دراسة في المجلد السابع من أعماله الشعرية الكاملة

حكمة الروح في حروفية أديب كمال الدين

 

أ‌.       د. عبد القادر فيدوح

ناقد وأكاديمي جزائري

 

 

·  مرايا النقطة في الحرف

تتجلى "رؤيا الوجد" في أعمال الشعراء المعاصرين من خلال عدة مَيامين، تعكس تجاربهم الإنسانية، وتفاعلهم مع رؤية جمال الكون، بوصفه أحد مظاهر الجمال المطلق، وهو ما يعزز الشعور بالوحدة والاتحاد مع الكون الأعلى في وجوده المطلق، ويعزز لدى الشعراء ذوي النزعة الصوفية الشعور بالوحدة والاتحاد مع الأنوار. فهم يرون أنفسهم جزءًا من هذا الجمال الكلي، ويشعرون بالاندماج في سرِّ النظام الكوني السرمدي الذي يعكس الحكمة الإلهية، وتعد "رؤيا الوجد" تجربة روحية تتجاوز حدود الحواس المادية، وتُمكِّن القاصد من الحصول على المعرفة الروحية والباطنية، سواء من خلال الدراسة، أو عن طريق التأمل في معالم الحق، أو عبر التجارب الروحية الشخصية.

وإذا كان أديب كمال الدين لا يخرج عن قاعدة الأحوال والمجاهدات الداخلية؛ لتعزيز تجربته الباطنية- حتى لا يخالف قِيَاسَ سمو التجربة الروحية- فإنه ينظر إلى "رؤيا الوجد"؛ بما هي كشف عن الحقائق بالمشاهدة القلبية؛ في ضوء ما يدركه الشاعر من معانٍ عميقة للوجود، تتجاوز الفهم العقلي، سالكا مأخذ ابن عربي على العقل مأخذًا جديا حين يقول:[1] ومما يدلُّك على ضعف النظر العقلي من حيث فكرُه كونُ العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له. هذا حكم لا خفاء به. وما في علم التجلِّي إلا هذا، وهو أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له. فضلا عن أن التجربة الروحية مدعاة لتوجيه مسار رحلته الروحية، وإشارة إلى الطريق الذي يجب عليه اتباعه؛ فالرؤيا عند أيٍّ من ذوي النزعة الصوفية هي بمثابة وسيلة لكشف بعض الحقائق، التي قد تكون غائبة عن الإدراك العقلي العادي، أو التي يصعب الوصول إليها بالطرق التقليدية. وربما بفعل ذلك كان أديب كمال الدين يستشفُّ له السِّتر في "رؤيا الوجد" التي صارت تسكنه؛ لأنه ينظر بها إلى العالم، حيث تتجاوز الظواهر الخارجية؛ لتغوص في الأعماق النفسية والروحية، كما تُعدُّ– في نظره- وسيلة لاستكشاف المعاني العميقة للحياة، حيث يسعى من خلالها إلى فهم تجاربه الشخصية، وعواطفه، وقد تأتي كنوع من الإلهام، أو الرسالة الإشراقية التي تُضيئ جَنانَ وجدانه، وتنير سبيله في البحث عن الكمال، وصياغة علاقة الإنسان بالوجود. وتعتمد هذه الرؤيا على التجارب الفردية لدى الشاعر، حيث تنحت خصائصها من جماع التجربة الإنسانية، التي يعيشها الشاعر في عالمه الذاتي بمجموع الإدراكات، والتجارب، والتوقعات، والوعي والثقافي، والحالات والتحولات، بوصفها "معنى يَرِدُ على القلب من غير تعمُّد،[2] التي تمر به في نجواه، وتعكس كيفية رؤيته للعالم من حوله، وتعبيره عن تجربته الإنسانية، كما تُعنى بتطلع الشاعر إلى الطريقة التي يرى بها العالم، وتتجاوز الواقع المادي؛ لتشمل الأبعاد النفسية والروحية؛ لذلك تعدُّ "رؤيا الوجد" الشاعرية عنصرًا أساسيًا في إنتاج أديب كمال الدين، الذي يظهر فيها الذات وكأنها الجَلَبة التي يلجُّ بها الوَجْد إلى الخشوع، حين ترتبط شاعريته بالجمال الفني، والعمق العاطفي، والفَوْرة الروحية، والتمكُّن من إثارة المشاعر، أو التأمل؛ بالقدرة على التعبير عن الشعور بالاغتراب، والأفكار التي تعبر عن كينونته من الوجود بطريقة مؤثرة، تشبه حكمة الروح في تأثيرها وعمقها، على نحو ما نجده عند الشاعر أديب كمال الدين الذي يعبر برؤاه عن علامات رفض المادة، ونبذ الحياة بمجتمعها الدَّعيِّ، الذي أصبحت فيه المصلحة وثنية، من دون إنسانية.

  تتجاوز شاعرية أديب كمال الدين حدود مراسم الواقع، وما ينبغي مراعاته، إلى حالة الخلو من المعاناة، ليسفر عن علاقات جديدة بين الذات المتأملة، والجانب الروحي، بوصفه المَغنى الأكبر– بلا استثناء- من حيثيات الواقع المادي، وتبعًا لذلك تبدو على علامات "رؤيا الوجد" الشاعرية وكأن الشاعر يعيش عالمه، ولا يخص سواه، كونه يمنِّي نفسه بحياة أصيلة، يلفُّها رجاء؛ مطلبه في أن يكون السلوك مرتبطا بقواعد التآلف الإنساني الشامل، الذي من شأنه أن يرغِّب في الإنسان الالتئام بالحقيقة العليا. ولعل المتتبع لمدونة أديب كمال الدين الشعرية، وتحديدًا في المجلد السابع من أعماله الكاملة، يدرك عن الكشف في الحق، وعن كنه تحقيق الذات، وأحلامها، وآمالها، بعيدًا عن الإدراك المباشر للواقع الذي خانته ذاكرته:

ذاكرتي جرحٌ
وجرحي أيّام،
وأيّامي سقطتْ كأوراقِ الأشجار
فتلاقفتْها ريحٌ لا تتوقفُ عن الهذيان
[3].

وكأنّ أديب كمال الدين تُقَطِّبه تجربة مليئة بالألم والحزن، حين يستخدم فيها صورًا مؤثرة؛ لإيصال معاناته؛ في إشارة إلى أن ذكرياته ليست مجرد صور، أو أحداث من الماضي، بل هي جروح حقيقية تؤلمه، وتحمل في تضاعيفها ألمًا دائمًا، كما يجعل من جرح أيامه تجربة مريرة، وجارحة، في صورة "وأيّامي سقطتْ كأوراقِ الأشجار" بخاصة عندما يُشبّه أيامه بأوراق الشجر التي تسقط في الخريف. لعل هذه الصورة تبرز فكرة الفقدان والزوال؛ بالنظر إلى أن الأيام تسقط وتنتهي كما تسقط أوراق الشجر، مما يوحي بأن حياته شهدت العديد من الخسارات، وهو ما يعكس حالة من التيه والضياع في حياة الشاعر، وكأن واقع الحال يجسد حالة من الحزن العميق، والضياع بعدم الانتماء، أو التواري في رحلة المعرفة، وإلى مستويات أعلى من الوعي والفهم، والتصميم على السعي نحو الحقيقة، بعد أن كانت الذكريات الشاجنة، وجهامة الأيام، تجسيدًا للجرح والألم، وكل ما يمر به الشاعر يضيع في فوضى القدر، أو القوى الخارجة عن إرادته، كما جاء في قوله حين جَلَّى نجواه بالنقطة في صراعها مع النسيان:

حينَ تحوّلت النقطةُ إلى حرفٍ
عبرتْ بحراً.
أهو بحر العبثِ أم بحر الغثيان؟
أهو بحر الحربِ أم بحر الموت؟
أهو بحر اللهو
أم بحر النّسيان؟
[4]

 

 

 

 

 

تعد "النقطة" في شعر أديب كمال الدين أيقونة مركزية في شعره، يستكشف من خلالها موضوعات مثل الوجود، الروحانية، والحياة. كما يستخدم الشاعر النقطة كوسيلة لتجسيد أفكار فلسفية وروحية عميقة، مما يضفي طابعًا تأمليًا على أعماله، ويمنحها تميزًا فريدًا في الشعر العربي المعاصر. والنقطة ليست مجرد رمز لغوي، أو علامة كتابية، بل تحمل دلالات عميقة ومتعددة، تجمع بين البعد الروحي والفلسفي والأدبي، فهي تحمل دلالات قَصيِّة، حيث ترتبط بأفكار الوحدة، والبداية، والنهاية، و"الكل في الواحد". وقد استلهم هذا البعد الصوفي للنقطة، ليعبر عن التأمل، واستبصار المعاني الكونية في الوجود العلوي المدرك وغير المحسوس، بوصفه جزءًا من الواقع الكلي، الذي يتجاوز المستوى المادي للوجود. وفضلا عن ذلك، قد تكون النقطة – في شعره - رمزًا للحظة الكشف الروحي.

 ولكن، أنّى للنقطة/المركز ذلك في شعر أديب كمال الدين، إذا لم تكن تستند إلى إشعاعات الكلمة الروحية/المحور، كونها خطًّا مستقيما، يصل بين قطبي الحقيقة، وإلى الإسهام في استرجاع المعنى، المبثوث في تضاعيف المفاهيم الشاردة. لقد جاءت النقطة، هنا، لتكشف المضمر عن الوعي الشقي بالوجود، ولترفض الزمن في ارتباطه بفقدان القيمة، على النحو الذي صنّفه المتصوفة في ضوء المفردات التي استخدموها مثل الوتيرة/ الحال/ الآفاق/ الوجد/ المقام/ الوصل/ التجلي، وغيرها كثير، كما جاءت "رؤيا الوجد" لتمثيل روح الشاعر في الغياهب، ولتستولد معناه من مبناه، ولتحرره من أغلاله، وشدّة عطشه الذي يروي ظمأ الروح إلى الحق من لهيب السلب، والقمع[5]

والنقطة في شعر أديب، بالنظر إلى أنها وحدة صغيرة قد تبدو بسيطة، ولكنها في الوقت نفسه هي أساس للنظام والفوضى. يمكن أن تمثل النظام الكامل عندما تشكل جزءًا من النص، أو الفوضى المطلقة عندما تكون وحيدة في فراغ. وعندما يكتب أديب كمال الدين عن النقطة، فهو يستغل رمزًا بسيطًا في ظاهره؛ ليحمل علامات عميقة، ومعقدة، ترتبط بالوجود/ الزمن/ الروح/ والمعاني الفلسفية، التي تتجاوز حدود اللغة والتعبير التقليدي، وأيًّا ما كانت الحال فإن النقطة تصبح في شعره نافذة؛ نحو تأملات لا نهائية عن الحياة والكون من عالمه الإبداعي الكشف.

إذا كانتْ قصيدتُكَ عن الحرف

فتذكّرْ أنّ الحرفَ ملاذكَ الوحيد

في عالمِ التفاهةِ والأكاذيب،

وأنّ النقطةَ سرّكَ الأزليّ

الذي لا يفهمهُ أحدٌ سواك.[6]

تشكل قسوة الحياة " في عالمِ التفاهةِ والأكاذيب" أحد الموضوعات المحورية في حياة الشاعر، وأعماله، حيث عاش تجارب معقدة، وصعبة، نتيجة تلقيه الأَذى، والإِجْحاف، والإِساءَة والاستبْداد، والاستطالة، والحروب، والاضطرابات السياسية والاجتماعية في العراق، وقد عبر عن هذه المكابدة والقسوة من خلال استخدام الرموز مثل "النقطة" في شعره، التي تعكس لحظات التأمل والحزن، والانكسار في مواجهة تحديات الحياة.

 وإذا كان أديب كمال الدين قد رهن مصيره بالحرف في مساره الصوفي؛ فلأنه يرى فيه- مع النقطة- التربة الخصبة التي تنقدح منها رؤاه، ومدار أصل معرفته بالعلم، والعالم، والمعلوم، وبثنائية الحرف والنقطة يجتاز الشاعر مرتبة الوجود الأَضَلّ، بحثا عن الأفق المُظِل، خلف رمز الحرف، وإشارة النقطة في سفره معهما، وهو سفر غير متناهٍ، يجنح به إلى تحولات الذات داخل سياقها الروحي، الذي جاء بديلا عن سياق الواقع الأصلي المأزوم، والمصاب بقدره الميؤوس، والمسكون بالفقد. والشاعر إذ يميل إلى الحرف بطريق المشاهدة؛ فلأنه - أيضا - أراد أن يبيِّن ما نُفث في قلبه من صبر؛ لمواجهة المحن ببدائل العبارة التي تتيحها لغة الحروف، وحين يُبيح الشاعر عن سرِّه من خلال الحرف؛ فهو بذلك يربط علاقة امتلاك بينهما، وبينه وبين النقطة؛ وبذا تعتمد قدرة الشاعر على التعبير عن التجلي بالاستعارة المطلقة للحرف والنقطة، وأن الصورة الحقيقية - في نظرنا – لـ "رؤيا الوجد" عند الشاعر تكمن فيما وراء دلالة الحرف. وبحسب هذا المنظور "تستقيم البنية الدّلاليّة لعبارة "حرف" انعكاسا لبنية العالَم وتوضيبا له، وفق رؤية معرفيّة تحاكي تمثّلنا للأشياء، وما تقيمه من علاقات تترادف حينا وتتباين حينا آخر، ولعل هذا ما أشار إليه "مشيل فوكو Michel Foucault" في ترتيبه للعلاقات العِلّيّة القصديّة القائمة بين "الكلمات والأشياء" "فالبنية بحصرها للمرئيّ وبغربلتها له، تمكّنه من أن ينتقل إلى اللّغة ويترجم فيها. وبفضل البنية، تنتقل قابليّة رؤية الوجود بكامله إلى الخطاب الذي يأويها ويحتضنها. "على هذا النّحو يكفّ الحرف عن كونه مجرّد علامة "اعتباطيّة" في نظامنا اللّغويّ؛ ليصبح رمزًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني الاختزال والالتباس، أو هو شكل من أشكال "الإبراخيليا" (Brachylogie)، ينطبق عليه التعريف ذاته، فكلّ حرف من الحروف الأبجديّة من حيث حمولته الرّمزيّة هو "عبارة تعرف القصر في الخطاب والصّغر في الأحجام الخطابية."[7]

وتأسيسا على ذلك، يحمل كل حرف من الحروف الأبجدية في شعر أديب كمال الدين، دلالة رمزية عميقة، يولي فيها الشاعر اهتمامًا خاصًا لهذه الحروف، ويمنحها أبعادًا فلسفية وروحانية. وتتجلى هذه الدلالات الرمزية في عدة جوانب من شعره، كأن تكون نقطة الانطلاق، أو بداءة المتحرك النابض، من خلال مقاصد رسم النقطة، التي تتشكل منها الكلمات والمعاني؛ إذ يبدأ كل شيء من الحرف، وكأنه البذرة التي تنمو منها الحياة الفكرية والروحية. فالحرف عنده تجسيد للوجود والمعاني الخفية في الكون. وكل حرف يحمل في تضاعيفه سرًا يمكن أن يكشف عن جوانب عميقة للمعاناة من تجربة الحياة ومعاناة الإنسان، بوصفهما مصدرين للعناء والمقاساة، وهو الاستعطاء المحوري للفكر الفلسفي الوجودي؛ كمدخل لفهم المكابدة التي يعيشها المرء. وكأنّ الشاعر يلتقي– مجازا– مع الفلاسفة الوجودين، أو على الأقل وفقًا لفلسفة ألبير كامو Albert Camus، الذي نظر إلى الحياة على أنها عبثية، ولا تحمل معنىً ثابتًا، مما يؤدي إلى الشعور بالفراغ والمعاناة، وفي ضوء ذلك يلتقي أديب كمال الدين مع ألبير كامو من حيث إن الإنسان يواجه تحديات وجودية، تتعلق بالبحث عن معنى في عالم يبدو بلا معنى، على نحو ما جاء في قول الشاعر:

قالَ لي حرفي:

لا تتعبْ نَفْسَكَ بكلامٍ لا طائل منه.

واختصرْ قصيدةَ حُبِّكَ الكبرى

إلى حرفين فقط:

الكاف وسرّها الحاء

والنون وسرّها الباء،

بل اختصرْ كلَّ شيءٍ

وأرجعْهُ إلى النقطة.

نعم،

فمِن النقطةِ جئتُ

ومنها بُعثتُ

وإليها سأعود[8]

يجاهد الشاعر بمقاماته الروحية في البحث عن المعنى في غياب الوجود الإنساني الذي لم يعد له وجود، على رأي صلاح عبد الصبور:

الإنسان الإنسانُ عَبَرْ
من أعوام
ومضى لم يعرفهُ بشرْ
حَفرَ الحصباءَ ونامْ
وتغطى بالآلام
[9] 

في ظل هذا الواقع الموبوء– في نظر الشاعر-  يصبح من الضروري العمل على إعادة إحياء القيم الإنسانية، من خلال تعزيز التعاطف، والرحمة، والعدالة، والتضامن بين البشر، والتأكيد على أهمية الروحانية والأخلاق كوسيلة لتحقيق حياة أكثر إنسانية وعدالة، وكأننا بالشاعر يقول: عدم الاكتراث بمعاناة الآخرين، وتجاهل مبتغاهم، يُعزز من غياب الروح الإنسانية في المجتمع، وأن الابتعاد عن القيم، وتناسق البنية الروحية، يعمق حالة الاغتراب بين البشر، ويزيد من صعوبة التواصل الحقيقي بينهم، من خلال ما بات يمليه العالم المعقد، والمليء بالتفاصيل السَّافِلة؛ لذلك يدعو الشاعر إلى العودة إلى الأساسيات، حيث يمكن للمعاني أن تكون بسيطة في انبعاثها، ولكنها عميقة، كما في مقولة: [اختصرْ كلَّ شيءٍ/ وأرجعْهُ إلى النقطة]؛ حينئذ يمكن للإنسان أن يستكشف سعة الوجود والحياة، ويبرئهما من ظاهرة تفشي التشيُّؤ Reification، التي تعنى بانسلاخ القيم، وتَحوُّل الذات الشقية إلى الانفصام، والتدهور في العلاقات الإنسانية، حيث تفقد العلاقات الطابع الإنساني والعمق العاطفي؛ لتصبح معاملات سطحية، قائمة على المنفعة؛ بما يتضمن المصلحة الفردية والروحية، والاجتماعية، كما جاء في قوله:

لم تكنْ حياتي سوى أعجوبةٍ صغيرة

لم أستطعْ أنْ أقرأَ حرفَها

ولا أتماهى معَ نقطتها: سِرّها.

قيلَ لي: هي لَعِبٌ ولَهْو.

وقيلَ: مصادفاتٌ عمياء وعبثٌ أسْوَد.

وقيلَ: أكاذيب حقيقيّةٌ أو حقائق كاذبة![10]

          في هذا السياق، يصبح الناس كالسلع أو الأدوات، يتم تقييمهم واستخدامهم بناءً على قيمتهم الوظيفية، أو ما يمكنهم تقديمه من فائدة، أو " تحويل العلاقات ذاتها إلى سلعة ممتدة من دون نهاية عبر الزمن، يؤمن للعالم التجاري الإمساك بقدر أكبر فأكبر من الحياة اليومية رهينة حتى آخر لحظة منها"[11]. هذا التحول– في نظر الشاعر- يعكس نوعًا من الاغتراب الاجتماعي، حيث يشعر الأفراد بالانعزال عن بعضهم ببعض وعن ذواتهم، وتفقد الروابط الاجتماعية الدافئة معانيها الأصيلة من التضامن، والمحبة، والاحترام المتبادل، مما يؤدي إلى شعور متزايد بالوحدة؛ بما يشبه التحول الذي يعبّر عن أزمة روحية وثقافية في المجتمعات الحديثة، حيث تحل القيم المادية والاستهلاكية محل القيم الإنسانية العميقة، لذلك تناهى إلى وجدان الشاعر أن الوجود ما هو إلا حرف "لا تكون الكتابةُ إلا به، والخَلقُ كتابة، والكتابةُ غرسٌ، والغرسُ نفْسٌ، والنفسُ وجودٌ. وهكذا تبتدئ دائرة الوجود بالحرف وتنتهي به وإليه"[12]

تعكس فلسفة النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين عمق التجربة الشعرية، وتعبّر عن رؤية فلسفية تتعلق باللغة والوجود. فالنقطة بالنسبة إليه تمثل مركز العالم، حيث تُعدُّ رمزًا للوجود والجوهر في نزعته الصوفية؛ إذ تُعبر النقطة عن الوحدة واللامتناهي، وهي بداية كل شيء، في حين يُعدُّ الحرف حاملًا للمعنى والسرّ الكشفي، حيث الحقيقة متوارية وراء ألف حجاب، وأن كل حرف قي مدونته يحمل دلالات خاصة، ويعكس تجاربه وعواطفه، وعلى هذا النحو يُظهر الشاعر كيف يمكن للحروف والنقاط أن تكون أدوات للتعبير عن التجربة الإنسانية، من خلال اختصار المعاني والعودة إلى الجوهر، بخاصة حين يمكن أن تُختصر كل التعقيدات إلى نقطة في جوف الحرف:

وبعدَ أن تحوّلتُ في حفلٍ رسميٍّ صاخب

حضرتهُ كلُّ قصائدِ حُبّي وأنيني،

من حرفٍ للعشقِ إلى حرفٍ للنسيان

ومن نقطةِ شوقٍ إلى نقطةِ هذيان[13]

يشكل هذا المقطع الشعري عمق تجربة الشاعر، وتعقيداتها، ويعبر عن مشاعر الحب والفقد من خلال استخدام رموز الحروف والنقاط: [وبعدَ أن تحوّلتُ في حفلٍ رسميٍّ صاخب] وكأنه يصور مشهدًا لحفل رسمي، مما يوحي بالتعارض بين الضجيج الخارجي، وما يختزنه في داخله من مشاعر. هذا التحول يشير إلى الشعور بالعزلة وسط الزحام، وفي مثل هذه الحال يمكن أن يكون الحفل رمزًا للروتين الاجتماعي الذي يفتقر إلى العمق العاطفي، على الرغم من تظاهره بامتلاك الحقيقة، حين [حضرتهُ كلُّ قصائدِ حُبّي وأنيني] ما يشير إلى أن كل قصائد الحب والألم تتجمع في هذا الحفل، بالنظر إلى أن الحب ليس مجرد شعور، بل هو تجربة غنية ومعقدة، تحمل معها الألم والحنين، كما يصور هذا التحول: "من حرفٍ للعشقِ إلى حرفٍ للنسيان": الصراع الداخلي بين الرغبة في الاحتفاظ بالذكريات، والألم الناتج من الفقد. ولعل توظيف الحرف هنا يمثل الكلمات التي تعبر عن هذه المشاعر، عندما يتحول من التعبير عن الحب إلى التعبير عن النسيان، في حين يسير التحول في صورة النقطة: [ومن نقطةِ شوقٍ إلى نقطةِ هذيان] إلى الشوق الذي يمكن أن يتحول إلى هذيان، مما يعكس الاضطراب النفسي الناتج من الفقد، في إشارة إلى الكيفية التي تتسنى للمشاعر العميقة أن تؤدي إلى حالة من الفوضى العقلية، مع التركيز على التحولات النفسية، التي يمر بها الشاعر من خلال ما يستكشفه من تعقيدات وجودية، فلم يجد بدًّا من الانضواء تحت إطار ودِّ الموصول الحرفي، ورحمة النقطة؛ وتبعًا لذلك، يمكن أن تقدير النقطة على أنها الأساس الذي تُبنى عليه المفاهيم. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى النقطة على أنها بداية كل شيء؛ أي بما هي نقطة البداية لأي حدث في الكلمة المعنية. وعلى الرغم من أنها لا تستأثر بحجم حيز الصلاحية المقصودة، أو بكونها بُعدًا فيزيائيًا، فإن لها وجودًا دلاليًا، بسياقات رمزية؛ كأن تكون تعبيرًا عن البداية، أو الوحدة، أو الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، أو قد ترمز إلى لحظة معينة في الزمن، أو إلى الفكرة الخالصة التي لم تتشكل بعد في واقع محسوس.

وتأسيسًا على هذه الرؤية، يشير الشاعر إلى عملية التكوين التدريجي للمعنى أو الفكرة؛ إذ كل حرف يمثل جزءًا من الكل، وكل حرف يُضاف إلى الآخر ليشكل كلمة، هذه العملية تعكس بناء الأفكار ببطء، وثبات في وجدانه، وفي هذا السياق ألمح الشاعر إلى الوضوح أو التوقف، أو حتى إلى اللحظات الفاصلة بين الأحداث أو الأفكار فيما له صلة بين الحرف والنقطة. من خلال وضع النقاط واحدة تلو الأخرى؛ في إشارة إلى مراحل التفكير، أو التأمل، التي يتبعها، أو إلى تراكم التجارب والمشاعر، حين [تتشكّلُ من جديد] بما يدعو إلى عملية التجدُّد أو التحوُّل. بعد أن تتجمع الحروف والنقاط، كأن يحدث نوع من إعادة التشكيل أو التحول إلى شيء جديد، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى كيفية تشكل الأفكار، أو الشخصيات، أو حتى الواقع من خلال عملية مستمرة من البناء والتفكيك وإعادة البناء، في مثل قوله:

مثل يتيمٍ يُعطى ثياب العيدِ ليلاً

ثُمَّ تُسرقُ منهُ في مطلعِ الفجر.

هكذا كانَ حُبُّكِ!

فما الذي ستفعلهُ القصيدةُ هنا؟

ستشكو وتبكي وتصيح

وتهذي وتصرخُ، تصرخُ، تصرخ

إلى أن تتساقطَ حروفُها

حرفاً إثْرَ حرف

حرفاً إثْرَ حرف

ونقطةً إثْرَ نقطة،

ثُمَّ تتشكّلُ من جديد

حرفاً إثْرَ حرف

ونقطةً إثْرَ نقطة[14]

يعود الشاعر مرة أخرى إلى فكرة بناء الأفكار، أو المواقف، بشكل تدريجي، مع التئام الحروف معًا؛ لتكوين كلمات ودلالات، بتعيُّن نقاطها.

"ونقطةً إثْرَ نقطة":

وفي المجمل، يُومِئ الشاعر إلى أن استمرارية هذه العملية؛ والنقاط التي تُضاف واحدة تلو الأخرى، تمثل استمرار التأمل أو التجربة، وتشير إلى أن عملية التكوين، وإعادة التكوين، لا تنتهي، بل هي مستمرة ودائمة. ولكن، أنّى للنطقة/المركز ذلك، إذا لم تكن تستند إلى إشعاعات الكلمة/المحور، بوصفها خطًّا مستقيمًا، لا يصل بين قطبي الحقيقة، فحسب، بل يحرز غاية استرجاع المعنى، وإعادة تكوينه، تمامًا كما أن الحياة نفسها عملية مستمرة من النمو والتغيير. وفضلا عن ذلك، يمكن أن تكون هذه العبارات- أيضًا- تعبيرًا عن البحث الروحي، أو التأمل العميق الذي يتطلب إعادة التفكير والتشكيل المستمرين، سواء أكان ذلك في الأفكار، أم في الذات الصادقة لتحقيق المصلحة.

تعكس فلسفة النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين تساؤلات حول الوجود والمعنى، وكيف يمكن للكلمات أن تعبر عن تجارب الحياة، بالإضافة إلى وجود المعنى في التفاصيل الصغيرة، المبثوثة في تضاعيف المفاهيم الشاردة. ما يعني أن النقطة، في شعر أديب كمال الدين، تأتي لتكشف المضمر عن الوعي الشقي بالوجود، ولترفض الزمن في ارتباطه بفقدان القيمة، على النحو الذي صنّفه ابن خلدون في ضوء المفردات التي استخدمها مثل (الوتيرة)، و(الحال)، و(الآفاق)[15]، كما جاءت "رؤيا الوجد" لتمثيل روح الشاعر في الغياهب، ولتستولد معناه من مبناه، ولتحرره من أغلاله، وشدّة عطشه الذي يروي ظمأ الروح إلى الحق[16]

التجلي مع نور الحق

          يُشير التجلي في شعر أديب كمال الدين إلى ظهور مقامات الحق، للوصول إلى حالة الاتحاد مع الوجود المطلق، الذي يشمل كل شيء، حيث يُعبر عن الجوهر الإلهي الذي يتجلى في كل مظاهر الحياة، بما يسمى بمقامات الحق بمستويات متتابعة من التطور الروحي؛ وفي هذه الحال، يسعى الشاعر إلى  تحقيق صفاء القلب والنفس، والتقرب إلى الحقائق التي لا تقبل الشك، أو الالتباس، عبر سلسلة من المجاهدات والأحوال الروحية، بوصفها جزءًا مركزيًا في تجربته الروحية، حيث تظهر معالم التجلي في السفر الروحي، والبحث عن المعرفة التي يشعر فيها الشاعر بقربه من كمال الذات التي يحاصرها الدَّويّ، والضَّجَّة، والاسوداد؛ بمراتب أعلى من الوعي؛ مما يساعده في رؤية الحقائق المتوارية التي من شأنها أن تضيء القلوب، شأن المتصوف الذي يَخْلد إلى حالة من السكون الداخلي والسلام؛ وللوصول إلى هذه الحالة من التجلي، يتطلب الأمر؛ مجاهدة النفس من خلال التأمل؛ لتجسيد القيم الروحية في حياة الشاعر اليومية؛ مما يُعزز من أخلاقه، وعلاقته بالآخرين.

يمثل التجلي في شعر أديب كمال الدين مفهومًا عميقًا، يرتبط بالروحانية والتأمل الداخلي، أو بأنه ظهور للحقائق المخفية، وراء ألف حجاب، أو الأبعاد الروحية للوجود من خلال التبصُّر في تصويره للبحث عن الذات والمعرفة الإلهية، عندما يعمل بموجب الرموز الصوفية، والحروف التي يستخدمها. وربما بفعل ذلك، يرتبط نور التجلي في شعر أديب كمال الدين بالمعرفة الروحية، والوصول إلى ما يكون شاهدا ودليلا على الحقيقة المتغيِّبة من خلال الضياء؛ كرمز للتجلي، الذي يضيء القلب والعقل، ويكشف عن الحقائق الباطنية التي– غالبا ما- تكون مخفية، فتفيض على قلب الشاعر؛ كما في قصيدته "وجع":

قالَ لي حرفي:

هل أوجعَكَ الحُبّ؟

قلتُ: بل أحرقَني وذرَّ رمادي

في أعماقِ جسدي

حتّى صارتْ كلُّ خليّةٍ في جسدي

قصيدةً تنتظرُ النورَ لتشرق،[17]

في هذا المقطع، يتحدث الشاعر عن "النور المتجلي" الذي يضيء حرفًا نازفًا بالحب، بوصفه رمزًا لقوة الانجلاء، التي تومض الوجود، وتمنحه معنى، حتى في بحر الصمت اللامتناهي. وكأن انتظار النور هو السبيل لإضاءة القلب؛ كي يدلَّه على الطريق الصحيح. هذا النور يمثل تجليًا للحقيقة الإلهية، التي تهدي الشاعر في رحلته الروحية، وترشده.

فحين يتجلّى البريق، والسَّنا، في الحرف، يكون هناك ارتباط بالكون والوجود؛ أي الانكشاف الذي يرتبط بفكرة الاتحاد مع الكون، بما يعكس استخدام الشاعر للضياء كرمز للانْبِلاج الروحي، حيث يُصور النور كقوة تمنح البصيرة والمعرفة فقْهَ الحقيقة، وتفتح أمام الشاعر أبواب النجاة والبراءة. ويعكس النور المتجلي في الحروف بحث الشاعر عن معنى الوجدان العميق، والمُهْجة وراء الكلمات والرموز، وهو ما يجعله يصل إلى حالات من الصفاء، والانجلاء الوجداني، بعد مسيرة كَأْداء.

يجلسُ الماضي أمامي طوالَ الليل.

...

فليسَ من المعقول

أن يلازمني ملازمةَ الحرفِ للنقطة

والروح للجسد.

لكنّهُ لا يردُّ عليَّ أبداً[18]

 يُظهر هذا المقطع كيف أن أديب كمال الدين يستخدم الحرف في ملازمته سلوة الماضي، ويأسه كوسيلة للوصول إلى تجلي التصديق بالجَنان. والتجلي هنا هو اللحظة التي تدرك فيها الذات الحقيقة العميقة للوجود، من خلال التجربة الشخصية في سموها النفسي، حينها يمتزج الجمال الفني بالمعنى الروحي، لتحقيق تجربة تتجاوز الحدود المادية. كما يعكس المقطع الشعري– أيضا– استنكاره تجربة الماضي العصيبة، ومُقايضتها بنور التجلي، بوصفه حالة من الصفاء والوضوح، التي يصل إليها الشاعر بعد رحلة من التأمل، والبحث، بإعادة صياغة الحروف والنقطة، بشكل يعكس تجربته المُقدسة، والفكرية العميقة، ببعدها الإنساني، وغناها المعرفي، على هَدْي المتصوفة، وطريقتهم.

ويعدُّ توظيف الحروف في شعر أديب كمال الدين- بما لها من وشيجة بالتجلي- أداة فعالة للتعبير عن خبرته الإنسانية العميقة، مما يُعزز المعاني والدلالات، التي تستبطن قواعد السنن، وقوانينها بالحدس والفراسة، وعلاقتهما بالممكن توقُّعُه، بعد الحرمان الذي ابتلاه من المحن، وحين يكون الوجود غير قابل للتعايش، يعمُّ الاشتطاط على الحق بالحرمان، وبدوره يكون مدعاة للتغرُّب والانفصال عن الحياة بالإكراه، والاغتراب عن الخليقة للوصول إلى الحقيقة، وهو ما يطلق عليه في المصطلحات الصوفية بـ "اغتراب الهمَّة" في موصولها إلى استبدال الحق بالخلق، وهي غربة العارف بوجود الموجود في الوجود، المشفوع بعدم الممكن، حيث يبدو العالم مكتسحا وعي الذات، وفي ذلك استحالة، مادام الوعي المحض قادرًا على تخطّي كأس الندم[19].

قالَ لي حرفي:

كتبتَ الكثيرَ من القصائدِ ذات المعاني العميقة

وقرأتَها لعَالَمٍ عَبَثيّ

من الألِفِ إلى الياء.

ألم يحن الوقت

لتكتبَ من الألِفِ إلى الياء

قصائدَ ذات طلاسم

لا يفقهها إلّا المُطلسِّمون،

ولا يُحبّها إلّا الذين تعبوا

من فراغِ العَالَم

من أيّ معنى كان؟[20]

يعبر الشاعر هنا عن عملية الإبداع، أو التفكير، كرحلة من البناء المستمر؛ إذ الحروف والنقاط تمثل اللبنات الأساسية لهذه العملية، سواء ما كان منها ظاهرًا أو مضمرًا؛ للبحث عن الوجه الآخر للوجود الأجَلّ؛ لمعرفة انكشاف الحقيقة، بوصفها جوهر الوجود، في مقابل ملاحقة المضمرات الخفية، كونها تشكيلا جوهريا لحقيقة مثالية خفية، على نحو ما علَّلَ له ابن عربي، وأثبته بالتأكيد على الانطلاق من الظاهر إلى الباطن في قوله: "إن النفوس مجبولة على حب إدراك المغيّبات، واستخراج الكنوز، وحل الرموز، وفتح المغاليق، والبحث عن خفايا الأمور، ودقائق الحكم، ولا ترفع بالظاهر رأسًا، فإن ذلك عندها في زعمها أبْين من فلق الصبح"[21]؛ ما يعني أن الأفكار، أو النصوص، ليست ثابتة بل هي في حالة دائمة من التكوين وإعادة التكوين، تمامًا كما أن الحياة نفسها عملية مستمرة من النمو والتغيير، والاستعاضة، والمبادلة، ويمكن أن تكون هذه العبارات أيضًا تعبيرًا عن البحث الروحي، أو التأمل العميق، فيما وصل إليه واقع الحال من تَشيُّؤ، وشعور بالحيرة والقلق، وهو ما جعل الشاعر يبحث عن الحقيقة البديلة، التي تقوم على رسم معاني الحروف في دلالاتها الصوفية؛ على وَفْق الإمكانات المتاحة، التي تحصِّنها المقاومة في رفضها الجرح النازف، ومن هنا أصبح الشاعر معنيًا بالكشف عن مدى تمام طلب الحقيقة، والترفق بالتضرع إلى الحق[22]، ولعل هذا ما عبر عنه باستيائه المكلوم في قصيدة [صقر]

خفتُ من حُبّكِ حينَ حَطَّ على قلبي

صقراً مُدهشاً.

خفتُ من نظراتهِ الحادّةِ المُضيئة

بما لا يُقال،

ومن مخالبهِ التي جرحتني

جُروحاً طوال.

فأبعدتُهُ سريعاً سريعاً.

كنتُ أحلمُ بحُبٍّ

على شكلِ بلبلٍ أو حمامة.

وإذ مرّتِ السنين

تركضُ ليلَ نهار،

ولم أرَ في غابةِ عمري

بلبلاً أو حمامة،

تمنّيتُ أن يعودَ صقرُكِ لي

رغمَ أنّ آثارَ جروحه لم تزلْ ظاهرة

فوقَ روحي وقلبي.[23]

يبدو أن دلالات توظيف الصقر في هذه القصيدة جاءت– أيضًا- للموازنة بين ما هو واقع في جوارح الصقريات، وما هو متخيل في العلاقة بالنفوذ والمجد، أو بين الأرضي والسماوي، وبين الأفقي والعمودي، أو كما هو الشأن بيْن التعالي والعمق، وكأننا بالشاعر في هذه القصيدة، يصف الحب كصقر يحط على قلبه؛ في إشارة إلى القوة والسمو، لكنه أيضًا يحمل معاني البصيرة الحادة والشجاعة، عندما يعبر الشاعر عن خوفه من الحب، فهو يشير إلى قوة هذا الحب الذي يشبه الصقر في قدرته على الهيمنة والسيطرة، مما قد يكون مُدهشًا، أو مُربكًا للشاعر، وهي تجربة روحية مَهيبة، وقد تكون مرعبة في شدَّتها وجلالها، وهذا يتطلب قوة وشجاعة - شأنه في ذلك شأن المتصوف - تمامًا كما يخشى الشاعر من قوة الحب الذي يجتاح قلبه.

أما صورة [خفتُ من نظراتهِ الحادّةِ المُضيئة/ بما لا يُقال]، فهي صورة تشير إلى البصيرة العميقة، والرؤية الثاقبة التي تتجاوز الكلمات. وفي سياق "رؤيا الوجد"، يمكن أن ترمز هذه البصيرة إلى الفهم العميق للحقائق النورانية، الفائضة على الإمكان، التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وإنما تُدرك بالقلب والروح، بمال لها من جِلوة لامعة بالانكشاف والإضاءة، حيث يتم فيها إزالة الحجب عن القلب، وقد يكون الشاعر مُرتاعًا من هذه النظرات؛ لأنها تكشف له عن أبعاد جديدة ومخيفة من الحب، أبعاد لا يمكن التعبير عنها، لكنها تُشعره بحقائق قد تكون مروِّعة في عمقها، بخاصة حين يُوعِب ألم المخالب الجارحة كيانه، "ومن مخالبهِ التي جرحتني جُروحًا طوال": وهي دلالة تشير إلى المعاناة التي تصاحب هذا الحب. بالإضافة إلى أن الجروح الطويلة تشير إلى التأثير العميق والمستمر للحب على الشاعر، وكأننا به حين يصف الطريق سبيل الحق، فإنه غالبا ما يكون مصحوبا بالمعاناة والمحن. يستعير الشاعر في هذه الصورة من "رؤيا الوجد" بما تتضمنه معاني المكابدة لتجربة الحب كشيء يفوق الوصف، وهي تجربة تجمع بين الجمال والرهبة، بين النور والجروح. مثلما يسعى المتصوف للوصول إلى الحقيقة المطلقة من خلال الألم والمعاناة؛ لذا كان توظيف الصقر بأبعاده الدلالية؛ بمثابة تعبير عن حب عميق، يأخذه إلى أبعاد جديدة ومخيفة في آن واحد، تاركًا له جروحًا تومئ إلى عمق هذه التجربة، حيث يصبح الحب بمنزلة رحلة كشفية تتطلب شجاعة كبيرة، وقبولًا للألم والمخاطر. وتبدو لغة الشاعر- في هذا المقام- خرقا لتركيبة الصورة في نسيجها الجليِّ، يحدوها عالم منجرف تحت وطأة المحاذير الجارحة، ولكن بقدرٍ كبير من التمعن، نجد في ترابط السياق اللغوي ما يشفع للشاعر بالكتابة على هذا النمط المجازي؛ لتقريب صورة انفكاك الترابط بين الذات ومحيطها، لذلك جاءت لغته بيِّنة التفصيل من حيث التركيب، وفي الوقت ذاته تبدو– لدى بعض الباحثين- مغرقة في الغموض الدلالي، وهو يعطيها صبغة الانفتاح على أكثر التمحيص. ولعل مرد ذلك إلى عدم التقيد بمعايير لغة الشعر المألوفة، بالنظر إلى ميل نسق الكتابة عند أديب كمال الدين إلى التلقائية الإبداعية، التي استطاعت أن تمكِّنه من خلق مساحات واسعة من الاحتمالات، والارتقاء بها إلى ما فوق الواقع Hyperspace، لذلك بدأت قصائد الشاعر في تركيباتها غير مألوفة، كونها تستند إلى رموز، قد تبدو مُخالة على المتلقي غير المتمرِّس بالخبرة الروحانية، دون أن تعيق القارئ الضمني Implied Reader المُتفرِّس في الوصول إلى المعنى المراد، واستخراج ما فيه من صور تعبر عن عالم اللامعقول، الذي عرفه مارينتي Marinetti, Zang بوصفه "تضمينا للقياس المستقبلي، بأنه في عالم اللامعقول، ليس من شيء لا معقول، بحيث ليس له معنى، وبذلك تتناغم الصور المجازية الجنونية، تناغما تاما مع الاتجاهات الحديثة المُعَقلنة بصورة متعددة لربط المتنافرات[24].

وإذا كانت المكابدة، كحقيقة وجودية بطبيعتها، تتضمن معاناة وصراعات مؤلمة، سواء أكانت جسدية أم نفسية؛ فإنها تُعدُّ جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وقد استثمرها الشاعر في البحث عن معنى، أو بُغية، للتخفيف من هذه المعاناة، ومن الصراع الوجودي؛ على أنه أحد المحاور الأساسية في شعر أديب كمال الدين، لذلك نجده يعبر في قصائده عن البحث عن هداية في عالم مليء بالفوضى والعُسر، وبالتبرُّم والشَّجَن. هذا البحث يقوده إلى التساؤل عن الهوية، والوجود، وهو ما ينعكس في استخدامه للأبجدية والحروف كرموز لمعاني البحث عن تكامله، وقيمه، وأفكاره في مختلف المواقف، بخاصة منها الروحية، كمحاولة لتحقيق الكمال، زيادة على الانتماءات الاجتماعية والثقافية.

وفي ضوء ذلك، يُعدُّ البحث عن الهوية– بتفريعاتها- في مسيرة أديب كمال الدين عبارة عن رحلة مستمرة من الفناء في ذات "رؤيا الوجد" إلى البقاء في حالة من الوحدة مع صفات الحق؛ إذ الهوية عنده لا تُعرَّف بالأسماء أو الانتماءات، بل بتجربة الذات في الوصول إلى الحقيقة، والتوحيد. إنها هوية تتسم بالتحول المستمر نحو الكمال الروحي، والاتحاد مع ذات الحق، كما في قوله:

احتمِ بشمسِكَ أنتَ

.....

حتّى لا تُغلِّفْ قصائدكَ بغيرِ الحقيقة

اكتبْ قصائدكَ عارياً كالبحر،

عارياً تماماً كالبحر[25]

          لعل دعوة الشاعر إلى الإيواء بالشمس، والاستجارة بها، هي دعوة روحية تشير إلى مفهوم يُعبّر عن الذات الداخلية العميقة للفرد في طلبها الوقاية، التي ترتبط بالقيم والمعتقدات، وهو ما من شأنه أن يؤثر على طريقة تفكير الإنسان وشعوره وتصرفه. وفي ذلك علامة تشير إلى أن الإنسان حر في اختيار كيفية التعامل مع معاناته. هذه الحرية قد تؤدي إلى الشعور بالمسؤولية، مما يضيف بُعدًا آخر للمعاناة؛ في مقابل البحث عن السعادة، وتحقيق الأهداف الشخصية من كافة الطرق، التي يمكن أن تساعد مصير الإنسان في التغلب على كل ما هو مقوِّض للاستقرار، بالنظر إلى أن الحياة والوجود، هما معًا، مصدران للكدِّ والتوجُّع، ويمثلان موضوعًا مُعسِرًا ومعقدًا سواء من خلال البحث عن السعادة، أو التأمل في طبيعة الوجود. والكدّ في نظر أديب كمال الدين ليس مجرد عمل جسدي أو مادي، بل هو أيضاً كدّ داخلي ونفسي، طالما يتعين عليه أن يناضل ضد الأهواء الداخلية، ويصقل نفسه عبر الصبر والإصرار على الطاعات؛ بما تمليه صفات الحقيقة المطلقة، والوجود الثابت الذي لا يتغيَّر، وهي الحالة التي تعكس طبيعة الحق الأسمى، الذي يجمع بين الرحمة والعدل، والحب والإرادة، والقرب والبعد، وتجلياتها في هذه الصفات.

يمثل الحق الأسمى في شعر أديب كمال الدين مفهومًا فلسفيًا وروحيًا معقدًا، يتعلق بالحقيقة المطلقة، والغاية النهائية، التي يسعى الإنسان للوصول إليها، ويتجلى هذا المفهوم في أعماله، كرحلة بحث عن المعرفة العميقة، والتواصل مع الجوهر المطلق، الذي يتجاوز الواقع المادي، أو ما يسمى بالرغبة في تحقيق الوصول إلى التوحيد مع الحقيقة، أو المعرفة اليقينية، حتى يصبح قلبه متجليًا بالأنوار، التي من شأنها أن تحقق له الغاية النهائية في وجوده

بهذا الأسلوب، يشكل أديب كمال الدين مثالًا على كيف يمكن للشاعر أن يُحوِّل قسوة الحياة إلى مصدر إلهام وتأمل، بدلاً من أن تكون مجرد عائق في مسيرة الإبداع، بخاصة في توظيفه النقطة بوصفها بداية ونهاية كل شيء، وهو ما عبر عنه في قصيدة: [صيحة من خلف الباب]

 

بعدَ انتظار أربعين عاماً

فتحَ الحرفُ مُبتسماً بابه

فانحنيتُ أمامهُ باحترامٍ شديد

وقلتُ لهُ في هدوءٍ مُقدّس:

ما معنى الحياة؟

وقبلَ أن ينطقَ الحرفُ ببنتِ شَفَة،

خرجتْ لي نقطةُ الحرف

وأغلقت الباب

ثُمَّ صاحتْ:

يا هذا إنّهُ لنْ يجيب![26]

لعل النقطة – كما أشرنا إليها سابقا - تمثل بداية ونهاية كل شيء. هي بداية الجملة ونهايتها، وبداية الحروف ونهايتها، ومن خلال هذا الرمز، قد يعبر الشاعر عن مفهوم الزمن، والدائرة اللامتناهية للحياة والموت، حيث يبدأ كل شيء بنقطة، وينتهي بنقطة، في أبسط الصور، وإلى العدم الذي يسبق، ويلي، الوجود. ومن خلال التركيز على النقطة، قد يكون المراد التعبير عن الفكرة الفلسفية للوجود كشيء هشٍّ، وخائر، حين يكون مرتبطًا بلحظة واحدة من الزمن، يمكن أن تكون نقطة في بحر العدم. والحال هذه أن محاولة ربط النقطة، والحروف، بنزعة الشاعر الصوفية، يعدُّ ربطًا مكنونًا بالنزعة الصوفية، لمعرفة الأسرار الروحية والمعرفة الباطنية التي تتأتى بالإلهام والتجليات بالإدراك العميق للوجود الذي يتجاوز الفهم السطحي والمعرفة الظاهرية، ويعد ذلك من المضامين التي استقر عليها معظم المتصوفة الذين نظروا إلى الوجود بوصفه متَأَملاً في نقطة البداية، كما هو الشأن عند الحلّاج الذي أعطى للحروف رمزا، و"طاسين النقطة" مكانة تشير إلى أصل كل خط يربط الإنسان بتجلي الحق، كونها محور "وصل العاشق بمعشوقه" وغير قابلة للتجزئة؛ لذلك أصبحت النقطة في نظر المتصوفة مركز الوجود وأصل دائرته، والتي تعكس صورة الاتحاد والتمام والكمال، وبيان ذلك أن الوجود بعينه نابع من جوهر نقطة التوحد في ذاته جلّ شأنه.[27] وفي مثل هذا المقام تتطابق روح "رؤيا الوجد" مع ما يستذكره الشاعر من تعب على مداره الذي يدور به في حياته، بقوله:

...
تعبتُ حَدّ الإعياء
من مُطاردةِ حياتي
وإطلاقِ النّارِ
ليلَ نهار
على أيامي.
*
يا للهذيان
صرتُ أشربُ كأسَه
كلّ ليلة
فَأُصابُ بأرقِ المحكومِ عليهِ بالإعدام.
[28]

يبدو أن أديب كمال الدين يمتلك قدرة فريدة على التعبير عن مفاهيم معقدة، مثل فوضى القدر، أو القوى الخارجة عن إرادة الإنسان من خلال استخدامه للأدوات الشعرية مثل الصور، والاستعارات، والرموز، والأصوات، بلغة موحية، ومجزأة؛ للتعبير عن الحرقة والشجن، مما يعكس عدم اليقين، أو يراعي الالتباس الذي يشعر به في حياته، أو بما استخدمه من تضاربات بين صور "رؤيا الوجد"، أو المعاني التي تقوم على رسم معاني الحروف في دلالاتها الصوفية؛ لإبراز الصراع بين إرادة الذات الظمأى لمعانقة الكلي، ومواجهة الصراع بالخلاص.

 

[1]  ينظر، محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا تاريخ، ص 133.

[2]  ينظر، عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، مكتبة صبيح، القاهرة، بلا تاريخ، ص 54.

[3]  أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، منشورات ضفاف، بيروت، 2024، ص 132.

[4] المصدر نفسه، ص 132.

[5] ينظر، عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، منشورات ضفاف، بيروت، 2016، ص 50

[6]  أديب كمال الدين، المجلد السابع، ص 54.

[7]  ينظر، عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 117، وما بعدها. وينظر أيضا، ينظر، حياة الخياري: الحَرْف شكل من أشكال التّعبير الرّمزيّ ـ مقاربة إنشائية ـ الرابط،  https://2u.pw/SkqkrYGq

[8]  المجلد السابع، ص 138.

[9]  صلاح عبد الصبور، قصيدة مذكرات الصوفي بشر الحافي، الديوان، دار العودة، بيروت، 1972، ص 269

[10]  أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، ص 102.

[11]  جيرمي ريفكين، عصر الوصول، ترجمة، صباح صديق الدملوجي، المنظمة العربية للترجمة، 2009   ص194

[12]  أحمد بلحاج آية وارهام: أبجدية الوجود. دراسة في مراتب الحروف ومراتب الوجود عند ابن عربي، منشورات أفروديت ط أولى، المغرب، 2013 (مقدمة الكتاب)

[13]  أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، ص 61

[14]  المصدر نفسه، ص 78

[15]    ينظر، نورة شاهين، الزمن الاجتماعي والزمن الإعلامي قراءة معرفية في الرواسب الثقافية، مجلة الرافدين، الرابط https://2u.pw/TXnmmhT5

[16]  ينظر، عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف، ص 50

[17] المجلد السابع، ص 35

[18]  المصدر نفسه، ص 149

[19]  ينظر، عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 114، 115.

[20] أديب كمال الدين، الأعمال الكاملة، المجلد السابع، ص 154

[21] ابن عربي، الفتوحات المكية، تقديم، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت 1999، ص 224

[22]  ينظر، عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 132

[23]  المجلد السابع، ص 71

[24]  ينظر، جاكوب كروك: اللغة في الأدب الحديث، ص 232.، وينظر أيضا، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 96

[25] المجلد السابع، ص 120

[26] المجلد السابع، ص 131.

[27]  ينظر، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 66.

[28]  المجلد السابع، ص 133.

  

 

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

نُشرت في مجلة الليبي- العدد 69 سبتمبر - أيلول 2024 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة