الشاعر أديب كمال الدين من الشعراء الذين سخّروا شعرهم كي يتحوّل إلى
أغنية إنسانية كبرى تغمر الإنسان
أينما كان بالمحبة والسلام والفرح،
وله تجربة واسعة وعميقة وأصيلة امتدت
على عقود قدم فيها تجربة مميزة وخاصة
ونوعية. وحين نقارب قصيدته الموسومة
بـ (أغنية إلى الإنسان) نشعر من
الوهلة الأولى أن هذه القصيدة/الأغنية
مكتوبة للبشر جميعا، إنها أغنية
إنسانية تشمل البشر جميعاً في صورة
كلية مطلقة تجمع البشرية كلها في
كلماتها وإيقاعها ومشروعها الإنساني
العميق، وتسبح في فضاء من الحرية التي
تتمناها القصيدة للبشر أجمعين، لذا
نجد أن لغة القصيدة وصورها وتراكيبها
ودلالاتها ورموزها تحتشد في مسار شعري
واحد لتكون هذه الأغنية الشعرية
(أغنية إلى الإنسان).
القصيدة مكوّنة من ثلاث مقاطع شعرية، كل مقطع يتحدث عن حكاية شعرية
لها علاقة بالأغنية الموجّهة إلى
الإنسان، فالمقطع الأول عبارة عن
حكاية موجّهة من الذات الشاعرة إلى
آخر مُخاطَب هو الإنسان أينما كان:
1 ـ
هذه أغنية أعددتُها لك،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّث
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتحاولُ
بإصرارٍ كبير
أن ترسمَ لها جناحين
وعشّاً
في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ منفيّ
لا اسمَ له
ولا عنوان.
المقطع يحكي حكاية الأغنية التي أعدّها الشاعر من أجل أن تكون وسيلة
لجمع البشر تحت رايتها، وحكايتها
(أغنية تتحدث بشوق كبير عن الحاء
والباء)، هذان الحرفان اللذان يمثّلان
كلمة (حب) وبوسعهما لمّ شمل العالم
بأسره على الوئام والمصالحة والسلام
والتسامح والعيش تحت مظلّة واحدة،
وتتحوّل أغنية الحب هذه إلى طائر يحمل
سرّ هذين الحرفين ويطوف بهما أرجاء
الكون (وتحاولُ بإصرارٍ كبير أن ترسمَ
لها جناحين وعشّاً في آخر المطاف،)،
إذ إن الطائر كي يعيش هو بحاجة إلى
جناحين وعشّ.
ولا شك في أنه إصرار المحبة والسلام بين الشعوب بمختلف ألوانها
وأعراقها وجنسياتها وأديانها
وقومياتها، ويصف هذا العش الذي يلم
طائر الحب بين جوانحه بأنه عش خاص
(عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ منفيّ لا
اسمَ له ولا عنوان.)، وهذا الطائر
المنفي (وحالة النفي هنا لا تعني
المكان فحسب بل تعني الموقف أيضاً)
الذي كوّن له عشّا صغيرا يأويه هو
طائر محلّق في أجواء الكون، طائر
إنساني بلا اسم ولا عنوان، فهو يحمل
كل الأسماء وله كل العناوين، تعبيرا
عن عالميته وانفتاحه على كل المساحات.
المقطع الشعري غاية في البساطة التعبيرية وكأنه يريد أن يجعل من الشعر
حالة من البساطة تشبه بساطة الحب،
يتسم بالهدوء اللغوي والصوري
والدلالي، ويرمي إلى توصيل فكرة الحب
بين البشر في أبسط تعبير وأرق عبارة.
المقطع الثاني يوسّع من حدود الحوار والنقاش بين الذات الشاعرة
(الراوي)
والآخر المُخاطَب، وهذا الآخر
هو آخر عام مفتوح على الآفاق بلا حدود
ولا حسابات ولا تمييز، ولا شكّ في أن
الفضاء الصوفي ظاهر وبارز في هذه
المحاكاة الشعرية التي تقوم على
استثارة الضمير البشري الداخلي،
وتحفيزه للمساعدة في تحويل هذه
الكلمات البسيطة إلى أغنية صوفية
يغنّيها البشر جميعاً:
2ـ
أفترضُ أنّكَ ستساعدني
على الاستماعِ لها
أو ترديدِ كلماتها البسيطةِ معي.
ربّما ستضعُ لها ما يشبه الإيقاع
إن كانَ قلبكَ ينبضُ بشيء من اللطف
وليسَ مخلوقاً من الخشبِ أو الحجر.
وربّما ستقومُ فترقصُ على إيقاعها
إن كانَ قلبكَ قد عرفَ الحرمان
واكتوى بنارِ الهجران.
هذا المقطع يشكل صورة شعرية حوارية بين الذات الشاعرة والآخر
المُفترَض المُستحضَر من قلب الشعور
والعاطفة الإنسانية، إذ يتوجه الراوي
الشعري لهذه الحكاية الشعرية إلى
الآخر ويخاطبه بلهجة أخوية تقوم على
افتراض المساعدة لفعل الإصغاء أو
الغناء معاً (أفترضُ أنك ستساعدني على
الاستماع لها أو ترديد كلماتها
البسيطة معي.) وربما الأكثر من هذا
التحول من مستمع ومردد إلى صانع للّحن
(ربما ستضعُ لها ما يشبه الإيقاع)،
والإيقاع هنا هو الصوت الخفي المطلوب
للرقص.
لكن الراوي الشعري يضع لذلك شرطا إنسانيا جماليا لا يمكن التغافل عنه
أو تنحيته هو: (إن كان قلبك ينبضُ
بشيء من اللطف وليس مخلوقاً من الخشب
أو الحجر.)، وفي مرحلة ثالثة يتحول
وضع الإيقاع وإنتاج اللحن إلى حالة
الرقص، وهي حالة صوفية يبلغ فيها
الصوفي أعلى مراحل الاندماج مع الكلام
الذي يتحول بين يديه إلى أغنية
إنسانية خلّابة ساحرة بالغة التأثير
(وربّما ستقوم فترقص على إيقاعها إن
كانَ قلبكَ قد عرفَ الحرمان واكتوى
بنارِ الهجران.)، بمعنى أن الحالة
الشعرية الصوفية مرّت بثلاث مراحل هي
الإصغاء وترديد الأغنية، ثم وضع اللحن
والتماهي معه، وأخيرا الرقص على
إيقاعه، في سياق تشكيلي يرتفع بأغنية
الحب إلى أعلى مصاف الإنسانية.
المقطع الثالث والأخير من مقاطع القصيدة يقدم فيه الراوي الشعري دروسا
في فلسفة الرقص وشروطه وقضاياه، فهو
ليس رقصا عبثيا لا يخضع لشبكة
اعتبارات ومواضعات إنسانية لا يمكن
تجاوزها من أجل بلوغ صحة الرقص:
3 ـ
لكنْ لا ترقصْ رقصةَ القردة
ولا رقصةَ الذئب
فذلك يفسدُ النصّ حتماً.
ارقصْ مثلي رقصةَ المتصوّفة
أو رقصةَ الأيتامِ في الملجأ يوم العيد
أو ارقصْ رقصةَ الغرقى
إن كنتَ بساقٍ واحدة.
أمّا إذا كنتَ تكره
كلّ شيء حتى نَفْسك
فلا ترقصْ على الإطلاق،
اكتفِ بوحشيّتكَ المستترة
ولا تحاولْ نشرَها على الحبال
حتّى لو استطعتَ أن ترقصَ
رقصةَ المحكومِ عليه بالإعدام!
فالإشارة الأولى التي يقدمها الراوي الشعري للآخر المصغي للدرس الشعري
الإنساني الصوفي (درس الحب) هي إشارة
تعليمية بالغة الأهمية (لكن لا ترقص
رقصة القردة ولا رقصة الذئب فذلك
يفسدُ النصّ حتماً.)، فالنص هو الحب
والحب هو النص، وحين ينفي الراوي
الشعري رقصتي القردة والذئب فإنه يدعو
بالمقابل إلى رقصات أخرى منهجها صوفي
إنساني، الرقصة الأولى: (ارقص مثلي
رقصة المتصوّفة) وهي رقصة لها
قوانينها وأعرافها وتقاليدها ومناهجها
في الحركة والغناء والفعل، والرقصة
الثانية: (أو رقصة الأيتام في الملجأ
يوم العيد) وهي ذات طابع إنساني مشحون
بالعاطفة، والرقصة الثالثة: (أو ارقص
رقصة الغرقى إن كنتَ بساق واحدة)،
وهذه الرقصات الثلاث هي رقصات الحياة
والحب والإنسانية التي تعبر عن الجوهر
الإنساني الصافي والنقي.
ثم يواصل المقطع الثالث من القصيدة حواره المجدي بين الراوي الشعري
والآخر في سياق توجّه خطاب الراوي نحو
هذا الآخر المُفترَض، فالإنسان لدى
الراوي الشعري يجب أن يعرف رقصة الحب
هذه كي يكون إنسانا جديرا بحلم هذه
الأمانة، لذا فإنه يواصل درس الحب في
تعاليمه المكتنزة بالمعرفة، ويحاور
الآخر عن مدى ما يحمل في أعماقه من
حب، ومن دون هذا الحب فإن الآخر يقع
في الطرف الثاني من الحياة حيث الكره
وعدم إجادة الرقص (إما إذا كنتَ تكره
كلَّ شيء حتّى نفسك فلا ترقصْ على
الإطلاق،)، بمعنى أن كره الآخرين يبلغ
بالكاره كره نفسه أيضاً.
فالكره هو الشعور المضاد للحب الذي لا يليق به الرقص الصوفي المعبر عن
جدوى الحب، وحين يكون هذا الآخر ساقطا
في بؤرة الكره وبعيدا عن المحبة فهو
بالضرورة ملتفّ على وحشيته المستترة
كما يصفها الراوي الشعري، إذ يخاطبه
في هذه الحالة بقوله: (اكتفِ بوحشيتكَ
المستترة ولا تحاولْ نشرَها على
الحبال حتّى لو استطعتَ أن ترقصَ
رقصةَ المحكومِ عليه بالإعدام!)،
ورقصة المحكوم بالإعدام هنا هي رقصة
الكره المعبرة عن وحشية تخترق الحس
الإنساني في أرفع حالاته.
*******************
·
نُشرت قصيدة (أغنية إلى الإنسان) في
مجموعة الشاعر أديب كمال الدين: (في
مرآة الحرف)، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان، 2016 ، ص 11- 13
** نُشرت الدراسة في كتاب (مسارات
الخطاب الشعري: التجربة والثقافة
والرؤية)، د. محمد جواد علي،
دار
غيداء للنشر،
عمّان، الأردن
2016.
ص137- 140
|