لم يلقِ السيّاب حجراً في بركة ماء
راكدة بل حفر نهراً عذباً من الشعر
شرب منه آلاف الشعراء العراقيين
والعرب. فقد امتلك كلّ صفات الشاعر
الفذّ: امتلك موهبة نادرة، قاموساً
شعريّاً خاصاً، فهماً عميقاً للنمو
العضويّ في القصيدة، اقتصاداً في
المفردة، معاناة عميقة، لغة ثانية
مكّنته من النهل
من
تجارب كبار شعراء العالم، ولذا كان
نتاجه خلّاقا حتى أنه غيّر الذائقة
الشعرية العربية، وقبل ذلك، بالطبع ،
غيّر القصيدة العربية إذ كانت قد وصلت
في زمنه إلى أقصى درجات التحجّر .
ولولا هذه الامتلاك الحقيقي لما
استطاع أن يحقق التغيير الكبير الذي
صار بفضله معلّما قلّما يجود الدهر
بمثله وليبدأ عهد شعر التفعيلة بدلا
من الشعر الكلاسيكي الذي أكل عليه
الدهر وشرب .
لقد حاول بعض شعراء الستينات في
العراق "اختصار" المنجز السيّابيّ
بثماني قصائد فقط هي : "أنشودة المطر،
في المغرب العربي، المسيح بعد الصلب،
أغنية في آب، غريب على الخليج، سفر
أيوب،النهر والموت، شناشيل ابنة
الجلبي"، وحتّى لو افترضنا جدلا بصحة
هذا الاختصار- وهو اختصار تعسفي دون
أدنى شك- فإنّ هذه القصائد
قد
كتبها السياب لا لتتألق في جمالها
وعذوبتها وفرادتها ولغتها بل لتتحدّى
سطوة الدهر وهو الممتحِن الحقيقي الذي
يغربل كلّ شيء فلا يبقى على شيء إلّا
ما كان من معدن أصيل.
يحدث هذا رغم أنّ القصيدة العربية قد
دخلت منذ زمن ليس بالقصير في منعطف
قصيدة النثر وهو منعطف كبير أهّلها
لتكون مرآة جمال عميقة على يد
المبدعين الحقيقيين من الشعراء، لكن
هذا ما كان ليتمّ لولا المنجز
السيّابي المتدفّق، المتفرّد الذي شقّ
نهر التغيير العظيم.
|