِ الباء.
كذلك
كتبت مئات القصائد عن البحر، والحلم،
والمنفى،
والمعنى،
والموسيقى،
والفن، والفنانين،
والشعر، والشعراء، وغير ذلك.
- هناك الكثير من كتب النص الحروفي،
لكن هذا بالنسبة لك وكما قلت انت:
(هناك إقامة أبدية فيه) حيث كتبتَ 25
مجموعة شعرية متضمنة نصا حروفيا.. كيف
تولدت فكرة الحرف في تجربتك بشكل عام؟
* حروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف
حمل معجزة القرآن المجيد ولا بدّ
لحامل المعجزة من سرّ له، كما أنّ
الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في
بداية العديد من السور الكريمة، وكان
في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي
يُضاف الى سرّ القرآن المجيد نفسه. فمِن
القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف
الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم
وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم
الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية
منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار
الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم
ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم
وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة
والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبة
والسلام واحترام الآخر وعدم تحقيره أو
الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة
صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب
كنز لا يفنى من المعارف اللغوية
والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية،
والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية
ذات المضامين العميقة، والحوارات
الفلسفية واليومية ما بين الخالق
ورسله وما بين رسله وأناسهم.
قادني القرآن الكريم
إلى التصوّف، ومن
التصوّف تعلّمتُ معنى التأمل في ملكوت
ملك الملوك، ذاك الذي يقول للشيء كنْ
فيكون. وتعلّمتُ عظمةَ الزهد، وأسرار
الروح الكبرى، ومعنى سياحة الروح
عاريةً إلّا من رحمة ربي في زمن يعبد
الناس فيه دنانيرهم ودولاراتهم حدّ
الجنون.
وحين تأملت في الحرف العربي خلال رحلة
شعرية قاربت الخمسة
عقود، ولم تزل متواصلة بحمد الله،
وجدتُ أن للحرف العربي ما يمكن تسميته
ب(المستويات) فهناك المستوى التشكيلي،
القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي،
الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري،
الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. وعبر
كتابة المئات من القصائد الحروفية
التي اتخذت من هذه (المستويات) دليلا
جمالياً وفنياً وروحياً بتفاصيل لا
تنتهي من التجريب لكشف أسرارها،
وأسرار الحرف، وأسراري، وعبر اتخاذ
الحرف
نفسه رفيقاً ومحاوراً وقناعاً،
من خلال ذلك كله صار استخدام الحرف
بصمتي الفنية التي لازمتني وستلازمني
أبداً.
- قرأنا لك مجاميع شعرية تتحدث عن حرف
النون كما في مجموعة (نون)، وأخرى
تتحدث عن حرف الجيم كما في مجموعة
(جيم)، وثالثة عن حرف الحاء كما في
محموعة (حاء). ثم قرأنا لك مجموعة
بعنوان (النقطة). ماذا عنها؟
* إنّ النقطة بلغة التصوّف هي
الكينونة ومركز الكون والعالم الأكبر.
هذه هي النقطة كرمز صوفي. لكنني
انطلقتُ إلى استخدامات أخرى عديدة
للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط،
فبدت النقطة في الكثير من قصائدي
مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً
للجسد ومركزاً للرؤيا.
إنّ ما يميز تجربتي الحروفية عن
الاستخدام الصوفي الحروفي القديم هو
أنّ هذا
الاستخدام كان ذهنياً على الأغلب،
وأحيانا طلسمياً لا يفهمه إلّا خواص
الخواص. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله
شعرياً عبر الصورة المجسَّدة، ذلك أنّ
الذهنية برأيي هي أشد أعداء الشعرية
ضراوة. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب
هذا الاشتغال مُشاعاً للكلّ دون أن
أفقد الخواص ولا خواص الخواص. وفي ذلك
يكمن التحدي الجمالي: الشعري الفلسفي
لتجربتي الحروفية. أما الحرف فهو في
شعري يظهر بصور شتّى وهيئات لا تُحصى
فهو العاشق والمعشوق، والملك
والصعلوك، والدليل والتائه، والحكيم
والضائع، والزاهد والشهواني، والعارف
والخاطئ، والوليّ والمُهَلْوِس،
والذاكر والناسي، والمتأمّل والمعربد،
والشيخ والطفل، والصوت والصدى، والروح
والجسد، والبعيد والقريب.
- المتابع لتجربتك يتوقف عند الاهتمام
النقدي بها فقد صدر (16)
كتابا نقديا عنها.. في وقت يشكو البعض
من الشعراء احجام النقد عن الاهتمام
في الشعر .. ماذا تقول عن ذلك؟
* نعم أنصفني النقد، ولله الحمد،
والسبب هو أن النقاد
والباحثين وجدوا في قصائدي تجربة
شعرية مختلفة عمّا اعتادوا عليه، كما
وجدوها بشكل عام ممكنة التلقّي بشكل
سلس، وممكنة الـتأويل على نحو يثير
الأسئلة النقدية ممتعة وخصبة،
فأحبّوها وتناولوها في عدد كبير من المقالات
النقدية والدراسات والبحوث، ولله
الحمد، حتى صدر
عن
تجربتي 16 كتاباً نقدياً لنقّاد
عراقيين وعرب
كما ذكرتَ.
كما منحوني ألقابا مشتقة من تجربتي
الشعرية الصوفية الحروفية، مثل
"الحروفي"، "ملك الحروف". "أمير
الحروف"،" المنوّن"، "شاعر الحرف
والنقطة".
إنّ هذا العدد الكبير من المقالات
والدراسات التي كتبها نقاد من مختلف
البلدان والأجيال والاتجاهات الفنية
ونشروها في الصحف والمجلات المحكمة
والمواقع عن تجربتي أمر يدعو للفرح
دون شك. وبالطبع كان كل هذا الاحتفاء
النقدي، من ناحية أخرى، خير معين لي
للإستمرار في تعميق تجربة الحرف لديّ
وتنويعها.
-
وفي الأطار ظاهرة الموتيف تعني
في الأدب الفكرة الرئيسة أو الموضوع
الذي يتكرر نفسه خضعت تجربتك لاهتمام
الدراسات الاكاديمية، هل ان انفرادك
بالنص الحروفي هو السبب؟
* السبب يعود إلى الكم والنوع. فمن
ناحية النوع، فقد ذكرت لك إلى أنني
تفرّدت بكتابة النص الحروفي، ومن
ناحية الكم فقد كتبت 25 مجموعة شعرية
طيلة 50 عاماً. ومثلما أهتم النقاد
بشعري وكتبوا عنه،
فقد اهتم الأكاديميون به
للأسباب ذاتها
كون تجربتي تجربة شعرية مختلفة
ومتفردة. بل إن الأكاديميين كانوا
أكثر اهتماما بها حتى أنجزت حتى الآن
35 رسالة ماجستير ودكتوراه عن تجربتي
الشعرية في العراق والجزائر والمغرب
وتونس وإيران والهند. وهناك من
الأبحاث الأكاديمية عن تجربتي
والمنشورة في المجلدات المحكمة لو
جُمعت لكانت هناك عدّة كتب مطبوعة
وليس كتاباً واحداً.
- قرأت مرة عن ظاهرة الموتيف بقضية
التكرار في الدرس البلاغي العربي
ونلاحظ لهذه النظرية الحديثة التي
دخلت الآداب الإنسانية أصولاً في
النقد والبلاغة القديمين، الظاهرة
موجودة عند شاعرنا أديب كمال الدين..
وتتمثل بموتيف شخصية نوح (عليه
السلام) في شعر أديب كمال الدين له
دلالات عديدة، فقد "تقمّص" الشاعر
شخصية هذا الرسول العظيم وبيّن الظلم
والاضطهاد من خلال توظيف الرمز الديني
في شخصية نوح.. هل توافق على ذلك؟
* موضوعة نوح (ع) موضوعة كبيرة شعريا
برأيي. فقد أنفق نوح ألف سنة إلّا
خمسين عاماً يدعو الناس دون كلل أو
ملل ثم لم يؤمن به إلّا القليل.
بل تعرض للسخرية والاضطهاد
والاستهزاء حتى صرخ صرخته الكبرى
(إنّي مغلوبٌ فانتصرْ). فاستجاب له
الله بالطوفان العظيم.
لكنّي تناولت أيضاً في شعري
الكثير من الأسماء الذين تعرضت
للإضطهاد
بشتى صنوفه
وأنواعه في سبيل قول كلمة
الحقيقة كإبراهيم
(ع)، ويوسف (ع)، والمصطفى (ص)، وعلي
والحسين والسجّاد (عليهم السلام).
وكذلك كتبتُ الكثير من القصائد عن
المتصوفة الكبار كالحلّاج، والنفّري،
والتوحيدي، ومحنتهم العظيمة.
– وهل اكتفيت في شعرك
ب"تقمّص" الأسماء المقدسة
والمتصوفة فقط؟
* بالطبع لا.
لقد كانت تجربتي في تناول الآخر
ومحاورته شديدة الخصوبة والتنوع. فلم
أكتفِ بالآخر المقدس والصوفي بل
كتبت
عن الآخر الأسطوري كأنكيدو، وكلكامش
الكثير من القصائد. ومن تراثنا
الزاهر كتبت عن شهرزاد، وشهريار،
والسندباد، والمعرّي، وديك
الجنّ، وعباس بن فرناس.
وكذلك كتبت عن الآخر: الشاعر المعاصر،
كالسيّاب، وعبد الوهاب البياتي، ومظفر
النواب، ومحمود البريكان، وسركون
بولص، ويوسف الصائغ، وعيسى حسن
الياسري، وجان دمّو، وصاحب الشاهر،
ورعد عبد القادر، وخالد جابر يوسف.
كما كتبتُ عن نقّاد زاملتهم من أمثال
عبد الجبار عباس، وإذاعيين كمهنّد
الأنصاري، وروائيين كسعد محمد رحيم،
ومعماريين كزُها حديد، بل إنني كتبت
عن مطربين ومطربات عراقيين وعرباً
تركوا آثارهم الروحية عليّ من أمثال
أم كلثوم، وفريد الأطرش، ومحمد
القبانجي، وناظم الغزالي، وعفيفة
إسكندر، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وعبد
الحليم حافظ
.
ولي كذلك الكثير من القصائد عن الرموز
الإبداعية العالمية الكبيرة من أمثال:
دوستويفسكي،
طاغور، تولستوي،
هرمان هسه،
لوركا، همنغواي،
ت.
أس. إليوت، بيكيت، تد هيوز،
سيلفيا بلاث، ماركيز، شارلي
شابلن، شوبان، فان كوخ، ألن ديلون،
زوربا، محمد علي كلاي وغيرهم.
-
شخّصت بعض الدراسات النقدية ميلك إلى
استخدام تفنيات السرد والحوار
واللقطات السينمائية في قصائدك. أترى
في ذلك إغناء للنص الشعري؟
* نعم بعض قصائدي تمتلك حضوراً
سردياً. فالسردية ذات حضور أكيد وبارز
في قصيدة النثر عربياً وعالمياً وهذا
أصبح في حكم البديهيات الآن. كما أنني
أسمح بحضورها ضمن قاموسي الشعري
الحروفي، وضمن تقنية الاقتصاد في
اللغة، وضمن النمو العضوي للقصيدة.
إن قصيدتي تعتمد، أيضا، على الإفادة
من تقنيات
السينما والمسرح والفن التشكيلي. وفي
كل هذه الاستعانة هناك إثراء وإغناء،
دون شك، لشعرية القصيدة وتجددها
وتطورها الجمالي. ستجد ذلك واضحاً في
شعري بشكل جلّي. إذ تظهر الكثير من
قصائدي بهيئة حوار مع الذات أو مع
الآخر أو بهيئة لقطات
سينمائية متنامية أو لوحات تشكيلية
لكنّي أحرص دائماً وبقوّة أن يتمّ هذا
النوع من الإفادة المسرحية أو
السينمائية أو التشكيلية بشكل فني
جمالي خالص، دون تقحّم خارجي أو فرض
لا مبرر له، وأن يتم ذلك أولاً
وأخيراً من خلال تقنية قصيدتي الخاصة
كما ذكرت قبل قليل.
-
تُرجم الكثير من نصوصك الى
العديد من اللغات، وقمتَ أنتَ بترجمة
بعضها الى الإنكليزية.. ما الذي تراه
في هذه التجربة التي خلقت لك إعجاباً
من القارئ الأسترالي؟
* من الضروري جدا أن تتم ترجمة الشعر
إلى لغات العالم الحية. فأن يبقى شعر
الشاعر حبيس لغته يعني له البقاء في
قفص المحدودية القاتل. وكلّما كثرت
اللغات التي تتم ترجمة شعر الشاعر
إليها أتاح ذلك أن يطلع عليه المزيد
من القراء في أنحاء العالم ليتعرفوا
إليه وإلى تفاصيل إبداعه.
وقد حققت مجاميعي الثلاثة
المترجمة إلى الإنكليزية
والصادرة في أستراليا، وهي: "أبوّة"
2009، و "ثمّة خطأ" 2012، و"حياتي،
حياتي" 2021، قبولاً وإعجاباً واضحين
من قبل الوسط الثقافي الأسترالي ولله
الحمد.
ففي عام 2007 أُخْتيرتْ قصيدتي (أرق)
واحدةً من أفضل القصائد الأسترالية The
Best Australian Poems 2007 وصدرت
في أنطولوجيا خاصة في مدينة ملبورن،
أشرف عليها الشاعر والكاتب الأسترالي
الكبير بيتر روز Peter
Rose. وفي
عام 2012 ولله الحمد أُخْتيرتْ قصيدتي
(ثمّة خطأ) واحدةً من أفضل القصائد
الأسترالية The
Best Australian Poems 2012 وصدرت
في أنطولوجيا خاصة قام بإعدادها
الكاتب الأسترالي الشهير: جون ترانتر Jone
Tranter.
وهذا بالطبع حقق لي مكانة في الشعر
الأسترالي نادراً ما ينالها شاعر
مهاجر. إذ أُقِيم
حفل توقيع خاص بمجموعتي (ثمّة خطأ) في
اتحاد أدباء ولاية جنوب
أستراليا، قرأت فيه الناقدتان د. آن
ماري سمث ود. هِثر جونسن دراستين عن
المجموعة. وكتبت الشاعرة الأسترالية
جود أكولينا مقالة نقدية تشيد بشعري،
طبعا
هذا إضافة إلى مشاركاتي في قراءات
شعرية عديدة في مدينتي أديلايد
وتاونسفل، ونشري لقصائدي في مجلات
أدبية مرموقة مثل Southerly و Meanjin .
وعند الانتقال للحديث عن اللغات
الأخرى،
فقد تُرجمت مختارات من قصائدي
إلى الفرنسية بعنوان (الحرف وقطرات
الحب) من قبل المترجم والأكاديمي د.
ناجح بغام وصدرت عام 2017 عن دار جناح
في فرنسا. وصدرت مختارات من شعري
باللغة الإسبانية بعنوان: (دموع
كلكامش وقصائد أخرى) عن دار لاستورا
في مدريد عام 2017. ترجمها إلى
الإسبانية المستعرب الإسباني جوزيب
غريغوري، وراجعها وقدّم لها الشاعر
والمترجم د. عبد الهادي سعدون. وترجمت
د. أسماء غريب مجموعتي (أربعون قصيدة
عن الحرف) إلى الإيطالية لتصدر في
إيطاليا عن منشورات
نووفا إيبسا إيديتوره عام 2011 .
وبعد عام على صدورها أُقيمت لي
احتفالية متميزة هناك بدعوة من الناشر
شاركتُ فيها رفقة المترجمة وعدد من
أدباء إيطاليا. مثلما ترجم الشاعر
الباكستاني اقتدار جاويد مختارات من
شعري إلى اللغة الأوردية تحت عنوان
(تناص مع الموت) وصدرت عن منشورات
كلاسيك في مدينة لاهور الباكستانية
عام 2013. وأخيرا فقد ترجم د. نعيم
عموري مجموعتين شعريتين لي هما (مواقف
الألف) و(الحرف والغراب) إلى
الفارسية وصدرتا عن دار قهوة في
الأهواز عام 2022.
- يُعد أديب كمال الدين أحد الأصوات
الشعرية المتميزة في الجيل السبعيني..
برأيك ما الذي قدمه السبعينيون من
إضافة للشعر العراقي وما ملامح تجربتهم؟
* كان السبعينيون خليطاً غير متجانس
من الشعراء. منهم من جاء إلى
الشعر بقصد كتابة الشعر
الحقيقي المبدع للتعبير عن أسئلة
الحياة الكبرى، ومنه من جاء بقصد
الاستحواذ على منافع الشعر
الآنية كالشهرة، المال، الحضور
الإجتماعي، المناصب..إلخ. وكثير من
ذلك كان يحققه الشعر في زمن
السبعينيات حيث لم تكن فيه
وسائل التواصل الإجتماعي ولا
الفضائيات قد أحكمت قبضتها على كلّ
شيء. وبمرور الزمن لم يبقَ على قيد
الحياة الشعرية إلّا من جاء بهدف
الشعر المبدع وليس سواه، فقد انقرض
أصحاب المنافع شيئاً فشيئاً. ولم يبقَ
إلّا من حاول أن يرسم قصيدة تنبض
بالحياة وروحها المستترة، ويكتب قصيدة
متميزة برموزه وبملامحه الفنية
والروحية هو
وليس
برموز وملامح سواه.
- هل كان لسنوات الغربة لها أثر في
شعرك، وبأيّ إتجاه؟
* نعم
كان لها الأثر البالغ، فلقد
أعطتني الغربة الكثير من الأسى،
لكنني- بفضل عظيم من الله- حوّلت هذا
الأسى الهائل إلى نهر شعر متواصل
الجريان جَمَّل لي الكثير مما رأيتُ
أو عشتُ أو عانيتُ وإن كان شديد
القسوة والألم.
لقد جعلت الغربةُ الكتابةَ الشعرية
بمثابة وطن لي! فصرتُ أقيس أيامي
وسنواتي بمقدار ما أكتب. وأفرح كثيراً
حين أكتب قصيدة جديدة، وبخاصة إذا
شعرت أنها مميزة على صعيد تجربتي
الكتابية. فهي دليل على أنني حيّ وأنا
أتقدّم إلى الأمام!
-
خلال العقدين الأخيرين، سادت
الرواية في المشهد الثقافي العراقي
الى درجة عدّها البعض انها أزاحت
الشعر من عرشه؟ ما رأيك انت كشاعر؟
* إن هذا
"الصراع"
ما بين الشعر والرواية، في قسم منه
كبير، يبدو أمراً طبيعياً. فكلما خطا
المجتمع، أيّ مجتمع، خطوات كبيرة
وجادة وحقيقية نحو التطور الاقتصادي
والتكنولوجي والاجتماعي كلما مال مزاج
القراء نحو الرواية وانحسرت أمواج
الشعر. وحين خطت المجتمعات الغربية
خطوات هائلة بهذا الاتجاه منذ الثورة
الصناعية كانت النتيجة سيطرة الرواية
على الساحة الأدبية وانحسار الشعر
شيئاً فشيئاً. والمجتمع العراقي ليس
استثناءً بالطبع، لكنّ الشعر سيبقى
قوياً في حضوره الروحي وتأثيره
الاجتماعي في العراق لزمن طويل، لأنّ
المجتمع العراقي يتطوّر اقتصادياً
وتكنولوجياً بشكل بطيء وتطوره فوقيّ
خارجيّ لا يلامس أعماق المجتمع
وتقاليده الثقافية بشكل جدّي.
هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن المبدع
الغربي يمارس كتابة أكثر من جنس أدبي
فهو يكتب الرواية والشعر والمسرحية
والسيناريو السينمائي. فهي كلها عنده
وسائل إبداع يُراد منها إطلاق أسئلة
الروح الكبرى عن الحياة ومغزاها
وأحلامها وتفاصيلها. وهذا هو عين
الصواب دون شك. أنا الآن أقرأ، بمتعة
عميقة، مجاميع شعرية كتبها أدباء
مشاهير من أمثال هرمان هسّه، وغونتر
غراس، وبرتولت برشت تألقوا في عالم
الرواية أو المسرح تألقاً عظيماً حتى
نال هسّه وغراس جائزة نوبل وأصبح برشت
أيقونة مسرحية لا تُبارى. أما في
مجتمعنا فالأمر مختلف جداً ويدعو إلى
الضحك في أحيان كثيرة، فإذا كتب
الشاعر رواية فإنّ الدنيا تقوم ولا
تقعد حتى يُقال أو قيل إنه بدأ عصر
الهجرة إلى الرواية بعد أن فعل ذلك
أكثر من شاعر. وإذا كتب روائي مجموعة
شعرية قيل له: ما لكَ والشعر؟ هل
فشلتَ في الرواية حتى طرقت باب الشعر؟
وهكذا...
ورغم كلّ شيء، أبقى شاعراً متحيزاً
للشعر، لأنه الرديف
الحقيقي للإنسان في كل زمان ومكان.
إنه صوته الداخلي السرّي الصافي
العميق. إنه خلاصته وهو يواجه الموت
والعبث والعجز والغربة ودوران السنين
العجيب، وهو سؤاله الأزليّ الأبديّ!
- متى تولد قصيدتك؟
* الشعر هو اكتشاف الحياة في ومضة
نادرة، ومضة صعبة الوصف، لكنها مبثوثة
في الجمال المدهش أو المعاناة العميقة
حد الإدهاش أو الجنون. وعلى الشاعر أن
يلتقطها بعينه الثاقبة، ونبضة قلبه
العاشقة، وحرفه الذي يجيد الكشف
وتسمية الأشياء.
هكذا
تبدأ القصيدة عندي استجابةً لدمعة
حرّى أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو
لمشهد مثير أو لأغنية عذبة أو لذكرى
مؤلمة، وأستطيع غالبا أن أتلقّف هذه
الشرارة المباركة أو الملعونة أو
الجريحة أو المعذَّبة في أيّ وقت
لأشعل بها ذاكرتي التي تشبه حطباً
جاهزاً للاشتعال، فتنثال عندي الصور
والحروف والكلمات انثيالا.
- وأنت تكتب نصّك الشعري: أتحسب
حساباً للقارئ أم أنك تركّز على النصّ
أولا؟
*أركز على النصّ أولا وأخيراً.
فأنا
أكتب لأضيف لتجربتي الشعرية نصّاً
جديداً أريده أن يكون مبدعاً، بمعنى
أن يمتلك حظه من الشعرية. هذا من
الناحية الفنية أما من الناحية
الإنسانية، فإنني أريد من نصّي
الجديد، وأريد من الشعر بشكل عام أن
يمنحني فرصة التوازن في عالم مجنون من
الألف إلى الياء. أريد من الشعر أن
يبقيني متماسكاً بأيّ شكل من الأشكال
بدلاً من أن أتشظّى بفعل المعاناة
التي لا ينتهي سيلها الضّاج.
لكنّي من جهة أخرى، لا أتعالى
على القارئ، وأحاول– خاصة عندما أنقّح
قصيدتي- أن أزيل المواقع الشديدة
الغموض في القصيدة إن وُجِدتْ وأجعلها
أكثر سلاسة إن أمكن ذلك، كي يبقى جسر
الاتصال مع القارئ مفتوحاً ومضيئاً
دائماً.
- صدرت مجموعتك الأولى (تفاصيل، بغداد
عام 1976) ومجموعتك الأخيرة (وكان له
حرف، بيروت 2020)؟ نريد تفاصيلَ عن
تفاصيل، وعن حرفك في آخر مجموعة له.
* صدرت (تفاصيل) عام 1976، وكان عمري
حينذاك 22 عاماً فقط. كان صدورها
حدثاً رائعاً وسعيداً بكلّ معنى
الكلمة في حياتي. فقد كانت مجموعتي
الأولى وأولى خطواتي في عالم الشعر.
وقد طبعتها على نفقني الخاصة في مدينة
النجف الأشرف، بعد أن رفضت وزارة
الثقافة والإعلام طباعتها لأنّها
(جاءت خالية من ذكر منجزات الثورة
والتغنّي بها!) كما أعلمني سكرتير
لجنة التعضيد والنشر في الوزارة
المرحوم موسى كريدي. ولم أزل حتّى
الآن أتذكّر تفاصيل طباعتها وكيفية
نقلها إلى بغداد وكأنّ الأمر حدث
البارحة!
طبعتُها في مطبعة الغري العائدة
للمرحوم رشيد المطبعي الذي التقيته
صدفةً في محلّ الفنّان الخطّاط حميد
ياسين الكائن في بداية شارع المتنبيّ
حينذاك. واتفقنا على طباعتها بمبلغ
170 ديناراً لألف نسخة (وهو مبلغ كبير
حينذاك). أمّا الغلاف الجميل فقد
طبعته في إحدى مطابع شارع المتنبيّ
ببغداد. وقد صمّمه الفنان المبدع حميد
ياسين أمامي في زمن قياسي.
احتفت مجموعتي (تفاصيل) بصدق عميق
بجذور الحياة مطلقةً أولى أسئلة الروح
عن الحياة ومغزاها وسرّها الأزليّ،
احتفت ببراءة عذبة ب"جسد الرؤيا"
للرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها،
أعني صرخة الولادة ثمَّ صرخة الموت.
هكذا صار على الشاعر، كي يكون شاهداً
حقيقياً، أن يفسّر لنفسه وللكون كيف
أنّ الصرخة الأولى كانت مبهجة
والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. صار
على الشاعر أن يؤسس فنيّاً لحرف
الصرخة التي ستتحوّل إلى حبّ وعشق
وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش وحرمان
وأرق ومعاناة.
ذكرتُ ذلك في إحدى قصائد المجموعة،
وهي قصيدة (قصائد صغيرة):
لا تذهبْ أكثر
من مائدةِ الأطفالْ:
من مائدةِ الفرحِ الباسق،
من مائدةِ النخلِ الباسق
وغناءِ البَطِّ، تماثيلِ الطينِ،
الأعشابْ.
لا تذهبْ أكثر من صحراء الغيرةِ
والنومِ الأزرق،
صحراء الكلسِ الأبيضِ والكلْماتِ
الشعثاءْ.
لا تذهبْ أكثر من جسدِ الرؤيا!
هذه هي الوصيّة الشعريّة الأولى التي
ألزمتُ بها نفْسي فالتزمتْ بها طوال
المجاميع الكثيرة التي كتبتها بعد
(تفاصيل) ولله الحمد، هذه هي بوصلة
طريقي الشعري المضيئة بالتأمّل،
والزهد، والحبّ بمعناه الواسع الكبير.
أما مجموعتي الأخيرة (وكان له حرف)
الصادرة ببيروت في طبعة أنيقة عام
2020 ، ضمن المجلد السادس من أعمالي
الشعرية الكاملة، فقد احتوت على
ثلاثين قصيدة كشفت وجوه الحرف في عشقه
وزهده وخوفه وحزنه وسعادته وحلمه
وأرقه وتأمّله وحياته وموته. وهي
بالطبع وجوهي أنا. نعم، فالحرف مرآتي
الأبدية!
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
نُشر الحوار في جريدة المدى،
بتأريخ 8 و15 شباط- فبراير
2023، حيث نُشر بقسمين.
|