قراءة في مجموعة النقطة؛ (المجلد الثاني) من الأعمال الشعرية
الكاملة
شعرية النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين
د. سعد التميمي
تشكّل النقطة والحرف بنية مؤسسة وفاعلة في التجربة الشعرية
للشاعر أديب كمال الدين. إذ استثمر اللغة من خلال عناصرها
الفردية، إذ امتدت مدة طويلة دون أن تستنفد دهشتها لما حملتها
من تساؤلات وجودية في عالم تتقاطع فيه الرؤى وتتلاشى الأحلام
في ظل العنف والظلم والحرب والاقصاء والقمع والتسلط بمقابل
التطلع للتسامح والعدالة والسلم والديمقراطية والحرية
والمشاركة، فالشاعر يفجر الطاقة الكامنة للغة من خلال النقطة
والحرف وهما خط الشروع لحركة اللغة في فضاء الشعر الذي يطير
بجناح الخيال. ويعد هذا التوظيف تحولا في الخطاب الشعري لكمال
الدين الذي اشتغل على النقطة والحرف ليكونا جسرا يعبر من خلاله
الشاعر الى معان متنوعة تتفجر شعريتها من خلال الانزياحات التي
تنطلق من النقطة تارة والحرف تارة أخرى لتصبح هذه التجربة
متميزة لينفرد فيها الشاعر عن غيره من الشعراء . فاختياره
للحروف أداة للتعبير عن معانٍ وأفكار وموضوعات مختلفة اذ
يشحنها بطاقات دلالية وعاطفية فاعلة جعلتها قناة مؤثرة في
إيصال مشاعره وانفعالاته للمتلقي، وقد نجح الشاعر في جعل هذه
الحروف مفاتيح تفتح للمتلقي ما ينغلق من معان عبر تأويل
دلالاتها، فهو من خلال هذه الحروف يطارد المعنى ويحاول أن
يشكّله بالطريقة التي تضمن تجسيد الفكرة من جهة، وانجذاب
المتلقي والتفاعل مع النص من جهة أخرى، وما هذه الحروف إلّا
بصيص من الضوء ينير أمام المتلقي الطريق من أجل الوصول إلى
الغاية المتمثلة بالمعاني المتخفية إذ يتخذ الحرف صوراً
ورموزاً متعددة في قصائد الشاعر، فهو أغنية وبحر ونهار وامرأة
وقمر وليل ، ومن هذا التعدد للدلالات يكتسب الحرف في قصائد
الشاعر أديب مقوماته الشعرية وجمالياته التعبيرية، والقارئ
لهذا الديوان يلاحظ بوضوح أن للشاعر رؤيته الخاصة الذاتية
للحرف وما يمتلكه من طاقات تعبيرية وشحنات عاطفية ويعكس ذلك
الصور التي أسسها الشاعر على الحرف وما تعكسه هذه الصور من
دلالات إيحائية ذات شحنات عاطفية عالية .
ومن هنا نستطيع أن نقول أن الشاعر أديب كمال الدين استطاع من
خلال هذه التجربة أن يجعل خطابه الشعري متميزاً عن الخطاب
السائد في الساحة الشعرية من خلال اتخاذ الحروف مركزاً للعملية
الشعرية واستنطاقها بغية الكشف عن دلالاتها ومن ثم التأثير
وتحقيق فعل الاستجابة لدى المتلقي ولعل اختيار الشاعر النقطة
عنواناً لديوانه وورودها في ست قصائد من الديوان فضلاً عن
ورودها في معظم القصائد يأتي من اهتمامه بالحرف وذلك لأن
النقطة تمثل بداية الشـروع في رسم الحرف من جهة وعلامة تميز
العديد من الحروف من جهة أخرى، أي أنها تكشف عن دلالاتها ومن
هنا حاول الشاعر إسقاط جميع انفعالاته وعواطفه وخيباته وآماله
وحبه وحزنه وهزائمه وانتصاراته على الحرف محاولاً محاورته
للكشف عن معانيه التي تصور هموم الشاعر واهتماماته فالشاعر هو
النقطة، التي تعطي للحروف معانيها وهي المرآة التي تعكس صورة
العالم كما يراها الشاعر وهذا ما تعكسه قصيدته "محاولة في أنا
النقطة" التي يقول فيها :
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلعِ البطين
أنا خرافةُ الثوراتِ وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية مَن لا بقية له
أنا فرات قتيل ودجلة مُدجَّجة بالإثم
أنا ألِف جريح
ونون فتحتْ لبّها لمَن هبّ ودبّ.
فالنقطة هنا هي أول الخط وهي من تكشف الحقيقة وهي من تحيل الى
انكسارات الواقع وتناقضاته، والنقطة هي الشاعر والكشف عن
دلالاتها يعني الكشف عن هموم وتطلعات الشاعر وهذا ما يفعله في
الجملة الشعرية التي تلت أخباره عن نفسه بالنقطة والتي يتخذ
فيها المعنى صوراً مختلفة فهو – أي الشاعر – يخبر عن نفسه مرة
ببريق سيف الأصلع البطين في إشارة إلى (علي بن أبي طالب) في
إشارة إلى العدالة المفقودة التي يتطلع لتحقيقها، ومرة يخبر
عن نفسه بخرافة الثورات وثورات الخرافة في إشارة إلى دموية
الثورات التي لا تحقق للناس طموحاتهم وتبقى مجرد شعارات تردد
بين الحين والآخر. وتتوالى بعد ذلك الصور التي تقوم على التضاد
والتقابل لتعكس هموم الشاعر وإحساسه بالضياع وإصراره على
البقاء والتحدي، وهذا ما يعكسه قوله (أنا معنى اللا معنى وجدوى
اللا جدوى) إذ يحاول الشاعر أن يرسم حالة الحيرة والقلق
الوجودي بين الإحساس والخوف من الضياع الذي يلاحقه بين الحين
والآخر، اذ تؤججه معاناة الواقع بأشكالها المتعددة ، وهذا ما
تجسده الصورة الشعرية التي يخبر فيها الشاعر عن نفسه نفسه
بالفرات القتيل مرة ودجلة المدججة بالإثم مرة أخرى ، إذ يحاول
أن يسقط معاناته وآلامه على مفردات الطبيعة المتمثلة بـ الفرات
ودجلة بل يتشظى الشاعر ليصبح صورة لجميع الذين يعانون من حوله
عندما يجعل من نفسه ألِفا جريحا، والجرح هنا رمز لجميع أشكال
الهزيمة والانكسار الذاتي، وهنا يستثمر الشاعر الحرف (الألف)
ليرسم حجم المعاناة والجرح هنا يحيل الى أشكال الظلم المختلفة،
ويختم هذا المقطع من القصيدة بجملة شعرية يوظف الشاعر حرف
النون في تشكيل صورتها ليغدو حرف النون الذي يخبر به الشاعر عن
نفسه رمزاً للمدينة المنهزمة والمستباحة من قبل الجميع وهو هنا
يوظف شكل الحرف المعروف الثابت وغير القابل للتغيير.
وتتحول الحروف رمزا للقتلة والمتسلطين الذين يستبيحون الحقوق
والحريات فيهاجمهم مستثمرا علاقة النقطة بالحرف ليخاطب ما ترمز
إليه والمتمثل بكلام المنافقين الذين يتكلمون بلسان السلطة
ويلهثون وراء الشهوات غير عابئين بآلام البشر إذ يقول:
أنا النقطة
أنا مَن يهجوكم جميعاً
أيّتها الحروف الميّتة.
سأهجو نفاقَكم وسخفَكم،
سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم
وكفاحكم من أجلِ الأفخاذِ والسياطِ وكؤوسِ العرق.
آ...
ما أشدَّ حزني
ما أعمقَ دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر
ما أفدحَ خطيئتي: خطيئة المعرفة
ما أعظمَ زلزالي وخرابي الكبير،
أنا النقطة.
فالشاعر يعمد الى وظيفة النقطة التي تمتلك سر خلق الحرف ووضوح
دلالته فبدونها يتلاشى الحرف فالشاعر باخباره عن نفسه بالنقطة
أراد أن يقول إن الشعر هو من يشكّل الكون ويحن قراءته ، فالصور
التي تتشكل من خلال وصف الحروف بالميتة وإضافة النفاق والسخف
والأكاذيب والترهات إلى هذه الحروف تعكس إسقاط الشاعر لما
يحمله من مشاعر وانفعالات على هذه الحروف ،ولكي يجعل خطابه
أكثر تأثيراً وتميزاً، فأنه يحاول أن يزجّها في صور شعرية تقوم
على الانزياح والمفارقة لتشعّ بمعانٍ زاخرة تستثير المتلقي
وتؤثر فيه ، ولأن إحساس الشاعر مختلف وكذلك حزنه دمعته وخطيئته
ومعرفته وزلزاله وخرابه فأنه يلجأ إلى أسلوب التعجب الذي يكرره
أربع مرات قبل أن يختم المقطع والقصيدة بالجملة التي بدأ بها
القصيدة (أنا النقطة) إذ يتعجب من شدة حزنه في إشارة إلى أطباق
الحزن بأسبابه المختلفة على الشاعر ويتعجب أيضاً من عمق دمعته
التي توازي شدة الحزن وتعبر عن حجم معاناة وآلام البشر التي
أحس بها وأراد التعبير عنها ويكرر التعجب من خطيئته التي تتمثل
بخطيئة المعرفة ، معرفة كل ما يحيط به من تفاصيل يومية واقعية
، ولتصوير حجم خراب الروح وتداعيها فإنه يتعجب من عظم زلزاله
المتمثل بالانكسارات والهزائم التي عاشها ويعيشها ويتعجب أيضاً
من خرابه المتمثل بخراب الروح بكل ما تحمله من أمال وطموحات.
وتتوسع دائرة توظيف
الحروف للتعبير عن الأفكار التي تراود الشاعر في بعض القصائد
لتمثل الركيزة الأساسية التي يبني عليها القصيدة كما في
"محاولة في الموسيقى" و"محاولة في الحروف" التي يقول في مقطع
منها :
أشفقُ عليكَ لأنّكَ قويّ كالثورِ المُجنّح
ووحيد كمرآةِ أعمى
وغامض كرأسٍ مقطوع
ووحشيّ كدبّابةٍ تسحقُ طفلاً
وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه
وساذج كأنكيدو
وخاسر ككلكامش.
أشفقُ عليكَ لأنّكَ تشبهني تماماً،
لأنّكَ أنا!
لم يعمد الشاعر في توظيف الحرف والنقطة في شعره بشكل اعتباطي
على سبيل التعمية بل أراد ان يفجر شعرية اللغة من خلالهما وكان
يرى بأن اللغة هي قناة الاتصال بينه وبين الواقع من جهة وبينه
وبين المتلقي من جهة أخرى، لذلك كانت الانزياحات واضحة الدلالة
ففي هذا المقطع تنشطر أنا الشاعر من خلال الحوار الذاتي فهو
يخاطب نفسه ويختار حرف الألف رمزا لأناه المنشطرة ويتخذ من
التشبيه مادة لتشكيل المعاني التي يصورها في هذا المقطع وتأتي
دينامية التشبيه من صور المشبه به الذي يكون في الغالب متضمناً
لشـيء من الطموح والابتكار وفي كل صورة من صور التشبيه يحاول
الشاعر أن يكشف جانباً من جوانب نفسه ففي الجملة الشعرية
الأولى يصور الشاعر موت الروح كل يوم من خلال ما تتعرض له من
انكسارات ولا يموت الجسد وفي الصورة التشبيهية الأولى يشفق على
قوته فهي كالثور المجنح لأن هذه القوة جامدة لا تتحرك ،وفي
صورة تشبيهية معبرة وجميلة يصف وحدته بمرآة الأعمى ويستمر في
وصف غموضه ووحشيته ليصل إلى ضياعه الذي يجسده من خلال صورة
الحرف الذي لا نقطة فيه ، فهي المرشد والدليل الذي يزيل الضياع
عن الحروف ليجعلها مكشوفة ومعبرة عما تختزنه من معان يقصدها
الشاعر ، ويلجأ الشاعر للتناص في تصوير سذاجته بأنكيدو الذي
سقط سريعا في الشهوة، عندما اغوته (شامات) خادمة كلكامش،
ولقنته دروس التمدن والخطايا لإسقاط شعبيته بين الحيوانات ، ثم
تصوير خسارته بكلكامش الذي خسر صديقه أنكيدو ، وفي آخر القصيدة
يصرح الشاعر بإشفاقه على نفسه لما يتعرض له من معاناة وآلام.
وفي الأخير فالشاعر أديب كمال الدين في هذه التجربة استطاع ان
يفجّر الطاقة الكامنة للغة في خطابه الشعري بأدوات وأفكار
ودلالات جعلته مميزاً في خطابه فضلا عن استمرارية هذه التجربة
دون ترهل وقد كان ذلك من خلال رؤيته الخاصة لهذه الأدوات
المتمثلة بالحروف.
************************ نُشرت في جريدة الصباح الجديد في 7 حزيران 2023
|
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة