دهشة التأويل في قصيدة "المستمع الأخير"

لأديب كمال الدين

أ‌.      د. غزلان هاشمي ـ جامعة سوق أهراس ـ الجزائر

 

ينحو النص الشعري المعاصر منحى غرائبيا، حيث يؤسس زمن الدهشة، ويتعالى بممكناته ما يحدث إرباكا لدى المتلقي، ونصوص الشاعر أديب كمال الدين لا تخرج عن هذا التوصيف، فهي مسكونة بالتجاوز ودلالات المغايرة، وذلك ما يجعلها في حكم المتعدد، إذ يفرض الأمر قارئا نوعيا من أجل فكّ شفرات هذا النص، وهو الذي يسميه مكسيم ديكو القارئ السيء في كتابه "في مديح القارئ السيء"، إذ يعتبره القارئ النموذج، فيقول: "إن هذه الأعمال والآثار الأدبية المراوغة والمخاتلة ستجبرك على إساءة قراءتها كي تبهتك وتثير دهشتك. وهكذا، فالقارئ السيء مطلوب من قبل النص، إنه القارئ النموذج. وفي هذه الحال، فالقارئ الجيد ذلك الذي يفطن إلى ما حاكه له الكتاب من المكائد والكمائن."31.

ومن هنا تصبح القراءة إنجازية أخرى، تقاوم الغياب وتستنطق النص وتقف على مسافاته الصامتة وهي التي يصفها مكسيم كذلك بالقراءة المنحرفة الشاذة، فيقول: "لا جرم أن القراءة المنحرفة الشاذة وسيلة تعسفية ومتشددة لتحررك من عقال تلك القوانين والمحظورات. فهي تهتك أسرار العادات والضوابط والمعايير التي تؤثر وتتحكم في سرائر نفسك، وتعينك على نبذها ونفضها عن كاهلك. إنها تشهد لك أن هناك منظومات فكر وتأويل مهيمنة تجد أحيانا في الأعمال قرائن على وجودها فإن تواتيك الجرأة والشجاعة لتقرأ عملا دون أن يقر هو ذاته بالمشروعية الكاملة لهذا التأويل، فذلك يعني أن تتصرف مثل أي قارئ سيء: أي أن ترفع عقيرتك مطالبا بحريتك كذات ولو في فعل القراءة"78.

انطلاقا من ذلك نحاول في هذه القراءة الوقوف على دلالات المغايرة ،من خلال تقديم قراءة تأويلية تبتعد عن حدود الحرفية لتصنع اختلافها.

قراءة في العنوان "المستمع الأخير":

قراءة في العنوان تحملنا إلى عدة احتمالات، فالمستمع يحمل دلالة الانتباه والتركيز والصمت في حضرة الآخر، ويحمل دلالة الغيرية والتعدد والمواجهة، لكن اقترانه بلفظة الأخير التي تعني المنتهى تجعل هذا المتعدد في صيغة الواحد، وكأنّ النص  يبني نفسه على الاستشكال والاستغلاق، ليصبح صوته رهين أنويته، لا يمنح سره إلا لآخر متلق لا يحفّه الاستعجال، لكنّ هذا القارئ يقف على تخوم الدهشة، ثم ينصرف وفي ذاته خيبة المعرفة، لذا حال اقتران لفظة المستمع بلفظة الأخير قد يذهب معناها إلى الدلالة النهائية أو موت القارئ، وهو ما يشي بالوقوف في حضرة الحيرة.

لم تكنْ حياتي سوى أعجوبةٍ صغيرة

لم أستطعْ أنْ أقرأَ حرفَها

ولا أتماهى معَ نقطتها: سِرّها.

يبين الشاعر أديب كمال الدين أن النص/الذات عبارة عن إنجازية في حكم المستقبل (تكن، أستطع، أتماهى)، أو هوية يلفها الاحتمال ويصنعها الرفض، وهو ما يجعله بعيدا عن المعيارية حيث يصنع اعتباراته من دهشة الانتظار ومتاهات المعنى (أعجوبة صغيرة)، وكأن بالنص/الذات يقع في حيرة الالتباس، ويتعالى عن جاهزيته، ليتحول في النهاية إلى فيض متعال ينبجس منه الكون الشعري، وإلى سرّ يعجز الآخر ويرفض فكّ استغلاقاته، حتى يحافظ على أزليته وعلى عدم تناهيه ولا نهائيته.

قيلَ لي: هي لَعِبٌ ولَهْو.

وقيلَ: مصادفاتٌ عمياء وعبثٌ أسْوَد.

وقيلَ: أكاذيب حقيقيّةٌ أو حقائق كاذبة!

ثُمَّ قيلَ لي: حياتُكَ؛ طفولتُكَ

بطعمِ الحرمانِ المُرِّ والدمعِ المُتدفّق،

بل هي حروفٌ ونقاطٌ سِرّيّة

وطلاسم سِحريّة،

أو حروبٌ بلونِ المنافي

وحصاراتٌ بطعمِ الأنين.

وتختبر الذات/النص احتمالات المعنى من خلال حركة تنبني على مجهولية المرجع (قيل)، إذ تصبح هويته- أي النص- عبارة عن إنجازية في حكم المتعدد، يؤثث القراء فراغاتها وفق اعتبارية تأويلية لا تخضع لسلطة المعيار ولا لمنطقه الأحادي، فالنص القادم تارة عبارة عن انبثاقية تتجاوز معقولها، لتؤسس عالمها وفق صيرورة لا إرادية في عالم المحايثة (هي لعب ولهو)، حيث تختبر بيئتها اللغوية، وتبني مفرداتها ضمن حدود التشظي والمرح، وتارة عبارة عن إمكانية حدثية لا تمنح غير ظلالها، ولا معقولية تلتحف الغياب ووجع الإضمار (مصادفات عمياء وعبث أسود)، وتارة أخرى يصبح النص عبارة عن تلفيقات أو صنعة لغوية تتظاهر بالاكتفاء أو عوالم غادرت منطقها لتكتفي بمحايثاتها (أكاذيب حقيقية أو حقائق كاذبة!)، وتارة تتحدد هويته بوجع الانبثاق وألم التأويل وتدفق المعنى اللانهائي (بطعم الحرمان المر والدمع المتدفق)، أو بصمت البياض أو بالإلغاز المحدد لوجع الانتظار، أو بصراع التأويلات، حيث منفى الذات المتشظية، أو بسجون البوح المتلكئ بوجع الدهشة.

ولكي أقرأَ سِرَّ هذه الأعجوبة الصغيرة

وأتماهى معَ نقطتِها الغامضة،

جمعتُ كلَّ ما قيلَ لي

وكتبتُ فيهِ ملحمةَ حرفٍ هائلة

كلّفتني آلافَ الصفحات

وعشرات الكتبِ والسنين.

يحاول القارئ فكّ شفرات النص الملغم والمسيج بالدهشة (أقرأ سرّ هذه الأعجوبة الصغيرة)، فيمارس لعبة الحلول من أجل الوصول إلى نقطة تعاليها ويقف على تخوم المعنى  (وأتماهى مع نقطتها الغامضة)، بل ويجمع كل اعتباراتها وممكناتها التأويلية (جمعتُ كل ما قيل لي)، من أجل تحقيق لحظة قرائية مدهشة، ترتكز على ذاكرة البوح وتاريخ اللغة والتراكمات النصية.

وبحثتُ عن مُستمعٍ لها وسطَ الملايين

لم أجدْ سوى مُستمعٍ واحدٍ.

كانَ حقيقيّاً

بطعمِ دموعي ولوعتي وضياعي،

لكنّهُ،

وا أسفاه،

كانَ مُستمعاً فاقد الذاكرة.

يبين الكاتب أن هذه اللحظة القرائية المدهشة والتراكمات النصية التي تسرد بطولات تأويلية وتاريخ من الوجع الإنساني/النصي، لم يستطع القراء الوقوف عليها ومعرفة أسرارها واستبطانها، لذلك صار جميعهم في حكم المجاز بسبب تعطيل العملية التأويلية، لكن القارئ النموذج/المستمع الوحيد، أو القارئ السيء على تعبير مكسيم ديكو المسكون بوجع الارتياب، والمنصت لما لم يقله النص، كان ضائعا في مستقبلية القراءة، وفي دلالات المغايرة والمعنى المتجاوز، ومتحررا من تاريخيتها ومن ممكناتها القبلية.

في ختام هذا المقال يمكننا القول إننا حاولنا في هذه القراءة التأويلية الوقوف على دلالات المغايرة والاختلاف، إذ ليس النص ما يقوله ظاهرا وإنما ما يمكن الإنصات إليه، ولأن نصوص أديب كمال الدين ترتكز على تيمة الخرق والتجاوز، فإنه قد أتاح لنا ممكنات تأويلية عديدة، ماجعل القراءة تبدو نصا على نص.

نصّ القصيدة

المستمع الوحيد

شعر: أديب كمال الدين

لم تكنْ حياتي سوى أعجوبةٍ صغيرة

لم أستطعْ أنْ أقرأَ حرفَها

ولا أتماهى معَ نقطتها: سِرّها.

قيلَ لي: هي لَعِبٌ ولَهْو.

وقيلَ: مصادفاتٌ عمياء وعبثٌ أسْوَد.

وقيلَ: أكاذيب حقيقيّةٌ أو حقائق كاذبة!

ثُمَّ قيلَ لي: حياتُكَ؛ طفولتُكَ

بطعمِ الحرمانِ المُرِّ والدمعِ المُتدفّق،

بل هي حروفٌ ونقاطٌ سِرّيّة

وطلاسم سِحريّة،

أو حروبٌ بلونِ المنافي

وحصاراتٌ بطعمِ الأنين.

ولكي أقرأَ سِرَّ هذه الأعجوبة الصغيرة

وأتماهى معَ نقطتِها الغامضة،

جمعتُ كلَّ ما قيلَ لي

وكتبتُ فيهِ ملحمةَ حرفٍ هائلة

كلّفتني آلافَ الصفحات

وعشرات الكتبِ والسنين.

وبحثتُ عن مُستمعٍ لها وسطَ الملايين

لم أجدْ سوى مُستمعٍ واحدٍ.

كانَ حقيقيّاً

بطعمِ دموعي ولوعتي وضياعي،

لكنّهُ،

وا أسفاه،

كانَ مُستمعاً فاقد الذاكرة.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

- نُشرت قصيدة المستمع الأخير في الأعمال الشعرية الكاملة: مختارات حروفيّة، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، لبنان 2024. ص 315

 

    نُشرت المقالة  في جريدة النهار ، بغداد 7 آب 2024  

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home