المكان الضيّق في ضوء التأويل الظاهراتي؛

 أديب كمال الدين اختياراً

 

أ‌.       د. علي هاشم طلاب

ناقد وأكاديمي عراقي - جامعة المثنى

 

   توطئة :

    يبدو أن ما أحدثه دريدا من تغيير على مستوى الحقيقة بتفكيكها للنظام اللغوي في نسخته السوسيرية، كان مدخلاً للغة والعلامة، فضرب بذلك المفهوم القار في المنظومة المعرفيةـ الحقيقةـ مقوضاً معناها الميتافيزيقي والواقعي، فتحولت إلى مجال أكثر اتساعا وفعالية، ألا وهو حقل اللغة والتأويل(1) لتؤدي دوراً معرفياً جديداً يقوم على نفي ميتافيزيقا الظواهر الحسية كما يمكن تمثلها في الوجود، والبحث عن حقائق عدة بفاعلية نفي الحضور للوصول إلى قراءة جديدة بفعل فكرة الغياب، فالنص "يؤدي إلى حضور في غياب وغياب في حضور من دون وجود حد فاصل أو ثابت بينهما "(2).

   لقد تبنّى النقد الغربي محاولات عدة للإطاحة بالمفهوم الأوحد للحقيقة في محاولة منهم لتقويض المعنى الثابت والجامد ولربما الموجه أيدولوجيا، فأعطى لها هيدغر "بعداً أنطولوجيا كان مهمشاً وغائباً، أو على الأصح تم تجاهله ونسيانه طوال العصور التاريخية المختلفة والمراحل المتعددة التي مرت بها الفلسفة الغربية"(3)، ما يعني ارتباطها المتجذر في الوجود الإنساني الذي يتسم بوضعه المتحرك وغير الثابت على الإطلاق، فالحقيقة وجودياً ناقصة دوماً، ومن ثمّ فهي في حالة تغير وتطور مستمرين، ومن غير المجدي حبسها في أنساق مقفلة أو قوالب عقلية إنشائية، فلم يعدّ مجالها المنطق، بل أصبح الحقيقي هو موضوع الاستطيقا وليس الجميل، والجمال أحد أساليب انفتاح الحقيقة في العمل الفني(4)، أو هو ظهور الحقيقة ذاتها من خلال العمل. وبذلك حاول هيدغر نفي ميتافيزيقا التفكير في حقيقة الوجود التي تمثل عائقاً يمنع الفكر من التقدم وعرض الأفكار، فالتفكير القار بالموجود بما هو موجود، أي أنها تبحث بسبل الموجود وتنطلق ميتافيزيقيا على أنه الوجود، وبذلك تتجاهل حقيقة الوجود؛ لأن الوجود عندما يُغيب ذاته يكشف عن صور أخرى تحمل الغاية والسبب(5)، فتتحول الحقيقة  إلى غاية جمالية  تعمل الذات على مطاردتها في محاولة منها للإمساك بها (6)، بمعنى آخر أصبحت هناك وسيلة لفهم الوجود بعد أن خرجت الذات من بوتقة المحدود إلى المفتوح، ورؤية أخرى تؤمن بضرورة التوحد بين الذات والوجود في الكشف عن الحقيقة غير الثابتة ؛ لأن الذات لها من الفاعلية ما يمكنها من الإلمام الكافي بما يتضمنه الوجود .       

   هذا الأمر ينفي وصول النص إلى حقـيـقة ثابتة يـقيـنية، وإن وصل فسـيكون ذلك لمدة محدودة؛ لأن الحقيقة أصبحت تأويلات يمكن بوساطتها الاقتراب من الحقيقة من دون الوقوف عندها لمدة طويلة وكأننا نجسد مقولة (نيتشه) لا توجد حقائق وإنما فقط تأويلات(7)، وهذا الأمر يُفضي إلى تبدد المفهوم الجامد وتقويض الفكر السابق، فتظهر رؤى جديدة تقترب من تعدد القراءة والتأويل وتبتعد عن الجمود والركون إلى القالب الأحادي الجازم، الذي بحقيقته الركون إلى ميتافيزيقيا قارة باتجاه أشياء محددة منها: الوجود، والأنا، والعقل التي رسخت في اللاشعور أحادية التفكير والتقوقع نحو أفكار محددة وقارة في الفكر الإنساني، وقد يكون ذلك الأمر بعيداً عن المعرفة والذات، فالذات في حقيقتها لها القابلية على أن تقرأ الوجود بصورتين: أولهما بيان البعد الوجودي وعلاقته مع الظاهرة، والآخر قراءة الظاهرة في بعدها الوجودي بوساطة محمولاتها المكّونة والمتكّونة، فتتحرك في فضاء وجودي مفتوح ومحكوم في آن، مفتوح بحكم انفتاح الوجود وتكّون الظاهرة وملاحظتها، فتستطيع الحواس أن تتلمس حضورها بفعل ممكناتها الحسية والمعرفية وحيز وجودها، ومحكوم بمكونات الذات المتراكمة في صيرورة التحرك المكاني والزماني المحيط بها، الذي ينتقل تلقائيا بصورة معرفية مستقلة ليس عن أصل وجود الظاهرة ووجودها، وإنما الوعي بالظاهرة وارتباطها بالذات، بفعل النشاط الثقافي المعرفي وقابلية تأويله بأسس معرفية قابعة في وعي الذات للوجود والظاهرة فيتحول واقع التأليف أو واقع الإخراج "من الواقع الوجودي إلى الواقع العقلي الذي يسيطر على التجربة الفعلية ويشكلها ويملي عليها أرادته بهيمنة ساحقة لا تقوى على الوقوف ضد أهدافه وخططه المتعالية المعرفية"(8)  فتصبح التجربة الحسية تجربة عقلية قبلية تبحث عن الممكن العقلي في ضوء الحدس المجرد ويعني أيضاً أن التأويل سيكون حاضراً في قراءة الظاهرة واستنطاق مكنوناتها؛ لأن التأويل لا يتحدد بالمجاز، بل هو كل خطاب دال "ويمكن القول أكثر من ذلك، إن الخطاب الدال تأويل، وهو الذي يؤوِّل الواقع، وذلك بما أنه يقول شيئاً عن شيء، وإذا كان ثمة تأويل، فذلك لأن التعبير يعدّ استحواذا واقعياً بوساطة التعابير الدالة، وليس خلاصة مزعومة من الانطباعات الآتية من الأشياء نفسها"(9)، وهذا الأمر في جوهره يحيلنا إلى أمرين مرتبطين بالتأويل هما التفسير وأنطولوجيا الفهم على الرغم من التطورات الفكرية التي صاحبت هذين الأمرين وتطورهما، إذ أصبحا وجهين من وجوه الوجود ومن ثم انفتاحهما على الذات مثلما كان للحقيقة من تجلٍّ جديد وتغير كبير في الفهم والقراءة، بمعنى وجود الظاهرة قد ارتبط بالتفسير وأونطولوجيا الفهم والحقيقة وكل ذلك يؤدي إلى ما يعرف بتأسيس ممارسة تأويلية(10)، تفكك النصوص التي تبدو أنها مرتبطة بحقيقة غير ثابتة وفهم متغير وتفسير متعدد، يفضي إلى قراءات جديدة تسمح ببناء قاعدة مشتركة بين المخاطِب والمخاطَب، "الأول في استمداده منها، والثاني في اعتماده عليها للكشف عن المعنى، غير أن عملية الكشف هذه قد تتخذ مسارين مختلفين  بالنظر إلى مزايلة المعنى الاستعمالي أو القصدي للمعنى الوضعي المشترك، المسار الأول هو فهم الألفاظ على وفق الوضع، والثاني تأويـل مـعناها لمـحاباة المراد أو المعـنى الاستـعمـالي "(11)، ويكون ذلك في ضوء طبيعة الديالكتيك الذي يلجا إليه المتقبل لتأويل عناصر الخطاب وقصدية الذات وقراءتها للظاهرة، فأصبح التأويل عند (بول ريكو) يرتبط بفهم الذات لذاتها، لأن "الذات التي لها موضوعات، إنما هي نفسها مشتقة من الحياة الفاعلة"(12)  التي تحاول الظاهراتية إظهارها لحظة تعرف الذات على العالم، بمعنى محاولة تحليل الوعي الذاتي وقد استبطن الأشياء بوصفها ظواهر ذاتية، أي فن تأويل الذات في لحظة  تقتضي الاختزال الظاهراتي الذي يعمل على إغفال "الموجودات خارج نطاق تجاربنا الواعية، ثم اختزال العالم الخارجي بما يتوافق مع مضامين شعورنا وحده، بمعنى التعهدـ بشكل أو بآخرـ على إنشاء علم للذاتية يقتضي رؤية العالم حسب افتراض الذات أو قصديتها، وحسب فهمها وتعلقها بالشيء"(13)، وهذا الأمر يتم بمعطيات واضحة منها: وعي الذات بوصفها العنصر الرئيس في قراءة الظاهرة وإدراكها، بيان مفهوم القصدية للوصول إلى المعنى ومحاولة الإمساك به بقراءة الظاهرة بأصل الوجود الفعلي وعملية التفكير المرتبطة بالمفكر فيه، لأن فكر المفكر هو "ما يغدقه عليه الوجود وما يمنحه إياه، وهو ما يقدره عليه تاريخ الوجود... وفرادة المفكر وأصالته لا تقاس بما دوّنه هذا المفكر من أفكار، وما دبجه من أنظار... إنها تقاس بأصالة إصغائه لفكر الوجود" (14)، والإفادة من الظاهرة وما يتصل بوجودها والذات.                                                                                        

   هذا الأمر يجعلنا لا نغادر الكوجيتو التي تُبنى على تصورين الأول: البحث عن الحقيقة ومحاولة الإمساك بها، والصدق في العمل في ضمن الحتمية وإن اقترنت بالشك والفكر، والثاني: وظيفة الحرية في العمل في ضمن الوعي  النشط والمنتج(15)، الذي يدفع الذات إلى مستوى الظواهر مع تسلل الحوافز التي تركز على ما يعود للذات من فعل وقراءة، قراءة الذات بفعل النص وقراءة النص بفعل الذات، اعتماداً على مبدأ الظاهرة والوعي بها بفعل الوجود، فاقترب البحث من صراعين آخرين يتمثلان بعملية التمثيل أو التصور، وهي في حقيقتها الواقع الأساس للظاهرة التي يجب الانطلاق منه سواء كان ذلك استرجاعاً أو تمثيلاً للفعل أولاً، والآخر ازدواجية الوعي العامل والوظيفة الموضوعية للفهم، التي تقوم بقلب الوعي المتصرف بين سلطته المجردة في توكيد نفسه وإنتاجها الشاق بوساطة العناصر النفسية والوجودية، فتظهر بفعل ذلك فكرة القيمة التي تعمل على قابلية التحويل بين الحرية والعقل، فتقدم ذات السمة التي قدمها الحافز؛ لأن العقل سوف يعطي  المعايير الموضوعية، والأطروحة التركيبية لهذه المعايير وللحرية هي التي تعطي القيم التي تلتحم مع الوعي والفكر لقراءة الظاهرة قراءة مـعرفية(16) .                                                                  

   وعليه أصبحت الظاهرة التجلي المدرك بفعل الحواس والوجود عند الذات التي تسعى إلى قراءة النصوص في ضوء العلاقة الحميمة بينها وبين وجودها المرتبط أصلاً بالواقع الزماني والمكاني وتدرجهما وأثرهما في الواقع التاريخي والذاتي وعلاقتها مع الآخر، قراءة تأملية بوعي تام وإدراك مباشر لاكتشاف طابع الكونية القصدي،  إذ تتلاقح فيه التأويلية مع الظاهراتية المعرفية لتحقيق ذلك الهدف، فلا يمكن وصف الظواهر من دون تأويل معرفي وهذا الأمر هو خلاصة جهد عمل على  ترسيخه كل من هوسرل هيدغر وغادمير وريكو ليصل إلى التأويل الظاهراتي المعرفي في تأويل النصوص وقراءتها، فيسمح بإعادة إنتاجها بشكل يعتمد على نظرية الحواس عند (هوسرل)، والتأمل الذي يؤمن بعلاقة الظاهراتية بالتأويل عند (ريكو)، فأصبح القارئ جزءاً رئيساً في عملية القراءة والتأويل، يحاكي النصوص بوساطة البحث في ثناياها عن الوجود الذي يفتح مغاليقه في ضمن الحقل المرجعي للذات المبدعة والقارئ على السواء، ويمكن أن نتلمس تلك الآلية المستعملة في نصوص أديب كمال الدين إذ  كان يسعى للوصول إلى فهم الموجودات وقراءتها قراءة واعية، يمكن بوساطتها الإفصاح عن مكوناته المبدعة التي اختلفت في ضوء فهم الذات للنصوص المعروضة.                                                 

    المكان بوصفه حضوراً ذاتياً : 

     يشكل المكان للإنسان بعداً فلسفيا ونفسياً واجتماعياً فضلاً عن وجوده الفيزيائي القار، مما يجعل موضوع اختلافه في التناول أمراً طبيعياً، وبطبيعة الحال قد يكون مردّ ذلك لطبيعة فهم الذات للوجود في اللحظة الآنية الذي يعتمد على فعاليات الفكر وعلاقتها مع المكان والظاهرة بشكل عام، والمنظومة الثقافية المعرفية التي ترتبط بموضوعة الفهم والـتأويل بشكل خاص، فتظهر قدرة الذات على المواءمة بين هذه العناصر المتداخلة، فالمكان يبدأ حسياً مجرداً من العوامل الأخرى لأنه " حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرئيس"(17) فتتعامل معه الذات على أنه "المسافة الممتدة والمتناهية لتناهي الجسم"(18)، وينتهي ذاتياً على حسب قراءة الذات له  بمعني أن المكان غير متناهٍ، فالظواهر المكانية عند الذوات المبدعة والقراء غير متجانسة على الإطلاق تتجلى أجزاؤها في مواضع عدة، كما نفعل في تنظيم حالاتنا الشعورية في زمن ما (19)، فيبدو المكان كما تتصوره الذات، أي كما تريده أن يكون:               

الغرفة ُ كانتْ مقفلةً

وأنا مثل الزيت الموضوع حديثاً قربَ قماشِ اللوحة

قلقاً أهتزُّ بقلبي. (20)

    تتحدث الذات عن فعل الوجود المكاني الضيق، الذي يلامس العقل المعرفي، الذي يقترب من عزلها عن الوجود الفعلي الحقيقي بدلالة قفل المكان ليصبح أكثر ضيقاً، فينعكس ذلك على وعي الذات بذلك المكان غير الأليف أولاً وسيكولوجيتها ثانيا، فتبدو ملاح العزلة عن المجتمع بدلالة الوضع الظاهر الذي يجعل الجسد في حالة إدراك المكان وضيقه؛ لأن الوجود " يبني الجسد واقعاً مجنساً ومؤتمناً على مبادئ رؤية مجنسة، وينطبق هذا البرنامج الاجتماعي المستدمج للإدراك على كل الأشياء في العالم، وفي المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية "(21)،التي ترفض الوجود بمعناه الواسع وتركن إلى المكان المنعزل، فهجرة العالم الفسيح، ما هي إلى هجرة الذات لذاتها أولاً وللوجود ثانياً بدلالة الركون إلى الانطواء والصمت والقلـق، بمـعنى الركـون إلى المنفى الاختياري الذي يناسب الذات بقراءة معرفية تأويلية، بل انعكس ذلك على أحلامها:

 الغرفة قانعةٌ بالصمتْ

 وأنا أخفي أنفاسي ..

مسحوراً من خفقِ الحلمِ الأسود ..         

لا أقدرُ - يا مَن تحوي كلَّ الأسوارْ -

أنْ أمسكَ شيئاً .. ألبتّةْ (22)  

  ينبعث من الغرفة فهم الذات لذاتها، فالصمت يخيم على المكان، فيتولد الخوف والقلق، وهو صمت الذات وقناعتها به، الذي انعكس على رؤياها لأن الرؤيا تجربة تأملية تحاول أن تعي حقيقة الحالم ببعديه الوجودي والماورائي في ضمن مسلماته الفكرية والوجودية في لحظة ما(23)،حتى تصل بوساطتها للظاهرة الوجودية التي قصدها الباث في الخطاب، فالظاهرة الحسية التي خلقها ماهي إلا إحساسه بالمكان بمعنى أدق محاولة إفراغ مكنوناته في عملية قصدية تفصح عن وعيه بالمكان المرتبط بسايكلوجيته في لحظة الإبداع ما يفتح باب القراءة على بعدين البعد الأول هو البعد الظاهراتي الحسي للمكان والآخر ارتباط ذلك البعد بالخطاب وقراءته حتى أصبحت الظاهرة هي الذات والذات هي الظاهرة وكأنهما يتبادلان الأدوار.  فالصمت كان لكليهما، والقلق والخوف والريبة كان حاضراً عند الطرفين، أحدهما يبعث إحساساته للآخر، وأن اختلفت نسبة الحضور،  فالذات هي التي أصبحت أكثر تأثيراً وحضوراً في الخطاب، إذ استطاعت أن تستدعي المكان ليكون جزءاً منها، فالتصورات في الوجود قائمة على طبيعة العلاقة الفيزيائية أو السببية بين الجزء والكل، فالمكان للحدث أساسه موجود في تصوراتنا الفعلية الواقعية حيث نموقع فيزيائية الأحداث (24)، فاكتسب المكان حضوره بفعل قراءة الذات لذاتها، إذ تقدم الأمكنة نفسها بوصفها علامة ذاتية للنشاط الدلالي بما يحمله من رعب وخوف من المجهول والتمأزق الوجودي، فيتولد حالة من الإحساس بانطباق الأبعاد ومحاصرتها لحركة النفس، فيشكل ذلك تهديداً محتملاً ومساحة بغيضة على الباث روحاً وجسداً، ما يجعل استجابته للمكان استجابة سلبية ( 25)؛ لأن الظاهرة المكانية أطبقت حضورها وما تحمله من بعد فيزيائي على فكر الباث ووجدانه، حتى أصبحت الغرفة المقفلة بقصدية الذات وإدراكها للفعل مكاناً غير أليف، يبعث الإحساس بالوحدة والخوف والقلق والضعف                                                                                                 

   وتمثل الظاهرة بعداً اجتماعيا ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات وقراءتها، فتبدو ملامح الظاهرة في بعدها التأويلي ملامح ذاتية تبلورت بفعل انعكاس المكان في الفعل الوجودي:

 

مِن أجلكِ رضيتُ بالجوعِ غيمةً

والعزلةِ أرضاً وسوراً.

من أجلكِ افتتنتُ بالموت

وأطلقتُ الحروفَ في غرفتي

فطارتْ نسوراً وصقوراً،

عصافير وبلابل،

نحلات وحمامات

بُوماً وشواهين.

فارتبكتُ

لأنّ غرفتي ضيّقة

ولأنّ حرب الطيورِ بدتْ مليئةً بالرعب. (26).

    تتمحور الذات في المكان الضيق بوصفه ظاهرة حسية يمثل حقيقة فهمها ووعيها وإدراكها القصدي للوجود، فالغرفة تمثل العزلة والنفور بواقعها المرير الذي يؤمن بعملية الاستسلام للظاهرة وواقعها المعيش وفي الحقيقة هو قصدية الذات في الإحساس بذلك المكان، ومن ثَم الإحساس بثقل الوجود بوصفه مرآة لفهم الذات لذاتها، وقدرة مفتوحة وحرة على كينونتها التي تحاول تصويرها بفعل انعكاس الظاهرة عليها، ما يجعلها في حالة من العزلة يصبح معها المكان ضيقاً غير أليف، وقد يصل ذلك إلى حد انطباق النفس، فتعيش العزلة على أنها شكل من أشكال السجن الذاتي(27)، الذي يجعل معادلة الموت أمراً طيعاً ؛  استجابة لواقع الظاهرة وتحولاتها الذاتية من عدم الانسجام، والإحساس بالضيق والعزلة عن المجتمع، فيصبح الانشغال بالموت أقرب إلى النفس من أي شيء آخر، فتتلاقح الأبعاد الاجتماعية والنفسية والفلسفية في مكان واحد حمل مضامين الوجود التي في حقيقتها وعي الذات به في لحظة ما .                                                             

    لقد أصبح المكان الضيق ساحة الصراع  الوجودي، لكنه الصراع الذي يناسب فهم الذات لمعطياتها، فمثل الوجود الحقيقي للصراعات الأزلية التي تحمل طابع الرعب والخوف، فطغى المعادي على الأليف بواقع جوهر الوجود، لأن العصافير والبلابل والنحلات والحمامات، لا تقوى على الوجود بمكان ضيق قبال النسور والصقور  والشواهين، فيضفى المكان إلى أن يكون حلبة للموت، بدلالة نذير الشؤم الذي رافق  ذلك الصراع ، فأورد البوم بدلالته التشاؤمية وحركته الزمنية المرتبطة في الليل والموقع المكاني ؛ لأنه يسكن الأماكن الخربة، والصفات الحسية إذ يحمل قبح الصورة والصوت، كل ذلك يصور أمرين : الأول فهم الذات للواقع الوجودي، فصور الوجود وصراعاته المختلفة من أجل البقاء، والآخر حقيقة فهم الذات لذاتها في خضم الصراع الوجودي وتشاؤمها مما آل إليه الوجود، وينفي بقاء الحب وديمومته في عالم الخوف والرعب والقلق، فرسمت بفعل المكان وحمولاته تصورها للوجود والذات.

    وبما أن الحروفي كان يتلاعب بالحروف ويوظفها في خطابه توظيفاً يناسب الذات وفهمها للظاهرة تشخيصاً وتجسيماً ليصل إلى مبتغاه في قراءة الخطاب:

النقطةُ سعال

والحرفُ شيخ.

فما أسعدني أنا الذي سيموتُ بالسلّ

عمّا قريب في غرفته المُظلمة. (28)

    تبدأ الذات بمعاينة ذاتها وفكرها في آن، فوظفتهما بمرحلة عمرية تشي بالكبر والمغادرة والاستعداد للموت، ولاسيما عندما تصبح النقطة سعالاً والحرف شيخاً، ما يعني الوصول إلى مرحلة السكون والصمت عن البوح ؛ ولأن الصمت للشاعر موت، فقد استقبلته الذات بفرح كبير يصف ما آلت إليه حالها، فعندما تهرم الحروف وتتوقف عن النبض يصبح الموت أمراً حاصلاً لا محالة، لقد اختارت توقف الحياة بدلاً عن توقف الشعر، لأن الشعر هو الوجود الحقيقي والفعال للحياة غير الزمنية، بينما الموت انقضاء الحياة بوصفه الموجود الزمني، وهذا الحرص على البوح هو الحرص على تجديد الذات وسموها وعلوها، وعدمه يعني عدمها وموتها ؛ لأن كل لحظة تضيعها من دون توظيفها شعرياً من أجل هذا السمو والعلو هي لحظة من لحظات الوجود الزمني التي ضاعت سدى(29)، وضياعها هو توقف تام للحياة النابضة فجسمت وشخصت النقطة والحرف، واختارت المكان المناسب لموتها بفعل موتهما في غرفة مظلمة توحي بالقبر وفناء الحياة بصورتها الزمنية  ، فيتم التعشيق بينهما ليبرز القلق على أشده ويصير المكان هاجساً أولياً يبين خوفها وقلقها من الوجود الذي لم يقدم لها  أكسيراً خالداً يديمها في مخيلتها(30)، فتصبح الغرفة المظلمة دالة مكانية تحفز فيه الاستجابة للقلق بأشد صوره، بل هي قبر بدلالة مختلفة يبعث السعادة، وهذا خلاف الواقع المعيش، في محاولة من الذات أن تستدرج الإدراك الحسي للظاهرة من المكان الضيق غير الأليف إلى مناشدة شعورية واعية بمكان لربما يكون أكثر ألفة وتقبلاً من واقعها المرير، وهنا يصبح المكان وعاء ناقلاً لهواجسها وتقلباتها وفي الوقت نفسه صورة من صور إدراك الوجود ومتغيراته الزمنية.   

   إنّ تحولات المكان ما هي إلا تحولات ذاتية واعية، فالدالة المكانية تؤدي إلى قراءة الذات والوجود بوعي تام وإدراك قصدي:

قالَ إخوتي: إنكَ متّ.

لكنّهم -  كما تعرف - يجيدون فنَّ الكذب

ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.

لكنّهم صدقوا هذه المرّة

فأنتَ متّ بين يديّ

وكنّا وحيدين

في غرفةِ صباي وشيخوختك،

أعني صباي المُلوّن بالحرمان

وشيخوختك المُعطّرة بالألم.

كنّا وحيدين. (31)

   يبدو أن المكان أصبح موضعاً للحرمان وفقد الأحبة، والحوار مع الآخر هو حوار لبيان الظاهرة، وإيصال دالتها ومدلولاتها وتحولاتها في آن، فالموت والكذب والغدر هي معاناة مستمرة وثيمات وجودية منذ الأزل ترتبط بعلاقة نبي الله يوسف (عليه السلام ) مع أخوته، ويبدو أنها علاقة الذات مع واقعها وتحولاتها الوجودية بين (الصدق والكذب والغدر والوفاء والصبا والشيخوخة والحرمان والألم والحياة والموت )، ومثل المكان المعطى الخارجي للثيمتين الكبيرتين اللتين هما الأساس الرئيس للوجود والذات (الصبا والشيخوخة، الحياة والموت)، فمثل المكان المغلق الوجودي بمعادلته الكبرى على الرغم من صغره، فأصبحت الغرفة الوجود بتكوينه الجغرافي الشامل، والشعور بمعطياتها يمثل الامتداد الزمني للذات وفهمها الوجودي، فنستطيع أن نتلمس ذلك بفعل المكان والقراءة التأويلية الظاهراتية ووعي الذات بالوجود والمكان وتحولاتهما التي تتمحور حول علاقة البحث والتأمل التي تربط بين الذات والوجود ؛ وهو بحث وتأمل في ثنايا النص عن الوجود الذي يكتشفه بقراءته الظاهراتية، التي تفتح آفاق التأويل بالانتقال من الذاتية إلى الوجود بتعليق سؤال قصدية المؤلف إلى سؤال موضوع النص غير المحدد، فتنفتح على تأويل الرموز والنصوص والمنجز المعرفي الأدبي بالعقل المتكون بفهمنا للنفس والآخرين؛ لأن الظاهراتية تفتح مجال الأشياء ذات المعنى الواسع بانفتاح الوجود وتشكله عند الذات في لحظة ما (32)، فيصبح النص وجود الذات يتملكه ويبث رؤاه في ضوء فهمه الذاتي الواعي والقصدي.

    وقد تتصور الذات مكانها الأليف ظاهرياً على أنه ساحة واسعة لمختلف الفعاليات التي تبعث الألم والحزن والضجيج:

غرفةٌ فرشت ثوبَها للصعاليك في آخر الليل،

للكؤوس التي تختفي

بين عينين قد صيغتا من ربيع الألم.( 33 )

    تنشأ تصورات المكان في ضوء وعي الذات وتجربتها الشعورية القصدية، فكانت في صراعين مختلفين الأول مقاومة النزعة الشخصية والثاني مقاومة غموض النزعة الباطنية في الواقع المعيش، في محاولة الحفاظ على تشكل الذات الحقيقية وبالمقابل النزوع إلى دواخلها بفهم المكان ورمزيته المرتبط بالأحداث الاجتماعية والفكرية والذاتية (34 )، ومحاولة عرض ذلك بالقراءة الـتأويلية الظاهراتية التي تكشف عن فهم الذات للوجود/ المكان وهو في حقيقته الانتباه إلى المعضلات الوجودية والتنويه عنها، فالوجود تم تصويره بأبعاد معينة، فتمثل بصخب الحياة وصعلكتها التي أصبحت المبنى الرئيس في المجتمع،  والمعضلة التي يواجهها التأويل في مباحثه ولاسيما  تشابك علاقة النصوص بمؤلفيها وبيئاتهم الثقافية والاجتماعية، ويمثل ذلك إعادة صنع تجربة الآخر الذاتية، التي تؤمن بالتطابق بين الذات وفهم المجتمع ؛ لأن فهم الذات يتأسس بوساطة المجتمع وفهمه، فيصبح النص وفهمه وقراءته، ما هو إلا تعبير عن الذات وتجربتها في المجتمع مع ضرورة العمل على فصل النص عن ذهنية المؤلف وروح العصر الذي ينتمي إليه بتحويل الاهتمام إلى عملية الفهم ذاتها في حيثياتها الخفية وبعدها التاريخي الآني للوجود (35) ؛ لأن هذا التفاعل مع المجتمع ليس مسالما في كل الأحوال، فهو وقوف أمام المغايرة والاختلاف عن الواقع المعيش الذي ينبثق من قراءة الآخر، ما يجعلها في حالة من العوز والنقص والألم أمام متغيرات الآخر وتحولاته، فتواجه الذات ذاتها وهي منقوصة تنظر في مرآة عوزها وحاجاتها في مكان غير أليف ومغلق(36)،فينبني فهم الوجود باللحظة الآنية التي أحدثتها الذات للمكان ليعبر فهم الذات له عن الذات نفسها.

    ويُكتشف من المكان صورة الوجود بأبعاده المتنوعة، فتقوم الذات بمشاركة المكان / الظاهرة للعمليات الاتصالية، إذ يناقش بفعلها الفكر الوجودي الذي يتشكل من حيث هو ذات في اللغة وباللغة، فتؤسس واقعها للظاهرة من حيث واقع الوجود:

كانَ يجلسُ في الغرفةِ المُجاورة

شابٌّ أنيقٌ بثيابٍ سُود،

ينظرُ إلى السقف

بعينين فارغتين من أيّ شيء،

ويضعُ على ركبتيه

كتاباً على هيئةِ حقيبة

أو حقيبةً على هيئةِ كتاب.

حينَ ناداني

دخلتُ مُرتبكاً

كجُثّةٍ تسقطُ في البحر.( 37 )

    تظهر ملاح الانكسار والارتباك واضحة عند الذات بفعل الظاهرة التي تلحظها، فجلوس الشاب ظاهرة مألوفة وأناقته أمر محبب، ما يعني أن الأمر بمجمله ظاهرة مألوفة عند الجميع، لكن يبدأ كسر التوقع للظاهرة بالقراءة التأويلية التي تشكلها ثيمات أهمها : (المكان وانعكاساته على النفس، واللون الأسود ودلالته، وهيأة الآخر ذو العينين الفارغتين، والكتاب وما يحمله من مدلولات، والحقيبة وما تمثله من حفظ وإشهار لخبايا النفس)، كل ذلك دفع الذات إلى استحضار اليأس والقلق أمام الزائر الأخير كما تشهر هي فأحدث المكان وثيماته الأخرى قراءة واتصالا خاصاً للتأثر بمنبهات داخلية سيكولوجية، وفزيولوجية ومنها خارجية موجودة في محيطها، تتلقاها على شكل نبضات عصبية ترتبط بمعطيات الظاهرة وظروفها وأحداثها، فتنتقل إلى العقل الذي ينتقي منها ما يريد أن يفهمه ويفكّر به ويتخذ قراره على وفق عملية التمييز، ومن ثمّ عملية أعادة تجميع للتنبيهات التي تم اختيارها في مرحلة التمييز، ثم تركيب تلك المنبهات في شكل خاص له معنى ( 38 )، قائم على فهم الذات لفكرة الاتصال التي حصلت بفعل ذلك التأثر القائم أساساً على لحظة الانعزال المكاني وما رافقته من أمور أخرى يمكن بوساطتها الاستدلال على فهمها، فطبيعة المكان وفيزيائيته يكشف عن واقع مخيف منقطع عن الحياة وأساليب التواصل وبداية الحساب، كأنه يستحضر الحالة الدنيوية  للحالة الأخروية بدلالة الأفعال المضارعة التي تمثل الزمن الآني وحركته الظاهرية الحسية  ( يجلسُ، ينظرُ، يضعُ )، وأسلوب الاستدعاء (النداء) القريب كل القرب من الاستدعاء الدنيوي ولاسيما في حالات الحساب، ودلالة اللون الأسود التي تدل على القوة والرقي ويرمز إلى الحزن وكآبة النفس وألمها في مواجهة الحياة ؛ لأنه لفظ يدل على الغموض والغوص في الأعماق حيث الظلمة والعتمة فضلاً عن الموت بوصفه الدلالة الأكثر عمقاً           وإيغالاً ( 39)، وهيأة الآخر التي توحي بالقلق والخوف والترقب الموجه نحو سقف الغرفة الذي يوحي بعدم الاكتراث وصرامة الموقف وضرورة تنفيذ ما يوحى إليه من دون تردد، إذ يحمل صحيفة الذات (الكتاب) وأعمالها   (الحقيبة)، مما لا يدع مجالاً  للشك بأن الموت والحساب قادمان في نهاية الأمر:

وأخيراً أخرج لي نقطةً حملتْ

ألوانَ الفجر والمغيب.

حملها بيده الصفراء المرتجفة

دونَ أن ينبس ببنتِ شفة...

لم تصلْ يدي إلى أيّ شيء،

ولم يعطني الشابُ أي شيء. ( 40)

   مثل النص في نهايته الضياع الحقيقي للذات، فالحروفي فقد حروفه بفقد نقطته التي لم يستطع الوصول إليها، على الرغم من رحلته الطويلة في الحياة، فالنقطة مثلت الوجود غير المستقر في ضوء قراءته، وفي ظل هذا الوجود الضيق والمرتبك، فقد وجوده والوجود، فأراد أن يبرر البحث عن فهم آخر يصل فيها إلى نهايته الأبدية التي وصفها  (بالزائر الأخير )، فيستدعي حضوره المفقود الماثل في عدم الوصول وعدم العطاء، والأمر يمثل حالة انهزام أمام الوجود وسطوته، بل هو أمام الذات ذاتها،  بالمقابل يرى البحث أن النص يوحي بانبعاث يبعث على التوهج، فالزائر الأخير ـ بما يمثله وما حمله من دلالات يحمل نقطته ـ، أي منجزه المعرفي في العالم المحسوس إلى عالم آخر، بانبعاث آخر أكثر شمولية واتساع، وكل ذلك كان تبريراً لحالة الضياع في الوجود، فوحد عالمه المادي مع العالم الروحي ليبعث برسالتين : أولهما قراءته للوجود ومتغيراته بفعل المكان وهيمنته الحضورية في الخطاب، وما آل إليه الوجود، والآخر انبعاث معرفة الذات من العالم المادي إلى العالم الروحي، الذي ينم عن توهجها وانبعاثها في وجود آخر غير الوجود الحقيقي .

   وقد يمثل المكان على الرغم من ظاهره المتناهي في الصغر عالماً واسعاً تشعر فيه الذات بالسعادة والغبطة، فيتجسد فهم الذات في ضوء إدراكها ووعيها القصدي، إذ إن النص يمثل الممكنات اللغوية من جهة والوعي الذاتي للمبدع الذي يحاول فيها المتلقي فهم ذلك الوعي ومن ثم فهم المبدع من جهة أخرى ( 41 )، فحاول الباث بوساطة النص فهم الوجود وعرضه في حالتين:  الحضور لم يتجسد فعلاً واقعياً، والغياب الذي يعكس بؤس المكان وغبطته :

وبعد غرفتكِ المعلّقة بالسقف

صارتِ الغرفُ سراديب . ( 42 )

    يبرز العامل المكاني بصورة تختلف عما سبق إذ يعيش تحولاته بصورتين مختلفتين، يساهم  بهما فهم الذات لذلك المكان وما يمثله من أثر في فهمه والتعامل معه، فالغرفتان لهما ذات الأبعاد، لكنهما يختلفان بما يمثلانه عند الذات، بدلالة فهم الضيق غير الأليف بقراءة المكان المختلف عنها، فإذا كانت الغرف من بعد الحبيبة صارت أكثر ضيقاً تصل إلى تشبيهها بالسرداب الذي يقترب من القبر أو الملجأ الأرضي، وفي كلتا الحالتين دلالاتهما يمثلان بؤس المكان بأدق تفاصيله، وهو بؤس خلو الحبيبة منه، بالمقابل ينطلق الفكر إلى قراءة المكان الأول بقراءة الثاني، فالوعي بالأول، هو وعي في الثاني، ودلالة الأول تكون على نقيض الثاني بمداه الواسع، فالغرفة من دون الحبيبة سرداب، وبوجودها تصبح فضاءً واسعاً وجميلاً يبعث الراحة والاطمئنان والدعة وتجعل الذات بوعي مختلف يوحي بالتفاؤل والسعادة، فيبدو المكان أليفاً واسعاً في حالة الحضور الذي لم يتحقق، وضيقاً بائساً في حالة الغياب:

وحينَ أنام

ينامُ البحرُ بجانبي على السريرِ مُطمئناً

لكنّ الموت يتظاهرُ بالنوم

ويبقى يعدُّ عليّ أنفاسي،

يبقى ينظرُ إليّ بارتيابٍ وشكّ

مضطجعاً بجانبي، كذلك، على السرير! ( 43 )  

  يبدو أن عملية ضيق المكان أصبحت في حدود ضيقة جدا، فالغرفة تتحدد معالمها في مكان أكثر ضيقاً (السرير)، والسرير يضيق إلى حد أصغر بفعل وجود الآخرين بعد تجسيم البحر والموت، فهول المكان يمثل اضطراب الذات المتمثل باضطراب البحر وترقب الموت المرافق له في كل لحظة، عندما تتأزم النفس تبحث عن فهم خاص للظاهرة، فيصبح المكان في منتهى الصغر ؛ لأنه أعلنت فهمها في ضوء طبيعة المكان ورفقتهما، وفي النظر لهذه الأبنية من العلاقة التي تعتمد على الزمن الحاضر يظهر ارتباط الأبنية بالظاهرة المكانية بعلاقة تناقض مبدئي، فعالم البحر يختلف عن عالم الذات وعالم الموت يختلف عن عالم البحر والذات، غير أن هذه العلاقة  و تحولاتها الحركية بدءا من النوم والتظاهر والبقاء تقوم على فكرة التناقض بالفعل والحركة واختلال المكان الذي يحتويهما، لكن هذه العلاقة وظفت في ضوء فهم الذات لهما (البحر، الموت)، فوظفت المستويين لتوليد حقل مكاني مزدحم ينبئ بالقلق والخوف وهو في حقيقته رؤية الذات للوجود ووجودها وتمردها على هذه الرؤى ؛ لأنها ليست رؤى القول " المقيم على مستوى الايدلوجيا المسيطرة على فعل الذات التي تساعد على تبرير السلوك الشخصي وإضفاء مشروعية الفكر، او الراكن إلى فهم أيديولوجي محدد، بل هي بنية القول المتمرد على ركونه هذا، باتجاه حركة الصراع، أو باتجاه ديناميته المحركة له التي تبني زمنه، وليست بنية القول التي تسبح في فضاء المتخيل في عالم منسجم، أو عالم يحل تناقضاته في المتخيل، بل هي بنية القول التي تحاول الوصول إلى عالم آخر، يخلق بنيته التي قد تكون ديالوجية لوجود البحر والموت المجسمين وقابليتهما على إظهار الأصوات أو بلغة الصمت القابلة على البوح بقابلية فعل الشخص الصامت أو قد تكون غير ذلك ( 44 )، فيكون الخلق الجديد ليس في ضوء الواقع المعيش وحسب، بل في ضوء قراءة الذات وفهمها لذلك التركيز المكاني وسمة التجسيم التي لجأت إليها لبث ما تحمله من فهم آني، يشترك فيه الواقع بشكل أساس وما يرتبط بفعل الظاهرة عند الذات بوعي وإدراك ؛ لأن التأمل في فعل الإدراك يعرب لنا عن طابعه القصدي، وتوجه نحو شيء معين، بصفته أمراً مقصوداً في بنية هذا الفعل، من هنا  أن قصدية الإدراك لا تعني الظاهرة الخارجية بذاتها وما يلحقها، وإنما يمكن إدراك الظاهرة من دون تأثيراتها الخارجية، فيصبح الإدراك إدراكاً من دونها (45 )، بمعنى أن الظاهرة تحقق قصديتها بوجودها وفهم الذات لها :

لا أكتمكِ

بعدَ ليلتكِ الخضراء

صارتِ الليالي شظايا.

وبعدَ سريرك البضّ

صارتِ الأسرّة منايا( 46 ) .

   يمثل المكان حالتين مختلفتين  في ضوء فهم الذات وقراءتها للوجود الذي تبحث عنه ، فتختلف زوايا نظرها للمكان بين الألفة من عدمها، والواسع من عدمه، لأن فهم ظواهر العالم الخارجي والداخلي عند الذات يحتاج إلى فهم أم الظواهر ( الكينونة )، بوساطة الفكر الطبيعي الذي يتجه لفض التناقضات وحل الصعوبات مهما كان مأتاها، لذا فهو ضرب من الجدل الفكري يقوم على المعرفة الذاتية بفعل الوعي، وبين التجربة وما يفرض على الوعي من المطالب والموجبات والمعطيات الفعلية لا المنطقية فحسب ( 47)،  فمتى ما شعرت الكينونة بوجودها الطبيعي ينتفي البعد بينها وبين المكان، فترفع الحواجز بينهما، وتشعر بالطمأنينة، ويزول البعد تماما، ومتى ما غُيبت الألفة، حضرت الحواجز، وحل الفزع، وجاء البعدُ، ووسيلتنا لفهم الكائن هي اللغة، التي نحتاج في كثير من الأحيان إلى وسيلة فهم أخرى لكي نفهمها،  إذ إن أقصى ما تقدمه لنا مجموعة أوصاف تبطن أكثر مما تظهر، " لكن هذه اللغة التي يفترض أن تكون وسيلتنا لفهم هذا الكائن ستكون هي ذاتها أداة عدم فهمنا له، إذ إن أقصى ما ستقدمه لنا هو مجموعة أوصاف تبطن أكثر مما تبين، فالكائن هو أولاً وقبل كل شيْ  دازاين  Dasein، وما معنى دازاين ؟ أنه لا شيء، وكل شيء في الوقت نفسه، أنه يعني الكائن هنا، لكن ليس الكائن الذي نعرفه، ويعني الكينونة، ولكن ليست الكينونة التي نفهمها، ويعني الزمان، ولكن ليس الزمان الفيزيائي الذي نحن منغمسين فيه " (48) ويعني المكان، ولكن ليس المكان الذي نتصوره في الواقع، لكن كما تفهمه الذات، فيحيلنا إلى معرفته من عدمها بفعل اللغة الهلامية الغامضة القابلة للتأويل وتعدد المعاني الذي تتحقق بقراءة الذات للظاهرة وتأويلها، ولأن البعد والقرب، والألفة وعدمها، والضيق والواسع، طباع ذاتية واعية في داخلنا فنحن من يشعر بتلك الظواهر، فتبدو هذه الظاهره وتأويلها لا من جهة علاقتها به أو علاقته بها بل من جهة علاقتها بغيره، فإذا حمل الدازاين في ضمن الانشغال شيئا ما إلي قربه ، فذلك لا يعني تثبيتا لشيء ما في بقعة من المكان لأن تفسير رفع البعد أو تقديره سيكون ذاتيا(49)، في ضوء ما تشعر به في لحظة ما، فتعيش لحظتين مختلفتين للبعد المكاني ذاته بشكل قصدي وإدراك واعٍ .

  لقد أصبح بحكم المفهوم الذي مرّ ذكره أن عملية الاتساع والضيق ترتبط بطبيعة فهم الذات للظاهرة وإدراكها إدراكاً قصديا:

أبي

ضاقت النافذة

بنفْسها وتحطّمتْ

ونزلَ زجاجُ الموتِ إلى الشارع،

فأزلته بلساني الجريح

يا أبي. (50 )

   تحاول الذات عكس الظاهرة وتبادل الأدوار مع النافذة  التي ضاق بها المكان فضاقت، وهذا التصور والفهم ينبثق من فهم المكان وتصوره في ضوء تأثير الظاهرة على الذات، فيضيق المكان حتي يصل إلى ضيق أدواته ( النافذة )، وهذا التصور ما هو إلاّ تصور ذاتي آني عكسته الذات على المكان الذي تحطم بمعنى آخر حصول الموت، ونشاط التحطم ( الموت ) هو قوة الفهم وعملها وهو أكثر أنواع التفكك دهشة وأكثرها غرابة، بل القوة المطلقة في عملية فهم الظاهرة وإبراز عناصرها أو لحظاتها التي لم تكن معروفة ولا معطاة، بل هي حالة فهم الذات وخلق لحظاتها التي ميزتها ووفرتها في علاقتها مع الأشياء، التي تبدو غير واقعية أو حقيقية من حيث أنها لا تحمل وجوداً مستقلاً في الوجود، هي لحظات جوهرية وماهوية لما يتم قوله في ضوء فهم الذات للوجود والظاهرة (51 ) ؛ لأن الوصول إلى الموت في قراءة الظاهرة وتأويلها، هو أكثر الأشياء رعباً والتمسك بفكرة موت الأشياء والتشبث بها يحتاج إلى قوى قصوى ؛ وذلك لأن فهم الموت والإيمان به وإسقاطه على المكان، لا يجد حضوره في الخطاب إلا عندما تجد الذات نفسها في تمزق تام في مواجهة ما هو سلبي، الذي يتحول بدوره إلى وجود يضفي حضوره الآني على الذات عندما تضفي تعيناً على ما في عنصرها من وجود لترفع المباشرة المجردة في قراءة الشيء المذكور إلى مباشرة جوهرية لفهم الوجود بوساطة فهم الذات له، فتصبح الظاهرة المحمول الحقيقي للتوسط بين الوجود والذات، فيرتفع الوعي الخاص إلى  مستوى الوعي  الكلي، إذ ارتبط تحطم الزجاج (الموت ) بنقل مستوى الوعي بالظاهرة إلى الوجود الكلي مع بيان قابلية الوعي بهذه الظاهرة وإزالتها ؛ لأن " حياة الروح ليست هي تلك الحياة التي تفزع أمام الموت وتصون نفسها من الدمار، وإنما هي، بالأحرى، الحياة التي تتحمل الموت وتدعم نفسها من خلاله " (52)، بفعل التحدي للظاهرة ومحاولة التغلب عليها ؛ لأن التحليل الظاهراتي يؤمن بأن الموت نهاية لرجولة الذات ؛ لضعف فهمها للظاهرة وإسقاطاتها، وهذا ما ترفضه على الرغم من الإيمان به، فتعكس الظاهرة بفعل ذلك المفهوم بشكل يجعل الموت للآخر .

   الموت فعلاً مكانياً ذاتياً :

   لقد مثل ارتباط الموت بالمكان ورفضه من الذات فهما جديداً ومختلفاً ينم عن ذلك المفهوم الظاهراتي التأويلي الذي يعي الأشياء في ضوء تصوير الظاهرة تصويراً يقترب من الرفض، لكنه القبول في حقيقته :

ثمّة بحر

أحملهُ بيدي اليمنى

وثمّة موت

أحملهُ بيدي اليسرى.

وحينَ أتعب

أضعُ البحرَ في يدي اليسرى

والموتَ في يدي اليمنى. (53)

    تظهر حقيقة فهم الذات لهذه الظاهرة المكانية بأسلوب التحدي،  فالموت والبحر يرقدان على سرير واحد بدلالة العنونة ( معاً على السرير )،يلازمان الذات تماما، لكن هذه الملازمة كانت مختلفة وغريبة، إذ مثل المكان المتناهي في الصغر مقارنة مع البحر ومكانه الواسع، حالة احتواء وتفريغ وتحدي، فاستطاعت الكف الأيمن  بواقعها الفيزيائي المعروف من حمل البحر، والشمال لحمل الموت المرتبط بدلالة البحر والواقع المعيش، وهذه المفارقة في الحدث نتيجة تحدي الذات وإفراغها لمحتوى الموت بشقيه المجازي والحقيقي والمرتبطين أصلاً بحقيقة فهم المكان وتصوراته، فالسرير يحمل الموت، وحقيقة الفهم وتمثلاته تعود لطبيعة المكان، إذ "  ترى الظاهراتية الكائن البشري وعياً مجسداً يقصد الأشياء، وهي لذلك تفسر الأعمال بوصفها تركيبات للوعي تعرض عالماً ما "(54) فيتجسد في الخطاب وعي الذات للمكان وتحولاته وتقلباته التي انعكست في فعل الخطاب وتقلباته، التي تعني أمرين : الأول : إن عملية التقلب بين اليمين والشمال هي لبعث الروح في البحر والموت، فإن لم ينقلبوا لأكلتهم الكف بالتعبير المجازي المعطوف على قوله تعالى "  وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ "(55) وهذا التأويل لاستمرار الواقع الزمني وامتداده البعيد، والتأويل الآخر لثقل المحمولين على الذات بواقعهما المجازي والمادي الذي يناسب الامتداد الزمني القصير، والأمر الثاني : إيمان الذات بالملازمة المكانية الضيقة للموت مع بيان تحديها له أولاً  والسكون إليه في نهاية الأمر ثانياً على الرغم مما تظهره في أسلوبها الخطابي ؛ لأن نزعة الموت أو غريزة الموت تمثل " حاجة ملحة ملازمة لكل الكائنات الحية من أجل العودة إلى وضعية السكينة، أو عدم الوجود في نهاية الأمر  "(56)، وهو حاصل لا محالة .

   ويبدو أن ارتباط الموت بالمكان الضيق أصبح فهما قارا بدرجة كبيرة عند الذات، بالمقابل حضر التحدي غير المتوازن بينهما ؛ لأن الصراع مع الموت لا يعني  أن الذات تجهد للتغلب عليه بقدر ما يعني استنطاق الظاهرة بفعل دلالاتها للتطابق مع فهمها للوجود وبيان التحدي:

حين طردتُ الموتَ من النافذة

دخل من الشبّاك.

وحينَ طردتهُ من الشبّاك

دخلَ من النافذة (57)

      حدوث ظاهرة التحدي والاستسلام لها  كان متجسداً بفعل الإصرار على تواجد الموت في مكان الذات الضيق الذي يناسب الحدث، وما عملية غياب الموت وحضوره إلا أمر حاصل بدلالة استعمال النافذة والشباك، فهما يؤديان المعنى والمهمة نفسها في آن، وهذا الكشف لحقيقة قراءة الوجود وتشكله، هو في حقيقته الوعي بالتجربة الذاتية للظاهرة بوصفها نشاطاً ظاهراتياً نعيد قراءته مع تجدد الوعي بالتجربة الإنسانية في الوجود التي تصل بالفكر للمثول أمام هذه الظاهرة المخيفة، فخروج الموت ودخوله لمرتين عملية تجسيمية لها القدرة على خلخلة المكان بما ينبعث من أصوات وحركات، ودلالتها هنا  أعنف الوقائع المتحدة يقينيا مع الوجود، لأن الوجود يقوم وجوده على وجود الأصوات (58)، التي تؤسس لحالات وجود الذات وحضورها، فصوت الموت بالتعبير المجازي أشد وقعاً في الوجود، وما بعده أكثر هولاً ورعباً، وما  ذلك الصراع إلا وعي بالظاهرة التي تعني " العودة إلى الأشياء ذاتها، وإن الظواهر إجمالاً ليست ظواهر عبثية أو عفوية، وإنما ظواهر تختزل قصداً معيناً يشكل ماهية توجهها الأساس" (59)، إذ لا يمكن أن يؤسس القول من دون قصد يُحيى المعنى ويعطيه روحانية خاصة، وبالمقابل يحيى صوتاً يمكن أن يبقى باطنياً بالواقع الفعلي، لكنه المعبَّر عن الفهم بالأمر والإقرار به من وجهة نظر أخرى (60)،  فاليقين حاصل في إدراك حتمية الظاهرة على الرغم مما تبديه الذات من محاولات عدم الاستسلام الذي لا يجدي نفعاً :

هكذا خرجتُ من الباب

لأجدَ الموت

يحمل سيفاً ودرعين،

مسدساً وثلاثَ بنادق

ومدفعاً من النوع الثقيل . (61 )

  عملية تحويل الظاهرة من المكان الضيق إلى الواسع عملية مقصودة في ضوء بيان الظاهرة وتأصيلها، فالموت أصبح في الوعي الجمعي ملازما مستديما ؛ بسبب الظروف والمتغيرات التي حصلت وتحصل، وهذا التحول في فهم الظاهرة واتساعها لم يكن بإرادة الذات، بل خارج إرادتها، فشمل التنوع الزمني المتعدد قديماً وحديثاً، بدلالة تغير أدوات الموت من سيف ودرع إلى مسدس وبندقية إلى مدفع من النوع الثقيل، وهذا التدرج الزمني والعددي عمل على اتساع مكان الظاهرة وتنوعها، فحصل الوعي المدرك بين حقيقة الذات وما تشعر به وحقيقة الواقع المعيش،وفهم مقصود بين هم الذات والمجتمع الذي أصبح أداة سلبية وصلت حتى الموت .

  تمثلات الجسد الضيقة :

    قد يرتبط المكان بمساحات غاية في الدقة والضيق، تشعر الذات باغترابها به على الرغم من حالة الاتصال بينهما، ويقينا أن الجسد وعاء الروح أي وجود الكينونة وتمثلها في الوجود، عندما يحدث الانفصال أو الاغتراب يحدث انفصال الروح عن الجسد:

غربة في الجسد

قد أقامَ بأحداقها الليلُ

ضاحكاً كاللهب.

غربة في الجسد

بويعتْ في غيابِ الجسد. (62)

   يمثل الجسد المكان الضيق الذي يشعر الذات بفهمها للوجود بوساطة الشعور بهذه العلاقة ومنطلقاتها المختلفة، علاقة بُنيت على رؤية الذات للوجود المتمثل في كينونتها التي تبدو فيها فاعليتها في الفهم والتمثل، فيقودنا ذلك إلى اكتشافات جديدة وفهم مستمر وتمثل متغير، يُبنى على وضع الافتراضات المنبثقة عن رؤية الذات لذاتها أولاً وللوجود ثانياً، أي أعادة ما عرضته في رؤيتها عرضاً تزامنياً تعاقبياً، يبنى على أشد الافتراضات القابلة للتأويل الظاهراتي المعبر عن قناعة المُؤَوّل وإن تزامن مع صور المجازفة في عرض التأويل في نص مكثف، يؤدي إلى قراءة متنوعة ومختلفة تقوم على عدم التشبث والإيمان المطلق بما يعرضه، بل يقوم على عرض تلك الفكرة بأسلوب عدم التشبث غير المنطقي الذي لا يستند على أسس التأويل المنطقي(63)، القائم على بث الثيمات وربطها للإمساك بالمعنى المقصود أو محاولة الاقتراب منه، فغربة الجسد عامل مكاني سلبي، زد على ذلك قيام الليل فيه برعبه وظلمته وحزنه وسباته وحرقته التي شبهها باللهب، وحالة استقرار الغربة التي تمثلت بغياب الجسد غياباً نهائياً، كل ذلك يبين آلية اختيار المكان ,وبيان أثره على الذات في فهما وتمثلها .

  وتمثل الشفتان المكان الضيق الذي يشعر الذات بنهايتها، على الرغم مما تمثله من دلالة تبعث الحياة في النفس :

وما ان قبّلتُ شفتيها

حتى خرجت الأفعى إليّ

فسقتني السمّ

لأموت إلى الأبد. (64)

   يبدو أن عملية البحث عن الموت كانت من المكان الضيق الذي ينبعث من خلال الجسد، فالأفعى والأنثى كانتا بمرتبة واحدة كلاهما يبعث الموت أو بتأويل آخر القبول به بعد الملامسة، فالمرأة كانت الموت أو سبباً له، وهما في مرتبة واحدة، على الرغم من أن المكان المقصود بما يحمله من طبيعة مادية و سيكولوجية هو مبعث النفس وراحتها، فالأماكن الضيقة في الجسد هي مبعث سرور الذات وديمومتها وتجددها، لكنها قد تكون موضعاً للموت والفناء، فظهر فهم خاص لذلك المكان، بربط العلائق المشتركة والمتشابكة بين أنماط الفهم المختلفة، " وإظهار أن الفهم، ومن ثمة التأويل، ليس سلوكاً ذاتياً، بل ممارسة تضرب بعمقها في ضميم كينونة الإنسان، لذا يميز (غادمير) بين قوة الحقيقة التي يتضمنها الفهم، وبين تقنيات البحث عنه وفيه " (65)، وفي هذا كله قد يخرج من الحسن السيئ، فيخرج من الجسد جهنم، ليكن ثقب الجسد هو جهنم:

أوقَفَني في موقفِ الأنا

وقال: يا عبدي كم أذلّتْكَ الأنا!

أناكَ هي ثقبُ روحِك

وأناكَ هي ثقبُ جهنّم في جسدِك.

هي مَن يُفسد فيكَ ما خلقتُه

في أحسن تقويم

لتردّه في سرعةِ البرقِ إلى أسفل سافلين. (66) 

   تتحول الأنا إلى ثقب الروح الذي يؤدي بالجسد إلى المعصية ومن ثم العذاب الدائم في جهنم، فالحوار يفصح عن المكان الضيق الخارجي والداخلي، سواء بعملية المساءلة أو اختراق الجسد مكانياً الذي يؤدي إلى فساد الروح والخلق، بفعل الأنا وما خلفته من أماكن ستكون سبباً في هلاكها، فالمكان في منتهى الصغر في الحالتين، لكنهما وسيلة الهلاك للجسد والروح، فالعمل السيئ بمثابة نتوء صغيرة تتراكم في الواقع الجغرافي الجسدي لتصبح بمساحة جغرافية لا يمكن الإلمام بها ومن ثم يصبح سبب الهلاك وطريق  اللاعودة إلى الرشد والصواب، لقد استطاع النص من بيان موقف الإنسان في أمرين : أولهما المساءلة التي تواجهه في ذلك المكان الصغير  {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }(67) وما يتبعه الوقوف، والآخر فعالية المكان الذي أحدثته الأنا في الجسد ( الثقب )، وهو الذي سوف يطيل الوقوف الأول أو يقصره، فالنص يحفز القارئ إلى نظام الإحالات المنبثقة من آلية المكان وتجسده في الفعل التأويلي الذي يحول النص من  صياغة لرد فعل معين، أو انعكاس  للواقع المعيش التي تألفه  أو تعبير عنه مكنوناتها وسبل الغور في بواطنها ومحاولة بيان الأثر المكاني الحاصل الذي جعل النص ينتهك القوانين الخاصة بالقراءة السطحية إلى الغور في فهم الذات لذلك المستوى المكاني الصغير بإدراك ووعي تامين ؛ لأنها عملية تحول المحسوس إلى قراءة ظاهراتية واعية .

المكان الواسع الضيق :

   تنبعث من المكان حالة اليأس الكبيرة التي تعيشها الذات في ضوء فهم معطياته التي قد تصل بها إلى نهايتها، فالمكان يتسع ولكنه يضيق بالذات ؛ لأن العلاقة ترابطية بين المكان والكينونة، فالمكان يمثل الوجود الحقيقي والمتناهي الذي يدرك بوساطة الحواس، والكينونة تمثل الامتداد   الحقيقي لذلك الوجود وتشكله وفهمه (68)، وهما بطبيعة الحال يتبادلان الأدوار في إضفاء الشعور أحدهما بالآخر:

 اللهمَّ أنقذْني من قسوةِ الصحراء

وقرّبْني من فجرِها.

وأنقذْني من غدرِ البحر

وقرّبْني من زرقته. (69)

   يتوسل الخطاب بالدعاء للخلاص من المكان الواسع الضيق في آن، واسع في واقعه الجغرافي وضيق في ضوء فهم الذات وإدراكها،فالصحراء فضاء غير مرتبط بملامح مكانية ثابتة، يتصف بالاتساع غير المحدود، لكنه يحيل إلى الخوف والقلق والريبة، ولاسيما إذا ارتبط في الزمان ( الليل ) وما يشكله من هاجس كبير يتعاضد مع الصحراء وطبيعتها القاسية، فينتظر الفجر لينعم بالاطمئنان، وهذا الأمر يشبه تماما أمواج البحار وغدرها، ومع الأمرين تنظر الذات إلى ذاتها في قلقها وخوفها على الرغم من اتساع المكانين، لكنها تنتظر الفجر والزرقة، وهو في الأصل انتظار لغد أفضل تنعم به، فالخطاب على الرغم من مرجعيته المكانية الواسعة،   فأنها أصبحت مرجعية ضيقة قلقة تلامس الذات وهواجسها في الانتماء مرة وعدمه مرة أخرى، فالقرب والبعد، والضيق والاتساع، يرتبطان بالشعور الذاتي للمكان وتشكله ؛ لأن المكان يبرز حلما أو واقعا في فهم الذات للمكان وخصوصيته للنفس وقربه.

 الصحراء في المخيال العربي هي المكان الضيق الذي يؤدي إلى الهلاك على الرغم من اتساعه في الواقع الجغرافي، ما ارتبط في المنظومة الفكرية والوجودية في آن، فهي لم تكن حاضرة في الواقع الجغرافي عند أديب كمال الدين، لأنه يعيش في واقع جغرافي يبتعد كثيراً عن الصحراء وقساوتها، لكنه يحتفظ بالفهم القار في المدونة العربية الجديدة، الذي يجعل من الصحراء واقعا متخيلاً لم نعشه، وإنما نتفاعل معه:

بحثنا لأحزاننا عن منافٍ جديدة

فهربَ الأصدقاءُ منّا،

تركونا نؤكل في الصحراء.(70)

  التفكير بالمنفى لا يختلف عن التفكير بالصحراء وما ينبثق عنها من التيه والحرمان وعدم الألفة ولربما الموت لغير قاطنيها أو ممن لم يألف صروفها القاسية ومعطياتها، فهي عند الآخر العربي البعيد تعني مساحة العمل، وإذا كان الشاعر الجاهلي قد " رمز لليأس بالطلل ورمز للمرأة بالأمل، فأنه قد رمز برحلة الصحراء للعمل "(71) من أجل تحقيق الأمل،  بالمقابل ينبثق مفهوم آخر يرتبط بالمعاناة، فالرحلة إلى الصحراء مضنية وهي ليست مفروشة بالآمال اليسيرة، بل يحوم فوقها الرّعب الذي يصل إلى الموت في بعض الأحيان، ورحلة الشاعر حملت التصورين الأمل واليأس، الأمل في منفى جديد وأحزان مستمرة، واليأس الذي يقترب بها من الموت في صحراء جديدة لا تختلف عما كانت عليه سابقاً، فالمنفى الجديد يحيل إلى أنين الذات وشكواها،ويحيل إلى الظاهرة المكانية وقسوتها التي لا مآل منها الصحراء الواسعة الضيقة التي كثير ما تضيق بأهلها، إنّ هذه الوحدة الخطابية تُقيم التوازن بين مفهوم الذات للمكان القديم والجديد، فكلاهما واحد، والثاني أكثر بؤساً من الأول في ضوء فهمها ؛ لأنه أقرب منه إلى الفناء الأبدي وإن لم يتحقق بالواقع الملموس، فالمنفى صحراء ضيقة مثل ضيق المنفى وإن اتسع . 

   وقد يرتبط المكان بالضياع على الرغم من اتساعه، وبذلك تصل الذات إلى مبتغاها في عرض رؤاها، مثلما يصل المتلقي إلى غايته في قراءة النصوص وإعادة إنتاجها :

كيفَ ضعتُ وكيف؟

من الذي ألقاني في الوادي السحيق

ودفنني في الصحراء

وزرعني في بطنِ غيمةٍ تائهة؟

من الذي جعلني أركض

خلف ذيل الشمس حتّى الموت؟ (72)

   تظهر حالة الضياع واضحة في الخطاب يبدأ من محاوره الأربعة، كل محور يصف ما تشعر به الذات في وجودها وتفكيرها، أي فهمها ووعيها وإدراكها، يبدأ من ثيمة رئيسة تقوم على عنصر الضياع الحاصل، المنبثق عنها المحاور المكانية الأربعة، الوادي السحيق،  الصحراء، الغيمة، والشمس، وكل هذه الأماكن توحي بالاتساع لكنها توحي بالضيق والضياع سواء أكان في مكان مغلق بعيد ولكنه في الواقع الجغرافي واسع، أم جثة في صحراء شاسعة،أم غيمة تائهة سوف ترحل بعيدا في أفق واسع وسوف تسقط في مكان مجهول، أم الجري وراء أمر يصعب حصوله لرقعته الجغرافية غير المتحققة، وهي في كل ذلك تعبر عن ضيقها بالمكان الواسع، وهذا التعبير يمثل الإحساس بالظاهرة والوجود :

كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء

حينَ اقتربَ منا حصانان أسود وأحمر.

فقمتِ بعينين دامعتين

وقبّلتني القبلةَ الأخيرة.

فدُهِشتُ 

ثُمّ امتطيتِ الحصانَ الأسود

وقلتِ بصوتٍ مرتجفٍ: وداعاً.

فذُهِلتُ .(73)

   يمثل المكان الواسع مؤشراً إيجابيا يعمل على تهشيم الصورة النمطية للصحراء وقساوتها وضيقها بالذات والآخر، فيبدو أنَّ المساحة الواسعة قد وفرت الأجواء العاطفية التي تقترب من الواقع الحالم الذي ينطوي على دلالة لا يمكن تجاهلها ترصد عمل الذاكرة في الانتقال إلى صفو النفس وسموها بعيداً عن كل المؤثرات بوساطة التفاعل الحي مع الزمن الحاضر مما أسهم في خلق نوع من العلاقة الاتحادية بين المكان والذات، لكنها علاقة آنية سرعان ما تزول، بفعل حالة الرحيل والوداع الأخير، فتتغير ملامح المكان من السعادة إلى الحزن الدائم بدلالة اللون الأسود ، ومن الاتساع إلى الضيق بدلالة الوحدة والدهشة والذهول، فتخضع هذهِ الموجودات   ( الظواهر )  لسلسلة من التغييرات تتدخل فيها المخيلة على نحوٍ خاصٍ لنقلِ زمنية الذاكرة منْ الماضي بوصفه مصدراً للسعادة والهناء والاتساع إلى إدراك الحاضر وما آلت إليه الذات والمكان،  واستشراف المستقبل وما سيكون عليه من أثر تلك الظاهرة وتغيراتها عليهما فينبئ الأمر بحالة المكان على وفق التعدد الزمني .

    ويمكن أن نلحظ قراءة المكان وأثره بفعل ما يبوح به الخطاب من صدى وخوف يطبعه المكان على الذات ليصبح حقيقة ملموسة على الرغم من واقعه المتخيل :

في الليل الأسود

يتحدّث هذا القلبُ الغامض

بحديث غامض

عن مدنٍ وشوارع مرّتْ كقطارٍ مزدحمٍ مهموم .(74)  

   صدى المكان يلازم الذات في مضجعها لتبوح بحقيقته المتجسدة في رؤاها ، فالمدن والشوارع تطبع أثرها بشكل سلبي وغامض ومزدحم على الرغم من اتساعها، الذي هو في حقيقته بوح الذات بذاتها وبيان شعورها بذلك الأثر، فالرؤيا تجسد حقيقة الظاهرة ؛ تقدم لنا نظرة شاملة وموقفاً من الوجود يفسر الحاضر في ضوء قراءة الظاهرة على الذات، فالمدن والشوارع على الرغم من اتساعها كانت مكتظة بالناس مما يعكس صورتها على النفس ولاسيما في وقت الليل الذي يبعث الحزن والهم، فتظهر الظاهرة المكانية الخبرات المكبوتة وهواجسها في أعماق النفس حين تخف الرقابة الشعورية الجمعية بفعل العامل المكاني المزدحم، فيتحول ذلك الشعور إلى شعور فردي يظهر أحلاماً أو أحلام يقظة في وقت سكون النفس واستقرارها (75)، فتصور المكان وأبعاده وزحمته التي هي زحمة الذات . 

 ويمكن أن يتسع المكان، لكنه يضيق بفعل رؤيا الذات وفهمها للمكان، فـ (الرندلمون) الشارع الكبير الواسع في غربة الذات، لم يستطع أن يجد مساحته الحقيقية عندها :

قلتُ للرندلمول:

هل يمكن أن تمسحَ من شاشةِ نومي

صورَ الطفولةِ العارية

وعذابات الفراتِ وشمسه الحافية؟ (76)

   يُختزل المكان في مكان ضيق تمثل في رؤيا الذات وتصورها لأثر الجديد في القديم، فالحياة الجديدة لم تمحُ صور الطفولة العارية وعذاباتها من شاشة الفكر، وهذا الأمر عبر عنه بول ريكو  بإسقاط التحليل النفسي على الظاهرة وتأويلها وتتمثل " هذه النقطة تحديداً في كل أمر يكتشف نفسه في الظرف التحليلي نفسه، فالتحليل النفسي يظهر بوصفه تقانة في الحقل الخاص في العلاقة التحليلية " (77)،مرتبطة بعلاقة تأويلية تقوم على عنصري العمل والمقاومة وهما الأساس في التحليل النفسي، فالتحليل عمل وصراع ضد المقاومة كما يرى فرويد ؛ لأن " المقاومة التي تواجه التحليل هي عين المقاومة التي تقوم في أصل العصاب "(78)، وعلى الفهم المتصاعد في آن، أو في لحظة مكانية زمنية يقصدها الباث في حلمه إلى الخلف، نحو الطفولة، ونحو الماضي،والنص يكون سابقاً لذلك ومتقدما عليه، وهذا التعارض بين الماضي والحاضر بين التراجع والتقدم هو الذي يولد الفهم لأصل الظاهرة بفعل البعد النفسي وتقانته الليلية، وهو الذي يولد القراءات التأويلية للظاهرة، فالمكان الواسع أختزل بتقانة الحلم المتموقعة في المخ إلى وجود مؤلم على الرغم من أتساع المكان الحقيقي .

الخاتمة :

   بعد القراءة الفاحصة للظاهرة المكانية الضيقة عند (أديب كمال الدين) في ضوء التأويل الظاهراتي، توصل البحث إلى النتائج الآتية:

1 ـ  ترتبط قراءة المكان في ضوء انطولوجيا الفهم القائم على الوعي والإدراك القصدي للظاهرة مهما تعدد البعد الفيزيائي له، فالأساس في ذلك الفهم هو شعور الذات بالمكان وتشكله لديها ومن ثم تظهر القدرة التأويلية المصاحبة للظاهرة .

2 ـ يرتبط التأويل الظاهراتي بثوابت تعد الأساس لما تم عرضه فقد ارتبط بالتفسير وأونطولوجيا الفهم والحقيقة غير القارة وكل ذلك يؤدي إلى ما يعرف بتأسيس ممارسة تأويلية تهدف إلى محاولة الإمساك بالظاهرة بقدر نسبي غير جازم، وإن اقترن بالشك والفكر أولاً ومن ثم العمل المنتج الذي يركز على ما يعود للذات من فعل وقراءة، قراءة الذات بفعل النص وقراءة النص بفعل الذات .

3 ـ الاعتماد على الظاهرة والوعي بها بفعل الوجود، القائم على عملية التمثيل أو التصور، وهو الأساس للظاهرة التي يجب الانطلاق منها سواء كان ذلك استرجاعاً أو تمثيلاً للفعل بوساطة العناصر النفسية والوجودية التي تتعاضد جميعها لبيان الظاهرة عند الذات والمتلقي .

4 ـ أصبح القارئ جزءاً رئيساً في عملية القراءة والتأويل، يحاكي النصوص بوساطة البحث في ثناياها عن الوجود الذي يفتح مغاليقه في ضمن الحقل المرجعي للذات المبدعة والقارئ على السواء  .

5 ـ تمثل الظاهرة الحسية التي خلقها الشاعر إحساساً ذاتياً يرتبط  في مكنوناته بشكل قصدي ويفصح عن وعيه بالمكان المرتبط بسايكلوجيته في لحظة الإبداع، فينبعث حضور الذات بوصفه حضوراً ذاتياً  .

6 ـ  تمثل الظاهرة بعداً اجتماعيا ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات وقراءتها لذاتها مما يشكل حضورها بفعل التمثل المكاني وانعكاسه عليها .

7 ـ لا يمثل المكان الواقع الحقيقي، بل الواقع الذاتي والمعرفي ،  الذي يحيلنا إلى فهمه  بفعل اللغة الهلامية الغامضة القابلة للتأويل وتعدد المعاني التي تحققت بقراءة الذات للظاهرة وتأويلها وهذا ما جسده (أديب كمال الدين) في أماكنه الضيقة سواء أكان ذلك حضوراً أم تجسيداً .

8 ـ بيان الفعل المكاني لظاهرة الموت عند الشاعر بوصفها ظاهرة وجودية قارة يحاول  استنطاقها بفعل دلالاتها التي تطابق حيز فهمه للمكان وقراءته، فأرتبط فهمه بالمكان الضيق الذي أصبح فهما قارا بدرجة كبيرة  .

 9 ـ الجسد وعاء الروح أي وجود الكينونة وتمثلها في الوجود، وعندما يحدث الانفصال أو الاغتراب يحدث انفصال الروح عن الجسد، وأماكنه تبعث السرور مثلما تبعث الحزن، وذلك الأمر أقترن عند الشاعر بالموت والحزن والانفصال عن الواقع  في ضوء ما تحمله من فهم لذلك المكان الجسدي وتمثله .

10 ـ يمثل الاتساع المكاني ظاهرة نفسية ووجودية تبعث الألفة والمحبة والارتياح، لكن ذلك لم يتحقق عند الشاعر، فضاقت الأماكن على الرغم من اتساعها، فالصحراء الواسعة والمدن الكبيرة والشوارع العملاقة، لم تمحُ حزن الذات وضيقها بالمكان، فتتغير ملامحها من السعادة إلى الحزن الدائم، ومن الاتساع إلى الضيق.

 الهوامش :

1 ـ ينظر:  من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا، د. مجدي عز الدين حسن، دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، ط1، 2014 م : 200 .

2 ـ الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2003 م: 67 .

3 ـ من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا :209

4 ـ ينظر: المصدر نفسه : 209

5 ـ ينظر : أسس الفكر الفلسفي المعاصر، عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للطباعة والنشر، الدار البيضاء ـ المغرب، ط2، 2000م : 49 .

6 ـ  المصدر نفسه : 51 .   

 7ـ ينظر:  من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا : 175

8ـ الذات وظاهرية الفن ( رؤية انطولوجية )، الأستاذ الدكتور : عقيل مهدي يوسف، دار الضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد ـ العراق، ط1، 2017م : 218 .

9 ـ صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية، بول ريكو، ترجمة : د. منذر عياشي، مراجعة : د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي ـ ليبيا، ط1، 2005م: 34 .

10 ـ للاستزادة حول تطور هذه المفاهيم ـ  الحقيقة، التفسير، أونطولوجيا الفهم ـ وأثرها في بناء التأويل الظاهراتي، ينظر : المصدر السابق : 33 ـ 42 .

11 ـ الخطاب الاشتباهي في التراث اللساني العربي، تأليف : البشير التهالي، دار الكتاب الجديد المتحدة،  بنغازي ـ ليبيا، ط1، 2013 م : 164 .

12 ـ صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية : 40

13 ـ الأصول الفلسفية لنظرية المعنى في النقد الأدبي الحديث (البنيوية وما بعدها)، عبد الأمير عباس بطي، (أطروحة دكتوراه)، كلية الآداب، جامعة الكوفة، 1430هـ/2009م: 87 .

14 ـ هايدغر وسؤال الحداثة، محمد الشيكر، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء ـ المغرب، ط1، 2006م : 123 .

15 ـ ينظر : صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية :260.

16 ـ ينظر : المصدر نفسه : 264 .

17 ـ جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية، د. عبد الحميد المحادين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ـ لبنان ، ط1،2001م :  20

18 ـ نظرية المكان في فلسفة ابن سينا، حسن مجيد العبيدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ـ العراق، ط1، 1987م : 27  .

19 ـ ينظر : علم الاجتماع والفلسفة ، قباري محمد إسماعيل، دار الطلبة العرب، بيروت ـ  لبنان، ط2، 1968م : 2/54ـ 55 .

20ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول، منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1436هـ ـ 2015 م : 214 .

21 ـ الهيمنة الذكورية، بيير بورديو، ترجمة : سلمان قعغراني، مراجعة : د. ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009م: 152.

22ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول : 215 .

23 ـ ينظر : دراسات تطبيقية في النقدي والأدبي محورها الرؤية والرؤيا، د. ساسين عساف، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1991م : 87 .

24 ـ ينظر :  الاستعارات التي نحيا بها، جورج لايكوف و مارك جونسن، ترجمة : عبد الحميد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ـ المغرب، ط1، 1996م : 58 . 

25 ـ ينظر : إنتاج المكان بين الرؤيا والبنية والدلالة، د . محمد الأسدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد  ـ العراق، ط1، 2013م : 116 .

26 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثاني، منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1437هـ  ـ 2016 م :  42 ـ 43 .

27 ـ ينظر : العزلة والمجتمع، نيقولاي برديائف، ترجمة : فؤاد كامل، مراجعة : علي ادهم ، دار الشؤون الثقافية، بغداد  ـ العراق، ط2، 1986م : 39 .

28 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 140 .

29 ـ ينظر : منزلات الرؤيا، الشاعر العربي المعاصر وعالمه، إبراهيم أحمد ملحم، دار عالم الكتب الحديث، عمان ـ الأردن،2010م: 116 .

30 ـ ينظر : نقد الشعر في المنظور النفسي، د. ريكان إبراهيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد  ـ العراق، ط1، 1989م : 90 .

31 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث، منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1439هـ  ـ 2018 م :   232 ـ 233 .

32 ـ ينظر : فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، د. عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2007م : 457 .

33 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول : 275 .

34 ـ ينظر : تأويل الثقافات مقالات مختارة، كليفورد غيرتز، ترجمة : د. محمد بدوي ، مراجعة الأب بولس وهبة، مركز دراسات الوحدة، بيروت ـ لبنان ، ط1، 2009م : 126.

35 ـ ينظر: من فلسفات التأويل إلى نظرية القراءة، دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة، عبد الكريم شرفي، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة ـ الجزائر، ط1، 2007م : 35 .

36 ـ ينظر : مقاربة الآخر، مقارنات أدبية، د. سعيد البازعي، دار الشروق، القاهرة ـ مصر، ط1، 1999م: 12.

37 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث : 15 .

38 ـ علم الإعلام اللغوي، عبد العزيز شرف، الشركة  المصرية العالمية للنشر لوجمان، القاهرة، ط1، 2000م :  13 .

39 ـ ينظر : سيكولوجية إدراك اللون والشكل، قاسم حسين صالح، دار الرشيد للنشر، بغداد ـ العراق، ط1، 1982م: 111.

40 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث : 16 .

41 ـ ينظر : إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب ، ط9 : 21 .

42 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 50 .

43 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث : 142 .

44 ـ ينظر: في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، د. حكمت صبّاغ الخطيب، يمنى العيد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1985م : 81 .

45 ـ ينظر : مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية، د. أنطوان خوري، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، 1984م : 40 .

46 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 50 .

47 ـ ينظر : فكرة الفينومينولوجيا، خمسة دروس، إدموند هوسرل، ترجمة : فتحي إنقرو، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ـ لبنان، ط1، 2007م : 11.

48 ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، تأليف : جان غراندان، ترجمة وتقديم : د. عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة ـ الجزائر، 1428 ـ 2007م : 13.

49 ـ ينظر : الكينونة والزمان، مارتن هيدغر، ترجمة: د . فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت ـ لبنان، ط1، 2012م : 218 .

50 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 109 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الأول :161، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثاني :107، 211، 220، 232، 261، 268، 330، 347، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث : 69، 87، 91، 140، 142، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع : 73، 101، 220 .

51 ـ  ـ ينظر : ظاهريات الروح، هيجل، ترجمها وقدم لها بدراسة مفصلة وعلق عليها د. إمام عبد الفتاح إمام، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط3، 2009م : 180.

52 ـ المصدر نفسه : 181 .

53 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث :142 .

54 ـ القراءات المتصارعة التنوّع والمصداقية في التأويل، بول ب . آرمسترونغ، ترجمة وتقديم : فلاح رحيم، دار الكتب الجديدة، بنغازي ـ ليبيا، ط1، 2009م : 24 .

55 ـ الكهف : 18 .

56 ـ ضد التأويل ومقالات أخرى، سوزان سونتاغ، ترجمة : نهلة بيضون، مراجعة : د. سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ـ لبنان، 2008 م : 371 .

57 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 232.

58ـ ينظر : جماليات المكان، تأليف : جاستون باشلار، ترجمة : غالب هلسا، دار الجاحظ للنشر، دار الحرية للطباعة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980م : 207.

59ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا : 10.

60ـ ينظر : الصوت والظاهرة، مدخل إلى مسألة العلامة في فينومنيولوجيا هوسرل، جاك دريدا، ترجمة : د. فتحي إنقزّو، المركز الثقافي العربي، المغرب ـ الدار البيضاء، ط1، 2005م : 67 .

61ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 232 ـ 233 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الأول :18، 201، 237، 273، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثاني : 33، 51، 142، 172، 173، 255، 319، 364 ، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث :  118، 138،  و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع : 187، 228.

62 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الأول :270 ـ 271 .

63 ـ ينظر : القراءات المتصارعة التنوّع والمصداقية في التأويل : 39 ـ 40 .

64 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 106 .

65 ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا : 21 .

66 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الرابع :84 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الأول : 20، 21، 52، 301، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثاني : 51، 104، 191، 206، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث : 55، 271،  و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع :  45، 230، 317 .

67 ـ الصافات : 24.

68ـ ينظر : المكان في النص المسرحي، منصور الديلمي، دار الكندي للنشر والتوزيع، الأردن ـ عمان، ط1، 1999م : 20 .  

69 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الرابع : 21 .

70 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 244 .

71 ـ الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، في ضوء النقد الحديث، د. نصرت عبد الرحمن، مكتبة الأقصى، الأردن ـ عمان، ط1، 1976 م : 167 .

72 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني : 92 .

73 ـ المصدر نفسه : 331 .

74 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الأول : 266.

75 ـ ينظر : التجربة الإبداعية، دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع، إسماعيل الملحم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا ـ دمشق، 2003م : 29 .

76 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني :342 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الأول : 173، 185، 222، 225، 266، 276، 272 300 .  و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثاني : 67، 92، 142، 146، 147، 275، 292، 235، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث :   50، 69، 91، 118، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع :  21، 48، 221، 265 .

77 ـ صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية : 223 .

78 ـ المصدر نفسه : 224 .

 

 

 نشرت في مجلة ذي قار المحكمة المجلد 14 العدد 1 لسنة 2019

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home