المقدمة:
عرف النقد الحديث المنهج السيميولوجي
(السيميائي) في أواخر الستينات.
وتجاوباً مع التسارع الكبير في وتيرة
التقدم النقدي للفنون الشعرية ارتأيت
البدء بخطوة متواضعة على طريق دراسات
أكبر في مجال التحليل السيميائي
للنصوص الشعرية. وذلك عبر استخراج
التحليل السيميائي للمنجز الشعري
للشاعر أديب كمال الدين الذي قامت به
د. أسماء غريب في كتابها: (تجليات
الجمال والعشق عند أديب كمال الدين).
ومشكلة هذا البحث تتلخص بالكشف عن
الصعوبات التي تواجه القارئ عند
اطلاعه على العلامات التي يطلقها
(الحروفي) أديب كمال الدين في نصوصه
الشعرية، وتتبع استجابة نص شعري عراقي
معاصر لقراءة ذات طابع دلالي بطريقة
تؤمن للقارئ فرصة فهم مغاير؛ فنظرية
العلامة أُرِيدَ لها أن تلقي الضوء
على ما كان يلتبس من مفاهيم عامة،
وغالباً ما كان هذا الالتباس مقصوداً
في ذاته أو لغيره.
وتأتي أهمية كتاب د. أسماء غريب بوصفه
محاولة في منهج يتيح قراءة سيميائية
للنصوص الشعرية، ونصوص الشاعر أديب
كمال الدين بخاصة. فضلا على محاولته
التعريف بتجربة أديب كمال الدين
الشعرية التي كانت تسعى إلى التميز
والتفرد؛ فهو تمكن من الوصول إلى النص
الشعري القادر على أن يكون منتجا
لدلالات تشغل عقل المتلقي بالتأويل
والتفسير والشرح وتحليل الرموز
والإشارات التي يلجأ إليها صانع النص؛
ذلك أن القصيدة الشعرية الناجحة في
رأيي لابد من أن تستعيض عن (الدفق
العاطفي) الذي كان سائداً في النصوص
الشعرية التقليدية بما يمكن أن نسميه
هنا (بالدفق الدلالي) الذي اعتبره
بديلاً حيوياً للرومانسية.
ولا مجال للإنكار بأن أيّ أثر أدبي
مهما بدا للقارئ أو للباحث والناقد
غامضاً فإنه ينطوي على دلالات بعينها
يتقيّد بها تأويله ويُحدّ بها فهمه،
واللغة تُعدّ أول هذه الحدود التي
يظهر فيها هذا الأثر؛ لأنّ ما تحويه
اللغة من علاقات هي التي تحيل القارئ
على ثقافة وحضارة مجتمع ما، الشّيء
الذي يُلزمه بتحرّي نوع من الموضوعية
التي لا يُمكن تجاوزها أو التخلّي
عنها. أما الحدّ الثاني الذي يتقيّدُ
به تفسير النّص وتحليله فهو بناء
النّص ذاته بكلّ ما قد يحويه من غموض
وفراغات قد يضعها الكاتب مُنتظراً أن
يملأها القارئ. اللغة والبناء هما
اللذان يلزمان القارئ بقدر من الوفاء
لمقصد الشاعر ولطبيعة العصر والزمن
الذي ألفَ فيه مجاميعه أو نصوصه
الشعرية. لذا فإنّ نصّ الشّاعر أديب
كمال الدّين الذي هو شأن دراسة
الكاتبة د. أسماء غريب، لن يحمل بين
طياته معنى واحداً تقتصر القراءة على
اكتشافه كما أنّه لنْ يكون منفتحاً
على قراءات شتى تجعل منه نصّا قابلا
لأيّ تأويل يُوضع له.
وهذه الدراسة تنبني على مبحث أول
تمهيدي يضم ترجمة للشاعر أديب كمال
الدين، والتعريف بتجربته الحروفية،
وبيانا للمنهج السيميائي من حيث:
المفهوم والمعنى والتاريخ. والمبحث
الثاني كان في دراسة دلالة النقطة
والحرف اللذين ميزا الشاعر وتجربته
الشعرية، والمبحث الثالث كان في دراسة
دلالات الألوان عند الشاعر لتأشير
الدلالات التي تطلقها العلامات
والإشارات والرموز والصور والإيقاعات
الصوتية والبنى اللغوية المنبثة في
النص الشعري للشاعر أديب كمال الدين.
وبعد اكتمال هذا التحليل ختمت الدراسة
بمجموعة من النتائج التي توصلت إليها
عبر تحليل نص كتاب د. أسماء غريب.
تليها قائمة بالمصادر والمراجع.
أ.م.د. حيدر كريم الجمالي
الباحثة:
رؤى فاروق
إبراهيم
قسم اللغة العربية من التربية
الاساسية
بجامعة
الكوفة
المبحث الأول
تمهيد:
عن الشاعر وتجربته الحروفية ومقاربة
الدراسة
أولا- أديب كمال الدين:
ولد الشاعر أديب كمال الدين في الحلة
ببابل عام 1953م. وحصل الشاعر على
شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من
كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد
عام 1976م.
وله أيضا شهادة البكالوريوس
في الأدب الإنكليزي من كلية اللغات
بجامعة بغداد عام 1999م. وحصل أيضا
على دبلوم الترجمة الفورية من المعهد
التقني لولاية جنوب أستراليا، في
أديلايد بأستراليا عام 2005م، وعمل
مترجما وصحفيا.
ولأسباب مختلفة اضطر الشاعر إلى
مغادرة العراق بحثاً عن مناخات أكثر
اتساعاً تتيح له التعبير عن قدراته
الإبداعية بعيداً عن أي شكل من أشكال
الرقابة.
وهو مقيم في
أستراليا.
وفي مجال الشعر له الكثير من المجاميع
الشعرية، وهي:
·
تفاصيل- مطبعة
الغري الحديثة – النجف،
1976م.
·
ديوان عربيّ- دار الشؤون
الثقافية العامة - بغداد، 1981م.
·
جيم– دار الشؤون الثقافية العامة –
بغداد،
1989م.
·
نون- دار الجاحظ – بغداد،
1993م.
·
أخبار المعنى- دار الشؤون الثقافية
العامة - بغداد،
1996م.
·
النقطة- بغداد،
1999م.
·
النقطة- (الطبعة الثانية) - المؤسسة
العربية للدراسات والنشر- عمّان –
بيروت،
2001م.
·
حاء- المؤسسة العربية للدراسات والنشر
– عمّان- بيروت،
2002م.
·
ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة - دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان – الأردن،
2006م.
·
شجرة الحروف- دار أزمنة للنشر
والتوزيع - عمّان – الأردن، 2007م.
·
أبوّة Fatherhood
- (بالإنكليزية) دار سيفيو-
أديلايد- أستراليا، 2009م.
·
أربعون قصيدة عن الحرف- دار
أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان-
الأردن، 2009 م.
وقد فاز شاعرنا بجائزة الإبداع الكبرى
للشعر،
عام 1999م. وتناولت تجربة الشاعر في
الكتابة الشعرية عدة كتب، فصدر عن
تجربته كتاب:" الحروفي:
33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال
الدين الشعرية"
إعداد وتقديم الناقد د. مقداد رحيم،
عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، 2007م.
وفي مجال الترجمة ترجم الشاعر إلى
العربية قصصاً وقصائد ومقالات لجيمس
ثيربر، وليم كارلوس وليمز، أن
سرايلير، والاس ستيفنز، إيلدر أولسن،
أودن، كاثلين راين، اليزابيث ريديل،
جيمس ريفز، غراهام غرين، وليم
سارويان، دون خوان مانويل، إيفا دافي،
فلادمير سانجي، مارك توين، موري بيل،
إيغرا لويس روبرتس، أدولف ديغاسينسكي،
جاكوب رونوسكي، روست هيلز، ألن باتن
وعدد من شعراء كوريا واليابان
وأستراليا ونيوزيلندا والصين وغانا.
وأعدّ الشاعر للإذاعة العراقية العديد
من البرامج، منها: "أهلاً وسهلاً"،
"شعراء من العراق"، "البرنامج
المفتوح"، "ثلث ساعة مع..."، "حرف
وخمس شخصيات".
وقد عمل الشاعر في الصحافة منذ عام
1975. وشارك في تأسيس مجلة (أسفار).
وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين،
ونقابة الصحفيين العرب، ونقابة
الصحفيين العالمية. وعضو اتحاد
الأدباء في العراق، واتحاد الأدباء
العرب. وجمعية المترجمين
العراقيين. واتحاد الكتاب الأستراليين
– ولاية جنوب أستراليا، وجمعية
الشعراء في أديلايد. وتُرجمت قصائده
إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية
والرومانية والإيطالية والإسبانية
والكردية والفارسية([1]).
ثانيا- التجربة الحروفية عند أديب
كمال الدين:
الشاعر أديب كمال الدين اختطَّ لنفسه
طريقاً عسيرةً تتماشى وما في هذه
الحياة من تعقيدات وإشكاليات. وقد رأى
أنَّ النظر إليها بالطرق المعهودة لا
نفع فيه وهو يَنشُدُ الطرافة وابتداع
الوسائل الكفيلة بالتغيير الذي هو سمة
الحياة في كل زمان وفي كل مكان. فلفتَ
إلى تجربته أنظار النقّاد فضلاً على
القرّاء ومحبي الشعر تلك التجربة التي
شَكَّلتْ ظاهرةً في الشعر العربي
الحديث، كما شكَّلتْ الظاهرةَ الكبرى
في شعرهِ هو. واصطلح النقاد والمهتمون
بأمور الشعر العربي الحديث، وشعره
خاصةً، على تسمية تجربته بـ(التجربة
الحروفية)، حتّى أصبح لصفة (الحروفي)
وقعها الخاص الذي يدلُّ على الشاعر
أديب كمال الدين وحده([2]).
يقول د. ضياء نجم الأسدي في مقالته: "يحاول
أديب كمال الدّين في منهجه الشعري أن
يصنع عالمين: أحدهما افتراضي يلعب فيه
الحرف دور البطولة المطلقة ويمارس
القوة الإنجازية بما أودعه الشاعر فيه
من قدرة على الخلق. فهو في عالم القوة
والفعل معا. وهو
بهذا يمارس لعبة خطيرة ويحاول أن
يحاكي قصة الخلق والتكوين. إنها
تشابيه لواقعة الخلق. يريد الشاعر أن
يجسدها أمام الخليقة (في عالمه
الواقعي) ليريهم المدى الذي بلغته
خطيئاتهم الكبرى والحد الذي وصلوه في
التمرد على بارئهم وجحود لطفه"([3]).
وأهمّ ما يُميّز قصائد أديب كمال
الدّين الواردة في مجاميعه الشعرية
حديثها وقديمها هذه العلاقة المتواشجة
فيما بينها وإن باعدت بينها سنوات
الإصدار أو أمكنته، وهي في هذه
العلاقة التكاملية لا تريد أن تؤسس
لأيّ مظهر من مظاهر التكرار أو
الرتابة للطريقة التي يتمّ بها التطرق
لمعنى معين أو موضوع ما، بل على العكس
من ذلك، فالغاية هي وضع اللبنات
الأولى لبناء معماري تحْتكِمُ هندسته
إلى وشائج صامتة تختلف ملامحها
باختلاف درجات وعي الشاعر بها أثناء
ممارسته لفعله الكتابي. إذ غالباً ما
تطرح قصيدة ما سؤالاً معرفياً ما في
ديوان أول كي يُكتشف فيما بعد أن
الجواب عنه قد يكون في الديوان الذي
يليه أو الثالث أو الرابع، كما أنه
غالباً ما يطرح الشاعر قضية ما أو
يحكي قصة ما لا يجد الدارس لعقدتها
حلاًّ إلا فيما يلحقها من الدواوين
الأخرى. وقد
تمكّن من الغوص في بحار الحرف والكلم،
وقدم للإنسانية كلّها هذه التجربة
الفريدة في الشعر العربي التي استحق
عليها لقب (الحُروفيّ):
"ثمّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحُروفيّ
والحرف جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحُروفيّ.
قالَ: بل الصُوفيّ
والحُروفيّ جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الصُوفيّ.
قالَ: بل العارف
والصُوفيّ جزءٌ منه.
قلتُ: أنا العارف،
فَلَكَ الحمد ملء
السماوات والأرض.
وبكيتُ على السجّادةِ
الخضراء
حتّى اخضلّتْ روحي.
قال: ما لكَ تبكي كلّما
خاطبتُك
|
حتّى تخضّل روحُك؟
قلتُ: أغثْني ثُمَّ
أغثنْي.
قال: إنَّ لكَ عندي
وِرْداً مِن نور:
سبحانَ الله
والحَمدُ لله
ولا إلهَ إلا الله
واللهُ أكبر.
فإنْ صادفَكَ ذئبٌ بشريٌّ
أو ذئبٌ كَلْبيّ
فاقرأْه بوجهِه
فسيهربُ منك
يجرُّ هزيمتَه جَرّاً.
خُذْ هذا السرَّ مِنّي
جوهرةً تتلألأُ مِن عَرشي
حتّى تصلَ إلى مثواكَ
بأقصى الأرض."([4])
|
وعن تجربة الشاعر الحروفية يرى د.
ناظم عودة: أنّ النقطة بوصفها رمزاً
تختلف ما بين
الحلاج وأديب كمال الدين، لأنّ الحلاج
يمتلك تجربة صوفية تتمثل في سلوكه
الروحي وفي كلامه، في حين أن أديب
كمال الدين لا يمتلك تجربة صوفية
شعرية، فهو
يستعير من التجربة رموزها حسب. وثمة
فرق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند
كلٍّ منهما، الأول يدخلها في حيّزه
اللساني والحدسيّ، لتكون علامة وموضوعاً
في آنٍ، والثاني يدخلها في حيّزه
اللساني حسب، لكنه لا يستطيع أن يضعها في
مجاله الحدسيّ، فهي تتشتت بين نوازع
وجدانية مختلفة([5]).
وبهذا فإنّ الشاعر يتعامل بحساسية
فائقة مع دلالات الحرف وشفرته اللغوية
باعتبارها المادة الحية التي تحيل
الشاعر إلى العالم الخارجي وهو يبادل
أدواره في المعنى أو الصورة. وإزاء
هذا يجد الشاعر نفسه دائماً في
فضاء من الدلالات التي تمارس لعبتها
في تفكيك بنية الجملة الشعرية الصورية
إلى بنيات ثانوية يمتزج فيها الهاجس
الصوتي مع التشكيل الصوري لينسجا
تشكيلاً أشبه بتشكيلات الحروفيين في
الرسم، إذ يكتسب الحرف الأيقوني
والحرف الموصول مع اللون والكتلة صفات
حسية وذهنية مثلما يحيل نفسه إلى بنية
صوتية هي في جوهرها النداء الخفي الذي
يلامس المعنى والروح([6]).
أما وديع العبيدي فيرى أن هذه التجربة
هي تعبير عن العجز عن تغيير الواقع أو
حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق
الشرّ، وقد دفع هذا العجز إلى
إيمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث
كلماتي حتّى يعتدل العالم (مجموعة
أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة
مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة
(نون) [ حبّكِ ناطحةُ سحاب/ حلمتُ
بها/ وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً
طابوقة/ وحين أكتمل البناءُ العظيم /
نسفتُها من الأعماق.] أو الخروج
من الراهن للدخول في متاهات المطلق
والمغيب التي مثلت المستوى الآخر
(اللذيذ) في معالجات الشاعر للأحداث
والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية
الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية
والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي
والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]،
كما كانت مجموعة (حاء) تمثل، من وجهة
نظر العبيدي، تجاوزاً لمرحلة الخوف
والحرمان والحرب والحصار، لتضمنها
رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت
ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة
من ظلمات الجحيم، فهي أكثر نزوعاً
بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها
وأكثر انفتاحاً للحبّ([7]).
ويذهبُ عيسى الصباغ إلى أن الشاعر
ينهل من
تراث المتصوفة المسلمين، فالنون على
ما يبدو في ذلك التراث هي النفس
الكلية التي استعيض عنها بأول حروفها
(نون) والتي تنتقش عليها جميع صور
الموجودات وأحوالها وصفاتها النفس
الكلية في حركتها الدائبة في سيرورتها
الوجودية وفي تمخضاتها ولاداتها،
بدءاً من العنوان عنوان
مجموعته (نون) ثم الاقتباس – الآية –
فالإهداء، ومثله في ذلك عدنان الصائغ
الذي يتابع تجربة الشاعر منذ دواوينه
السابقة (تفاصيل) و(جيم) وصولاً إلى
ديوانه (نون) ويجد أنه يسعى إلى
استلهام الحرف العربي، وتوظيفه في
القصيدة توظيفاً جديداً، يأخذ
من التراث جذوره الصوفية ومحاولات
المتصوفة في التأكيد على بواطن
الحرف وما ورائياته، كما عند ابن عربي
والنفريّ والحلاج والسهروردي، ولكنه
يضيف أن الشاعر يأخذ من الحداثة
شكلها الجديد في رسم القصيدة صورياً،
بالاعتماد على طاقة الحرف في التوصيل
والإيحاء والصيرورة([8]).
أما عبد الرزاق الربيعي فيعمِّق النظر
في تجربة الشاعر في هذه المجموعة
فيتناولها من زاوية استعماله للون
ويرى أن للشاعر صلة قربى بالفنان
التشكيلي من هذه الناحية، غير أن هذه
القربى عمّقتْ نصوصه وأغنتها، وجعلت
اللون فيها ملمحاً جمالياً من
ملامحها، ويرى أن لكل لون من الألوان
خصوصيته في الدلالة، وأن لكلّ حالة
لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة
الشاعر للعالم والوجود، فتستحيل
ألوانه إلى مرايا عاكسة لذاته
وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن، ومن
العشق والوله إلى اللامبالاة، ومن
الوطن إلى المنفى، وهكذا([9]).
ثالثا- في المقاربة السيميائية:
1-
المفهوم والمعنى:
إن "نظرية
العلامة أريد لها أن تلقي الضوء على
ما كان يلتبس من مفاهيم عامة، وغالباً
ما كان هذا الالتباس مقصوداً في ذاته
أو لغيره"([10]).
و"ان وجود العلامات مرتبط بوجود
الحضارة، بالمعنى العادي للكلمة"([11])
وهذا الأمر يبدو أكثر ظهوراً ونحن
نحاول تتبع وتحديد الرسائل الدلالية
التي يطلقها نص شعري عراقي معاصر.
وكلمة سيمياء عربية الأصل،
وأن مصطلح "السيمياء" كان متداولاً
عند العرب بمعنى العلامة. وذلك لا
يتعدى الإشارة إلى معرفة العرب
للعلامة ووظيفتها. لا أن هذا العلم
(السيمياء) بصيغته الحالية كان
معروفاً آنذاك([12])،
والكلمة مشتقة من الفعل "سام" مقلوب
"وسم"، وأن: "السومة والسمة والسيماء
والسيمياء: العلامة، وسوم الفرس: جعل
عليه السيمة، وقوله عز وجل: {حجارة
مسومة عند ربك للمسرفين}؛ ... معلمة
ببياض وحمرة، و... مسومة بعلامة يعلم
بها أنها ليست من حجارة الدنيا ويعلم
بسيماها أنها مما عذب الله بها؛ ...
السومة بالضم العلامة، تجعل على الشاة
وفي الحرب أيضا، تقول منه تسوم. ...
قولهم عليه سيما حسنة معناه علامة ...
والخيل المسومة هي التي عليها السمة
والسومة وهي العلامة. و... السيم
العلامات على صوف الغنم. وقال تعالى:
{من الملائكة مسومين}؛ قرئ بفتح
الواو، أراد معلمين... وفي حديث
الخوارج: سيماهم التحليق أي علامتهم،
والأصل فيها الواو فقلبت لكسرة السين
وتمد وتقصر، وقد يجئ السيماء
والسيمياء ممدودين..."([13]).
ووردت اللفظ في القرآن الكريم بمعنى
العلامة المتصلة بملامح الوجه أو
الهيأة أو الأفعال والأخلاق. بقوله
تعالى: (تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ
يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)،
البقرة: 273، (وَعَلَى الأَعْرَافِ
رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ
بِسِيمَاهُمْ)، الأعراف: 46،
(وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ
رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ)، الأعراف: 48، (وَلَوْ
نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ)، محمد:
30، (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ)، الفتح: 29،
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ
بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ
بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)،
الرحمن: 41.
ويرى د. يوسف إسكندر بـأن "العربية قد
استساغت هذا الوزن الصرفي فأكثرت من
التعريب على وفقه أو من الاشتقاق له،
خصوصاً في أسماء العلوم، وليست في
العربية كما لاحظنا، أصلا، صلة بين
هذه الوزن الصرفي وبين أسماء العلوم
كما هي الحال مع الكيمياء، وفي تعريب
الفيزياء، واصطلاحات أخرى مثل
الريمياء والهيمياء والليمياء"([14]).
وتناول الدرس الدلالي العربي مبكرا
موضوعات السيميائية التي تتمثل في أن
الشاعر العربي كان يلتفت إذ يبحث عن
الكلمة المناسبة إلى حدود اللفظ بشكل
يتيح له الوصول إلى تأثير أكبر على
المتلقي؛ ذلك "أن الناقد القديم
يحدثنا عن ألفاظ الشعر، وعن عبارة
الشاعر في نص محدد، ويصف معانيه،
وتختلط ههنا مسائل فرعية عديدة، إذ
تمتزج الأغراض والفنون بالفكرة التي
يحملها بيت شعري واحد أو جزء منه،
وكذلك يتداخل الإيقاع الصوتي للكلمات
والحروف بخفتها أو ثقلها وزناً
صرفياً، وقد يكون لتحليل المفردات ثم
الإفادة من ثمرة هذا التحليل آثار
كبيرة في توجيه الأحكام، ذلك أن معرفة
حدود اللفظة ودلالتها تجعلنا نقدر
اختيار الشاعر لها"([15]).
وهو ما يسمى بالصورة الذهنية والأمر
الخارجي عند المحدثين.
والواقع أن: "المساهمة التي قدمها
المناطقة والأصوليون والبلاغيون العرب
مساهمة مهمة في علم الدلالة انطلاقا
من المفاهيم اليونانية، وقد كانت
محصورة ضمن إطار الدلالة اللفظية،
وتوصل العرب إلى تعميم مجال أبحاث
الدلالة على كل أصناف العلامات، ومن
الواضح أنهم اعتمدوا اللفظية نموذجا
أساسا. كذلك فأقسام الدلالة عند العرب
قريبة من تقسيم "بيرس"، وتبقى أبحاثهم
التي تتناول تعيين نوعية دلالة
الألفاظ المركبة أو بوجه عام العلامات
المركبة وتحليل الدلالة المؤلفة من
تسلسل عدة توابع دلالية مدخلا جديدا
ذا منفعة قصوى للسيمياء المعاصرة"([16]).
و"سوسير" هو الذي اقترح تسمية
(السيميولوجيا) في كتاب (علم اللغة
العام)، فيذهب في فصل من كتابه
بعنوان: (هدف علم اللغة): إلى أن
اللغة نظام من العلامات التي تعبر عن
الأفكار، ويمكن تشبيه هذا النظام
بنظام الكتابة، أو الألفباء المستخدمة
عند فاقدي السمع والنطق، أو الطقوس
الرمزية، واو الصيغ المهذبة، أو
العلامات العسكرية أو غيرها من
الأنظمة ولكنه أهمها جميعاً ويمكننا
أن نتصور علماً موضوعه دراسة حياة
العلامات في المجتمع مثل هذا العلم
يكون جزءاً من علم النفس الاجتماعي،
وهو بدوره جزء من علم النفس العام،
وسأطلق عليه علم العلامات (Semiology)
وهي لفظة مشتقة من كلمة
الإغريقية
Semeion
=
العلامة([17]).
لذلك يحدد سوسير علاقة اللغة بهذا
العلم بأنها جزء منه، والقواعد
التي يكتشفها يمكن تطبيقها على
علم اللغة. فالعلامات تسمح لنا أن
نفكر، وأن تتواصل مع الآخر، وأن نعطي
معنى لما يقترحه الكون علينا. وإننا
لنمتلك تنوعاً كبيراً من العلامات
الممكنة، وتكون العلامات اللسانية من
بينها فئة مهمة، ولكنها فئة وحيدة.
وأن بيرس، في نظريته العلاماتية كرس
نفسه لعمل العلامات عموماً. وقد أعطى
لها مكاناً مهماً، ولكنه ليس المكان
الأول، للعلامات اللسانية. وما كان
يعني بالنسبة إلى العلامات عموماً كان
يعني بالنسبة إلى العلامات اللسانية،
وليس العكس([18]).
ومجموعة الإشارات والملاحظات عن
الطبيعة العامة للسيمياء تقودنا إلى
مجموعة من التعريفات التي يمكن أن
تساعدنا فيما بعد في تتبع البنى
الدلالية في نصوص الشاعر أديب كمال
الدين عند الكاتبة د. أسماء غريب؛
فالسيمياء حسب تعريف بير جيرد هي:
"علم يدرس أنساقٍ الإشارات، لغات
أنماط إشارات المرور إلى آخره وهذا
التعريف يجعل اللغة جزءاً من العلامة"([19]).
وهي عند "سعيد بنكراد": دراسة حياة
العلامات داخل الحياة الاجتماعية،
ويقول بأنها تدريب للعين على التقاط
الضمني والمتواري والمتمنع، لا مجرد
الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير
عن مكنونات المتن. ومفهوم العلامة
يشير "إلى موضوعات وأشياء ملموسة أدنى
من التجريد لان المدلول عليه بعلامة،
ادنى من المدلول عليه بالرمز، وكل
علامة بشكل دالاً ومدلولاً لنقل دلالة
وإيصال معلومة"([20]).
وعلى هذا الأساس فأن الدرس الدلالي
يجعلنا قادرين على دراسة النصوص
المتنوعة وتتبع قدرتها على إطلاق
الدلالات، ويوفر لنا أدوات ذات طابع
وظيفي لتفحص أي نص، فالسيمياء هي
دراسة الإشارات والشفرات التي هي
أنظمة دقيقة تمكن الإنسان (الذي يعرفه
بارت على أنه حيوان رمزي) من فهم
الأحداث بوصفها علامات تستهدفه لإنتاج
علامات محملة بمجموعة مختلفة من
المعاني التي تتباين في درجة قدرتها
على الوصول إلى الفعل المستهدف
بالخطاب بحسب مجموعة من الضوابط
الاجتماعية المعرفية. "ومفهوم التأويل
(استناداً إلى مقولة المؤول التي جاء
بها (بيرس) هو الحلقة المركزية التي
ستتكثف حولها كل الإجراءات التحليلية
الخاصة بكل الوقائع الدالة بدءاً من
النصوص المكتبة مروراً بالأنساق
البعدية"([21]).
وهذا التوصيف الذي قدمه سعيد بنكراد
في تقديمه لكتاب (امبرتو ايكو):
(سيميائيات الأنساق البصرية) يؤكد
واقعية قدرة التأويل على متابعة
العلامات المطروقة في نصوص أديب كمال
الدين على الرغم من أنه قد يغادر
الواقع ويحقق قطيعة معه في قسم من
قصائده وينقلها من التشخيص إلى
التجريد.
فالرمز
ميزة العقل البشري "والإنسان كما
يقول الشاعر الفرنسي (شارل بودلير)
غابة من الرموز بل إن البشر كما يقول
(امرسون) رمز يسكن رموزاً، فالرمز له
مدلوله الوجداني وهدفه السوسيولوجي
والاستيطيقي ومداه الوجودي وما إلى
ذلك لان لصيق بالنفس الإنسانية"([22]).
2-
مبادئ السيميائية:
تبحث السيميائية عن المعنى، من بنية
الاختلاف ولغة الشكل والبنى الدالة.
وهي لذلك لا تهتم بالنص ولا بمن قاله،
وإنما تحاول الإجابة عن تساؤل وحيد
هو: "كيف قال النص ما قاله ؟". ومن
أجل ذلك يفكك النص ويعاد تركيبه من
جديد لتحدد ثوابته البنيوية. وهذا
العمل يقوم على المبادئ التالية:
أ- التحليل المحايث الذي يبحث عن
الشروط الداخلية للعلاقات الرابطة بين
العناصر التي تنتج المعنى وإبعاد كل
ما يعد خارجيا.
ب- التحليل البنيوي لإدراك المعنى لا
بد من وجود نظام من العلاقات تربط بين
عناصر النص، ولذا فإن الاهتمام يجب أن
يوجه إلى ما كان داخلا في نظام
الاختلاف الذي يسمى شكل المضمون وهو
التحليل البنيوي.
ج- تحليل الخطاب: يعد الخطاب في مقدمة
اهتمامات التحليل السيميائي الذي يهتم
بالقدرة الخطابية وهي القدرة على بناء
نظام لإنتاج الأقوال. على عكس
اللسانيات البنيوية التي تهتم
بالجملة.([23])
وأما المؤشرات النظرية التي أسفرت
عنها الكاتبة د. أسماء غريب في تحليل
قصائد الشاعر أديب كمال الدين فهي:
الإيقاع الصوتي، والطقوس الرمزية،
والصورة، وإعادة صناعة اللغة، والضمني
والمتوازي، والبعد الاجتماعي والسعي
إلى التغير، والتأويل والتفسير والشرح
والإيحاء، والتعبير بالرموز، والمدلول
الوجداني.
المبحث الثاني: دلالة النقطة والحرف
عند الشاعر
أولا- الرمز في نصوص أديب كمال الدين
الشعرية:
إن اللجوء إلى التعبير بالرموز ظاهرة
جديرة بالانتباه في القصائد الشعرية
لأديب كمال الدين، فمن طبيعة الشعر
الغموض والشفافية والإيحاء، واذا
تلاقى ذلك بالرمز تفتح فيه ذهن القارئ
على دلالات متعددة، وأصبح النص ثرياً
لمحموله وتأويلاته، فاللامباشرة في
التعبير من أهم خصائص الشعر، وهي تمنح
الشخوص المسرحية ثراء دلالياً ولذلك
اتكأ بعض الشعراء المعاصرين على
الرموز للتعبير عما يريدون التعبير
عنه. "فاللغة
تعد استناداً إلى هذه المعطيات من اهم
وسائل التعبير وأخطرها على صعيد تركيز
الدلالة في الفن الشعري، فهي الوسيلة
العضوية التي تحتضن الوسائل التعبيرية
الأخرى وتحتويها وتعّرف عضويتها في
المجال الشعري الميداني، وبواسطتها
تنتقل الرسالة الشعرية من الشاعر إلى
المتلقي"([24]).
ثانيا- أنسنة الحرف وأنسنة النقطة:
يقول الناقد أ. د. عبد الإله الصائغ
في كتاب (الحروفي): "استطاع الشاعر
أديب كمال الدّين خلق شعريته الخاصة
من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف
والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن
النقطة! فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً
كما تراه أنت أو أنا! وإنما تقرأ
الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى
التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف
أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء
لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات
والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى
يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن
(الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين
عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم
الحرفنقطة! الحرف كلّ شيء وكلّ شيء
الحرف! السماء حرف والأرض كذلك!
القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة
الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك!
الثنائيات حروف الليل والنهار الموت
والحياة الإبداع والأتباع حرف! ليس
ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ
المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل
المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن
تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات
الإنسان إلى الطبيعة!"([25])
ثالثا- دلالة النّقطة والحرف:
الصّورة عند أديب كمال الدّين، تجسيد
لشعوره المتدفّق من حنايا تجربته
الشعرية فأضحت حمضاً نووياً يُخَزّنُ
فيه كلّ المعلومات الخاصّة بقصيدته
بما فيها التراثية والتاريخية
والسياسية والدّينية والصوفية
والأسطورية والطلسمية والنفسية
والروحية، ولا أدلّ على ذلك من قصيدته
(الكثير من الصور)([26])؛
لأنّها تطرحُ إشكالية تعامُله مع
الصّورة كمفهوم عام وكيفية اعتباره
لهذه الأخيرة قناعا يخفي وراءه
الحقيقة التي طالما تمنّى أن يُعبّر
عنها من دون أيّ لون أو غطاء.
وستُمهّدُ القصيدة الآتية لما سيتمّ
وضعُ اليد عليه عبرها من الخيوط
الأولى الموصلة لماهية الصّورة عند
الشّاعر لا بمفهومها الصّوفي فقط ولكن
بمفهومها الأدبي والإبداعي. وهو يمخُر
عباب محيطات الحرف والنقطة([27]).
يقول الشاعر:
"التقطنا معاً،
يا صديقي الحرف،
الكثيرَ من الصورِ
التذكاريّة
قرب الجسر
وقرب باب المدرسة
وقرب محطة القطارِ
النازلِ إلى الجحيم.
وعلى مائدةِ النقطة
وكأسها المترعِ بالشوق
التقطنا صوراً عاريةً
إلا من الألم،
صوراً عاريةً إلا من
صرخاتِ الليل،
صوراً عاريةً إلا من
قميصِ الله.
نعم،
|
التقطنا صوراً ملوّنةً
بلونِ الغروبِ عند البحر
أو بلونِ الأمطارِ
الاستوائية
أو ملوّنةً بغيومِ
الشتاءِ البعيد
أو بظلالِ النساء
أو بنورِ الشمس
وهي تتعرّى على امتدادِ
المحيطِ العظيم.
هذه الصور تسمّيها أنت،
وأنتَ على حقّ،لأنكَ
ابتكرتها
وكنتَ فيها الظاهِر
والباطِن.
أما أنا فسأموتُ دون أنْ
أكتب
قصيدتي التي أقولُ فيها
الحقيقةَ عاريةً
دون صور، دون صورٍ من
أيِّ نوعٍ كان!"
|
يقول الشاعر في مطلع القصيدة: "التقطنا
معاً،/ يا صديقي الحرف،/ الكثيرَ من
الصورِ التذكاريّة / قرب الجسر / وقرب
باب المدرسة" وهي مقاطع يبدو فيها
الشاعر وكأنه يخاطب صديقاً ما أعطاه
اسما ربّما يكون وهميا كي يغطّي به
اسمه الحقيقي. صديقا يُحتملُ أن يكون
قد عرفه منذ سنين الطفولة وشاركه
اللعب والذكريات البعيدة عند الجسر
وعند باب المدرسة. لكنّ الأبيات التي
تلي مباشرة هذا الجزء تجعل المتلقّي
يشعرُ وكأن كلّ ما قدّمه لهُ الشّاعر
من أفكار ومعلومات هي الآن على وشك أن
تُنسف الواحدة تلو الأخرى؛ فعن أيّ
قطار يتحدّث الشاعر؟ بل كيف لهذا
القطار أن يسافر بطفلين صديقين مازالا
على عتبات المدرسة إلى الجحيم؟ وكيف
تكون للنقطة مائدة ومَن أو ما تكونه
هذه النقطة؟ بل كيف يُمكن لهذين
الصّديقين أن يلتقطا صوراً مع هذه
النقطة وهم حول أو فوق مائدتها؟ هل
هذا الصّديق هو شاعر أيضاً، مادام قد
سمّى الصّور التي التقطها مع صديقه
بالقصائد؟ وهل النّص يحملُ بين ثناياه
هوية شاعرين أحدهما يكتب القصائد
والثاني مازال لم يكتب قصيدته العارية
إلى اليوم؟([28])
حلّ لغز قصيدته هذه بل قصائده جميعا:
هي الصّورة التي يسمّيها أهل البلاغة
والنقد بالتشخيص أو الأنسنة، وذلك
لأنه مشى على نهج تقنية نقل الكائنات
الحيّة والجمادات التي تدرَكُ
بالحواسّ المختلفة من عالمها الحسّي
إلى عالم حسّي جديد تكتسبُ فيه صفات
البشر، فتصبح شخوصاً ناطقة بالضّبط
كما أصبحه "الحرف" هنا في قصيدة
الشاعر، فهو شخص يتبادل الحديث
والذكريات مع الشاعر عن قصائده
العديدة أو صوره التي التقطها والشاعر
في مواقف ومراحل حياتية مختلفة
ومتنوعة. فمن يكون هذا "الحرف"؟ وما
جوهر هذه "الصور" التي التقطها مع
الشاعر؟ وما الذي دفع الشاعر بأنسنة
"الحرف" أولاً و"النقطة" ثانياً؟
وللجواب عن هذا السؤال لا بد من تحليل
اللقطات الفنية التصويرية الخاطفة
أولاً ثم بعد ذلك الصور الأكثر
تركيباً وتعقيداً([29]):
يقول الشاعر في بداية النّص:
" التقطنا
معاً،
يا صديقي الحرف، الكثيرَ من
الصورِ التذكاريّة"
التقط
+ نا + معا : من البديهي ألا
تكونَ هناك بين الفعل ونون الجماعة
أيّة مسافة أو فاصل، فالعلاقة حميمية
ومتماهية لدرجة الذوبان، وإضافة
الشّاعر ل "معا" هي بدافع التأكيد على
درجة الحميميّة الكُبرى بينه وبين
الحرف، هذه الحميمية التي تصبح أكثر
وضوحا وتجليّاً حينما يُضيف عبارة "يا
صديقي". والفعل
هنا يدلّ على السّرعة في تخزين الصور.
ويُكمل
الشّاعر ويقول:
"الكثير من الصور التذكارية" يعني
أن الصّور كثيرة ومتنوعة، ومن
ثم فإن العلاقة الجامعة بين الطّرفين
استمرّت على طُول وامتداد فعل التقاط
الصّور. حتى عبارة "التذكارية" هنا
لها من طابع الحميمية والقرابة. فما
الذي يقصدُه الشاعر بهذه الصّور ؟
ويجيبُ الشاعر سريعاً على هذا السّؤال
القلق فيسردُ لائحة من الصّور ويحددّ
مَكانها (الجسر، باب المدرسة ،
قرب محطة القطار النازل إلى
الجحيم)، ويوكل تحديد زمانها إلى
المُتلقّي: إذن فالصّور مأخوذة قرْبَ
الجِسر/ قرب باب المدرسة/ قرب محطة
القطار النازل إلى الجحيم/ على مائدة
النقطة وكأسها المترع بالشوق.
يبدُو أنّ تعبيرَ "باب المدرسة" هو
مفتاح هذه المعادلة المكوّنة من ثلاث
صور مختلفة الشّكل والمضمون. فالمدرسة
كدالّ لغوي وثقافي تحيل على فترة
التعليم الأوليّ الذي يبدأ من سنوات
الطفولة وحتى سنوات المُراهقة بكلّ
مراحلها وصعوباتها النفسية والفكرية
والروحية. إذن فمن الدالّ المكاني
أصبح الآن بالإمكان التحدث عن الدالّ
الزماني. وهو الأمر الذي سيُسهب في
معالجته في الجزء المتعلق بالعنصر
الزماني([30]).
"على مائدة
النقطة وكأسها المترع بالشوق".
هل هذه النقطة امرأة؟ هل مائدتها
مائدة خمرة؟ إذا كان الأمر كذلك فمن
هم ندماؤها؟
زَمَن بداية التقاط الصّور هي مرحلة
الطّفولة أو قرب "باب المدرسة" حيث
بدأت أسفار الشاعر وصديقه الحرف.
والجسر هو البرزخ الفاصل بين سنوات
حياة الشاعر الأولى والسابقة عن زمن
مرحلة التعليم المدرسي، ولعلّها إشارة
لبداية علاقة الشاعر بالحرف داخل
البيت الذي رأى فيه النور على يد
مُعلمه "الحرف الأكبر" أو والده الذي
كان ولم يزل البئر التي شرب منها أول
كأس حروفية. إذن عندنا زمنان: زمن
البيت وزمن المدرسة. وهما معا يشيران
إلى الطفولة وبداية سنوات المراهقة.
وأما القطار النازل إلى الجحيم فهو
يشير إلى سنوات الشباب بكل ما سبقها
من ثقل تجارب الطفولة القاسية: (موت
الأب بين يدي الشاعر الطفل المراهق
آنذاك، وتجربة أولّ حبّ فَشِلَ. وبكلّ
ما حدثَ فيها من تجارب أخرى أشدّها
قسوة على قلب الشاعر، تجربة الحرب
(الإيرانية ـ العراقية)([31]).
بقي الآن الحديث عن عنصر الليل من
عناصر اللحظات التي التقط فيها الشاعر
وصديقه الحرف صورهما، (ينظر عبارة
"صرخات الليل")، فالنقطة إذن تستضيف
ندماءها ليلاً وتسقيهم كأس الشوق في
حضرة الألم والصراخ وتحت عين الله
وقميصه. ما معنى هذا كلّه ومتى تعرّف
الشاعر وصديقه الحرف إلى هذه النقطة؟
هذا ما ستتمّ محاولة التوصّل إليه عبر
الآتي من الصفحات. الليل إذن هو رحم
النفحات الربانية ومهبط الأسرار
النورانية ومجمع الأخلاء، الذين رموا
كلّ ثوب وكل عالق أو حاجز وراء ظهورهم
ودخلوا محراب النقطة عارين من كلّ شيء
إلا من الله والألم والآه. وفي كلّ
هذا إشارة إلى المرحلة الثالثة من
حياة الشاعر، أي المرحلة التي لبس
فيها خرقة العرفان "سنوات الثمانينات"([32]).
والليل إذا جاء واقفاً بين يدي
العارف، وقف هذا الأخير بين يدي ربّه
وقد رمى وراء ظهره كل علم وصورة، وصرف
عنه كلّ شيء حتى يتمكن من رؤية النزول
الرباني. أي أنّ العارف حينما يقف
الليلُ بين يديه، عليه أن يلبس خرقة
الجهل (قميص الله). لذا فلا معلوم في
هذه الوقفة إلا الجهل الذي هو الحجاب
الأدنى لله متى تجلّى في حضرة الليل
أو حضرة السكون الذي يصبح فيه العارف
طوع الشهود الوحداني غير ملتفت إلى
علم أو إلى صورة حتى لا يأخذه البلاء
الذي هو حرمان العارف من الله ومن
مجلسه ورتبته ونوره([33]).
هذه هي النقطة وسليلها الحرف. ولكن
الشاعر صرح لأكثر من ناقد، في أكثر من
حوار وعلى أكثر من موقع وصحيفة: "إنّ
العالم ممثل كله في القرآن، والقرآن
كله في الفاتحة، والفاتحة في البسملة،
والبسملة في الباء، والباء في
النقطة، وأنا
النقطة."([34]) و:
"أنا
النقطة وأنا الحرف حامل السرّ الإلهي
دون شك"([35])،
وهذا لكون النقطة حسب تعريفات التراث
الصوفي الإسلامي هي مركز الكون وكونها
كامنة في الصورة المحمدية والباء
العلوية وهذا متعلق بما يسمّى في علوم
العرفان بمفهوم التّماهي مع الشيء،
وهو في حالة الشاعر له مستويان من
القراءة، الأوّل يخُصّ التّوظيف
الشعري للنقطة والحرف بوصفه رمزا
يستمدّ طاقته من التراث العربي
الإسلامي بكل منابعه الأسطورية
والتاريخية والدّينية واللغوية،
والثاني يهُمّ التوظيف الصّوفي الخاصّ
برحلة الشّاعر الشّخصية في عوالم
العرفان وطريق خرقة العشق وعصا
الجمال، الشيء الذي يعني أنّ الشّاعر
من كثرة جُلوسه ليلاً على مائدة
النقطة وشُربه من كأسها المُترع
بالشوق وبالحروف العاشقة انْصبغ بها
وصار هو نفسه نقطة وحرفا سرى في كل
حرف من حروف الأبجدية، وهذا ما يفسّر
كون أديب كمال الدّين يبدو للقارئ
تارة ألفا وتارة نونا وتارة باء
وتارات أخرى ياء وهكذا دواليك. وذلك
لأن الحروف سرت فيه حتّى استولت عليه
وهو أمر يُرى جليّاً في هذا النّص
المُستلّ من ديوان (أقول الحرف وأعني
أصابعي)([36]):
"
قالت حروفُ الحقّ
وهي تناقشُ في الألفِ
الشاب:
هل سَيُكْتَب له أن يعيش؟
بل هل ينبغي أن يعيش
أو ينبغي- ربّما- أن يموت!
قالت حروفُ الحقِّ كلاماً
كبيراً
وكلاماً كثيراً.
نصفه غامضٌ ولا تذكره
الذاكرة،
ونصفه لا يُفسّره إلا
العارفون.
وحدهُ الحاء
قال: اتركوه فهو شمسي.
هو مَن سيذكرني كلّما
هلَّ اسمي.
وسيكتبُ عن رأسي وقد
تناهبه الغبار
وحُمِلَ فوق الرماح
من بلدٍ إلى بلد
ومن عطشٍ إلى عطش
ومن واقعةٍ إلى واقعة.
|
بل إنّ رأسي سيكون قصته
ودمي لوعته
وأنيني نبض قلبه.
قال: اتركوه.
هل ستناقشون أخطاءَه؟
نعم، سيقعُ في الخطأ
لينجو إلى خطأ آخر
وسيقعُ في الظلام
ليرتحل إلى ظلامٍ جديد.
لكنّه مثلي
سيموتُ غريباً
في البلدِ الغريب.
وستطفرُ دمعته
كلّما غابت الشمس
حزناً عليَّ وعلى آلِ
سرّي.
قال: اتركوه فأنا منه وهو
منّي! "([37])
|
لكن هناك شيء آخر أكبر من كلّ فهم
وتفسير في هذا النّص، فهو لا يريدُ
القولَ فقط بأنّ الشاعر قد اصْطبغ
بالحرف وصَار حرفاً ولكنّه حرف تناقشت
أمره الحروف الأخرى طويلا إلى أن
قرّرت حاء أحمد ومحمد، وحاء الحُبّ
والفرح أن يخرُج عنها أو عنْ نفسه كيْ
يكتب عن محمد وآل سرّ محمد وعن قصة
الرأس وغربة أهل الرأس المقطوعة. وفي
هذه الحالة يُسمّى العارفُ الخارج عن
نفسه خارجاً عن الحرف بفعل تجلّ إلهي
وهو لذات السّبب يُعتبر من أهلِ
الحضرة، وهو في الوقت نفسه من أهل
موقف السّؤال المعنوي، أي أنّ العبْد
بعد التجلّي يصبح قابلاً لتلقّي العلم
اللّدني، فيسأله الله ويعلّمُه ويبدأ
العارِفُ رحْلة الجواب بعد حُدوث
التعرّف ثم ينتقل بعد ذلك إلى رحلة
الإخبار عن الله وهذا المسار هو
الركيزة التي يقوم عليها ديوان (مواقف
الألف) الذي هو مجموعة من مواقف تنتمي
كلها إلى السّؤال الذي يليه الجواب
مباشرة. وكلّ هذا هو مدعاة لما يسمى
بفرح الحرف، ذلك أن أولى ظهورات الحرف
تدخل في حركة الزمن الرّاقص المؤشّر
عن ظهور حركيّة متناغمة خارج ما يسمّى
بعوالم الفوضى([38]).
وبالعودة إلى النّص الأول الذي تمّ
الانطلاق منه، يبدو جليّاً بعد هذه
الرّحلة التحليلية، أن من كان كلّ هذا
العمر يلتقط الصور العارية هو أديب
كمال الدّين نفسه ولا أحد غيره، فهو
الشاعر وهو الحرف الصديق في الوقت
ذاته وهو النقطة أيضاً، وما بين كلّ
هذا كانت هناك رحلة شعرية طويلة
ومختلفة ومتنوعة في الإفصاح عن كم
العذاب الهائل الذي عاناه وهو في
العراق من الحروب والحصار والاستبداد
والطغيان وتكميم الأفواه والاستخاف
العجيب بمصيره وبأهله، فصار لزاماً أن
يُفصح ويشير، وينطق ويبوح بما لا
ينبغي أن يُباح به سيما وأنه هو نفسه
مادة هذه المعاناة والمركز الذي ناء
بها([39]).
النقطة إذن هي جوهر النور من الله
المطلق الديمومي الأزلي الجمال، الذي
اهتزت له الظلمة وتزلزلت فخرج منها
أول شكل في الخلق دالا على جمال الذات
الإلهية الشريفة المتمثلة بالرقم
الواحد (1) رمز الأحدية وبالحرف الملك
(ألف) تصديقا لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ
(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
(4)} فوقع الاحتراق ومنه تولد عنصر
النار وعنه تبخّرت الغازات الطيّارة
فكوّنت دائرة أصبحت النقطة مركزها
وتشكل حرْف النون وأقسم الله عز علاه
بهذا الحدث وقال: {ن وَالْقَلَمِ
وَمَا يَسْطُرُونَ}, فسالت النقطة
وصارت ألفاً وصار الألف قلماً يُسطّر
كلمات الله الأزلية ومن أبخرة دائرة
النقطة والنون تكوّنَ الماءُ والهواءُ
أو ما يسمّيه الفيزيائيون بعُنصر
الخلق والتخلق. وتلتهُ بعد ذلك النّار
ثم التراب فاكتملت لهذا كله دائرة
الرمز السرّي للخلق والجمال الإلهي،
فتعرّف الله إلى حقيقة نفسه واحتفظ
بحقيقة معرفتِه لهُ وحده لا يشاركه
فيها أحد([40]).
لا حرفَ إذن إلا الألف ولا نقطة إلا
النّقطة المحمدية، ولا ماءَ إلا حليب
الكاف والنون، ولا لونَ إلا لون نور
الشمس الذي هو قلبُ الشّاعر العارف بل
قلب الماء (وهو اللون الذي أشار إليه
الشاعر حينما حدّد مختلف ألوان صوره)([41]).
وقفة أديب كمال الدّين ختامية حرقت كل
ما سبقها من كلام في حضرة النقطة أو
في حضرة الحروف باستثناء حرف الألف،
الذي ألبسه الشاعر جوشناً، فصار منه
وفيه بل صار هو نفسه الألف الشريف،
قيوم الحروف كلها، فوقف وفوض أمره لله
عاثرا فيه على ذاته مستندا عليها
ومعتمدا على عصاها غير طالب أي شيء من
الحق، إذ لا دعاء في الوقفة لأنه ليس
فيها غير الله، والدعاء كما هو معروف
يكون من العبد إلى خالقه، لذا فلا
يعقل أن يكون داخل الوقفة العبد وربه
ولكن الله وحده ولا أحد سواه. لذا
يُقال إنّ الواقف لا يحدّه بيت ولا
مقام، لأن البيوت والمقامات هي حضرات
الأسماء والوقفة هي خاصة بالحق عز
وعلا، ومن هنا تصدير أديب كمال الدّين
لمجموعته بالآية الخامسة والثلاثين من
سورة النّور، وذكره في المفتتح
للعبارة التالية: "كتبتُ كتاباً في
مدحِ ملكِ الملوك"([42]).
وأديب كمال الدّين في نصوصه الواقفة
يخرق أهم قواعد الخطاب والمخاطبة، وهي
المشاركة بتبرّئه من خطابه باستعماله
لعبارتي "أوقفني... وقال" ثم "يا
عبدي" لثقته بالمتلقّي وبقدرته على
التأويل مما يبرر له هذا الخرق
الحاصل، باعتبار أن هذه النّصوص لها
من الحمولة الإخبارية ما لا يُستطاع
معها نفي حقيقتها ومعانيها لأنها
مستنبطة من معاني القرآن الكريم. لأجل
هذا يمكن القول بأن نصوص الشاعر
الواقف قد وفّقت في تقديم الخطاب
الشعري كحركة مزدوجة لها ظاهر وباطن،
باطن لا يلغي أبداً ظاهره بل يدعّمه
ويكشف فيه عن عمق التجلّيات الإلهية
بشكل يهدف إلى تجاوز الموجودات نحو
علاقة فنية تهدف إلى تذوّق الجمال
المطلق للخالق والخلق. فظاهر النّص
إذن ثابت وباطنه متحرك باعتباره يشير
إلى الحقيقة التي لا تُدرك إلا
بالبصيرة والتي تقتضي حركة اختراق من
أجل استبطان البنية الرمزية للعالم
حتى يتمكن المتلقّي من اختصار المسافة
بين البارئ والمخلوق، والخروج من
التجزؤ إلى الوحدة والانسجام الموصل
إلى السعادة([43]).
-
المرأة والحرف:
يقول أديب كمال الدّين في نص "غزل
حروفي":
"(1) هذي المرّة
لن تكوني مثل كلّ مرّة
امرأة من لحم ودم.
فلقد تعبتُ من دمكِ
العاري وجحودكِ الأسطوري،
من خيانتكِ التي تشبه
مشنقةً دون حبل.
وتعبتُ أكثر
من انتقالاتكِ المرّة
الحامضة بين البراءة
والذنب
ومن أغنيتك: أغنية الكأس
والسكّين.
ولذا
هذي المرّة
ستكونين امرأةً من حرف
أخرجكِ متى أشاء
أمام جمع الوحوش
بيضاء من غير سوء
بيضاء لذة للناظرين.
(2) عسى -
حين تكونين حرفاً -
أن أمسك طير الفرح بقلبي
بعد أربعين قرناً من
الطيران الأعمى.
عسى
أن ألتقي نقطتي فألتقط
منها
طلسماً للحبّ والطمأنينة
|
وألتقي هلالي فأراهُ يركض
نحو العيد
بدشداشة العيد.
وعسى
أن ألتقي دمي
فلا أجده أسود
ككفّ قُطِعَ منها
الإبهام.
(3) هذه آخر محاولات
جغرافيتي الممزّقة
وتاريخي الذي يشبه معناي
الذي لا معنى له.
هذه آخر محاولات الطفل
فيّ
وآخر محاولات الساحر فيّ
والمجنون والشاعر
والوليّ
والزاهد والراكض من بحرٍ
لبحر.
هذه آخر محاولات دمي:أنتِ
الآن امرأة من حرف
لا دم عندك ولا لحم
لا مؤامرات، لا مكائد، لا
دسائس
لا هرطقات،
لا نزوات
لا ولا.
(4) أنتِ الآن امرأتي
وشمعة داري!"([44])
|
يوجد في هذا القصيدة أثر للتجربة
الموسوية أمام فرعون مصر وكهنته
وسحرته، أي أن الأبيات تذكّر بالآيات
القرآنية التي قال فيها عزّ وعلا: {
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلىٰ فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ"([45]) ثم
"وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ
بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ"([46])،
و"يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن
مَّعِينٍ. بَيْضَاءَ لَذَّةٍ
لِّلشَّارِبِينَ. لَا فِيهَا غَوْلٌ
وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ }([47]) وبناء
على هذه الملاحظة أجرت الكاتبة مقارنة
تناصيّة بين ما ذكر في هذه الآيات من
ألفاظ وبين العبارات التي ذكرت في
مقطع الشاعر:
الألفاظ الواردة في
الآيات العبارات
الواردة في المقطع الشعري
ـ وأدخل يدك في
جيبك
ـ أخرجك متى أشاء
ـ تخرج بيضاء من غير
سوء
ـ بيضاء من غير سوء
ـ فرعون وقومه إنهم كانوا قوما
فاسقين
ـ أمام جمع الوحوش
ـ بيضاء لذّة
للشاربين
ـ بيضاء لذّة للناظرين
من هذه المقارنة يمكن استنتاج
الألفاظ
الغائبة في مقطع الشاعر لكنها
موجودة في المقاطع القرآنية، فمثلا
قوله: "أخرجك متى أشاء" هذا يعني أن
"الشيء" كان داخل الجيب وهذا يقود
مباشرة إلى التعبير القرآني: "وأدخلْ
يدَك في جيْبك"، ولكن هناك في المقابل
ألفاظ أخرى تمّ اقتباسها أولاً من آية
قرآنية معينة وإضافتها ثانياً إلى
ألفاظ قرآنية مستقاة من آية أخرى
مختلفة عن الأولى وذلك بغرض الجمع
بينها ثالثاً في تعبير شعري واحد، هو
قوله: "بيضاء لذّة للنّاظرين"، على
الرغم من أن لفظ "لذة"، ذُكر في
القرآن مقرونا بعبارة "الشّاربين" ولم
يذكر أبداً مقترنا بكلمة "الناظرين"،
والشاعر اختار هذا المنحى اللغوي
الغريب، للجواب عن هذه الإشكالية سيتم
الاشتغال على التعبيرين معا، القرآني
والشعري:
ـ
بيضاء لذّة
للشاربين
ـ بيضاء لذّة للناظرين
فيه إشارة لخـمـر الجنة
وبياض لونها ولذيذ
مذاقها، وإذا ما تمّ
التساؤل عن الكأس التي
توجد بها هذه الخمر،
فلربما تكون هي البيضاء
اللون وليست الخمر ذاتها([48]).
|
|
يتلذذ الشارب بما يشرب
ويسكر والنـاظر أيضاً
يتلذذ بما ينظر إليه وقد
يُسحر به ويذهب لبّه.
|
منذ البداية الشاعر يشير إلى "امرأة"
أصبحت في نهاية الرحلة شمعة داره،
وكما يعلم الجميع فما من حرف يشبه
العصا والشمعة في اللغة العربية سوى
الألف، وهذا يعني أنه ما من امرأة أو
أنثى في هذا النّص، ما من شيء هنا سوى
الألف وما من أنثى سوى النفس البشرية
التي في طريقها إلى الكمال تركض من
بحر إلى آخر وتتنقل بين الذنب
والبراءة وبين الكأس والسكّين، وعليه
فإن المفاتيح التي يمكن استنتاجها في
هذا الجزء هي الآتي ذكرها: الكأس،
والسكّين، والشمعة.وعملية جمع بين
مفاتيح المقطع الخاص بعصا موسى (ع)
وعصا أديب كمال الدّين توصل إلى
العلاقة الآتية: جيب + كأس= غمد. غمد
لـ: السكّين وللعصا وللشمعة كما
الأنثى غمد للذكر وكما الجسد غمد
للنفس التي تحولت سكينها إلى عصا
وعصاها إلى شمعة وشمعتها إلى قيّوم
الحروف كلّها: الألف أو المرأة التي
سمّاها الشاعر بـ"امرأة من حرف". وما
من امرأة أو حبيبة بالمفهوم المُتعارف
عليه في هذا النّص، لا حضور هنا سوى
للنّقطة التي لولاها ما غنّى لها هذا
الألف الشاعر الواقف العاشق المتيّم
كل هذه القصائد المغرقة في الشوق
والوله والصبابة عبر كتابة خمس عشرة
ديوانا، فهي هو، عبارتان لذات واحدة([49]).
رابعا- المستوى الصوتي (الصّوتُ
الحروفي عند الشّاعر أديب كمال
الدّين):
تتردّد الألفاظ وتتولّد منها معاني
تخترق كلّ الحواس وتلج بعمق في روح
المتلقّي. والقول بغير هذا لن يفضي
إلاّ إلى تفريغ صوت الحرف العربي من
معناه وتحويله إلى مجرد رمز أجوف لا
شيء فيه. وجمالُ أيّ نصّ شعري يكمن في
موسيقاه التي لا يمكنها أن تتحقق إلا
إذا تموسقت الحروف، وعَزفتْ لحناً
يسكن شغاف الكلمات، ويصلُ إلى القلب
عَبْر ما يكونُ قد قام به الشاعر من
توزيع للنغم الصوتي على وحدات زمانية
وأخرى مكانية تنتظمُ بداخلها الوحدات
الصوتية والتشكيلات الإيقاعية
والدفقاتُ الشعورية المرهفة الإحساس
بجمالية الكلمة والمعنى المرتبطِ بكل
ما له صلة بما اتفق أهل النقد على
تسميته بالدلالة الصوتية. وهذا العمل
لن يتحقق إلا إذا تمّ تحديد المستوى
الفونولوجي والفونيتيكي للصوت من
التركيز على طبيعته وخاصياته
الفيزيائية والعضوية. وستكون قصيدة
"محاولة في الموسيقى" هي عيّنة هذا
البحث المجهري، وذلك لما اجتمع فيها
من المقومات والمؤهلات التي تشهد
باكتمال التجربة الشعرية عند أديب
كمال الدّين عبر التحرر من القصائد
الموزونة الخاضعة لقيود البحر الشعري
وأوزانه المقفاة، وبخاصة
تلك التي حوتها
ولم تزلْ دفّات الدواوين الأولى
للشاعر كـ: "تفاصيل" و"جيم" و"أخبار
المعنى"([50]).
يقول الشاعر إذن في قصيدته "محاولة في
الموسيقى":
"(1) الموسيقى تهبطُ تهبط
طيراً وعنقودَ عنبٍ وشلال
ماء.
فيطيرُ قلبي مع الطير
لكنّ يدي لا تمسكه،
ويلامس العنقود شفاهي
لكنْ لا سكين حبّ تقطع
فراغنا الجارح
والشلال يأتيني فأكون
الماء لألقاه
لكني أصطدم بصخرته
الكبيرة
وأغرق.
(2)
حتّى الحروف صارتْ تتعبني
فهي الوحيدة التي تزورني
في وحشتي الكبرى
دون أن تحمل في يدها
باقةَ شمس
أو حفنةَ قمر
أو قُبلات ريش.
(3) الكلُّ يتبرقعُ
بثيابِ غيره
إلاّي.
ليعزف على الربابة.
(8) أعجبني موتي
وحين حاولتُ أن أكرره
جننت!
(9) الموسيقى تهبطُ..
تهبط
والروح تضيعُ........
وتمّحي.
(10) الموسيقى تذوبُ كما
تذوبُ الفضة
وتنامُ كما ينامُ
العشّاقُ الذين أتعبهم
طول الفراق
ووطأة الهجر.
الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ
الأحزانَ إلى حاء
وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية
ترقصُ كما يرقصُ الجنّي.
(11) يا للجمال!
الموسيقى تتموسق
|
ولما لم أجدْ ما أتبرقع
به
خرجتُ إلى الشارع
عارياً..
عارياً تماماً!
(4) الموسيقى
تهبطُ بلاماتٍ عذبةٍ
كشفاه الأطفال
وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ
توسوس
وندى من نونات.
(5) الموسيقى تجيء
فأقومُ من الموت إليها
لنلتقي طفلين يتيمين
يتحسران على أرجوحةِ
العيد.
(6) منذ أن تعرّفتُ إلى
دمي
وجدته محاصراً بالطيور
ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي
وجدته ممتلئاً
بالأبجديات.
(7) السعادةُ راقصةُ
بالية
والحزنُ بدويّ يفترشُ
الأرض
والحروف تتألق.
(12) يفرحُ الثريّ بجواري
الفنادق
ويفرحُ المغنّي بدنانير
الملاهي
ويفرحُ زيرُ النساءِ
بعشيقته الجديدة.
أما أنا فكالموسيقى
لا أفرح إلاّ بنفسي
ولا أندمج إلاّ بنقاطي
وحروفي.
(13) إلى متى يعذّبني
نزيفُ الحروف:
احتجاجُ الحاءات
وضياعُ الراءات في ذكرى
المدن الضائعة
ونفاقُ السينات
وانكفاءُ الباءاتِ حتّى
الموت؟
يا إلهي..
إلى متى يعذّبني نزيفُ
الحروف؟"([51])
|
منذ البداية يحتفل العنوان بثيمة
الموسيقى ويتغنّى بسموها وعلوها، إذ
أنها هي التي تهبط من الأعالي، وهي
التي تقتضي من المتلقّي أن يقف في
حضرتها وكأنه داخل معبد عليه أن يلتزم
فيه بالصمت حتى يتمكّن من تلقّي
مكنونات حروفها ورسائلها. فهل توجد
حقاً في هذا النص موسيقى؟ وإذا كان
الأمر كذلك فهل لموسيقاه معنى؟ وهل
استطاعت الكلمات في القصيدة أن تؤدي
هذا المعنى؟
يشير إحصاء تكرار كل حرف من أحرف
الأبجدية بدءاً من الألف ووصولا إلى
الياء([52])،
إلى مدى قدرة أديب كمال الدّين على
انتقاء الحرف الذي له جرس موسيقي معين
دوناً عن الآخر وبخاصة وأنه تم التوصل
إلى أن تكرارَ الشاعر لنوع معين من
الأصوات الحرفية فيه بلاغةٌ تزيد من
تجلّي المعنى ومن جمالية الكلام
وموسيقاه([53]):
صوت الألف
خصّص الشاعر للألف ديوانا كاملا أسماه
بـ (مواقف الألف)، والألف
هو الحرف الملك الذي تعوم في نوره
وبهائه كل القصائد والدواوين التي
كتبها الشاعر إلى اليوم، وهو في قصيدة
"محاولة في الموسيقى" تكرر لمائة
وأربعين مرّة وبمعدل 14
% كأعلى
نسبة مئوية مقارنة إياه ببقية الحروف،
ناهيك على أنه ظهر بكل تجلّياته
اللغوية والنحوية، فهو في النص تارات
مهموزاً وتارات أخرى ليناً، لذا وجب
التوقّف عند كل شكل من أشكال الألف في
القصيدة واستشفاف معانيه الصوتية
وآثاره على المعنى داخل النسق العام
للأبيات([54]).
ـ الألف مهموزاً:
ورد في النص بمعدل أربع وثلاثين مرّة،
أيْ خمس وعشرين مرّة مفتوحاً، ستّ
مرّات مكسوراً، مرّتين مرفوعاً، ومرّة
بعلامة السكون. وكون علامة الفتح هي
الغالبة في الألف المهموز فهذا يعني
وجود نتوء في الطبيعة الصّوتية للنصّ،
لذا فالصّورة هي صورة بروز وكأن
الشاعر غارق في بحر الوقفة والوقوف
بشكل يجعل من الألف هنا ليس حرفاً
صوتياً فقط ولكن بصرياً يتصف بالحضور
والعيانية. ولعلّ هذا ما يبرّر ارتباط
هذا الألف بالأفعال الواردة بصيغة
المتكلم وبضمير الأنا (فأكون / لألقاه
/ أصطدم / أغرق إلى غير ذلك من
الأفعال). وكون الألف مهموزاً
ومرتبطاً بهذا النوع من الصيغ الفعلية
فهذا يعني حركية وطاقة نابعة من الأنا
الأعلى نحو الخارج أو رغبة تواصلية
قوية تحتكم إلى التفاعل والمشاركة
والتأثير في الدائرة الوجودية للحياة([55]).
الألف المهموز إذن هو دليل على أصالة
الخطاب الشعري لدى أديب كمال الدّين
وعلى أرضيته الصلبة التي ترتكز على
الفطرة التوحيدية داخل الإنسان، إذ
لولا انفجار هذا الصوت المهموز لما
كان هناك هذا النداء الصارخ بين ثنايا
أبيات القصيدة وفي أعماق الذات
الشعرية، هذا النداء الذي يرغب في
إثارة انتباه المتلقّي كي يشقّ له درب
التحوّل الحاصل داخل السلّم الصوتي
لقصيدة "محاولة في الموسيقى" ودعوته
إلى التطور مع معانيها والغوص في بحار
لآلئها ومكنوناتها العجيبة([56]).
الألف ليّناً:
ذكِر في القصيدة لأزيد من تسعين مرّة،
وفي وجوده دعم إضافي لصوت الهمزة
الناتئ باعتباره يشكّل نوعاً من المدّ
المفتوح داخل النص كلّه، وهذا الألف
وقع في أواسط بعض الكلمات وأواخر
كلمات أخرى مضفياً عليها امتداداً
صوتياً في الزمان والمكان، وموسيقية
ذات نفس عال مشرع على أعلى درجات
الوحدانية عبر نغم تصاعدي غايته وضع
حدّ لهذه الحالة من الوحشة الكبرى
التي كانت تسبح فيها الذات الشاعرة في
عالم يتبرقع فيه الكلّ بثياب غيره.
إذن ففي امتداد صوت الألف الليّن،
انفراج لسفينة الباء وتعميق لنون
الأرض، واستقامة لألف القلم، ونزيف
للحروف من عين الدواة، نزيفاً تبدو
معه وكأنها نوتات تتموسق بشفاه مفتوحة
لا مُطْبقة، وتهبط وكأنها "عنقود عنب
وشلال ماء"([57]).
صوت اللام
اللام هي الحرف الذي تكرر صوته مباشرة
بعد الألف، بمعدّل 114مرّة، أي أنه
يشكل ثاني أكبر نسبة مئوية في النص.
واللام حسب تعريف اللغويين لها، حرف
صامت مرقق الحركة وصوته أسناني لثوي
مجهور، وفي الحركات يصبح هذا الحرف
قويَّ الوضوح والسّمع وهو في الوقت
ذاته صوت متوسط بين الشدة والرخاوة
ومن أشكال حضوره في القصيدة يُذكر قول
الشاعر:
"الموسيقى تهبطُ بلاماتٍ
عذبةٍ كشفاه الأطفال
وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ
توسوس
وندى من نونات.
(5) الموسيقى تجيء فأقومُ
من الموتِ إليها
لنلتقي طفلين يتيمين
|
يتحسّران على أرجوحةِ
العيد.
(6) منذ أن تعرّفتُ إلى
دمي
وجدته محاصراً بالطيور
ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي
وجدته ممتلئاً
بالأبجديات."
|
إذن فالكلمات التي ورد فيها حرف اللام
هي كالتالي: الموسيقى ، بلامات ،
الأطفال ، الموت ، إليها ،/ لنلتقي،
طفلين، على ، العيد ، إلى ، ممتلئاً.
وكما يلاحظ فإن هذه اللامات الواردة
هنا يمكن تقسيمها إلى ما يلي:
ـ لامات
لصيقة بحروف الجرّ: وهي هنا وإن
وردت بصيغ تستمدّ أصلها من خاصية
الإلصاق في طريقة النطق بصوتها، إلا
أنها جاءت بالشكل الذي حوّل خاصية
الإلصاق والجمع هذه إلى صفات وخصائص
أخرى يذكر منها:
ـ صفة الصيرورة (انظر: لنلتقي طفلين
يتيمين)
ـ وصفة الإيضاح والتبيين (يتحسّران
على أرجوحةِ العيد / منذ أن تعرّفتُ
إلى دمي / ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي)
إذ وردت اللام هنا من أجل إيضاح موضوع
الحسرة، وماهية المُتعرّف إليه.
ـ لامات مرتبطة بأداة التعريف (ال):
وقد وردت أوّلاً للدلالة على موضوع
ذهني معلوم لدى المخاطب، فهو بمجرّد
قراءته للجملة التي تُحُدّث فيها عن
"الموسيقى" يُدركُ مباشرة من هي التي
تهبط ومن هي التي تجيء: (الموسيقى
تهبط / الموسيقى تجيء). وثانياً لبيان
الحقيقة الذاتية لنوع الشيء الذي
يتحدّث عنه الشاعر، أيْ أنّه نوع طائر
وآخر حروفي: (وجدته محاصراً بالطيور /
ممتلئاً بالأبجديات).
ـ ثمّ
لامات أصلية في بقية المصطلحات:
وهي هنا بسيطة، مرنة ومتماسكة بشكل
جعلها أكثر قدرة على التعبير عن معاني
مختلفة تدور حول حركة وفعل الموسيقى
داخل النص، وداخل ذات الشاعر
والمتلقّي، وهو ما شرحته الكاتبة عبر
التفكيك ورسم الذبذبات والحركات
الصوتية والفنية الجمالية التي
أحدتثها لامات الموسيقى وسيناتها
ونوناتها([58]).
يقول الشاعر إذن:
"الموسيقى تهبطُ بلاماتٍ عذبةٍ كشفاه
الأطفال"
الموسيقى علوية الحضور ليس في هذا
المقطع فقط بل في كلّ القصيدة. وكون
حرف اللاّم ورد بصيغة الجمع (لامات)،
فإنّ الحركة الهبوطية فيها نوع من
الزّخ المطري العذب كشفاه الأطفال.
ناهيك على أن في عبارة "شفاه الأطفال"
ذاتها حضور لحرف آخر يشبه في رسمه
وحركيّته القُبلة، ويقصدُ بهذا الحرف
حرف "الميم"، إذن فالموسيقى المعزوفة
هنا هي عبارة عن صوت وذبذبات اللامات
والميمات.
يكمل الشاعر ويقول:
"وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ توسوس / وندى
من نونات."
الموسيقى هنا في هذا المقطع ليست
راءات وسينات ونونات فقط([59])،
ولكنها حروف تتحوّل إلى طيور وإلى ماء
والدالّ على ذلك هو الفعلان (تُزقزق
وتوسوس) ثم كلمة (ندى) التي تؤكد ما
سبقت الإشارة إليه من زخّ مطري يتكوّن
بَعده الندى. إذن فاللوحة تكتمل الآن
تماماً، وترى العينُ فيها الطيورَ
والمطرَ الحروفيين والأطفال. أيّ أن
الإنسان هنا، هو في مقام جنّة
الوحدانية لا الأحدية، ذلك أن الأحدية
هي موطن الله الأحد، ولا أحد يمكنه
رفع حجاب عزّتها أبداً، وهذا يعني أن
الجنّة هنا هي دالّة على جمال الله
الّذي بوجوده غنّت الحروف وسبّحت له
أجمل التسابيح وترنّمت بأرقي الترانيم
والصلوات. والشاعر رسم لنا صورة من
كلّ الحركات التشكيلية مع إضافة
السكون والشدّة إليها، وهي تشبه في
شكلها الطائر، فحركات الفتحة والكسرة
هي الأجنحة، والضمة هي منبت الرأس،
أمّا رأس الطائر فهو دائرة السكون،
ومنقاره هو الشَدّة. وهذا يعني أن هذا
الطائر الحركي سيحمل في منقاره عند
نزوله كلَّ الحروف التي أشار إليها
الشاعر محدثاً في لحظة هبوطه رقرقة
نونية وزقزقة رائية ووسوسة سينية([60]).
والصورة هي تعبير عن صيغة فردية لكلّ
حرف نازل، لذا فما علينا سوى أن
نستحضر أمام أعينننا وداخل آذنننا
الصورة الجماعية لهذا النزول، باعتبار
أنّ الشاعر تحدّث عن الحروف بصيغتها
الجمعية قائلا: (لامات، راءات، سينات،
ونونات)، ناهيك عن الميمات التي تمّ
استبطانها من حركة شفاه الأطفال وما
قد تحدثه مع اللامات لحظة الهبوط من
أصوات القُبَلْ (انظر في الصورة أعلاه
صوت وذبذبة السين والنون والراء). إذن
فالأمر فيه حقّا، أصوات طيور جنّة
الوحدانية، وإلاّ لما كانت لتوجد في
النص عبارات الشاعر التالية: (منذ أن
تعرّفتُ إلى دمي / وجدتُه محاصراً
بالطيور / ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي/
وجدتُه ممتلئاً بالأبجديات)([61]).
صوت النون
ذكر صوتُ النون في القصيدة 59 مرّة،
وهذا الحرف في تجربة الشّاعر ككلّ له
قيمة مميزة حيثُ خَصّص له ديواناً
كاملاً أسماه (نون)([62])
مفتتحا إياه بنص "قاف". والنون عند
أديب كمال الدّين هي التجلّي الأسمى
للحقيقة المحمدية، هذه الحقيقة التي
عبّر عنها في ديوان (نون) من خلال
افتتاحه له بـ (ن والقلم وما يسطرون)،
ذلك أنّ الرسول الأعظم محمداً (8)
هو أوّل التعيين النُقطي، أما نصف
الدائرة ففيه إشارة إلى الذات الإلهية
التي لا تدركها الأبصار، لذا فإذا كان
في الخلق علّة ظهور الله تعإلى، فإن
في النبي محمدّ (8)
سبب ووسيلة لمعرفته. ولعلّ هذا ما جعل
النون حتى في نص "محاولة في الموسيقى"
تظهر ليس فقط كحرف نفاذ، واختراق
صميمي في المعاني، بل كاحتواء رحِميّ
فيه احتضان واندماج([63]).
والنّون في هذه القصيدة لها عدّة
أوجه، فهي على مستوى الصورة الشائعة
(ن) ذُكِرتْ لأكثر من أربعين مرّة،
كما ظهرت لعشرات المرّات عبر حركة
التنوين بكل أشكالها سواء المرفوعة أو
المكسورة أو المفتوحة، لكن هناك حروف
أخرى حضرت النونُ فيها وإن بشكل خفي
كالياء التي ذُكِرتْ 59 مرّة، واللام
التي هي في الأصل مركّبة من ألف ونون
تتكون بدورها من زاي وراء، الشيء الذي
يعني قوة إضافية لدى نطق حروف النص
مادام الأمر يستدعي هواءً أكثر ينبعث
من داخل الصدر إلى الفم ومنه إلى
الخارج بشكل يجعل من مخارج النون
واللام والياء تتقطّع وتتواتر الواحدة
تلو الأخرى، مما ينعكس مباشرة على
قوتها الإيقاعية والموسيقية، ولعلّ
هذا ما يبررُ قول الشاعر:
"أما أنا فكالموسيقى
لا أفرح إلاّ بنفسي."
في هذا المقطع إشارة إلى العزف
الموسيقي، وكل عزف حروفي فيه حضور
للعازف ولطيوره الأبجدية المزقزقة فوق
أغصان شجرة عنبه أو خمرته الحروفية
(وعنقودَ عنبٍ / يلامس العنقود
شفاهي)، والشجرة هي مجموع الشين
والجيم والراء، وأصل الأشجار هو
الانتصار على الأنانية، الذي هو أساس
الأشجار كلّها بما فيها شجرة الحروف
وموسيقى أصواتها الظاهرة والمستترة،
أي شجرة خروج الأمر الإلهي إلى الوجود
والكون([64]).
صوت الحاء
تكرّر هذا الحرف في النص لأربع
وثلاثين مرّة، وهو أيضاً عنوان لديوان
شعري أصدره الشاعر سنة 2002م، وهو في
نصوص الشّاعر بشكل عام رمز للحياة
وانتصار على الموت: "ولئن كانت ميم
الموت هي المستغاث منه، فإنّ حاء
الحياة والحبّ هي المستغاث به. هذا
يعني أنّ الشّعر الحروفيّ لا يستلهم
القوى الإنجازيّة المكنوفة في
الأساطير والأديان إلا ليشحنها بطاقات
جديدة تزيده يقينا من أنّ الحروف
كائنات حيّة ذات قدرة وجبروت، لذلك
عكست في القصائد الحروفيّة الشروط
التأسيسيّة لمفهوم "الحياة" من
منظورها الصّوفيّ حيث "الحياة صفةٌ
تُوجِب للموصوف بها أن يَعْلَم وأن
يَقْدر." ولأنّ "للحروف حياتها
الذّاتيّة.. فإنّ ذلك الرُّوح يذهب
وتبقَى حياة الحرف معه."([65])
وقصائد الشاعر عن الحاء كثيرة ولم ترد
فقط في ديوان (حاء) بل في دواوين
أخرى، كديوان (النقطة)، و(أربعون
قصيدة عن الحرف) و(أقول الحرف وأعني
أصابعي)، أما في هذه القصيدة فيقول
عنها الشاعر:
"الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ
إلى حاء وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية
ترقصُ كما يرقص الجنّي."
لا غرابة إذن في أن تتألّق الموسيقى
وتُحوّل الحاء إلى حرية، أي تلك
الحرية التي لا تتحقق إلا إذا كانت
شجرة الصوت الحروفي مستورة بشجرات
العلم والعمل والحال. وهذه الحرية ما
هي إلا جنة الوحدانية والفردوس
المغروس من سين النَّفَس وحاء الريح
المنعكسين في الحواس الخمسة بشكل
يدفعها إلى الحركة بوجود الله والخروج
إلى ظواهر الأشياء المحسوسة، كي يتحقق
في النهاية انفصال النفس عن الروح
وانتشار السلام والرحمة في الإنسان.
وكانت قصيدة: "محاولة الشاعر في
الموسيقى"، في الحديث عن السلام
والرحمة عبر حروف تتألّق وتزقزق
وترفرف مغرّدة فوق أشجار فردوس الحرية
والوحدانية([66]).
يقول الشاعر في نصه "محاولة في
الموسيقى:
"الموسيقى تذوبُ كما تذوبُ الفضة
وتنامُ كما ينامُ العشّاقُ
الذين أتعبهم طول الفراق ووطأة الهجر"
إن الموسيقى الحروفية في هذه القصيدة
حقيقة وقناع، وهي في الوقت ذاته تمارس
لعبة خطيرة ليس من السهل إدراك منطقها
المعرفي كدالّ ومدلول. فهي سيميائياً
رمز يختلف في معناه تماماً عمّا تم
الاعتياد عليه في علوم الدلالة، لأن
نظامها يتأسس داخل أنظمة أخرى لها
علاقة وطيدة بعلوم اللغة والتصوّف،
فهي موسيقى مُتنزّلة (الموسيقى تهبط)
باعتبارها الحرف الإلهي النابع عن
الذات المطلقة بشكل يستجلب الفرح (لا
أفرح إلا بنفسي): (ويلاحظ التركيب
الحروفي لكلمتي "فرح / وحرف")، لكن
هذا الفرح لا ينبع إلا من ألم واحتراق
(إلى متى يعذّبني نزيفُ الحروف؟)
تتعإلى وتنفصل فيه حروف كالألف مثلاً،
لكونها دالّة على عالم الجبروت، وتتصل
فيه حروف أخرى كالباء مثلاً باعتبارها
دالّة على عالم الشهادة والظاهر([67]). ثم
يتحقق لحروف ثالثة أمر الذوبان في
جوهر الحياة الحقيقي كما هو الحال
بالنسبة لحرف "الحاء"، فيحدث التغشّي
بالنورانية وتتحقق الحرية بشكل تتحوّل
معه جنّة الوحدانية إلى كتاب مسطور،
لذا فلا شيء يمكن تسميته إلا بالحرف،
ولا مفهوم يمكنه أن يقع خارج التسمية،
ولا علم يمكنه أن يُتحصّل بعيداً عن
المفهوم، فكما أنه لا يمكن لأحد أن
يتعرّف إلى الشعر إلا بعد علوم العروض
والتصريف واللغة، فإن علم النغم
والإيقاع لا يمكن الاقتراب منه خارج
المعرفة بالأوزان الهوائية، وكلاهما
قائم على الحرف، لذا يصبح نص "محاولة
في الموسيقى"، كتاباً عن الشعر وعن
الحرف، مادام هذا الأخير واقع في كلام
الله لا يستكنهه إلا الشعر باعتباره
كلاماً يحتاج إلى الترتيب والنظم،
فكلام الإنسان ينبغي أن يكون مرتّباً
وموزوناً ومساوياً لكل ما في العالم
من نبات وحيوان وجماد، فالعالم إنسان
بل حرف وجودي أبرزه نفَس الرحمن([68]).
ويكمل الشاعر ويقول:
" ولا أندمج إلاّ بنقاطي وحروفي."
وفي هذا القول دلالة على تحقق المعنى
الكلّي للوجود الذي لا يمكنه أن يتم
إلا عبر عملية اندماج ووصل بين النقطة
والحروف، إذ النقطة أصل كلّ حرف
ومعنى، وكل ما يقع عليه البصر أو
يدركه اللبّ هو نقطة بين نقطتين
ومعنى، وحرف بين حرفين، وما من فراغ
قال الحلاج: (ما رأيت شيئا إلا ورأيتُ
الله فيه). الشيء الذي يعني أن هذا
التجلّي الحروفي هو تجلّ عبر النفس
الإلهي، الذي هو برزخ تضمن مراتب
وجودية يصل عددها إلى 28 مرتبة توازي
كل حرف من حروف اللغة العربية
بصوامتها
وصوائتها الموازية
لمراتب البرزخ الأعلى([69]).
ومن الناحية السيميائية العرفانية فإن
مدّ الألف له دلالة عشقية وصالية
خاصة، ذلك أنه عبر جنة الوحدانية التي
سطّر حروفها الشاعر أديب كمال الدّين
في هذا النص يسعى إلى تأكيد أنطولوجي
لعلاقة الإنسان بالله وبالعالم عبر
علاقة الألف باللام في (لا) التي
تكررت في القصيدة بشكل لافت للانتباه
(انظر: شلال / لا تمسكه / لا سكين /
قُبلات / إلاّي / لامات / الملاهي /
لا أفرح / لا أندمج / إلاّ /...). ولا
غرابة في الأمر مادام الألف يسري في
الحروف كلها سريان التجلّي الإلهي في
الكون، فهو قيوم الحروف، يتعلّق به كل
شيء، ولا يتعلّق هو بشيء، يُظهِر
الحروف ولا تُظهره. وهو لمَّا اقترن
باللام في كلمة (لا) تحقق لكُلّ واحد
مِنهما مَيْل وعشق، فكان اللامّ هو
العاشق والألف هو المعشوق، وصار عشقُ
اللام للألفِ هنا في النص، رمزا لعشق
الشاعر لله. أما مدّ الياء فهو في
القصيدة الروح والذات، ولا نعيم يتحقق
له إلا إذا ربطَ النفس والقلب بجنة
الوحدانية، أو فردوس المحبة والسلام
والمسرّة
والحرية: (انظر العبارات التالية:
شفاهي / وحشتي / دمي / قلبي / موتي /
نفسي / نقاطي / حروفي...)([70]).
ويبقى مدّ الواو في النص رمزاً
معرفياً إلى الروحِ القدس الذي حملَ
طيور الحروف وأصواتها إلى فردوس
المحبة، أو المكان الذي اكتوى فيه
الشاعر بنار العشق والشوق فصاح قائلا:
"يا للجمال!
الموسيقى تتموسق والحروف
تتألّق. .... يا إلهي.. إلى متى
يعذّبني نزيفُ الحروف."
ولا عجب في ختم أديب كمال الدّين لنصه
بياء النداء (يا إلهي..)، فهو الشاهدُ
للواو وهو ينفصل عن بقية الحروف
محدثاً انشطاراً في حركة اللسان بشكل
جعل من الذات الشعرية حرفَ نداءٍ
شاهداً للجمال، فحين يقول الشاعر (يا
للجمال / يا إلهي..)، فإن الأمر فيه
إشارة إلى حدوث الذوبان في الجمال،
والانصهار في جنان وحدانية الله،
فيصبح الشاعر بهذا هو الشاهد
والمُشاهَد، والمُنادي والمُنَادى([71]).
أما المقطع العاشر من القصيدة فيمكن
اعتباره نموذجاً مهماً لما يمكن
تسميته بالتكرار الفعلي، لما وقع
بداخله من تكرار لنفس الأفعال:
"الموسيقى تذوبُ
كما تذوبُ الفضة
وتنامُ كما ينامُ العشّاقُ
الذين أتعبهم طول الفراق
ووطأة الهجر
|
الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ
إلى حاء
وتحوّلُ الحاءَ
إلى حرّية
ترقصُ كما يرقص الجنّي."
|
لكن تبقى الأبيات الحائية في هذا
المقطع هي الأكثر إثارة للانتباه:
"الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ
إلى حاء
وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية"
وذلك لأنها مفتاح القصيدة كلّها، أي
ذاك المفتاح الذي أعطى لموسيقى النص
معنى حقيقياً تمتد جذور شجرته إلى عمق
أعماق أرض الحرية الحقة: "جنة
الوحدانية" بكل طيور أبجديتها وخمورها
القلبية الحمراء المعتّقة النابعة من
دوالي وعناقيد العنب العدني([72]).
هكذا استطاع الشاعر عبر تقنية التكرار
أن يحقق داخل النص مستوى فنياً يعتمد
على الصدى والترديد لما يريد أن يؤكد
عليه من معاني بعيداً عن أي نوع من
النمطية الأسلوبية، مع إجراء بعض
التغييرات البسيطة على المقاطع التي
يقع فيها التكرار، وكأنّ الأمر فيه
دعوة للرقص وإلى تذوق نفس الإحساس
بالسعادة التي يعوم في بحارها الشاعر
وهو يعزف مقطوعة العشق الأكبر. وليس
هذا فحسب، فالإيقاعية التصاعدية
الحاضرة في النص ليس لها فقط سلطة
كروماتيكية تؤثر في النفس عبر موسيقى
الحرف وتواشجاته، ولكن سلطة زمانية
تلغي كل زمن له صلة بالماضي أو
بالحاضر أو المستقبل، ليصبح الزمن
الحقيقي هو الزمن الأبدي الذي ليس له
أول ولا آخر، ولا بداية ولا انتهاء،
باعتباره زمن الله وزمن حاء فردوسه،
ذلك لأن النص الحقيقي هنا ليس ما
نسجته قريحة الشاعر، وإنما ما استبصره
الشاعر في عمق الذاكرة الجماعية
للإنسان وفي عمق زمانها الذي هو صفوة
وزبدة ما خزّنه كل إنسان في ذاكرته
الصُلبية عن فردوس الحرية، وموسيقى
طيوره الأبجدية([73]).
المبحث الثالث: دلالة (إشارات)
الألوان عند أديب كمال الدّين
أولا- الباء منظار للكشف عن اللّون:
يقول أديب كمال الدّين في قصيدته
"أنثى المعنى":
"الباءُ لها شكلُ الأنثى،
شكلُ الحلم السريّ وضوضاء
الأمطار.
الباءُ فنار.
(أخرجُ من شيخوخةِ رأسي
في المرآة
الباءُ جمال وحشيّ
الباءُ: الليلُ بلا أحداق
ونجوم.
الباءُ: فراش مكتظّ
بالمعنى.
( أخرجُ من
شيخوخة قلبي
وأحدّق في حرفِ الفجرِ
وحرفِ الله
فأرى وجهي يتغضّن،
والكلماتُ الحقّ
تتوعدني بالمحذور.)
|
كي ألقي القبضَ على
الشاعرِ فيّ
وأجلسه قربي منتصف الليل،
أدفّئه
من بردِ شتاءٍ مقرور.)
تدخلُ في دائرةِ الفعلِ
الباء.
///
///
الباءُ: البحرُ بعيد:
سجّادةُ ألوان غامضة
بالطير
الباءُ: الصحراءُ هنا
تمتدُّ مفاجأةً للهارب
لا ليل سوى الليل الأعمى
والفجرُ بعيداً أقعى..
الأسودُ سيدّ دعوتنا"([74]).
|
ليست هذه هي المرّة الأولى التي
يتطرّق فيها الشاعر إلى المفهوم
الكوني للأنثى، لكنه في هذا النص جعل
من الباء دالا على الجانب الأنثوي من
روح الوجود، ورديفاً لصفة الحلم
السريّ وضوضاء الأمطار. فالباء مصباح
كاشف، طاقة أنثوية مطلّة على المكنون
في الغد وما بعد الغد. إنها نوع من
الدخول أو الولوج في عملية التحوّل
والتطوّر والاستعداد إلى استقبال حالة
الامتلاء بنور ونار الروح القدس
(أخرجُ من شيخوخةِ رأسي / في المرآة /
كي ألقي القبضَ على الشاعر فيّ /
وأجلسه قربي منتصف الليل، أدفّئه / من
بردِ شتاءٍ مقرور) إنها نوع من الصلاة
هذه التي تدعو إليها الذات الشعرية
عبر حرف الباء، صلاة يومية ومتواصلة،
بل معراج نحو السماء عبر البحث عن
الذبذبة الأنثوية التي تحرك الكون
(تدخلُ في دائرةِ الفعلِ الباء)([75]).
إن الأمر لا يتعلّق بمجهود موجّه نحو
الخارج ولكن نحو الداخل، نحو منجم
النفس الذي تنصهر في داخله الصفة
الذكرية وتتلاحم مع الروح الأنثوية
لكل إنسان. والشاعر استعان
بالباء هنا كي يكشف عن جزء يسير جداً
من تجلّيات الوجود، أي ذاك الجزء الذي
يخصّ ماهية الألوان. فالشاعر يقول في
هذا النص وفي نصوص أخرى بأنّ حرف
الباء أظهر أن الأسود هو سيّد الألوان
(الأسودُ
سيّد دعوتنا)، والباء
هنا إذ يقوم بدور الفنار فذلك لأن
وجود الكون بأسره موقوف عليها، فما
بالك باللون؟ وقد جُعلت النقطة تحتها
لأن صدور الكون من الباء إنما يَظهَر
في الجانب السفلي من مقام الباء،
فتكون النقطةُ بين الباء وبين الكونِ
هي عينُ التوحيد، أو الحاجزُ
الذي يَمنع الكونَ من الشِّرْكِ،
فيبقَى التوحيدُ معصوماً في الخَلق
والأشياء([76]).
إذن إذا كان اللون الأسود هو سيّد
الألوان حسب ما ورد في هذا الجزء من
القصيدة، فهذا يعني أن دولاب الألوان
المتعارف عليه سوف ينقلب رأساً على
عقب، وبدلاً من أن يكون مؤلّفاً في
ألوانه الأولية من الأحمر والأصفر
والأزرق حسب ما اتفق عليه أهل اللون،
فإن اللون الأولي الذي ستصدر عنه كل
الألوان سيصبح هو الأسود، وهذا ما
سيدفع المتلقّي إلى التساؤل: لماذا
الأسود هو أول لون في دولاب أديب كمال
الدّين؟
يقول الشّاعر في النص نفسه دائما:
"الباءُ جمال وحشيّ / الباءُ: الليلُ
بلا أحداقٍ ونجوم./ الباءُ: فِراشٌ
مكتظّ بالمعنى
الباءُ: البحرُ بعيد: سجّادةُ ألوانٍ
غامضة بالطير / لا ليل سوى الليل
الأعمى."
مازال حرف الباء هنا يتحدث عن الجمال
الوحشي، أي البدائي الذي ظهر أول ما
كانت عملية التخليق، بكل ما فيها من
قوة وعنف واختمار وانفجار، جمال أسود
وكأنه ليل معتم لا أثر فيه للضوء،
ولكنه مع ذلك فهو سجّادة من الألوان
الغامضة، وغموضها هذا نابع من كونه لا
يُعرف كيف ولماذا خرجت منه ألوان أخرى
على الرغم من كل هذا السواد والظلام
العظيم. إنه السؤال الكبير الذي لا
يمكن سبر أغواره إلا عبر الغوص في
نصوص أخرى من دواوين شعرية أخرى([77]).
ثانيا ـ الأسود سيّد الألوان:
في نصه "الغراب والحمامة" يقول
الشاعر:
"حين طارَ الغرابُ ولم
يرجعْ
صرخَ الناسُ وسط سفينة
نوح مرعوبين.
وحدي – وقد كنتُ طفلاً
صغيراً-
رأيتُ جناحَ الغراب،
أعني رأيتُ سوادَ الجناح،
فرميتُ الغرابَ بحجر.
هل أصبتُه؟
لا أدري.
هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟
لا أدري.
لماذا كنتُ وحدي الذي رأى
سوادَ الغراب
ولم يره الناس؟
لا أدري.
2. حين عادت الحمامةُ
بغصنِ الزيتون
صرخَ الناسُ وسط السفينةِ
فرحين.
لكنَّ الغراب سرعان ما
عاد
ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:
أيّهذا الشقيّ لِمَ
رميتني بالحجر؟
اقترب الغرابُ منّي
وضربني على عيني
|
فظهرت الحروفُ على جبيني
عنيفةً، مليئةً بالغموضِ
والأسرار.
ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدمُ عنيفاً
كشلال.
3. نزلَ الناسُ من
السفينةِ فرحين مسرورين،
يتقدّمهم نوح الوقور
وهو يتأمّلُ في هولِ ما
قد جرى.
حاولتُ أنْ أوقفَ
شلالَ الدمِ الذي غطّى
رأسي ووجهي.
فاقتربت الحمامةُ منّي
ووضعتْ على رأسي حفنةَ
رماد:
حفنةً صغيرة،
مليئةً بالغموضِ
والأسرار.
4. هكذا أنا على هذه
الحال
منذ ألف ألف عام:
الغرابُ ينقرُ جمجمتي
فينبثقُ الدمُ عنيفاً
كشلال.
والحمامةُ تضعُ فوق
جمجمتي،
دون جدوى،
حفنةَ رماد!"([78]).
|
لا شك أن هندسة الكلمات هنا ونظامها
وترتيبها يمتلك معنى خاصاً ومحدداً.
فالشاعر بدأ بالغراب لا الحمامة
لرغبته في التأكيد على أسبقية اللون
الأسود ثم بعد ذلك تأتي بقية الألوان
الأخرى؛ لأنّ اللون الأسود هو لون
التخمّر والتحلل البيولوجي والكيميائي
للمادة، أي لون الولوج في النار أو
الحرارة الخارجية التي تتفاعل
كيميائيا مع الحرارة الداخلية لأي
جسم، والمسؤولة عن كل أشكال "التعفن"
البيولوجي، الذي سيحّول بدوره أيَّ
مادة حيّة إلى الأصل الذي كانت عليه
في البدء. والشاعر إذ يشير إلى هذا
المسار العجيب، فإنه يؤكّد على فكرة
بدأ الإنسان مرحلة الوعي بذاته
الداخلية، أي بمنجم نفسه، الذي
سيستيقظ فيه وينتبه إلى نفسه كي يرى
فجأة فوق مرآتها جناح الغراب الأسود،
ومن هناك سيبدأ في التحلل والتفتت
بهدف التخلص من كل الشوائب والعودة
إلى منبع الروح([79]).
إذن ففي ظهور الغراب فجأة وتعرّف
الإنسان عليه، أو استيعاب الإنسان لما
بداخله من سواد، استيقاظ من الغفلة
ودخول إلى تنّور النفس، وحضور دائم
وانتباه مُرَكّز للذات وهي في سيرها
نحو التفتت والتحلل والتخلّص من كل
الشوائب. وفي الحديث عن ظهور الغراب،
لا يُقصد به أنه لم يكن موجوداً
سابقاً، لكن الإنسان هو الذي لم ينتبه
إلى وجوده، والشاعر أديب كمال الدّين
قد تطرّق إلى هذه الفكرة وتوقّف عندها
بشكل مركّز، حينما قال:
"وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً- /
رأيتُ جناحَ الغراب، / أعني رأيتُ
سوادَ الجناح".
فكون شخصية "الطفل" رأت سواد الجناح،
فهذا يعني أن الغراب كان في حركة
رفرفة دائمة وسط سديم الكون أو النفس،
بل في حالة ذهاب وإياب سريعين
ومستمرين (" لكنَّ الغراب سرعان ما
عاد")، هذا يعني حركة الإنسان وتنقّله
بين الوعي واللاّوعي مستمرة، وإلا ما
كان الشاعر ليختم نص "الغراب
والحمامة" بهذه الأبيات:
"هكذا أنا على هذه الحال / منذ ألف
ألف عام:/ الغرابُ ينقرُ جمجمتي /
فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال./
والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي، / دون
جدوى، / حفنةَ رماد!"
إذن فالحرف الذي ذكره الشاعر منذ
البداية في عنوان ديوانه الجديد يُقصد
به "الإنسان" ولا أحد غيره، أي
الإنسان في رحلته مع غراب نفسه.
لكن معرفة لون حمامة نوح، قد يكون
شفيعاً للتعرّف إلى ما تعنيه الحمامة
في نصوص الشّاعر بشكل عام وفي قصيدة
"الغراب والحمامة" بشكل خاص([80]).
ثالثا ـ دلالة اللون الأبيض:
إن وصول الإنسان إلى اكتشاف منجم
نفسه، مسار ذهني أو ثقافي وتاريخي،
ولكنه أولا وقبل كل شيء مسار جوانيّ
مفعم بالتفاعلات والانفعالات
والأحاسيس البشرية، التي لها قدرة
قوية على توجيه الإنسان نحو مرحلة
الاختمار وبالتالي التحلل، هذا الأخير
الذي تليه مباشرة لحظة ولادة أو قيامة
من الموت، بل انبجاس للنور وسط الظلام
الدامس وكأنه حمامة نوح. هكذا إذن
يتجلّى لك أن اللون الثاني الذي يأتي
مباشرة بعد اللون الأسود هو الأبيض.
إذن فكون حمامة نوح بيضاء، ففي هذا
ربما إشارة إلى أن السفينة هي رمز
للجسد البشري، وماء الطوفان رمز لماء
التخليق، إذ بدون ماء لا يمكن أن يحدث
اختمار أو تحلل، وسواد الغراب هو رمز
لسواد العدم وبداية الكون الغارق في
ظلامه الرهيب. وما من فراغ قال الشاعر
في ديوان (مواقف الألف):
"أوقَفَني في موقفِ
الظلام
وقال: الظلامُ يحيطُ بك
مِن كلِّ صوبٍ يا عبدي.
فَعَلامَ الهرب؟
وَعَلامَ التعب؟
|
إنْ تصوّرتَ أنَّ للجسدِ
شمساً
أو أنَّ للحلمِ ألَقاً
أو أنَّ للذهبِ روحاً
فأنتَ مِن الواهمين."([81])
|
لكن على الرغم ما قيل في حقّ اللون
الأبيض باعتباره ثاني محطة يحطّ بها
السالك رحاله وهو في طريقه إلى
الخلاص، لكن الشاعر يظلّ يرى في
الأسود طمأنينة الألوان كلّها. فقد
مدح السواد وهو في مقام الحديث عن
البياض:
"قال الطبيبُ الذي يرتدي
قميصاً أبيض
وبنطلوناً أبيض
وحذاءً أبيض
- هل كانت طفولتكِ بيضاء؟
· (لا)
- هل كان شبابكِ أبيض ؟
· (لا)
- هل كانت شيخوختكِ
بيضاء؟
· (لا)
- قال الطبيبُ: إذن ماذا
تنتظرين؟
· قالت: (أنتظرُ الموتَ
ليأتي ويأخذني
|
مرتدياً طفولةً سوداء
وشباباً أسود
وكهولةً سوداء.)
مدّ الطبيبُ يده ذات
القفّاز الأبيض
إلى الضحية
فأبعدها الموتُ برفق
كان الموتُ يبكي على
الضحيةِ بدموعٍ سود.
لكنّ الضحية نفسها
وجدتْ في الأسود،
في آخرِ المطاف،
طمأنينةَ الألوانِ
كلّها."([82])
|
الموقف هنا رغم البياض الذي فيه موقف
موت وعودة إلى سواد العدم والسديم
الأوليّ. والنص فيه ثلاثة شخصيات،
كلّها أساس، والذات الشعرية هي
محرّكها الوحيد على وفق مخطط معين
ومدروس جدا:
الشخصية الأولى:
الطبيب وهو القوة النفسية الداخلية
لكل إنسان، هذا الأخير الذي بمجرد
وعيه بما يحمل من آلام، تقطع نفسه
بداخله مسافات هائلة من التحوّلات
والتغيّرات كي تخرج من صحارى السواد
وتنزل أخيراً في واحات البياض، فيصبح
الإنسان طبيب نفسه، وذلك بهدف تقديم
يد المساعدة والنجاة، وبالتالي شفاء
جسده وروحه معاً من الحزن والارتباك،
من الخوف والإحباط، ومن كل المشاعر
السلبية كيفما كان نوعها ومصدرها([83]).
أما اللون الأبيض فهو شاهد على هذا
التحول من حالة إلى أخرى، وعلى ما
يحدث داخل الإنسان من تطور، واتجاه
نحو البساطة والنقاء. وأما مقامه ففيه
إشارة للسلطة الروحية التي تساعد
الإنسان في الاهتداء إلى معالجة نفسه
بنفسه، مع تنقية روحه من الشوائب التي
طالتها. وهذه السلطة هي سلطة ملائكية
خصّ بها الله كل إنسان، وغالباً ما
تكون مصحوبة ببكاء الإنسان ودموعه
الحرّى وهو في طريقه بعون هذا الملاك
إلى أن يصير طبيب نفسه، وما من فراغ
تجد الشاعر يقول ما يلي في موقف يتحدث
فيه عن الدمع والبكاء، موقف لا يبدو
أبداً من قبيل الصدفة، إنه أسماه
بـ"موقف البياض"([84]):
"أوقفني في موقفِ البياض
وقال: أدهشكَ البياضُ يا
عبدي
أم أدهشكَ الحرمان؟
أدهشكَ المشهد أم أدهشكَ
اللون؟
|
أدهشكَ الدفء
أم أدهشكَ الإصبع؟
أدهشكَ الدمع
فكنتَ على سجّادتي تبكي؟"([85])
|
الشخصية الثانية:
لا يُعرف عنها سوى أن الذات الشعرية
تسميها "بالضحية" وتخاطبها بصيغة
التأنيث، وأن كلّ أجوبتها عن أسئلة
الطبيب تنفي كل ما له أيّ صلة
بالبياض. ماذا يعني هذا؟ أو ما الذي
يعنيه هذا الإلحاح في التمسك بالسواد؟
"(أنتظرُ الموتَ ليأتي ويأخذني /
مرتدياً طفولةً سوداء / وشباباً أسود
/ وكهولةً سوداء). إنه رغبة روح كل
مؤمن في العودة إلى سواد البدء، إلى
ظلمة السديم، أيْ إلى النقطة الأُمّ،
وإلى مركز الكون السابح في ظلام عظيم([86]):
"أنا نقطتك التي هي مركز الكون،
نقطتك السابحة في ظلام عظيم"([87]).
الشخصية الثالثة:
هي الموت. وهي أعلى درجة من الشخصية
الأولى، باعتبار أن هذه الأخيرة تنحّت
وانسحبت وتركت لملـَك وسلطان الموت
سلطة أخذ الروح والعودة بها إلى مركز
الكون:
" مدّ الطبيبُ يده ذات
القفّاز الأبيض
إلى الضحية
|
فأبعدها الموتُ برفق
كان الموتُ يبكي على
الضحية بدموعٍ سود."
|
بقيت كلمة أخيرة لا بد من قولها في
حقّ الذات الشعرية. إذ عبر هذا السفر
في رحاب كلمات وقسم من معاني قصيدة
"ألوان" يتضح أن هذه الذات هي نفسها
الطبيب والضحية، والأعجب في كل هذا،
هي هذه السعادة والطمأنينة التي شعرت
بها بعد أن أسلمت روحها لملك الموت،
وكأنها عريس يموت عشقاً ويذوب من
اللهف والحرقة من أجل لقاء عروسه نقطة
الكون ومركزه([88]):
"النقطة عروس
والحرف عرس
|
فما أسعدني أنا لابس
البدلة البيضاء
وواضع الزهرة البيضاء في
أعلى البدلة."([89])
|
رابعا - دلالة اللون الأحمر (الإنسان
الأحمر):
يقول أديب كمال الدّين في قصيدة
"الغراب والحمامة":
"اقترب الغرابُ منّي
وضربني على عيني
فظهرت الحروفُ على جبيني
|
عنيفةً، مليئةً بالغموضِ
والأسرار.
ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدمُ عنيفاً
كشلال."
|
المقطع فيه تجل لعين الحرف ونبعه،
وعليه فالغراب هنا لعب دور الكاشف عن
هذا المكمون من العلم والمعرفة
اللدنية داخل الإنسان. وإذ يقول أديب
كمال الدّين، إنها "مليئة بالغموض
والأسرار" فذلك لأنّ الإنسان لم يزل
لم يصل إلى تلك المرحلة التي يصبح
فيها عالماً وعارفاً بالعلوم
الربانية، وهذا يعني أنه لم تزل بداخل
منجمه النفسي، مفاوز وشعاب ووديان
عليه أن يتكبّد عناء ووعثاء السفر
فيها، علّه في الأخير يصل إلى شلاله
الأحمر، فيغتسل به ويصبح إنسانا أحمر.
وهذا التصريح مبني على هذه الصورة
الموجودة في أواخر أبيات المقطع
أعلاه تتحدّث عن هذا:
"ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال"
إذن فصورة الانبثاق حسب وصف الشاعر
لها، كانت عنيفة، وشدّة عنفها هذه
جعلته يقول عن الدم السائل، أنه شلال
هادر، لذا فصورة الشلال هذه تعني أن
الإنسان مغطى بالدم الأحمر من قمّة
رأسه حتى أخمص قدمه، وإن كان الشاعر
يركز في القصيدة على الرأس والوجه:
"حاولتُ أنْ أوقفَ
شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي
ووجهي"([90]).
أما عن معنى أن يتحول الإنسان من
اللون الأسود إلى الأبيض، ليختم
الرحلة بالوقوف عند اللون الأحمر أو
عند ما يمكن تسميته مجازاً بالمرحلة
الحمراء فتكتشف الكاتبة د. أماء غريب
أن الشاعر قد خصص العديد من قصائده
لهذه المرحلة الحمراء في حياة الإنسان
السالك، أيْ مرحلة الإزار الأحمر،
مرحلة الدم، بل مرحلة النقطة الحمراء.
والوصول إلى هذه المرحلة الحمراء يعني
أن الإنسان قد توصّل إلى حقيقته
الروحية الإلهية التي كانت بداخل جسده
الفيزيائي منذ البداية وهو غافل عنها([91]).
وهذا النوع الجديد من الحقيقة يمكن
تسميته بالجسد الريشي، الذي تحدّث عنه
أديب كمال الدّين في ديوان "الحرف
والغراب" قائلاً في مقطع من قصيدة
"بطاقة تهنئة":
"لا بأس.
هذه المرّة
لا تكتبْ عن الطائر.
أنتَ لستَ بطائر،
فهمتْ؟
ولا عن الجناح.
أنتَ لستَ جناحاً،
فهمتْ؟
|
ولا عن المنقار.
أنتَ لستَ منقاراً،
فهمتْ؟
ولا
ولا
ولا.
اكتبْ، فقط، عن الريش.
أنتَ ريشةٌ سقطتْ من
جناحِ طائر."([92])
|
إذن فالوصول إلى هذا الجسد الريشي هو
ضالة كل إنسان اليوم وغداً، وهذا ما
دفع كبار أطباء علوم النفس المعاصرين
إلى الاعتراف بأن سعادة الإنسان هي
رهينة بوصوله إلى هذا الجسد، وعليه
يصبح مفهوم السعادة روحانياً لا
مادياً، أي مفهوماً لصيقاً بما هو
سماوي معراجي. السعادة هي سفر وهجرة،
تبدأ بتحديد البيت الحقيقي لكل إنسان
تحديدا لا يمكنه أن يتحقق إذا لم يسأل
الإنسان أسئلته الفلسفية الوجودية
الكبيرة: "من أين أتيتُ؟ وأين هو وطني
الأنطولوجي الكينوني الذي عليّ أن
أعود إليه؟"، وتحديدُ هدف الوصول كفيل
بأن يضمن للإنسان تجنّب خطر الوقوف
عند أول محطة من محطات هذا السفر
العسير، أو الوقوع في شباك أنصاف أو
أشباه الحلول([93])،
وهي الفكرة ذاتها التي عبّر عنها أديب
كمال الدّين في قصيدته "انسلال" بقوله
فيها:
"مثل كلّ مرّة
اختفى الطريقُ إلى البيت
وأنتِ معي.
فماذا سأقول؟
بل ماذا سأفعل
والظلامُ يحيطُ بي من
كلِّ صوب
أقودكِ كي لا
أترككِ تنسلّين
وقت الفجر إلى الأبد.
أقودكِ كي أعاهدك
|
كما يحيطُ الصبيةُ
العابثون بمجنون؟
وكيف لي
وسط ليلٍ يستقبلني
بحجارةٍ من سجّيل
أنْ أقودكِ ثانيةً
لأعبر بكِ الشارعَ المظلم
إلى الغرفةِ
المُعلّقةِ في الأعالي؟
أنْ أبقى الليل كلّه،
أعني العمر كلّه
يقظاً مثل جمرة."([94])
|
فكل إنسان عليه أن يبقى يقظا كجمرة
حمراء، ليصل بروحه إلى "الغرفة
المعلّقة في الأعالي"، وأن يحافظ على
جسده الريشي الجمري اللون، ويحميه من
فتنة كلّ من يعدُه بقيادته إلى بيت
آخر لا علاقة له ببيته الحقيقي، ووطنه
الأم، الذي لا محيد عنه لكل إنسان على
وجه البسيطة([95])،
مصداقاً لقول الشاعر في نصه "موقف
البيت":
"يا عبدي
لا بيت لكَ إلا بيتي،
فادخلْه مطمئناً
|
وقلْ: الحمدُ للهِ الذي
آواني بعد تَشرّدٍ وضياع
وقلْ: سلامٌ سأستغفرُ
ربّي.
وَجَعلَ حرفي ونقطتي
جدرانَ بيتي."([96])
|
خامسا - أديب كمال الدّين رسام
نّـُقـْطيّ:
ترى الكاتبة أن نصوص أديب كمال الدين
الشعرية نقرؤها بأذنينا ونسمع أحرفها
بعينينا، ونشعر بعد ذلك كأننا أمام
لوحة فنية تنبض بالحياة وتتمتع بألوان
قوية الاختراق. إذ كلما كان للشاعر
أوالرسام بصيرة نفّاذة قادرة على
التقاط ما تراه حولها في الكون من
تجلّ للفعل ولونه، ولحركة الأجسام
بكافة أنواعها وأجناسها، تحوّل نص
الشاعر إلى لوحة، وأصبحت لوحة الفنان
قصيدة. وأديب كمال الدّين شاعر ريشته
الحرف ولونه النقطة، لذا فهو رسّام
نُقْطيّ. لأنّ معظم نصوصه أثبتت أنه
في فعله الكتابي يتحرك داخل النقطة.
منها يخرج وإليها يعود، وفيها يقف
ويدور ويدور، فيخرج من يده اللون
الأسود (خرجت النقطةُ من الباب /
كانتْ عسلاً أسود) ومن الأسود الأبيض
(كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء /
نوراً خرج لينير سواد طفولتي / فحاول
قتله كلُّ ظلام الأرض). ومن الأبيض
الأحمر، الذي هو اللون الحقيقي
للنقطة: "كانت النقطةُ دمَ الجمال /
دمَ المراهقة / دمَ اللذة / دمَ
السكاكين / دمَ الدموع / دمَ الخرافة
/ دمَ الطائر المذبوح / كانت النقطةُ
دمي)([97]).
وهو في هذا يُرسّخ مفهوماً جديداً
للكتابة والرسم انطلاقا من النقطة لا
لكي يتحدّث فقط عمّا يحكم حياة الناس
من عبث وتناقض وهوس وألم وأفراح،
تنتمي كلّها إلى عالم من أحلام يعتقد
كلّ إنسان أنها حقيقته وضالته
المطلقة، ولكن لكي يتحدث أيضا عمّا في
هذا التناقض والعبث الظاهري من تناسق
وكمال مطلق يصعب الوصول إلى كنه
الحكمة فيه. وهو في هذا رسّام يخلط
الألوان خلطاً حروفياً بصرياً مع
الفصل بين اللون الموضوعي واللون
الضوئي، وبين حركتهما التفاعلية التي
هي: حياة الناس فوق هذا الكوكب العجيب
السابح في ظلام عظيم. والشاعر إذ يقوم
بهذه العملية الشديدة الصعوبة، لا
يكتفي بالشعرية في مفهومها الأدبي،
ولكن يلجأ إلى الشعرية بمفهومها
العلمي أيضا: كي يقلب كل الموازين
التي سبق لمنظري الأدب أن حدّدوها
جاعلين من الشعر مجرّد فنّ إنساني لا
علاقة له بالعلوم الحقّة وخاصة منها
علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات([98]).
والشاعر في رسمه لقصائده "العلمية"
يرتكز على مفهوم "التضاد اللوني"،
فكلّ بيت مضيء بمعنى ما، يقابله بيت
آخر غارق في الظل والظلمة، وبهذا يدعو
القارئ إلى تفتيت لون المعنى أو
الفكرة المراد إيصالها، تفتيتاً
عقلياً وبصرياً حتى يقع انسجام المعنى
الحقيقي بداخل العقل([99])،
وفي هذا المقطع مثال تطبيقي لهذه
الأطروحة:
"قالَ الشحّاذ: ما معنى
الرغيف؟
فهبطتْ بهدوءٍ من عينيه
دمعةٌ حرّى.
قالَ الشرطيّ: ما معنى
المظاهرة؟
وملأ بثقةٍ مسدسَه الكبير
بالطلقات.
قالَ النهر: ما معنى
الماء؟
فارتبكَ بشدّةٍ وكادَ
قلبُه أنْ يتوقّف.
|
قالَ الغراب: ما معنى
الحمامة؟
وضحكَ بخبثٍ ضحكةً صفراء.
قالَ الحرف: ما معنى
النقطة؟
ومسح بألمٍ صورتَها من
كتابِ الوجود.
قالَ الموت: ما معنى
الحياة؟
وغسلَ بلا مبالاةٍ يديه
الضخمتين من الدم!"([100])
|
وعليه فإذا كان "فان كوخ"، قد جعل من
خفايا الليل وحلكته لوحة مضيئة منيرة
ومشرقة أسماها "الليلة المضيئة
بالنجوم" (1898م)، فإن أديب كمال
الدّين، أخرج من سواد السديم، أبجدية
من نور تقيم معرضها في الهواء الطلق
كلّ ربيع، بل أبجدية أصلها النقطة
وكاشفها الباء([101])،
كما يشير هنا الشاعر في نصّ "ذات
ربيع":
" ذات ربيع
أقامت الحروفُ معرضاً في
الهواء الطلق.
رسمت الباءُ
امرأةً عارية
تبيع البيضَ في السوق.
ورسمت الحاءُ دماً يتدفّق
وجلاّدين يتقاتلون
كالوحوش.
ولثغت الراءُ باسمها
فتساقطتْ طفولةُ الفراتِ
من كأسها
وسطعتْ ألوان العيدِ
البعيدِ في عينيها
لتضحك أفلامُ الغرامِ
والانتقام
في جيوبها التي مزّقها
الدهر.
وتألّقت السين في مشهدِ
الطين والماء.
ولوّنت النقطةُ مشهدَ
الارتباك
حيث يعزّي الأنبياءُ
والأولياءُ والشعراء
بعضهم بعضاً
بمناسبةِ حضورِ مشهدِ
الجنازة
ممتلئاً برفيفِ أجنحةِ
الملائكة
وصيحاتِ الأتباعِ
والخاطئين، والمخلصين
فلما
سقطَ على الأرض
وانفصلت الهمزةُ عن رأسه
الشريف
أفاقَ وصاحَ: لِمَ؟
وكيف؟
ومّم؟
وعلامَ؟
|
والمرتدّين.
وحده الألف
كان يراقبُ المشهدَ من
شرفته العالية
مذهولاً
إذ أنفق العمر كلّه
يتأمّلُ في مشهدِ المرأةِ
العارية
والدمِ المتدفّقِ وصيحاتِ
الجلاّدين
والفراتِ الطفل
وأفلامِ الغرامِ
والانتقام
ومشهدِ الارتباك مزدحماً بالأنبياءِ
والملائكةِ والخاطئين
والمرتدّين.
وحده الألف
كان يراقبُ المشهدَ المضحكَ
المُبكي.
لكنّه في ربيعٍ عجيب
سقطَ من شرفته العالية.
( قيل إنّ رفيفَ الملائكة
شجّعه على الطيران
وقيل إنّ الشيطانَ أغراه)
وإلامَ؟!
غير أنّ الحروف
لم تأبه كثيراً لأسئلته
الكبرى
ولا لدموعه الحرّى
وبقيت تقيمُ معرضها في
الهواء الطلق
كلّ ربيع."([102])
|
إذن فالحروف هنا ترسم ولها الريشة
والألوان، والباء في عريها ترمز إلى
الكشف ورفع الحجاب كي تُظهر العالم
كما هو عليه: مليئا بالارتباك
والازدحام والفوضى، مليئا بمشاهد
"الدم" و"الغرام" و"الانتقام"،
ومليئاً بالجلاّدين، بالأنبياءِ
والملائكةِ والخاطئين والمرتدّين. إلا
أن كلّ هذا لم يمنع الشاعر بنعته لهذا
العالم أو المشهد ب"المضحك المبكي"،
ولا من طرح أسئلته الوجودية الكبيرة:
"لِمَ؟ / وكيف؟/ ومّم / وعلامَ؟ /
وإلامَ؟!". أسئلة وإن كان العالمُ من
حوله وبمختلف حروفه يقابلها بالتجاهل
والإهمال([103]).
إذن فأديب كمال الدّين وهو في رحلته
مع النقطة والحرف، رسم حياة الناس عبر
حياته أيضاً، وأعاد معهم وبهم طرح
أسئلتهم وأسئلته الوجودية الكبيرة،
وأجاب عنها بريشة هدفها الأول والأخير
رسم كل معاني الجمال الإلهي، بكل
ألوانه، الوحشي منها الغارق في سواد
السديم، والمشرق منها العائم في بحار
النورانية والبهاء والتناسق البديع([104]).
الخاتمة:
إن القراءة المتأنية لتحليل نصوص أديب
كمال الدين للكاتبة د. أسماء غريب
تقودنا إلى النتائج الآتية:
1)
استعمل الشاعر العبارات والجمل
المفعمة بالدلالات بشكل كبير في نصوصه
الشعرية حتى أن النصوص يمكن أن تمثل
إنموذجاً صالحاً للتحليل الدلالي وهو
الأمر الذي يكرس أهمية الخطاب الشعري
كخطاب يصلح لمتلقي وقراءة يفرضها
العصر الراهن.
2)
اعتمد الشاعر على استعمال الرموز
بأشكالها المختلفة ومرجعياتها
المتنوعة كأفعال قادرة على اطلاق
الدلالات المتنوعة. ذلك
أنَّ الحروف
والنقاط هي امتياز أديب كمال الدين
وتفرّده وواسطته للارتقاء إلى عالمية
الشعر، والغور في ملكوته المقدس، فعلى
الرغم من حروفية قصائده، فإنها تهتم
بالمعنى وتستقري قيم الحياة الإنسانية
ونفاذها إلى جوهر الوجود.
3)
استعمل الشاعر الطقوس الرمزية وخاصة
تلك الطقوس التي تمد جذورها في أعماق
التاريخ والتراث الشعبي العراقي
مستفيداً بذلك من تجربته الخاصة
وثقافته الأكاديمية.
4)
بينت الكاتبة أن الشاعر لجأ على نحو
متكرر وإيجابي إلى مخاطبة عقل القارئ
والمتلقي عبر استعمال الجمل والإشارات
الذي يعتمد فهمها على التأويل
والتفسير والشرح والإيحاء.
5)
ركزّت الكاتبة كل طاقاتها للحديث عن
الجمال والكمال الإلهيين عبر التجربة
الحروفية المواقفية للشاعر أديب كمال
الدّين، وهذا الأمر لم يكن فيه أية
نيّة لإلغاء جمال باقي الموجودات، كلّ
ما في الأمر هو أن الموجود الحقيقي
صاحب الجمال المطلق، له آيات تشير إلى
علمه وكماله وعظيم صنعه وتلك هي
حقيقته، ولو تمّ النظر إلى جمال
الموجودات في معزل عنه فلن يُرى سوى
العدم، فحتى اللغة واللون في نصوص
الشّاعر لا يحتفلان سوى بهذا الجمال،
وقد تمّت معاينة ذلك في جميع فصول هذا
الكتاب وبخاصة في الفصلين الرابع
والخامس منه.
6)
بينت الكاتبة أن الشاعر استعمل براعته
الشعرية في استثمار الإيقاع الصوتي
لتحقيق أعلى درجات التأثر في المتلقي
والقارئ.
7)
إن القراءة المتأنية لنصوص أديب كمال
الدين تشير إلى أن الصورة قد أدت
دوراً في تكوين المعطيات ذات الدفق
الدلالي؛ فعن طريق استعمال اللغة
استطاع الشاعر أن يرسم مجموعة من
الصور أسهمت في تحقيق هدف هذه النصوص
الشعرية ورسالتها.
المصادر والمراجع:
أولاً –
القرآن الكريم.
ثانيا- الكتب والمراجع:
1)
تَجلّيات الجَمَال والعِشْق عند أديب
كمال الدين. د. أسماء غريب. منشورات
ضفاف، بيروت، 2013م.
2)
الحروفي: 33 ناقدا
يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين
الشعرية. إعداد: د. مقداد رحيم.
المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، 2007م.
3)
الدلالات المفتوحة مقارنة سيميائية في
فلسفة العلامة. احمد يوسف. دار
العربية للعلوم، المركز الثقافي
العربي، ج1، المغرب، 2005م.
4)
ديوان أخبار المعنى. أديب كمال الدين.
دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد
1996م.
5)
ديوان أربعون قصيدة عن الحرف. أديب
كمال الدين. دار أزمنة للنشر
والتوزيع، عمّان، 2009م.
6)
ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي. أديب
كمال الدين. الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، 2011م.
7)
ديوان الحرف والغراب.
أديب كمال الدين.
منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون،
بيروت، لبنان 2013م.
8)
ديوان النقطة. أديب كمال الدين. ط2،
المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
عمّان بيروت، 2001م.
9)
ديوان
حاء. أديب كمال الدين. المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، عمّان،
بيروت 2002م.
10)
ديوان
ما قبل الحرف ما بعد النقطة، دار
أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان 2006م.
11)
ديوان
مواقف الألف. أديب كمال الدين. الدار
العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان
2012م.
12)
ديوان
نون. أديب كمال الدين. مطبعة الجاحظ،
بغداد، 1993م.
13)
السيمياء.
بيير غيرور. تر: أنطون أبن زيد.
منشورات عويدات، بيروت لبنان،1984م.
14)
السيميايئات
الواصفة لمنطق المسيميائي وجبر
العلامات. أحمد يوسف. الدراسات
العربية للعلوم، المركز الثقافي
العربي، 2005م.
15)
عضوية
الأداة الشعرية (فنية الوسائل ودلالية
الوظائف في القصيدة الجديدة). محمد
صابر عبيد. مطابع جريدة الصباح،
العراق، 2008م.
16)
العلاماتية
وعلم النص. امبرتو ايكو. المركز
الثقافي العربي، المغرب، 2004م.
17)
العلامة
تحليل المفهوم وتاريخه. امبرتو ايكو.
تر: سعيد بنكراد، راجع النص، سعيد
الغانمي، المركزي الثقافي العربي،
بيروت، 2007م.
18)
علم
الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة مع
السيمياء الحديثة، عادل فاخوري. ط2.
دار الطليعة، بيروت، 1994م.
19)
علم
الدلالة العربي النظرية والتطبيق
دراسة تأريخية، تأصيلية، نقدية. فايز
الداية. دار الفكر، دمشق، 1996م.
20)
علم
السيمياء والعنوان في النص الأدبي،
محاضرات الملتقى الوطني الأول.
السيمياء والنص الأدبي. بلقاسم دفة.
(جامعة محمد خضير، بسكرة)، 2000م.
21)
لسان
العرب. ابن منظور (ت711هـ). المجلد
الثالث، دار المعارف.
ثالثا- المجلات والدوريات:
1.
السيمياء مدخل فيلولوجي. يوسف إسكندر.
الأقلام. دار الشؤون الثقافية العامة،
العدد السادس، بغداد، 2008م.
2.
"حآ" أديب كمال الدّين: مقاربة صوفيّة
براغماتيّة، حياة الخياري. مجلة
الأقلام. دار الشؤون الثقافية العامة،
بغداد، العدد الثالث، 2011م.
رابعا- المواقع الألكترونية:
-
الموقع الالكتروني للشاعر أديب كمال
الدين
:
www.adeebk.comhttp://
-
الموقع الالكتروني للكاتبة
الأديبة د. أسماء غريب:
http://www.asmaaegherib.wordpress.com
http://www.asmgherib.wordpress.com
-
(Wikipedia.
Org).
موسوعة ويكيبيديا، الإنترنيت.