أضحت هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية مسألةً
مؤكّدةً لا تقبل النقاش بسبب السيل الجارف من
القصائد والمجاميع الشعرية التي تُكتب وتُنشر من
خلالها في مختلف البلدان العربية. وهذه الهيمنة
الشديدة المتحققة في الوقت الحاضر تؤكّد الهيمنة
المستقبلية بالطبع، إضافة إلى ما تمتلكه قصيدة
النثر نفسها من أسباب فنية تعينها بقوّة على
البقاء حيّة كالتحرّر من الوزن والقافية،
والمرونة، والومضيّة، والتداخل مع الأجناس الأخرى.
وبعيداً
عن الشكل الشعري المستخدم، سواءً أكان قصيدة
عمودية او تفعيلة أو قصيدة نثر، فإنني أرى الشعر
اكتشافاً لإعماق الحياة في ومضة روحية وفنية نادرة
وبأقل عدد من الكلمات. فإذا طبّقنا هذا "التعريف"
سنجد أن في سيل قصيدة النثر الهائل المنشور يومياً
غَلَبة واضحة للقصائد الضحلة المرتبكة الفارغة!
وقد زاد
من فداحة الأمر أنّ قصيدة النثر تفتقد إلى الوزن
والقافية فتصوّر الكثير من كتّابها أنّها يمكن أن
تكون أيّ شيء!
إذن، هناك أزمة واضحة
وضوح الشمس في رابعة النهار في الحصول على الشعر
الحقيقي المتفوق المبدع، لأنّ الكثير من الشعراء
والشاعرات في بلداننا العربية يفتقدون إلى الفهم
الدقيق لمسألة بُنية القصيدة، ولمسألة النمو
العضوي في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة،
ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من
الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا
يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق
بحيث تستحق أن تُكتب أو ترى النور. وتجد جملهم
الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهّل
والتقعير والهذيان حتى تحوّلت قصائدهم إلى ما يشبه
ركّاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا
يجمعهم أي جامع سوى العربة. على مثل هؤلاء الشعراء
يصدق القول: يهرفون بما لا يعرفون!
نعم، سيكون حضور الشعر الحقيقي والعميق نادراً على
الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر كما ذكرت،
للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة
النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر
على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما
تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل
وليس الأصيل.
إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً وصدقاً،
وتتطلّب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية
وشعرية، مع مران مستمر، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره
الإنساني الخلّاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال
الشعر بأيّ شكل من الأشكال.
****************************
نُشر في استفتاء أجرته جريدة (الاتجاه
الثقافي) بتاريخ 5 تموز 2018 عن قصيدة النثر
ومستقبلها وشارك فيه عدد من النقاد والشعراء وأعده
علي جبار عطية.
|