قراءةٌ في (إشارات الألف) للشّاعر أديب كمال الدّين
د. أسماء غريب
|
||
(1)
إشارةُ النّقْحَرة
وإذْ أمْسِكُ ديوانَ (إشارات الألف) (1) بين يديّ وأقلّبهُ
لمرّات ومرّاتٍ، أجدُنِي أمام شيءٍ يُقْلِقُ ذائقتِي
المعرفيّة: هذه الترجمةُ الإنجليزية للعنوان! فهلْ حرفُ (A)
هُو المقابلُ الحقيقيّ للألفِ العربيّ في اللّغات الأجنبيّة؟
وهَلِ "الإشارةُ" هي العلامةُ (Sign)؟
إنهما معاً سؤالان لهُما ما يُشَرّعُهما لدى علماء اللّغة،
مادامَ الكثيرُ منهم سيجدُ في ترجمةِ كلا المُصطلحيْنِ ما
يبرّرُهَا لغويّاً، باعتبار أنّ معظمَ القواميس قد اعتمدتْهَا
في أكثرِ منْ مجالٍ ومناسبة، وارتأتْ حقّاً أنّ (A)
هو مرادف "الألف" في اللّغات اللاتينية، وأنّ (sign)
هو المقابلُ الانجليزيّ لمُصطلح "الإشارة". لكنَّ الأمرَ لنْ
يكونَ كذلكَ أبداً عند أهلِ الحرفِ العرفانيّ! فالألفُ ليس هو
(A)،
لأنّ حمولتَهُ العرفانيّة ليست لها أيّة علاقة لا بالمعنى
اللّغوي ولا حتّى الصّوفيّ لحرف (A)
في اللّغات الأجنبية. وكلُّنا؛ أهلَ الحرفِ، نعلمُ جيّداً كيفَ
عرّفَ المتصوفةُ الألفَ، وكثيرٌ منهُمْ رأى فيه أنّه حرفٌ سارٍ
بنفسهِ في جميع حروف الأبجديّة العربية، وما سُمّيَ كذلكَ إلّا
لأنّهُ يألفُ الحروفَ ويحتضنُها كلّها، لا سيما وأنه الأكثر
ولوجاً فيها لحظة نُطقِ كلِّ واحدٍ منها على حدة.
وهناك مِنهُم منْ يرى أيضاً أنّ في الألفِ إشارة إلى الله الذي
يُؤلِّفُ بينَ الأشياء وينفردُ عنهَا في الوقت ذاته من خلال
اكتساب الفضيلة ومحوِ الرذيلة. وكيفَ لا يكونُ كذلك وهو سلطان
الحقّ الذي نزّلهُ جلّت قدرتُهُ من الابتداء إلى الانتهاء
مصداقاً لقوله: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ، ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ هَادٍ)) (2)، وهو أيضاً قبل هذا وذاك؛ حرفُ العشق الذي
بموجبه قال عزّ شأنهُ: ((لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (3)
والألفُ قطبُ الحروف وأصلُ الأسماء كلّها، وفيه سرّ الأسرار
وجوهر العِلم اللّدنيّ، وبه تجلّتِ النّقطةُ. وهو قائم معتدلٌ
بقيّومية الله، وصامتٌ بصمديته، ومنفردٌ بفردانيّته ووحدانيته،
ومتصلٌ لاتصال الحروفِ به وافتقارها إليهِ. وهو في عالم الحروف
خليفةُ الله، كما الإنسانُ في عوالم الأرضِ. وإذ أقولُ هذا
فإنّي أحاولُ أنْ أصلَ إلى السّببِ الذي جعل أديب كمال الدّين
يعتمدُ حرفَ (A)،
كمقابل للألف دون أنْ يلجأ إلى تقنية النّقحرة لينقلَهُ كما هو
(نقلاً لا ترجمةً) عبر كتابتهِ بهذه الطريقة (Alif)،
لا سيما وأنني أعلمُ أنّ هذا الشّاعرَ الحروفيّ هُو أدرى
النّاس بالمعاني الحروفيّة العرفانيّة للألف. فهل يا ترى
يحاولُ أديب كمال الدّين أنْ يُؤسّسَ لنفسه طريقةً خاصّة
وجديدة في التعامل مع الحرف تجعله قريباً من المتلقّي عبر
أنسنتهِ وإزاحة تلك القُدسية الثيولوجية التي كانت ولم تزل
تحيطُ بهِ وتجعلهُ بالتّالي متعالياً عن النّاس بشكلٍ يظلّ
معهُ مجهولاً ومُغيّباً عن واقعهم اليوميّ؟ وهل هذا يعني أنّهُ
جعلَ منَ الألف حرفاً مرادفاً للإنسان ذاته؟ إذا كانَ الأمرُ
كذلكَ فإن هذا يفيدُ أنَّ النّقلَ اللّغوي الذي اختارهُ
كمقابلٍ له في اللغة الإنجليزية صائبٌ ولا غبار عليه، لأنّه قد
يعني أنّ هذا الألفَ لن يكون سوى الشّاعرِ نفسه، وعليه تصبحُ
إشاراتُهُ هي إشارات أديب كمال الدين ولا أحد غيره، فيكون بذلك
قد وظّفَ الحرفَ ليتحدّثَ عن تجربته الحياتيّة والعرفانيّة
مستخدماً في الوقت ذاته ثقافتهُ الصوفيّة والقرآنية مع الحرص
على النّهل من تراث الآباء والأجداد في أرضٍ هي منبع الحرف، من
أور إلى البصرة، ومن بغداد إلى الحلّة وبابل.
(2) العلامة والإشارة
لماذا ترجمَ أديب كمال الدّين الإشارة بالعلامة؟ وهل ثمّة
علاقة تجمعُ بين المصطلحين أو المفهومين؟ وإذا كانت موجودةً،
فما هي حدود الاختلاط والتّماهي بين الاثنين؟ وهل يمكنُ للأوّل
أنْ يُعوّضَ الثّاني؟ إنّها أسئلة قلقة للغاية، وطرحي لها
ينبعُ من كوني أعلم جيّدا أنّ الإنسانَ كائنٌ رمزيّ بامتياز،
أو دعوني أقلْ: كائنٌ عَلاماتيٌّ وإشاريٌّ في الوقت ذاته، -إذا
ما شئتُ استخدام المنهج الأديبيّ نفسه -، مع العلم أنهُ لا
يمكنُ اعتبارُ الأمرِ مجرّدَ ميزةٍ لغويّة فحسب، وإنما صفةً
تمتدُّ لتشملَ كلّ ما لهُ صلة بحياة الإنسانِ من علوم ومؤسسات
وعلاقات وتمظهرات اجتماعية بما فيها الأكل واللّباس والهوايات
وما إلى ذلك من أنشطة حياتيّة وفكرية، وأشكال رمزية أودعَها
تجربتَهُ لتُصبِحَ قابلةً للإخبار عنها بالشّكل الذي يختارهُ
ويرتضيه.
والإنسانُ يقومُ بتفعيل رموزه هذه لأنّ علاقتَهُ بالعالم
الخارجيّ ليست مباشرة، لذا يبقى التوسُّطُ السيميائيُّ لديهِ
هو الحالة الرّمزية المُثلى التي من خلالها استطاعَ على مدى
الأزمنة والعصور أن يكتشفَ نفسَهُ، ويستوعبَ حدودَ التطابق
الوجوديّ بينه وبين محيطهِ، مما سمحَ لهُ بتحقيقِ نوعٍ من
التحرّرِ من الواقع لولوج ذاك العالم الذي يميّزُه عن بقية
الكائنات الأخرى، أيْ عالم الفكر والخلق والإبداع.
ورحلة الإنسان مع الرّمز والإشارة والعلامة بلغتْ ذروتها حينما
أصبح يرى أنّ كلّ ما حوله هو كلام اللهِ الموجّهِ لهُ، وقد
ذهبَ إلى هذا الأمر العديد من الفلاسفة وأهل العرفان والتصوّف،
إلّا أنني لديّ بعضُ التحفّظ على هذه القضية بالذّات لأنّي أرى
فيها نوعاً من النّفي المطلق لزمنيّة الإنسانِ وكينونته؛ إذ
كيفَ لهُ أن يُحقّق فِكرَه ووجودَه وقد أُعْطِيَهُ كلّ شيء
بشكل سابق على الممارسة والتجربة الحياتيّة نفسها؟ لا شكّ أنّ
هذا سيعني ألّا شيءَ سينمو داخل تجربة الإنسان، وهذا أمر مناقض
تماماً لفكرة العبادة والعمل التي كثيرا ما أشارت إليها العديد
من النصوص السّماوية في مختلف الديانات: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (4). لذا فإني أرى أنَّ كلّ ما
هو علامة وإشارة إنما يُفْرَزُ داخل منظومة الفرد والجماعة،
ولا يمكنُه أبداً أن يكونَ مجرّد رموز مودعة في ذاكرة الإنسانِ
بشكل بعيد تماما عن تفاعله مع محيطه الطّبيعيّ والإنسانيّ
بالدّرجة الأولى. وبناء على هذا، فإنّ ديوان أديب كمال الدّين
يُعَدُّ حالة إبداعية من نوع خاصّ، وذلك لأنها تَمزجُ بين
التجربتين الإلهيّة والإنسانيّة لتجعلهما معاً تجربةً واحدة لا
يمكن فصلُ إحداها عن الأخرى، ليصبح ما هو إنسانيٌّ إلهيّاً،
وما هو إلهيّ بشريّاً، حتّى ينتفي عنصر التّعالي بين قطبي
التّجربة، ويصبحَ ماهو علامةٌ إشارةً والعكس صحيح، وعليه فإنّ
تبنّيهِ لمصطلح (العلامة /
Sign)
كترجمة إنجليزيّة لملفوظة (الإشارة)، أمر لا غبار عليه هو
الآخر، لا سيما أنّني أجدُ هذا كلّهُ له علاقة وطيدة بجملة
الحلّاج الشهيرة التي قال فيها: ((أنا الحقّ))، فكان ثمنهَا
حياته لأنه باح بالسرّ، ونقلَهُ من لغةِ العبارة إلى لغة
الإشارة وحينما أصبحَ علامةً انفضح الأمر، وغدا الحلّاجُ نفسه
إشارةً جمعتْ بين كلّ ما في الحرفِ من علامات وعبارات (5).
ولمن يسألُ عن المراحل التي تتحوّلُ فيها الإشارةُ إلى علامةٍ
ثم إلى عبارة، فأقول إنّ العبارةَ قد تكونُ في كثير من الأحيان
سابقةً على الإشارة لكُمونِ هذه الأخيرة فيها، لأنّها المعنى
الآخر الذي ينتقلُ إليه المتلقّي ليستشفَّ ما في الحرف من عمق
وجوهر روحيّ لطيف يقتضي منه أن يكون على دراية بعلوم المكاشفة،
وذلك لأنّ للإشارة مشهد جليٌّ يكونُ الإنسانُ بهِ هو المرادُ
الأوّل على كلّ حالٍ، مادام هو الموصوف والصّفة، والجسد
والرّوح.
ولا بدّ للإشارة من الحرفِ لأنهُ العين الثابتة في العلم الذي
به يطّلعُ العارفُ على حقيقة كينونته ومرتبته، هذه الحقيقة
التي تبقى سرّاً خالصاً بين الربّ وعبده، لا يطّلعُ عليهِ أحد،
لأنه من مقتضيات الشأن الألهي الأكبر، وهو الأمر الذي أشار
إليه أديب كمال الدين في إشاراته حينما قال:
"إلهي،
أجلسُ تحتَ شجرة محبّتكَ الوارفة
عاشقاً
ليس له من حُطامِ الدنيا
سوى كوز ماء
وكسرة خبز
وكسرة حرف.
أجلسُ كي أكتبَ سرَّك
وسرَّ سرّك
بكسرةِ حرفي.
وأجلسُ أيضاً
كي أمحو حرفي
حتّى لا يظهر من سرِّك
وسرِّ سرّك
سوى السين وقت انقضاض الزلازل
وسوى الراء وقت انهمار المطر." (6)
وأمّا من يقولُ وكيف للإشارة أن تصبحَ عبارةً؟ فأجيبُ بأنّ ما
أنا بصدد القيام به عبر تحويل إشارات أديب كمال الدّين إلى
عبارات يُعدُّ مثالا على هذا الطريق الذي يمكن للإشارة أن
تسلكه، ومن هذا المفهوم نبعَ عنواني لهذه المقالة (إشاراتكَ
وعباراتي).
(3)
(إشارة أولئك)
إلى من وجّه أديب كمال الدّين إشاراته هذه؟ ألنفسهِ، أم
للمتلقّي، أم لهما معاً. وعلى ذكر المتلقّي، فأيّهُ معنيٌّ
بالأمر في قصائده؟ أالعارفُ مثله، أم قارئ آخر من نوع خاصّ؟
إنّ الجواب عن هذه الأسئلة موجود في أكثر من إشارة من إشارات
هذا الدّيوان، وأعني بها على وجه الخصوص (إشارة أولئك) (7)
والتي يقول فيها الشّاعرُ ما يلي:
[إلهي،
كم يدهشني أولئك الذين يكتبون عنّي!
فهم يلامسون قشرةَ بيضةِ قصيدتي
ويقولون هذا هو المُحّ
أو يقفون على شاطئ القصيدة
ويقولون: يا للهول!
نحن وسط أمواجها العاتية!
ثُمَّ إذا دخلوا في متحفِها الحروفيّ
ارتبكوا قليلاً أو كثيراً
حتّى صاروا
لا يفرّقون بين الحاء والجيم
ولا بين النون والمنون!
إلهي،
لا أعرفُ كيفَ أشكو محبّتَهم القاسية
دون أنْ أنالَ عصفَهم أو عاصفتَهم،
ولا أعرفُ كيفَ أصافحُ أيديهم الساذجة
دون أنْ أفقدَ ترحيبَهم الهشّ!
إذن، ما الذي أفعله
مع محبّتهم الطاعنة في الهذيان،
محبّتهم التي هي عذابٌ مضافٌ
إلى حروفي المُعذَّبة
وطفولتي المُعذَّبة؟]
إنّ أوّل ما يلفت الانتباهَ في هذا النصّ، هو العلاقة
"المتعالية" بين الشّاعر والمتلقّي: إنهُ يطالبه بشيءٍ لا
يراهُ فيه، ويريده أن يقرأه على الوجه الأصحّ. وأنّى يحدثُ هذا
ولكلّ نصّ كيفما كان نوعه مفاتيح متعدّدة للقراءة قد لا
يمتلكها حتّى صاحب النصّ نفسه، وهذه معضلة أخرى!
وأما عن مظاهر "التعالي" في خطاب أديب كمال الدّين، فهو موجود
في في عدّة مواطن أولاها استخدامه لاسم الإشارة (أولئك)
للتأكيد على وجود مسافة بعيدة تفصله عن القارئ عموما، وهي
المسافة ذاتها التي منها وبها يتحدّث الشّاعرُ محاولاً ما أمكن
أن يُقرّب بؤرة النصّ ليحدّد بشكل دقيق الأسباب التي جعلت هذه
المسافة تزدادُ كلّ يوم بعدا إلى أن أصبحت هوة لا قرار لها،
متّهماً القارئ بالوقوف السّطحي عند قصائده، وكثرة هذيانه وإن
من باب المحبّة "القاسية".
ويبلغُ العتابُ ذروته حينما يصف أديب المتلقّي بالهلوسة
البصرية (لا يفرّقون بين الحاء والجيم / ولا بين النون
والمنون!) وهي ذاتها المعاناة التي يصفها بشكل بديع في نصّ آخر
هو (قصيدتي الجديدة) والذي يقول فيه:
[أعطيتُ قصيدتي الجديدة
بأصابع الارتباكِ والرغبة
إلى الحسناء الجالسةِ بجانبي في الباص
قلتُ لها: ضعيها بين النهدين
لتتعرّفي إلى سرّ القصيدة
ومعناها الأزليّ.
لم تأبه الحسناءُ لكلامي
وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء
وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.
ثم أعطيتُ قصيدتي الجديدة
للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامة
قلتُ له: العبْ معها
ولكَ أن تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي
بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.
فصرخَ الطفلُ باكياً
وولّى بعيداً.
ثم أعطيتُ القصيدةَ للنهر
قلتُ له: خذْها
إنها ابنتكَ أيضاً
أيّها الإله المُلقى على الأرض
باركْ سرّها
وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ
أيّها الأزليّ.
محدّقاً في الأقاصي البعيدة
دون أن يعيرَ كلامي انتباهاً.
وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي
وصاحَ بصوتٍ أجشّ
* ماذا في يدك؟
قلتُ: قصيدة جديدة.
* فماذا تقولُ فيها؟
قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرّها ومعناها.
فأخذها منّي
ودخلَ غرفته السوداء
ويبدأ بجلدها بسوطٍ طويل
ثم أخذَ يضربها بأخمص المسدس
على رأسها
حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة
ونقاطاً أكثر
دون أن تعترفَ بسرّها ومعناها.] (8)
إنّ ما بين أيدينا من نصوص، يوحي بشيء أكبر من مجرّد "تعالي"
شاعر، أو بعد مسافة. إننا أمام محنة الخطاب العرفانيّ نفسه وهو
يحاولُ أن يقترب من المتلقّي فيصطدم بمأساة غيابه الأزليّ،
وعليه فليس أديب كمال الدين هو المتعالي شخصيّاً، ولا حتّى
قصائده العرفانيّة، وإنّما هو المتلقّي نفسه الذي يتعالى وينآى
بنفسه عن حرفه العرفانيّ، ليس لأنه يجهله فحسب، وإنما لأنه
يعتقدُ أنّ الأمر لا يعنيه برمّته، وعليه فلن يبقى أمام
الشّاعر سوى أن يختار بدقة القارئَ الحقّ، وهو الاختيار الذي
ظهر بشكل جليّ في (إشارة أصحابي) و(إشارة العارفين) (9).
النصّ العرفاني لا يعترفُ بسرّه لأحد، وأسرار العارفين لا
يعلمها ولا يفهمها سوى عارف مثلهم، وليس لأنّ الحرفَ سرّ، أو
اللغة سرّ ولكن لأنّ الإنسان نفسه سرّ الأسرار الكبرى التي
مازال لم يقف عندها أحد.
إنّ أديب كمال الدّين لا يدعو القارئ إلى قراءة نصّه وكشف
سرّه، وإنما إلى قراءة نفسه والوصول إلى أسرارها، مادامت قصيدة
الشّاعر هي سيرة ذاتية لتاريخ الإنسان مُذْ جُعل خليفة للخالق
على الأرض. وعليه فإنّ العلاقة بين الشاعر والمتلقّي هي علاقة
غيريّة والخطاُب فيها ممارسة اجتماعية تتحكّمُ فيها بنى خاضعة
لمجموعة من النّظُم التي يشكلها المجتمع لتنتجَ مجموعةً من
القراءات المتنوعة والمختلفة التي نحن في حاجة ماسة إلى ضبطها
حتى نتمكّن من ضبط الخطاب العرفانيّ من حيث هو شكل من أشكال
الممارسة الاجتماعية التي تسعى إلى الإنسان لأنّها منه وفيه
وبه تتكون، وليس لأنها بعيدة المنال أو متعالية عليه.
الهوامش:
(1) أديب كمال الدين، إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان، 2014.
(2) الزّمر: 23.
(3) الأنفال: 63.
(4) الكهف: 110.
(5) انظر (إشارة الحلاج)، في ديوان (إشارات الألف)، صص 43 /
44.
(6) أديب كمال الدين، إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان، 2014، صص 14 / 15.
(7) المصدر نفسه، صص 56/ 57.
(8) أديب كمال الدّين، شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع
- عمّان- الأردن2007، ص 13.
(9) أديب كمال الدين، إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان، 2014، صص 53 / 55.
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة
|
||