الحرف : فلسفة وجمال وسياقات

 في شعر أديب كمال الدين:

 قراءة لنماذج مختارة من المجلد الثالث – مقاربة نسقية

أ‌.      صباح بن سليطان

أ. د. نعيمة سعدية

جامعة بسكرة

ملخص:

تعرف الساحة اللسانية، والنقدية تحولات عديدة على مستوى المفاهيم ومنه الممارسة التطبيقية، فمن النص إلى القارئ ومن السياق إلى النسق الذي يعد مجموعة من العناصر التي تتشابك وفق نظام محكم داخل البنى النصيّة التي تشكّل بدورها عبارة تسمح بتداخل كثير من الأنساق المختلفة. وتحاول هذه الدراسة الوقوف عند دلائليات الحرف: فلسفة وجمالا وبحث استعمالاتها، وتقصي حقيقتها في المجلد الثالث من الأعمال الكاملة للشاعر الحروفي أديب كمال الدين، ومقاربته مقاربة نسقية؛ فما هو الحرف عند كمال الدين أديب؟ وما هي سياقاته التداولية في الخطاب الشعري، والتي سيقف عندها القارئ؟

Abstract 1

The linguistic and literary critical scenes have witnessed a concept-based revolution, and one case in point is the practical approach. The shift iis from the text to the reader and from the context to co-ordiination which is considered an overlap of a host of elements within textuaal structure , and which in turns allows for an overlap of different co-ordination. The current paper undertakes to investigate the nature of the letter and its uses. Besides, it is within the scope of this study to disclose the poetiical text through the aformentioned element. The case study is Adeeb Kamal Ad-Deen’s poetical contribution. Therefore, what does the poet mean by the letter?  What are its pragmatic contexts in the poetical discourse that the reader needs to ponder about.

تمهيد: تعدّ اللغة أهم الشفرات الأساسية داخل أي خطاب تنتجه الذات، باعتبار أن اللغة توفر إطارا معرفيا يساعد القرّاء في التعّرف على المعنى داخل الخطابات، ومن هنا يمكن اعتبار اللغة نسقا يجسد قيّما وافتراضات إيديولوجية ثقافية، كما يمكن اعتبارها أداة سحرية للتحكم الاجتماعي.[i]بوصفها وسيلة تعبير وأداة مثلى لتحريك المشاعر وإثارتها، والتأثير في السلوك الإنساني، باعتبار أن المتكلمين أثناء قيامهم بأحاديث فيما بينهم، فإنهم مرتبطون بسياقات محددّة ومقاصد معينة، وأهداف مسطّرة لنجاح عملية التخاطب بصورة كاملة.

1- النسق –السياق-النص:

    النص الشعري- بناء على كل المنطلقات السابقة- ذو لغة مرتبة ومنظمة بطريقة مختلفة عن اللغة العادية، بل عن لغة نص آخر لكل نص تميزه وتفرده، وهذا الأمر يتيح للقارئ تقديم تحليل نسقي خاص له، ومختلف، تجعله يبحث في شروطه وأعرافه، وسياقاته، ويعمل على تصوير المباحث اللسانية بشكل يتناسب مع شاعرية النص؛ لأن الهدف ليس معرفة المعنى أو المضمون على نحو مباشر، وإنما الغاية في مستوى هذه المعالجة مراجعة النص، وفحص طريقته في استخدام اللغة، وفي التشكل، وطريقته في المعرفة وفي التعبير والتغيير، وقيمته المعرفية، وبعده الجمالي وكيفية استقصائه لإمكانات اللغة وللتشكيل البلاغي فيه، وبهذا تقوم القراءة بنشاط لغوي وتركيبي ومعرفي وجمالي، ومواز لنشاط النص الأول، ما نسميه "التفاعل المنتج".

      تعد دراسة السياق محل اهتمام القضايا التداولية جميعا، لأن تحليل النصوص يخضع إلى السياق وكذلك تحليل أفعال الكلام وقوانين الخطاب، ويمكن القول بأن اهتمام الدرس التداولي كله ينصب في بحث مدى ارتباط النص بالسياق، إذاً فـ «السياق مفهوم مركزي يمتلكه طابعه التداولي».^([ii])

"دراسة للعلاقات بين اللغة والسياق أو هي دراسة لكفاية مستعملي اللغة في ربطهم بسياقاتها الخاصة".^([iii]) وبذلك يتضح التحليل التداولي في فك رموز رسالة المتكلم، من المحتوى المراد، حتى لو كانت الرموز مشتركة، لأنها قد تحتوي على اللامقول والضمني، واعتمادا على ما يزودنا به السياق من فرضيات حول قصد المتكلم.^([iv])

ومتتبع مفهوم النسق سيقف عند رأي الناقدة يمنى العيد، التي أبقت النسق في بوتقة ما جاءت به اللسانيات على أنه "يتحدد النسق في نظرتنا للبنية ككل، وليس في نظرتنا للعناصر التي تتكون منها وبها البنية، ذلك أن البنية ليست مجموع هذه العناصر، بل هي هذه العناصر بما ينهض بينها من علاقات تنتظم في حركة، العنصر خارج البنية غيره داخلها، وهو يكتب قيمة داخل البنية في علاقة ببقية العناصر"[v] بهذا كتبت على النسق السجن إلى الأبد كما فعل من قبل البيناويين .

وتكلم عنه في مؤلفه التشابه والاختلاف عموما "هو انتظام بنيوي يتناغم وينسجم بينه ليولد نسقا أعم وأشمل على سيبل المثال يوصف المجتمع بأنه نسق اجتماعي عام ينتج عنه أنساق متفرعة انتظمت معه وشكلته فتولد عنه نسق سياسي وآخر اقتصادي وعلمي وثقافي، تنسج علاقاتها فيما بينها في مساقات متفاعلة ومتداخلة"[vi]

يقول: "النسق من حيث هو دلالة مضمرة فإن هذه الدلالة ليست مصنوعة من مؤلف، لكنها منكتبة ومنغرسة في الخطاب"[vii]

يعرفها "الأنساق الثقافية هي انساق تاريخية أزلية وراسخة، وعلاماتها هي اندفاع الجمهور لاستهلاك المنتوج المنطوي على هذه الأنساق"[viii] فمن المقروئية يأخذ النص قيمته وقوته.

     وعليه، تعد دراسة السياق محل اهتمام القضايا التداولية جميعا، لأن تحليل النصوص يخضع إلى السياق وكذلك تحليل أفعال الكلام وقوانين الخطاب، ويمكن القول بأن اهتمام الدرس التداولي كله ينصب في بحث مدى ارتباط النص بالسياق، إذا فـ «السياق مفهوم مركزي يمتلكه طابعه التداولي».^([ix])

" دراسة للعلاقات بين اللغة والسياق أو هي دراسة لكفاية مستعملي اللغة في ربطهم بسياقاتها الخاصة ".^([x]) وبذلك يتضح التحليل التداولي في فك رموز رسالة المتكلم، من المحتوى المراد، حتى لو كانت الرموز مشتركة، لأنها قد تحتوي على اللامقول والضمني، واعتمادا على ما يزودنا به السياق من فرضيات حول قصد المتكلم.^([xi])

يقول الشاعر في قصيدة هبوط:

قالت النقطة:

أيّها الحرف

إنّك بحر عجيب،

وملك مطارد،

وساحر يأكل قلبه كلّ شيء،

وطفل أضاع دربه في الوديان السحيقة،

وإله رحيم لكنّ أتباعه القساة والقتلةـ

وشاعر أعمى مهووس بالجنس والنار والموت... [xii].

فالشاعر مثل ما تأملنا في الأبيات السابقة أن تراكيبه اللغوية غير منفصلة تماما عن المعاني التي يقصدها، إذ ينقل لنا معاني مباشرة يضفي عليها صبغته الفنية، وتجربته الشعرية، فتتحول واقعا تتطابق فيه الصيغة اللغوية مع محتواها الدلالي، وهذا يعكسه توظيف عبارته اللغوية " الحرف" في سياقات مختلفة، لكن لها نفس الوقعة والتأثير على نفسية القارئ، حيث يدخله في عالم سريالي/ صوفي/ رمزي/ روحاني، فيجعله يتذوق جمال صوره الفنية، مستخرجا المعاني الخفية المستلزمة من هذه الأسطر الشعرية، التي تضم بحرا هائجا من المعاني الفلسفية والروحانية لكلمة الحرف.

 يقول الشاعر في قصيدة "رسالة الحرف إلى حبيبته النقطة":

حبيبتي: أيّتها النقطة،

أيّتها الحمامة،

أيتها الصخرة الملقاة على حافة النهر،

أيتها الوردة الطيبة،

..أيتها الدمعة: اللؤلؤة،

كيف أجدكِ؟

بحثتُ عنكِ حتى وهن العظم منّي

واشتعلت الروح

.. ربما سأجد أثرك،

وربما ستجدين بقاياي[xiii].

وهو أمر مدعاة للحزن الذي يتملك الذات عند اكتشاف حيز ثقافي وفكري واجتماعي، لا يتناسب والثوابت المتجسدّة في الذات الأولى المبحوث عنها والتي درجت عليها، حزن يتسع ويتفاقم باتساع الدائرة التي تحوي هذه الذات؛ لأنه حزن عميق، وضغط كبير يتحقق في إطار مأساوي عام و يمثل الإدراك الشعري لمأساوية الحياة، ومن هنا وجدنا الشاعر يحاول أن يوحد بين الذات والموضوع[xiv]؛ فللسياق دور بارز في تحديد معنى النص، ومن ثمة تحديد اتساقه، وذلك لأن اللغة وليدة الاحتكاك في المجتمع باعتبار أن المجتمع يحيط باللغة، فإن بيان معناها- بالتأكيد- يرجع إليه[xv].

تخرج سياقات الحرف إلى وجودها الثقافي والاجتماعي، بوساطة التموج اللغوي/ الكينوني، الذي يتحرك داخله وينمو فيه، إذ نحاول تقصي استيراتيجية سياقات الحرف في الديوان، وإبراز ذلك الابتكار والتعامل الخاص مع اللغة، فمثلا يقول في قصيدة: "الحرف يتشظى..النقطة تتدروش":

حرفي تاهَ وسطَ كؤوس الخمرِ والدخان

حتّى أدمنَ صيحاتِ البحر

وصيحاتِ نوارس البحر[xvi]

ويقول في قصيدة "الحاء والألف":

قالت حروفُ الحقّ

وهي تناقشُ في الألِف الشاب:

هل سيُكتب له أن يعيش؟

بل هل ينبغي أن يعيش؟

أو ينبغي– ربّما- أن يموت؟

قالتْ حروفُ الحقِّ كلاماً كبيراً

وكلاماً كثيراً.. [xvii]

2- الحرف في العنوان:

«العنوان للكتاب كالاسم للشيء يعرف به وبفضله يتداول، يشار به إليه، ويدل به عليه»[xviii]،  ومن  هنا فإن الأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره «مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي»[xix]، بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص أو الكتاب، وتفكيك بنياته التركيبية والدلاليـة واستكشاف مدلولاته ومقاصدها التداولية، دون امتلاك المفتاح الأول وهو العنوان، بعدّه تجربة إبداعية متزامنة مع النص الشعري، تقوم بالإشارة إلى مضامينه ودراسته تقتضي الوقوف على معانيه وإيحاءاته، لذا أصبحت دراسة النص الشعري الحديث تنطلق من العنونة، إذ «تشتغل عتبة العنونة بانتاجية شعرية عالية في سياق الإدراك النوعي لأهمية وضع العتبات النصية في معمارية التشكيل النصي، وهي تتصدر العمل على صعيد التلقي البصري والإيحاء الذهني »[xx] . ومنه تنوعت سياقات الحرف:

واللافت للانتباه أن العنوان شكّل في أعمال كمال الدين أديب نسقا لغويا يحيل إلى أنساق مضمرة في حياة الشاعر والإنسان والعاشق والمغترب، مادته الأساسية كانت اللغة مع ما تحمله هذه اللغة من أبعاد وإيحاءات تجعل من دراسته أمرا واردا ومشروعا. إنه بؤرة إبداع تؤدي أبعادا تواصلية وتداولية دسمة تحتاج إلى الدرس  والدلالة التداولية للعنوان تجعله يحمل معنى القصد والإرادة وهو مرتبط أساسا بفعل التواصل كما أشرنا سابقا إذ هناك قصد للإرسال وقصد آخر للاستقبال لأنه «عبارة عن رسالة وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه بحيث يسهمان في التواصل المعرفي والجمالي، وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية يفككها المستقبل ويؤولها بلغته الواصفة (الماوراء لغوية)»[xxi] ، فهذه العلاقة التواصلية التي يؤسسها العنوان الحامل لمقصدية المرسل تؤدي سلوكا يسهم في إغناء التجربة الإنسانية والتفاعل الاجتماعي.

3-  سياقات الحرف في المجلد الثالث: استنطاق لنماذج مختارة:

ويقول في قصيدة: "سؤال مسدود":

كيف متّ

أنتَ الذي اقترحت للعيدِ فجراً وأرجوحة

وللفراتِ عنوانه السعيد،

وللرفقةِ دمعةً وضحكة،

أعني حرفاً ونقطة[xxii]

حرف يراه الشاعر، ويغرق في تصويره، باحثا عن عالم جديد بخياله ورغبته الجامحة التي اخترقت كل حدود العقل والمنطق، عبر خلفية ثقافية للنص يتشاركها الناص والقارئ؛ لأن أي نوع من التفاعل اللغوي أو التبادل الحواري لا يمثله فقط مجموع الرؤى، أو الأصوات المحيطة بالحدث، ولكن أيضا كل التاريخ الثقافي الكامن في عقل المشاركين في الخطاب،

إن الوجود الإنساني حوار مع العالم.. وهذا الحوار عودة إلى فكرة التواصل الذي انقطع، فالحوار يعني أن هناك دائما احتمالا جديدا.

والرهان في هذه الحال، لا يتعلق بإيقاف الحوار والتفاعل  لعله يدل بالعنوان على عنوان قصائده ويقصد بالحرف العائم الأشعار والحروف والكلمات التي تثبت على حال واحدة ولا على تعبير ومعنى واحد، إذ يتمنى جلال الدين الروميّ لو أن صديق الشاعر عرف قلب الله – دلالة على الذات الإلهية – لما اضطر إلى سرقة العنوان، فبذلك يكون من الناجين مع النبي نوح " نبي الطوفان" من الغرق والموت.

يشير فان ديك إلى ما يسمى بالسياق الراهن أو الواقعي، (actual context)، وهو السياق الممكن في حالة محددة في الزمان والمكان الذين يتحقق فيهما النص كنشاط مشترك بين كل من المتكلم والمخاطب اللذين يحددان خاص الـ(هنا) والـ(الآن) منطقيا، ومعرفيا[xxiii]؛ إذ كل سياق واقعي، و كل جزء منه توجد له مجموعة من البدائل.

ويقول في قصيدة "انسلال":

كنتِ حرفي ونقطتي وعنوان قصيدتي

كنتِ مطري الأسود الذي حاصرني

فرقصتُ عارياً مثل سكّين،

وكنتِ فجري الذي أشرقتْ

فيه شمسي الخضراء[xxiv]..

من خلال سياقات الحرف نرى إن الشاعر يعيش ضغوطات في حياته اليومية - سواء نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية– أثّرت عليه تأثيرا سلبيا داخل مجتمعه، فكانت هذه الضغوطات كحلقة وصل بين متناقضين هما: الواقع والأحلام؛ إذ انعكس واقعه على أحلامه بقوة، ولعدم تفاؤله بواقعه من شدة التوتر والضغط الذي يعيشه أصبح متشائما حتى في أحلامه، ولعل ما يدل على هذا عبارة "مطري الأسود"؛ إذ أن رؤية السواد، تدل على الأمر السيء غير المرغوب، إذ يتعجب الشاعر من الأوضاع المزرية التي آل إليها مجتمعه، فقد قرر أن يصبغ ليله باللون الأخضر، ليدل به على الخصب والنماء، والاستقرار النفسي والخارجي، ذلك ليغير أحواله إلى الأحسن، ولكي يحقق الانسجام بين واقعه وحلمه وليتفاءل بالغد الأفضل. يقول في قصيدة" أقوال":

قال الحرف الحكيم للنقطة الشاعرة:

..إنْ جئتكِ عشقتكِ.. وأصبحتُ ساحراً

فأجابت النقطة:

إنْ جئتكَ ذبتُ فيك

وأصبحتُ نبية،

والنبوّة لا تصلحُ للنساء؟[xxv]

يسعى الشاعر عبر نسقية حرفه؛ إلى إقناع قارئه، والمثقف عندما يروم إقناعنا بصحة رؤاه...، كل هؤلاء يستخدمون في تواصلهم الحِجاج ويمارسون فن الإقناع[xxvi].

  حسب هذا المواقف الشعرية والشعورية الحروفية، نفهم أن المُخاطِب لا يهدف إلى التواصل مع المخاطَب لمجرد التعبير أو الإخبار أو الإعلام، ولا يقصد تقديم المعلومات له فحسب، بل يسعى إلى التأثير فيه، ودفعه إلى اتخاذ موقف ما من القضية التي تشكل موضوع التفكير، إلى الحرف بما يحمل من معاني وسياقات، فيغدو بذلك الحجاج بالحرف وللحرف دافعا للتواصل.

  كون الحجاج- بذلك- يعني التحكم في آلياته وتوظيفها في النسق اللغوي وغير اللغوي (الخطاب)، لأجل التواصل مع الآخرين وإقناعهم بوجهة النظر أو الرأي أو الموقف أو السلوك أو الأطروحة. فمدار الحِجاج يتوقف على الرأي المحتمل، وتبادل هذا الرأي وتوصيله للآخر يستلزم توظيف لآليات الحِجاج؛ فالحِجاج والتواصل يجمعهما الرأي المحتمل والخروج برأي معين من شأنه أن "يحقق القوة والفعالية في الحياة الاجتماعية اليومية"[xxvii]، عملية قام بها الشاعر وأبدع في نسج حروفها ليشكل لقارئه سيمفونية يستمتع بها ولها، لوحة تسره، قوة روحية تأخذه إلى العالم الآخر من الكلمة الحروفية.

 كما يمكن القول في توظيف لفظة "الحرف.." فهنا يقصد به العمق والرغبة والكيان المجروح، وكلها صفات لحالة الإنسان التي تعاني الحرب والفساد والاضطهاد، حيث يخرج الإنسان إلى الشارع باكيا، وهذا الحال الذي قصّه الشاعر واقتطعه في البيت السابق، ليجعلنا ننغمس في واقع عربي حروفي يجيد تصويره شاعر الحرف بكل تميز، أراد منّا أن نحس بحرفه، كيف يصبح حين تسلب منه النقطة، فتموت حريته-إنسانيته.

أديب كمال الدين، شاعر حروفي يناضل من أجل الكلمة والحرية، هو شاعر يعيش بالحرية وعاش للحرية ولا تكتمل إنسانية الإنسان ما لم تكتمل حريته: حرية الروح، حرية الفكر، حرية القلم، والحرية كالإبداع، الذي يأبي أن يكون موجودا ما لم يكن حرا؛ فشكل السياق بذلك " قطبا معلوماتيا مع كل قطب "[xxviii]،

   من خلال السياق النصي لهذه الأبيات يتضح لنا أن الشاعر أديب كمال الدين قد عاش معاناة طويلة شملت: النفي فقد أمسى الشاعر في المنفى خارج وطنه، وقد وعد موطنه بأنه سيحافظ عليه وأصبح ينتظر وعيده إذ لقى حتفه في المنفى، ولعله عانى من الحرمان والضياع في وطنه قبل النفي ثم وجد الدخان في المنفى؛ فكأن حياته صارت دخانا لا تعني شيئا؛ إذ تحولت إلى هباء منثور ليس لها معنى فصارت رحلته بين النفي (من وطنه) إلى المنفى (إلى وطن آخر) رحلة لا فائدة منها فهي كما وصفها رحلة العبث الأكبر التي لا مفر منها.

فما أحقز الإنسان، وهو يضطهد الإنسان، رسالة من الشاعر أديب كمال الدين، إلى كل الثائرين ضد همجية الإنسان وإلى الأطفال المضطهدين في كل شبر من هذه الأرض؛

   إذ «يبحر أديب كمال الدين في مغامرة أو بمعنى أصح في رحلة مع حرف النون ومع نقطة النون فلعله يتأمل هذا الحرف، إذ يدعوا القارئ إلى عدم السؤال عنهما فهما غنيان عن التعريف، فقد رسم حياة الناس عبر حياته أيضا»[xxix]. وشكَّلها وأفصح عنها من خلال قصيدته الحروفية، التي تقول بأن النون سرٌّ عظيم قسم به خالق الكاف والنون. فالنون بالنسبة للشاعر هي سر عظيم يكتمه في أعماقه ووجدانه.

إذ يوضح قوله ويقول: قسم به خالق الكاف والنون وكأنه يقول: بأن الله تعالى قسم بالكاف والنون، فقد كان الجمع بين الكاف والنون بحرف الواو يدل على الكون (العالم ككل) فخالق الكون قسم بحرف " النون " وكأن الشاعر يقودنا إلى سورة من سور القرآن الكريم، فقد أقسم الله تعالى بــــ: حرف النون في سورة القلم.

  ويقول في قصيدة " شطحات النقطة":

أدافعُ عن حرفٍ ليس لي،

أدافعُ عن نونٍ لها ما لها

وعن جيمٍ تقودُ طفولتي

نحو فراتٍ من السكاكين

وعن شينٍ مقدّسةٍ من تراب

... كيفَ أدافعُ عن أبجديتي

وأنا الذي رماني السَّحَرَةُ بلوحٍ من النار

ورماني الغجرُ بحجارةٍ من سجّيل

ورماني الرماةُ بسهمٍ من الحقد

كيف لي ،

بعد هذا جميعا ،

أنْ أدافعَ عن حرفي

وأمنحه ماءَ قلبي وشمسَ كينونتي؟ [xxx]

فكيف تأمل وتفكر الشاعر أديب كمال الدين في النون وكيف لاحظ النقطة بل كيف تعرف على جمال الخالق من خلالها؟ فهو السر الأعظم، فلعله نور قدرة خالق الكون أو هو نور عنوان وعتبة القصيدة. فنصوص الشاعر قادرة على التعبير عمّا يخطر بباله، وما يسيطر على خياله، بحيث لا يختلط شيء بشيء؛ لأن التقارب بين الكيان النصي، وكيان العالم يجبر القارئ على أخذ الكيانين بعين الاعتبار، ففهم النص هو فهم له في كليته في هذا المستوى ولتكتمل دلالته لابد أن ينبع من فهم العناصر الجزئية المكونة له؛ لأن" فكرة الدلالية إذا أخذت خارج السياق تصبح غامضة تماما"[xxxi]، وربطها بمراد المتكلم.

الكلمات في نصوص كمال الدين أديب تعقد دلالتها المعجمية، حتى أننا نشعر، فيما نقرأها أننا لا نقرأ كلمات وإنما نقرأ أصداء حروف أو نقرأ شحنة نفسية و تخيلية وفكرية وروحانية وفلسفية وصوفية، ترشح من هذه الحروف وعلاقاتها حتى لتبدو الكلمات أنها أفرغت كليا من معناها المعجمي، أو مما وضعت له في الأصل اللغوي، "يبدو أن الكلمات ليست لها معان، وإنما تكون لها أو تكتسبها في سياق استعمالها بل أكثر أيضا: ويبدو أن ليس المعنى في الكلمة بل في علاقاتها "[xxxii].

فكان الحرف والقلم أداة كل إنسان لا يفارق الدمع عينيه وسلاحه الذي يعينه لتحقيق غايته فيعبر بالحروف والكلمات ليفرح نفسه الباكية وروحه العطشى للكتابة، كما كان حرف النون كالوطن لمن لبس الريش وحاول مغادرة بلده أو نُفِي من بلده مبكرا وتجاوز البحار والمحيطات وكأنه طائر فوق البحار لأبعد مكان نُفي إليه رغما عنه أو مكان هاجر إليه.

وهذه الأنساق الثقافية والسياقات المرجعية في النص قيد الدراسة، على الرغم من اختلافها وتعددها إلا أنها تتجه نحو التركيز، ويمكن أن تعرف كحقول مرجعية للنص طالما أن الأنساق تظل وحدات منظمة للعالم الموجود، وتؤدي وظائفها المنتظمة، فإنها تعتبر الواقع ذاته؛ ذلك أن اللغة- عنده- ليست هدفا جماليا في حد ذاتها، بل صارت شيئا آخر: أداة، أو جسرا أو بديلا عن شيء ما يقع خارج الجسد الشعري"[xxxiii]؛ لأن الحرف بالنسبة للشاعر جواد أحلام وآمال هو الشاعر، هو الوطن، هو الحرية، هو العالم.

النقطة قد تشكل الموت والسكون أو هي بداية لشيء ما، في رحلة طموحه لخلق وجود بديل عنه- وجود آخر يهيم فيه في رحلة سفره بحثا عن المجهول، فيحيا في تساؤلات الحرف ومجاهيله.

شكّل الحرف قوة مركزية وإشعاعا فكريا وحضاريا في أعمال الشاعر، بظروفه الاجتماعية والثقافية والسياسية، كان  مملكة مترامية الأطراف حدودها: الخوف، والحزن والألم والظلم والحرمان، الفلسفة والحب والغربة، وشمسها طفولة بريئة، وقمرها الحلم بالحرية والشعر، وملكتها النقطة، التي يقف فيها حكيما؛ بلغة ناقمة على أشكال والبؤس الإنساني، وكلمات لاسعة كألسنة النيران، ترجّه بقوة؛ ليقف القارئ أمام هذه المملكة ناقدا باكيا ضاحكا تسكنه الأسئلة.  

الإحالات:

***********

 نُشر (الحرف: فلسفة وجمال وسياقات في شعر أديب كمال الدين، قراءة لنماذج مختارة من المجلد الثالث، مقاربة نسقية) في  مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد 48 ، 2017.