قراءة في مجموعة (الحرف والغراب)

الحروفيّ : طار الغراب بحروفه

ريسان الخزعلي

 

الحروفي .. توصيف أدبي ارتبط بالشاعر المبدع " أديب كمال الدين " ..، حيث انتبه هذا الشاعر مبكراً لطاقة الحرف العربي / شكلاً وصوتاً وطلسميةً / واستثمر هذه الطاقة بدراية واعية تمتد الى جذرِ تكوينٍ ديني، وطوّعها شعرياً بحيث أصبحت تجربته الشعرية مرتبطة بالحرف ، وكانت تجربة متفردة من بين تجارب مجايليه السبعينيين في مشهد الشعر العراقي ..، ولقوة اصول وتأصيل هذه التجربة ولقوة وقعها الفني/ الجمالي كذلك، فقد كُتِبتْ عنها  وفيها دراسات عديدة ، جمعها وقدّم لها الناقد الدكتور" مقداد رحيم " في كتاب أسماه (الحروفي) وضمَّ 33 دراسة لكتاب ونقّاد عراقيين وعرب .

لم يكن انشداد الشاعر للتجربة الحروفية محاولة تجريبية عرضية ، بل كان تأصيلاً ، تواصلَ لعقود زمنية وحتى يومنا هذا (جيم ، نون ، حاء ، النقطة ، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة ، شجرة الحروف ، أربعون قصيدة عن الحرف ، أقول الحرف وأعني أصابعي ، مواقف الألف ، إشارات الألف ، أخبار المعنى).

*.. إن / حروفية / الشاعر أديب كمال الدين ، حتى وان كان جذرها الشكلي في حروفية القرآن الكريم، وكتب السحر والتعاويذ، والكثير من الطلاسم، وشفرات المتصوفة، إلا انه قد تجاوز الشكلية الصورية الأولى، ومنح الحرف ايقاعاً صوتياً وحركة تموجية مستوحاة من شكل الحرف حتى أصبح الحرف دالاً ومدلولاً في شعره، وبإشباع ذي كثافة عالية. إلا أن هذا التكرار/ الإشباع في هذه التجربة أصبح يشكّل صورة الثبات الفني في شعرية الشاعر..، ويبدو انه أدرك ذلك وعلّله بالقول القرآني الكريم (قالَ ألمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لن تسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرًا )...، وهكذا استبسل جمالياً في الوثوب الى مناطق أخرى، وجاء بكتابه الشعري /الحرف والغراب/ ولم نعد نتلمس الحرف إلا قليلاً..، وان قصديّة التسمية / الحرف والغراب/ توحي كثيراً بأن الغراب قد طار بالحرف بعيداً .

*..انَّ الإنفتاح الذي توافرت عليه القصيدة في هذا الكتاب يمثل تجربة في/ ما بعد الحروفية/ حيث الإنصات الروحي الجديد على الحروفيات النصيّة لا حروفيات الحرف كشكل ( فيروز ، لوركا، عفيفة اسكندر، يوسف الصائغ، عبد الحليم، مطرب بغدادي، قنينة جان دمو، شهرزاد، كافكا، دستويفسكي، مهند الأنصاري، التفاحة، المائدة، الأغنية .)...، إن تمدداً شعرياً كهذا ، يكشف الأهم الجديد في تجربة الشاعر كما أرى، كون الإنتقال قد جاء من عمقٍ كان يستتر بصوفية مموهة بالحروفية الى ظاهرٍ يرقص في النهار حيث أن مجسّات الشاعر لم تعد ترى وتُسقط ما ترى في الباطن، وانما تبصر وترسم ما تبصر أغنية في الجمال الذي تأسس وتلاشى ليتكون من جديد :

تؤلمني الأغنية

وهي تشيرُ بأصابع مبتورةٍ

إلى النجمةِ المعلّقةِ في الأعالي.

فأتذكّرُ نبْضي الذي ماتَ في شارعٍ

لا يؤدّي إلا إلى الخمرِ والدمع،

وأتذكّرُ ساعةَ أنْ يسمعَ رأسي

همهمةَ الريح،

وأنظرُ إلى البدرِ قاسياً

في جمالٍ عجيب

وإلى الناسِ أشباحاً يتقافزون

من حائطِ الذاكرة.

تؤلمني الأغنية

حين سقط الحرفُ في بحرِ قلبي

وسقطتْ نقطتُه

ثُمَّ تلاشت المدن

واحدةً بعد أخرى

لتسرقَ الأفعى عشبةَ كلكامش

ويموتَ أنكيدو من المللِ والسأم

وتسقطَ الحانةُ على رأسِ صاحبةِ الحانة

ووصاياها الطيّبة.

***********************************

الحرف والغراب: شعر: أديب كمال الدين ، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013

نُشرت المقالة في جريدة الغد البغدادية 20 تموز - يوليو 2014

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home