بسم الله الرحمن الرحيم
إشكاليّة الغياب
في حروفيّة أديب كمال الدين
صباح الأنباري
منشورات ضفاف ، بيروت، لبنان 2014
المحتوى
|
أنْ تكتبَ بمحبّة
مقدمة بقلم: سعد محمد رحيم...........................
|
|
سنوات الإبداع............................................... |
|
|
|
الباب الأول:
مدخل إلى عالم أديب كمال الدين الشعريّ. |
|
|
|
الفصل الأول:
سيرة ذات حروفيّة.. قراءة في سيرة أديب كمال الدين الإبداعيّة: |
|
مقدمة........................................................ |
|
مفصل الحرب والحصار...................................... |
|
مفصل الغربة ومكابدتها...................................... |
|
مفصل السؤال................................................ |
|
|
|
الفصل الثاني:
تمهيد في الغياب والتشاخص والحروفيّة والموت: |
|
الغياب....................................................... |
|
التشاخص.................................................... |
|
الحروفيّة...................................................... |
|
الموت........................................................ |
|
|
|
الباب الثاني:
التشاخص موتاً في حروفيّة أديب كمال الدين.
|
|
|
|
الفصل الثالث: شخوص ما قبل الموت: |
|
تمهيد........................................................
نماذج شخوص ما قبل الموت:
أولاًــ د. حسن ناظم...........................................
ثانياًــ فيروز، المطربة الكونية، عفيفة اسكندر.................
ثالثاًــ زوربا، زائر شقة البارك رود............................
رابعاًــ شخصيات الحروف.....................................
نقاط الاستنتاج................................................ |
|
|
|
الفصل الرابع: شخوص على خطّ الموت: |
|
تمهيد........................................................
نماذج شخوص على خطّ الموت: |
|
اولاًــ حارس الفنار.............................................
ثانياًــ جان دمّو، فتى النقد.....................................
ثالثاًـــ مهند الأنصاريّ..........................................
رابعاًـــ الشاعر والحروف.......................................
نقاط الاستنتاج................................................
|
|
|
|
الفصل الخامس: شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة:
|
أنْ تكتبَ بمحبّة
سعد محمد رحيم
ـ 1 ـ
حين يبلغ ولعك ووجدك بنص ما، أو مجموعة نصوص، الدرجة اللطيفة والنقية والسامية فإنّ
عين الرضا تجعل ذلك النص يزدهر عند تخوم النقد، لا في أعماقه وأقاصيه.. هنا يكون
للكتابة- عن النص- بهاؤها الخاص وجماليتها الفريدة.. أسمّي هذا اللون بـ (الكتابة
العاشقة؛ أنْ تكتب بمحبّة).. هذه المحبّة ليست موجّهة لشخص كاتب النص - بحكم علاقة
صداقة طويلة مثلاً - بل إلى النص ذاته، حيث الحكم عليه يأتي بعد قراءته وتذوّقه
وتمثّله والانبهار به، ومن ثم تقويمه.
أنْ تكتب بمحبّة، هذا لا يعني
أن تعمى، تهمل، تتجاوز، تغفل عن الأخطاء، وتتقبّل كلّ شيء على علاته. بل على العكس
ـ وهذا ما يجب أن يحصل ـ فمحبّتك تقودك إلى الحرص، وإلى تنبيه مَن تحب إلى زلاته
واختلالات نصه، كي لا يكررها أو دعوته إلى عدم إظهارها للآخرين
قبل إيجاد الحلول- التقنية والبنائية- لها. وهي الكتابة كما أفترض التي
تجنِّب من تكتب عن نصِّه الشطط والحكم المسبق وتدخّل الأهواء السلبية. ولكن كيف
نتأكد أن الكتابة العاشقة المُحِبّة لن توقعك تحت هيمنة أهواء من نوع مختلف، وهذه
المرّة إيجابية؟!
صباح الأنباري يتقن هذا النمط
المشع والجذّاب من الكتابة. وهو إذ يشتغل على نصوص الشاعر أديب كمال الدين فإنه
يكتب قصيدته الشخصية التي ألهمتها إياه قصائد أديب؛ قصيدة في لبوس كتابة نثرية جادة
لها بعدها النقدي، غير أنه ليس النقد المدرسي الجاف وليس النقد الصحافي الأخواني..
فالأنباري في هذا الكتاب يمنحنا تجربة استمتاع بقراءة كتاب نقدي كما لو أنك تقرأ
نصاً إبداعياً.. وإذن كيف نصف هذا الجنس من الكتابة التي هي قراءة لنص آخر والكتابة
عنه؛ أنطلق عليها تسمية؛ النص الموازي للنص الإبداعي، أم النص المجاور له، أم النص
المكمِّل الذي يرتاد فراغات النص الأصل ويبرقشه؟
هذا الكتاب ليس نصاً
اعتباطياً شاحباً عن نص آخر، ولا حتى نصاً على نص.. إنه نص متولِّد من نص آخر ـ هو
نص أديب كمال الدين ـ يقرأه ويضيئه، يكشف معانيه وظلال معانيه.. يصل إلى قيعانه،
وإلى عتماته، ويستنطق ما أخفاه، ما أضمره وحجبه، ما سكت عنه.. نص يحفّ بالنص
المقروء ويحتضنه أكثر مما يتقدم عليه أو يعقبه.. يتماهى معه، يعكسه وينعكس فيه.
هذا الكتاب لا يمكن عدّه محض
قراءة انطباعية لقصائد شاعر.. إنه أوسع أفقاً وامتداداً من ذلك على الرغم من الحضور
النسبي للرؤية الانطباعية فيه أيضاً. وهو ليس نقيصة على أية حال.. فأن تجعل من كتاب
نقدي دعوة حقيقية لقراءة تجربة مبدع ما فلابد من لمسات انطباعية تمنح الكتاب رونقاً
وطراوة ودفئاً وقوة إغراء.
صحيح أن الأنباري لم يلتزم
بمنهج نقدي معيّن من المناهج الشائعة التي نعرفها. لكنه بالمقابل لم يكن يحتطب حطب
ليل.. كانت له استراتيجيته المنهجية الخاصة التي تستمد فاعليتها من معرفته بمفاهيم
وآليات عمل المناهج، لاسيما الحديثة منها، ولكن من غير التقيّد الصارم بمعاييرها
الحدّية وطرق اشتغالها.
ـ 2 ـ
تقرر ندرة الشيء قيمته ـ هذا
ما يقوله لنا علم الاقتصاد السياسي . والبحث عمّا هو نادر تحرِّكه، غالباً، الرغبة
في الحصول على ثروة. بيد أن هناك ندرة من نوع مغاير؛ النادر الذي لا يمكن امتلاكه
وتسليعه، وبيعه في السوق.. النادر الذي يثوي بين الأشياء وفي الأشياء وليس من أحد
بمقدوره اكتشافه غير الشاعر ـ ومنْ ينطوي على روح شاعر ـ والذي يحوِّله في مصنع
الإبداع بمادة الكلمات وكيمياء المخيّلة إلى صور مدهشة.. ما يرمي إليه الشاعر هو
صناعة الدهشة، لا الثروة المادية.. يلتقط الشاعر النادر؛ النادر الذي قد يكون
شاخصاً أمامنا ولا نراه بحكم اعتياد نظرنا على رؤية الأشياء المألوفة.. ولنتأمل-
مثالاً - كيف خلقت رؤية بدر شاكر السيّاب إلى ساقية نحيلة اسمها "بويب"، وإلى قرية
صغيرة وفقيرة اسمها "جيكور" تلك الأعاجيب الشعرية المذهلة. كان السيّاب يعكس جمال
دخيلته وفائض محبّته ونقاء حزنه على نهره وموطنه فيحيلهما إلى فراديس، وإلى أسطورة.
أديب كمال الدين لم يذهب إلى
رؤية العالم خالي الوفاض. ذهب وفي كنانته قبضة من حروف. كانت الحروف مادة خيميائه
وتميمته ونافذته ومفتاحه.
عرف أديب
أن الحرف مفتاح باب الوجود، ومفتاح القلب.. مفتاح الجسد والعقل والروح.. الحرف
مفتاح، والحرف عالم مغلق يحرِّض العاشق الرائي على فتحه.. الحروف مفاتيح بعضها
لبعض، وعوالم تتداخل بعضها في بعض.. لكل حرف جسد، ولكل حرف روح. وفيهما ما فيهما من
أغوار ومسالك وثراء وغموض جسد الإنسان وروحه. ولكأنّ الحرف صنو الإنسان ومرآته.
ولكأنّ الإنسان يتكشف كما البحر في قطرة، وكما الكون في إنسان، في صورة حرف وروحه.
وإذن كم من الأسرار والألغاز والأحجيات تختبئ في الحرف الواحد. ذلك أننا نتشكل
وعياً ووجوداً بالحرف، بضوء الحرف وسحره.
الحرف دال، إنه الدال الأول،
الدال البكر، الدال ما قبل الخليقة، الدال الذي يرهص للوجود، الدال الذي ينبئ
بالمسار والنهايات، الدال الذي يفصح عن الكينونة وقوة حضور الإنسان في العالم.
الدال المُعين في إدراك الذات والآخرين، الدال الذي إن انكشف عنه الحجاب غمر العالم
بنور المعارف.
وإذ راح أديب كمال الدين
يحاكي رؤى وتجارب أعظم متصوفة تاريخنا وهو يقيم أبراج قصائده على أسرار الحروف،
استعار صباح الأنباري منه بلاغة المتصوفة ومسالك معارفهم وطرقاتهم في فيافي اللغة
ليكتب نصه الذي يصل بنص أديب كمال الدين بوشائج سرّية وقويمة. ذلك النص المفعم
بالطراوة والجمال، والضاجّ
بالتأويلات.
قد نتفق مع تأويلات الأنباري
أو نختلف معها، لكنها التأويلات الذكية التي تثير انتباهنا وتجعلنا نقف لوهلة....
ونفكِّر.
ـ 3 ـ
في منظور الروائي؛ العالم
رواية كبيرة، معقدة، بخطوط سردية متشعبة، لا تُحصى.
في منظور الشاعر؛ العالم مكان
لإثارة دهشة دائمة، ومنبع لصور يجري احتواءها بالكلمات.
في منظور المسرحي؛ العالم
خشبة مسرح هائلة تُؤدّى فوقها دراما الحياة.
في منظور الناقد؛ العالم نص
مفتوح لقراءات وتأويلات لا نهاية لها.
يجمع صباح الأنباري في هذا
الكتاب بين منظوري الأخيرين؛ الفنان/ المخرج المسرحي والناقد.. فحتى وهو يرتدي قناع
الناقد فإنه لا يستطيع أن ينسلخ عن جلده المسرحي، وحتماً لا نريده أن يفعل، فهو في
هذه الحالة يعطينا رؤية استثنائية لعالم أديب كمال الدين الشعري. فنراه يستدعي
مفردات من قاموسه المسرحي؛ الشخوص، الذروة الدرامية، اللبوس الدرامي، النهايات....
الخ. وإذ ذاك يريد أن
يشخصن، لا الحروف وحدها- محور قصائد أديب ومادته ولعبته- ولا الكلمات وحدها، بل
فضاء القصائد أيضاً، ويؤنسنها.. إنه يتحرّى عن الفعل الذي هو روح كل عمل مسرحي، في
القصائد حتى وإن لم يخبرنا بهذا. إن الفعل هو في حقيقته صراع نقيضين أو أكثر..
تتبارى الأضداد وتتشاكس وتقاتل لكنها تتحد أيضاً في معادلة الوجود حسب ديالكتيكها
الخاص.. ولأنّ الشاعر ينحاز للحياة فإنه لا يقدر أن يتجاهل شبح الموت المهدِّد،
المترصد، والواقف خلف النافذة. وبهذا يختار الأنباري الموت ثيمة رئيسة في قراءاته
لمنجز أديب كمال الدين.. الموت الذي هو شكل من أشكال الغياب، أو هو أكثر تلك
الأشكال تراجيدية وغموضاً.. الموت الذي من غير التمعن فيه فلسفياً وشعرياً لن
نستطيع أن نفهم الحياة.
نحن نعيش في عالم متنوع،
متلوِّن، متحوِّل، ومتناقض.. هذا هو قدرنا وعلّة مجدنا وعاقبة بقائنا أحياء.. فيما
مأساة الوجود تكمن في أنك تدافع عن حياة لم تخترها؛ لم تختر أن تولد، ولم تختر زمن
ولادتك وموطنك، ولا الأسرة التي تنتمي إليها. كما أنك تقاوم احتمال الموت الذي ليس
بمقدورك - إنْ لم تقدم على الانتحار- أن تقرر توقيته وشكله وطقسه ومكانه. وفي هذه
المنطقة الشائكة والملتبسة يخوض الشاعر تجربة الكتابة..
الشحنة التراجيدية في قصائد
أديب عالية.. ليس هناك من كوميديا أو سخرية واضحة، وإنْ لم تعدم قصائده قدراً من
التهكّم الخفي.. التهكّم الذي مصدره الإحساس بالإحباط والعجز أمام هول الأحداث
وفجائعية القدر. ولهذا يفاجئنا أديب كمال الدين، على الدوام، في المتن بمعترضات
تواجه خط القصيدة في لحظة ما، أو موضع ما، من النص. وهي معترضات تمنح القصيدة سمة
طباقية ومن ثم بُعداً حوارياً.. إن الصراع المحتدم على مسرح القصيدة يشي بحوار
ساخن، معلن أو خفي، أو مسكوت عنه، في زاوية خفيّة منها. نقرأ مثلاً؛
"في الطريق إلى الموت:
الموت القديم المقدّس
فاجأني موتٌ جديد،
موتٌ لذيذٌ بطعمِ السمّ،
موتٌ لم أحجزْ له موعداً أو
مقعداً".
المفارقة ثمة جليّة وصادمة،
لا على الصعيد البلاغي وحسب، بل على صعيد الدلالة والمعنى كذلك. وهي تعبير عن مأزق
الكينونة الإنسانية في مواجهتها لمصيرها.
هذا ما يرصده أديب ويحيله إلى
نص يستمد تعقيده وإبهامه وتقاطعاته وسحره من العالم الذي يصوِّره. عالمٌ يعيد
صياغته ويُومئ إليه.. أما الأنباري في قراءاته لقصائد أديب فإنه يصل متون النصوص
بخارجها، بحياة مبدعها، وبالحياة في صورتها الكلّية، المحتدمة والمتناقضة. فهو لا
يكتفي في محاولاته بسبر جوانيّة
القصائد والوقوع على أبنيتها الداخلية وأنساقها المضمرة بل يعمد إلى اكتشاف
روح الشاعر وشذرات من سيرته، تلك التي بعثرها في قصائده. فما يبغيه الأنباري في
النهاية هو قراءة سيرة الشاعر الوجودية والذهنية والعاطفية في نصوصه. فإذ يقرأ
القصيدة عبر نسق بنائها وما تخزن من معاني ودلالات فإنه يلجأ أيضاً إلى حياة
الشاعر؛ إلى طفولته الفقيرة وأحلام شبابه الآخذة بالتبدد، ومنفاه، وغربته؛ غربته
الواقعية، وغربته الوجودية في الآن معاً.
يماهي الأنباري ما بين الشاعر
وشخوص قصائده. لكأنّ الشاعر يتحدث، ها هنا، على ألسنتهم وعبرهم، ويرى في محنتهم
محنته. وربما كانت رغباته الخبيئة المكبوتة تجد متنفسها في بعض فعالهم ومواقفهم.
ويُعْلمنا الأنباري أنّ قصيدة أديب ما هي إلا تمثيل فني لواقع عاشه الشاعر وخبره
وتمثله، وها هو يؤدي دور الرائي الشاهد من خلال استثمار ممكنات اللغة، والقدرة
السحرية الموّارة للحروف.
كان يمكن للأنباري، لو أنه
تقمّص وظيفة الناقد السردي الكاشف عن البنى السردية للقصائد أن يتحدث عن الرواة
داخلها لا فقط عن الشاعر المبدع خارجها. ففي سبيل المثال لو أخذنا قصيدة
(حارس الفنار قتيلاً) فإنه بقراءتها في بعدها السردي كان يمكن لتأويله أن يغطي
مناطق أشد غوراً في أعماق القصيدة. فالقصيدة على الرغم من ارتكازها على حدث واقعي
(مقتل الشاعر المعروف محمود البريكان غدراً) إلا أنها تنطوي على شحنة رمزية وجودية
عالية، وهي تحكي عن تراجيديا الحياة الإنسانية في هذا العصر الشائن والمضطرب.
فالقصيدة تمثيل بالكلمات والصور لتلك التراجيديا. وأظن أن هذا يوافق كذلك توجّه
الأنباري كما في رؤيته لفضاءات القصائد بوصفها مسرح حياة صاخبة تتشح بهالة
مأساوية.. ولابد من أن أنوّه إلى أن الأنباري نجح في تطبيق قراءة تناصية للقصيدة
وهو يضعها في مواجهة قصيدة البريكان (حارس الفنار).
ـ 4 ـ
كل كتابة جيدة هي اختراق، هي
إزاحة عن مركز وسياق وتقاليد، وتخطي عتبة إلى منطقة بكر، وقارة وجودية لم يسبق لأحد
ولوجها. ولقد أراد أديب كمال الدين، بطريقته الخاصة، أن يحقق هذا مطلاً على مديات
الإبداع من نافذة الحرف، لتصبح قصائده تجربة ذات ملمح صوفي عرفاني بطاقة شعرية
خلاقة.. وصحيح أنه ليس الوحيد الذي فعل ذلك، من بين الشعراء، لكن فرادة تلك التجربة
وسعتها والتي غطّت معظم مساحة منجزه أسّست لمشروع إبداعي ثري ومميّز.. فما كتبه ليس
كشوفات مجردة في عالم الحرف، أو تقليداً مفتعلاً لبعض نصوص المتصوفة التي جعلت من
الحروف مفاتيح لفكّ ألغاز الخلق، وإنما مغامرة دخول على صهوة الحروف إلى متون
العالم واستجلاء قوة الحروف وجمالياتها في علاقتها بالكائن والماوراء والزمان
والمكان والجسد والروح والحرية والحب والموت.
هذا الكتاب احتفالية سارّة
يقيمها مبدع اسمه صباح الأنباري على شرف نصوص مبدع آخر اسمه أديب كمال الدين.
بغداد/ 2 كانون الثاني 2014
سنوات الابداع
1975
1976 |
عمل أديب كمال الدين في الصحافة العراقية
ضمن كادر مجلة الف باء.
تخرّج في كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة بغداد – فرع الاقتصاد. |
1976 |
أصدر مجموعته الشعريّة الأولى (تفاصيل) عن مطبعة الغري الحديثة في
النجف. |
1981 |
صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد مجموعته (ديوان عربيّ). |
1984 |
ساهم في مهرجان الأمة الشعريّ، ببغداد. |
1984 |
عمل في هيئة تحرير مجلة أسفار. |
1989 |
صدرت له عن دار الشؤون الثقافية في بغداد مجموعته الثالثة (جيم). |
1992 |
أعدّ للإذاعة العراقية العديد من البرامج: "أهلاً وسهلاً"، "شعراء من
العراق"، "البرنامج المفتوح"، "ثلث ساعة مع..."، "حرف وخمس شخصيات". |
1993 |
صدرت عن مطبعة الجاحظ في بغداد مجموعته الشعريّة الرابعة (نون). |
1995 |
شارك في معجم البابطين
للشعراء العرب المعاصرين، جمع وترتيب: هيئة المعجم، المجلد الأول،
الطبعة الأولى، الكويت. |
1996 |
صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد مجموعته الشعريّة (أخبار
المعنى). |
1996 |
قدّم الناقد واثق الدايني محاضرة عن (فلسفة المعنى بين النظم والتنظير،
دراسة في مجموعة "أخبار المعنى" لأديب كمال الدين) على قاعة الاتحاد
العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد. |
1999 |
صدرت الطبعة الأولى لمجموعة (النقطة) في بغداد، مكتب د. أحمد الشيخ،
وصدرت الطبعة الثانية عام 2001 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات
والنشر. |
1999 |
تخرّج في كلية اللغات – جامعة بغداد – فرع اللغة الإنكليزية. |
1999
2000 |
نال جائزة الإبداع الكبرى للشعر عن مجموعته (النقطة).
ساهم في ملتقى الشعر العراقي الفرنسي في بغداد، القصر العباسي. |
2002 |
أمسية خاصة بمناسبة صدور مجموعة (النقطة)،
اتحاد الكتاب والصحفيين العراقيين،
عمّان، الأردن. |
2002 |
عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت، صدرت مجموعته
(حاء) بطبعتها الأولى. |
2002 |
ساهم في مهرجان الشعر العربي، بيت الشعر الأردني، عمّان، الأردن. |
2003 |
ساهم في ملتقى الشعر الأسترالي في مدينة تاوسفيل. |
|
|
2004 |
شارك في انطولوجيا الأدب المهجري المعاصر، اعداد: لطفي حداد، دار صادر،
بيروت لبنان. |
2005 |
شارك في انطولوجيا للشعر العراقي المعاصر، (بالإسبانية): إعداد وترجمة
Esteban Castroman
منشورات
Clase Turista
، بوينس آيرس، الأرجنتين. |
2004 |
شارك في انطولوجيا (بلد آخر)
Another Country
(بالإنكليزية) منشورات مجلة
Southerly
سدني، أستراليا. |
2004 |
حلّ ضيفاً على جمعية الشعر- اتحاد كتاب ولاية جنوب أستراليا حيث قرأ
عدداً من قصائده. وقد اختيرت قصيدته (محاولة في الرصاصة) قصيدة متميزة. |
2005 |
تخرّج في
المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا، أديلايد – أستراليا، قسم الترجمة
الفورية. |
2006 |
حلّ ضيفا على غاليري de
la Catessen
في أديلايد- أستراليا، حيث قرأ عدداً من قصائده. |
2006 |
صدرت مجموعته (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) عن دار أزمنة للنشر
والتوزيع، عمّان، الأردن. |
2007 |
(قراءة في مجموعة "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة")، محاضرة أُلقيت في
نقابة الفنانين بمحافظة بابل، العراق وساهم فيها الأدباء عبد الأمير
خليل مراد، جبّار الكوّاز، عباس السلامي. |
2007 |
عن دار أزمنة في عمّان، صدرت مجموعته (شجرة الحروف). |
2007 |
كتاب (الحروفيّ: 33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة)
إعداد وتقديم د. مقداد رحيم، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر
في بيروت. |
2007 |
من
اعداد
وتقديم ذو الفقار خضر وميثم كريم الشاكري، قُدّمت على خشبة مسرح نادي
الفنانين في بابل مسرحية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة). |
2007 |
قراءة في (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) محاضرة ألقاها الناقد زهير
الجبوري في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ببغداد.
|
2007 |
شارك في انطولوجيا للشعر العراقي المعاصر، منشورات أتلانتا ريفيو
الولايات المتحدة الأمريكية. |
2007 |
شارك في انطولوجيا للشعر العراقي تحت عنوان (على شاطئ دجلة) باللغة
الإسبانية، منشورات البيرو إي ــ كاراكاس، فنزويلا. |
2007 |
اُخْتِيرت قصيدته (أرق) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 . |
2008 |
(صناعة الكتاب الثقافي: كتاب الحروفيّ أنموذجاً) محاضرة ألقاها الناقد
مازن المعموري في الاتحاد العام للأدباء والكتاب ببغداد. |
2008 |
شارك في انطولوجيا (الثقافة هي)
Culture is
(بالإنكليزية)،
منشورات دار ويكفيلد برس، أديلايد، أستراليا. |
2009 |
صدرت (بالإنكليزية) عن دار سيفيو في أستراليا مجموعته: أبوّة
Fatherhood. |
2009 |
صدررت مجموعته: (أربعون قصيدة عن الحرف) دار أزمنة للنشر والتوزيع،
عمّان، الأردن. |
2009 |
كتب علي العبادي سيناريو مسرحية (الحقائب السود) التي أعدّها عن مجموعة
من نصوص الشاعر. |
2009 |
شارك في (عراقيون
غرباء آخرون: أنطولوجيا الشعر العراقي الجديد) (بالإسبانية)، إعداد
وترجمة: عبدالهادي سعدون، إسبانيا. |
2010 |
صدور كتاب (الحرف والطيف: مقاربة تأويلية) للناقد د. مصطفى الكيلاني
وهو بحث في عالم أديب كمال الدين الشعريّ. (نشر الكتروني). |
2011 |
عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، صدرت مجموعته
(أقول الحرف وأعني أصابعي). |
2011 |
صدور كتاب (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين) للناقد د. صالح
الرزوق عن منشورات ألف، دمشق وقبرص. |
2011 |
ترجمت الدكتورة أسماء غريب مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) إلى
الإيطالية وصدرت عن دار
منشورات نووفا إيبسا إيديتوره،
بالرمو، إيطاليا. |
2011 |
قراءة في مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) محاضرة ألقاها الناقد
مالك مسلماني في دار بابل للثقافة والفنون والاعلام. |
2011 |
نالت الناقدة حياة الخياري شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من
جامعة سوسة التونسيّة عن بحثها (الرموز الحرْفية في الشعر العربي
المعاصر). تناول البحث أعمال أدونيس، أديب كمال الدين، أحمد الشهاوي. |
2011 |
شارك في
لوحة أوروك
Uruk
A Portrait of
، مختارات من الأدب العراقي (بالإنكليزية) ترجمة: خلود المطلبي، دار
هرست وهوك للنشر، بريطانيا. |
2012 |
أصدرت الناقدة التونسيّة د. حياة الخياري
كتابها {أضف نونا: قراءة في (نون) أديب كمال الدين} عن الدار
العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان. |
2012 |
حفل توقيع صدور وترجمة كتاب (أربعون قصيدة عن الحرف) إلى اللغة
الإيطالية، بالرمو، ايطاليا. |
2012 |
أمسية شعرية خاصة في قاعة جامعة لاهاي، هولندا. تقديم الروائي محمود
النجّار. وفيها قدّم الشاعر مهدي النفري قراءة نقدية بعنوان
(الحلم في شعر أديب كمال الدين). |
2012 |
صدور مجموعة (ثمّة خطأ)
Something Wrongعن
دار
Salmat
أديلايد ، أستراليا. |
2012 |
حفل توقيع صدور مجموعة: (ثمّة خطأ) في اتحاد كتاب ولاية جنوب أستراليا
ــ أديلايد، تقديم الناقدة الأستراليّة: د. آن ماري سمث، وبمشاركة
الناقدة الأستراليّة د. هِثر جونسون التي قرأت مقالتها النقدية عن
المجموعة وعنوانها: (إحساس بالسحريّ). |
2012 |
اخْتيرت قصيدته (ثمّة خطأ) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام
2012. |
2012 |
عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، صدرت مجموعته (مواقف
الألف). |
2012 |
شارك في
ديوان الحلّة: أنطولوجيا الشعر البابلي المعاصر، اعداد: د. سعد الحداد،
النجف، العراق. |
2013 |
صدور مجموعته (الحرف والغراب) عن الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة
الأولى، بيروت، لبنان. |
2013 |
أصدرت الناقدة المغربية د. أسماء غريب كتابها (تجلّيات الجمال والعشق
عند أديب كمال الدين) منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان. |
2013 |
أمسية نقديّة خاصّة
عن مجموعة "الحرف والغراب" أقامها أساتذة قسم اللغة العربية في كلية
التربية – جامعة ديالى وتضمّنت البحوث الآتية:
1-
أديب كمال الدين في الحرف والغراب،
د. وسن عبد المنعم الزبيدي.
2-
المضمر النسقي ورمزيته في الحرف والغراب، د. نوافل يونس الحمداني.
3-
الدلالة السيميائية المضمرة في الحرف والغراب، الباحث أنمار إبراهيم.
4-
حينما يذبل عود الياسمين:
تصوّرات عن الحرف والغراب، د. علي متعب العبيدي.
5-
حمامة الشاعر وغرابه: قراءة في مجموعة :الحرف والغراب، د. فاضل عبود
التميمي. |
2013 |
تُرجمت مجموعته (ثمّة خطأ) إلى اللغة الأورديّة وصدرت عن منشورات دار
كلاسيك، لاهور، الباكستان، تحت عنوان (تناص مع الموت) (متن در متن
موت). قام بترجمتها الشاعر الباكستاني اقتدار جاويد. |
البـــــاب الأوّل
الدخول إلى عالم أديب كمال الدين الشعريّ
الفصل الأوّل:
سيرة ذات حروفيّة
قراءة في سيرة أديب كمال الدين الإبداعيّة
"حياتي منذ الولادة وحتّى الآن تخرج من مفصل لتدخل في آخر. فلقد مررتُ بمفصل
الحرب ثمّ مفصل الحصار ثمّ مفصل الغربة، وبين
ذلك كله يبزغ مفصل السؤال عميقاً وكبيراً: حول الحياة ومغزاها
والإنسان ودوره في هذا الكوكب العجيب"(1)
أديب كمال الدين
*
(1)
مقتطف من حوار منشور في مجلة اليمامة بتأريخ 8 – 8 – 2009 العدد 2069.
مقدمة:
منذ
أعماله الشعريّة الأولى التي صدرت بعد مجموعتيه (تفاصيل) و(ديوان عربيّ) اشتغل أديب
كمال الدين على ترسيخ تجربته الحروفيّة بدأبٍ وصبرٍ وإصرار. حرث أرضه الجديدة
وبذرها بالنقاط والحروف فأثمرتْ له أسلوباً حروفيّاً، وطريقة صار يُعرف بها،
ويُستدّل على قصائده بوساطتها. تناول النقّاد اشتغالاته الحروفيّة بعدد كبير من
المقالات والدراسات والبحوث، على مدى أربعين عاماً، مساهمين في إنضاج تجربته بعد أن
أعطى لها عصارة روحه، وخلاصة تجربته، وما اختزنه من معارف، وثقافات، وارهاصات
إنسانية.
كلّ مجموعة من مجاميعه الشعريّة منحت التجربة بعداً مختلفا ونكهة أديبية مميزة حتّى
استكملت التجربة عناصرها البنائيّة والأدائيّة.
ومع أن الشاعر أديب كمال الدين لا ينفرد باشتغاله على الحروف وتوابعها إلا أنه
تفرّد بتأسيس
أسلوب مغاير لمجايليه وسابقيه. أسلوب يخضع الحرف فيه إلى عمليات انصهار، وتفاعل،
وتمازج، وتداخل، وتشكّل، وتكامل، وتسامٍ حتّى يتحول إلى كائن شعري حيّ وحيويّ
مؤسساً بنية أساسيّة لمبنى القصيدة ومعمارها. بنية تفضي إلى فضاءات حبلى بحياة
سحريّة، وشطحات صوفيّة، وخيالات مجنّحة يتماهى فيها الواقع والوهم، الحياة والموت،
الصبر والعجالة، الآني والسرمدي، حتّى يخيّل لقارئ شعر أديب كمال الدين أنه أمام
عوالم حدسية لا يمكن الظفر بها مع أنها تعمل على غوايته من داخل الحرف والكلمة
والنصّ. وكلّما همّ باصطيادها انفلتت منه بزئبقية مدهشة، وبلذّة كفيلة بسحبه إليها،
وهيامه بها، ومطاردته لها حتّى آخر نقطة من نقاط القصيدة. ولعلّ هذا هو حال حروفه
الأنثويّة الصائتة وهن يطلقن بإيقاع رتيب نوحهن الذي يختزن مرارةَ الفواجع، وألم
السنين وخساراتها، ووجعهن الثَّكول وهن يندبن أعزّاء رحلوا دون وداع وغيّبوا دون
استئذان، ويرقصن بحداد طقوسي، ويرددن بألمٍ دفين لم يعدن قادرات على دفنه. يضربن
الخدود، ويمزّقن الصدور، ويَدُرْنَ في حلقتهن الراقصة قفزاً كما يقفز المعذّبون
بالفلقة داخل أقبية التعذيب. وهكذا الحال أيضاً مع حروفه الذكرية الدرامية في
قسوتها، والقاسية في وقعها، والمعقّدة في تضادها وتناقضها كأنّي بها تريد الجمع بين
الشيء ونقيضه، بين الحلم والرماد، بين السلم المنشود والحرب المدمرة، وهي على الرغم
من صغر حجمها، ومحدودية مساحتها استوعبت حياة كبيرة كاملة حافلة بكل ما في الحياة
من معاناة، وإرهاصات، وإشراقات، وخسارات، وخيبات، وإشارات، واستشراف لمستقبل
الإنسان فضلاً عن كونها أداة طيّعة ذات طبيعة انفجاريّة، وتشظّياتيّة وهي تمسّ
المهم والجوهري في حياتنا وواقعنا.
مفصل الحرب والحصار:
لقد استطاع الشاعر أن يفلسف حياتنا
الصاخبة الضاجّة بالقلق والحرمان والحروب، ويترجم جوهرها الذي يراه قابلاً للتجوهر
بعد أن رأى كلّ شيء، وسمع كلّ صوت، وأبصر بالعين والأذن والقلب كلّ شيء. سمع بالحرب
وخاض أوارها، ورأى شوارع المدن مكتظّة بلافتات سودٍ ناعية، ومشافٍ لم تخلو ردهة من
ردهاتها من جريح أو مشرف على الموت، ناهيك عن حاضنات الأعضاء المقطوعة، والمهروسة،
والجثث بلا رؤوس، والرؤوس بلا جثث، والجثث المصطبغة بزرقة الموت العجيبة. أكثر من
حربٍ دارت على أرض طفحتْ خيراتها حتّى استحالت نقمةً على ساكنيها. لقد رأى أديب
كمال الدين طغاةَ أرض السواد وما جاورها وهم يعدّون العدّة لحروب اختلفت مسمياتها،
وبُسملت معاركها بآيات من الذكر في محاولة ذكية أو خبيثة لشرعنة البدء بها، ولتزيين
طغاتها، وإحاطتهم بهالة وهّاجة من العقيدة والإيمان وما كانوا يدركون أنّ مصير
الطغاة آتٍ لا ريب فيه:
فإذا جاءَ يومي الموعود،
ولكلِّ طاغيةٍ أعددتُ يوماً موعوداً،
زلزلتُ به الأرضَ التي كانتْ
لا تطيقُ خُطاه
فانقلبَ تاجُه،
في رمشةِ عينٍ، إلى رماد(2)
خرج الطاغية من حربه الأولى مزهواً بحصد آلاف مؤلفة من الرؤوس الآدمية وما كانت
كافية لإطفاء جمرة جنونه المتقدة. آلمه يتمها فأنجب، بعد حمل قميء، مثنى وثلاث حتّى
ارتدت بغداد ثياب الدمِ، والدمعِ، والمحكومين بالصلب على مآذنها الثّكول. كان
الشاعر يرى كل مساءٍ على (الطريق السريع) ببغداد قوافل المركبات محملة بالتوابيت
الوطنية لشباب قُدّر لهم أن يكملوا ربع العمر أو منتصفه أو ما يزيد على ذلك قليلاً،
وكانت عيناه تغرقان بالدموع وهي ترى جذور الوطن آخذة طريقها إلى الجفاف المميت:
تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم
تعبتْ وبكتْ
وحين طلبتْ جرعةَ ماء
أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح(3)
أرّقَ الشاعر أن يرى البلاد تسير من موت إلى موت وكأنّ الموت باسط جناحيه
عليها دون غيرها منذ عصر فجر السلالات، وأن طغاتها من الأوّلين والآخرين لم تروِ
ظمأهم حمّامات دم الشرفاء، ولم يهن عليهم أن تعيش بلاد الخوف بلا خوف. يقول أديب
كمال الدين:
بعد أن خرجنا من الحرب
نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون،
اتجهنا إلى بغداد
يتقدّمنا صاحبُ الجند
ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً
ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً
.............................................
(2)
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ ط1/ عمّان 2007/ ص 83.
(3) شجرة الحروف/ دار أزمنة/ الطبعة الأولى/ عمّان 2007/ ص 33.
حفاةً، شبه عراة.
قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،
"سأختار لكم موتاً جديداً".(4)
واستمر فعلاً في خياراته الدموية حتّى نال
الوطن وسام العذابات الطويلة، ونال الشاعر نصيبه من تلك العذابات التي أنعم بها
الطاغية عليه نقمة إثر نقمة حتّى جاء اليوم الموعود فذاق
الطاغية مرارة الأسر في حرب أذلّته، وجعلت من قافلة شعرائه الأوغاد، وشعرائه
المرتزقة، والمطبّلين المزمرين، والنافخين في قرب الشقاق على إيقاع النفاق هباءً
منثوراً. يقول في قصيدة (شعراء الحرب):
حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق
القبضَ على صاحبِ الجندِ في حفرته العجيبة
فرّ شعراءُ الحربِ جميعاً
فرّ كبيرهم إلى بلادِ الظلام
وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب(5)
ثمّ توزعوا على بقاع الأرض كلّها وهم الحاملون لجرثومة الحرب أنّى حلّوا، وحيثما
رحلوا. لقد وضعت الحروب اللعينة أوزارها، ووضعت كل ذي حمل حملها فأنجبت لنا العاقر
منها حصاراً، وجوعاً، وذلاً، ومهانة حتّى صار الإنسان يفكر بطريقة وأخرى لشرعنة أكل
أخيه الإنسان. وصار الجندي يقطع المسافات مستجدياً ما يعينه على الوصول إلى أسرته.
وتحوّل المعلمون إلى باعة للسجائر على أرصفة الطرقات، والأطفال إلى باعة لأكياس
التبضّع، والجائعات المرضعات إلى بائعات لفلذات أكبادهن ثمّ إلى بائعات للهوى
والمسرّة، وصار الناس غرباء بين ذويهم.
...............................
(4)
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة/ الطبعة الأولى/ عمّان 2007/ ص 26.
(5) ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة / ط1/ عمّان 2007/ ص 125.
مفصل الغربة ومكابدتها:
لم يطق الشاعر غربته بين ذويه. لقد شدّ
الرحال إلى بلادٍ غربتها أهون عليه من غربة الوطن وهو العارف بالغربة القصوى:
أوقَفَني في موقفِ الغُربة
وقال: الغُربةُ تبدأُ من الروح
فحذارِ من غُربةِ الروحِ يا عبدي.(6)
تلك الغربة صبّتْ في نفسه بحاراً من الصخب القاتل، وجبالاً من الهموم، والشجن،
والشعور بنهاية آتية لا ريب فيها، وبسببها لاذ، وهو الغريب، بأبسط الأشياء سعياً
وراء عشبة الحياة. يقول في قصيدة (الغريب) سائلاً النبع:
هل عندكَ دواء للموت؟
* قالَ النبع: لا.
فضحكَ الغريبُ ثانيةً
حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.(7)
في هذه الغربة القاتلة، استأثرت صور الموت
بمساحات كبيرة من اشتغالاته الحروفيّة حتّى تحوّلت إلى موضوعة مركزية في أغلب إن لم
أقل في كل تلك الاشتغالات. ولهذا وجدتُ أن من الأهمية بمكان تقصّي مدياتها في
قصائده التي تناولت سيرته كحرف أول في أبجدية حياته الشعريّة، وكشخصية حروفيّة
حاولت استقراء الموت.
ولا بد لنا أيضاً أن نشير ونحن نسترسل في
صياغة سيرته الحروفيّة غير التقليدية إلى أن هذه الصياغة لا تعنى بسنيّ حياته وما
جرى أو طرأ عليها، ولا بحلّه وترحاله، ولا بمن تأثر
......................................
(6) مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ط1/ بيروت 2012/ ص 34.
(7) شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ ط1/ عمّان 2007/ ص 27.
أو تتلمذ على يديه.. الخ.. الخ، وأنها فقط تتطرق إلى كل هذا وذاك ولكن من خلال
منجزه الإبداعي الحافل بمكابدته، ومعاناته، وتجلّياته، وشطحاته، واحلامه منذ طفولته
الدّامعة وحتّى نهاية سلّمه الإبداعي المتجدد. وبدءًا من الطفولة تتحدد ظلال تلك
المعاناة على صفحات قصائده الحزينة. يقول على لسان (يوسف الصدّيق) في نهاية قصيدته
الموسومة بـ(العودة من البئر) متسائلاً:
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبي؟(8)
ومن هذين السؤالين المنطويين على مرارة شديدة، ومعاناة قاسية يتضح مدى هيمنة اليتم
على مسرّات الطفولة، وسطوة الدمع على مباهجها، وتأثيرهما البالغ على توصيف الشاعر
الذي لا يني يكررهما في قصائد مجاميعه الشعريّة. يقول في قصيدته (محاولة في البهجة)(9)
واصفاً الحرف الصغير "كان يلتمع أملاً كعيد طفل يتيم" ويشبّه الانتظار في قصيدة
(صيحات النقطة) بانتظار اليتيم لأبيه(10)
وفي قصيدة (محاولة في الطيران) يقول:
اكشفي عن أنانيتك
حتّى أريكِ يُتمي(11)
وفي قصيدة (محاولة في الموسيقى) يقول:
الموسيقى تجيء
فأقومُ من الموتِ إليها
.........................
(8)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011/ قصيدة:
العودة من البئر/ ص13.
(9) النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط2/ بيروت 2001/ قصيدة: محاولة في
البهجة/ ص 91.
(10) أقول الحرف وأعني أصابعي/ دار أزمنة للتوزيع والنشر/ ط1/ عمّان 2006 قصيدة:
صيحات النقطة/ ص 72.
(11) النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط1/ بيروت 2001/ ص 22.
لنلتقي طفلين يتيمين
يتحسّران على أرجوحةِ العيد.(12)
أما الدموع في حياته فإنّها تشغل المساحة
الأوسع، وتكاد تكون من مركزيّات توصيفاته الشعريّة أيضاً ففي قصيدته (محاولة في
الإبصار) على سبيل المثال استأثرت مفردة الدمع بأغلب مقاطعها فجاءت في الأول محاصرة
إياه "الدمع حاصرني"، ووردت في المقطع الثاني كخرافة وطفولة وجنون وعمى، وفي المقطع
الخامس وردت مرتين لتأكيد الانتباه "هلا انتبهت إلى دمعتك؟" وأخيرا في المقطع
السادس وردت أربع مرات عثر عليهن الشاعر ككلمات، وحروف، ونقاط، ومشبّهاً بها
"أخبرني يا عمري: يا جبل الدموع". وستظلّ هذه المفردة، بصيغ المفرد والمثنى والجمع،
تتابعه في تحولاته. ففي قصيدة (موقف الخطأ) تتحوّل الدمعة إلى مصدر إدانة للشاعر
الخطّاء من خلال التساؤل اليقيني: "كيفَ يحدثُ هذا ودمعتُكَ لا تفارقُ عينكَ؟"
ويأتي هذا السؤال متقدما على سؤالين عن الكيفية المثيرة للتساؤل والعجب:
كيفَ يحدثُ هذا وشمسي تُحيطُ بقلبِك؟
كيفَ وقد عبرتَ سبعاً من لُغاتِ الجَمر،
وسبعاً من معارك الكَفَرةِ الفَجَرة،
وسبعاً من بوّاباتِ مدنِ السُفهاء،
وسبعاً من تُفّاحاتِ حَوّاء،
وسبعاً من سكاكين صويحباتِ يوسف؟(13)
لقد أضفى الرقم سبعة، في السؤال الثاني، بتكراره نوعاً من القداسة منحته تفوقاً،
وطهراً،
............................................................
(12)
المصدر السابق/ الصفحة 26.
(13) مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ط1/ بيروت 2012/ ص 17.
ومبالغة في الحصانة الذاتية، وليّ عنق الرغبة الجامحة، واغتلام الشهوة الفادحة
كحالة تصوّفيّة أو ارتقائيّة مانحة إياه نقاءً، وصفاءً، وهدوءًا، ودفئا روحياً
يبتغيه.
ويقول في قصيدة (محاولة في الحروف) "بللني الدمع وطحنتني شمس آب"(14)
وفي (محاولة في الرصاصة) يقول واصفاً تحوّلات قلبه:
كان لي قلب
حين كبرتُ تحوّلَ إلى عصفور
ثمّ إلى وردة
ثمّ إلى كلمة
فدمعةٍ ورغيف.(15)
للدمعة إذن فعل ساهم ــ بشكل أو بآخر ــ
في بناء سيرة الشاعر، ودعمها بالصفات التي نزّهته عن سواه من الناس، وقرّبته عن
سواه إلى الله، ومنحته شرف القيام بالمحاولة في الرثاء، والسحر، والنقطة،
والموسيقى، والعزلة، والصوت، والإبصار، والحُبّ، والرصاصة.. الخ.
وفي قصيدة (موقف الدمعة) توكيد لقدسيتها إذ ترد متجلّية بصوت الله الذي مزجها
بالتراب ليكون طيناً، وليكون بشراً على درجة عالية من القداسة التي دونها قداسة
الملائكة جميعاً. وليكون بسببها بَكّاءً في الولادة، والضياع، والارتباك، والوحشة،
والظلم، والمرض حتّى يخال أنه مولود من دمعة لا من تراب:
أوقَفَني في موقفِ الدمعة
وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!
..................................................
(14)
النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط 1/ بيروت 2001 /ص31.
(15) النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ط1 / بيروت 2001 /ص 111.
فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.
وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ
بالترابِ ليكون طينا(16)
لقد تضمّنتْ جملة مقال القول على فعلين: أحدهما أشار إلى ما مضى من البكاء، والآخر
إلى ما سيأتي منه في دلالة واضحة لاستمرار هذا الفعل وتوطّنه في ذات (العبد) القلقة
الذي يبيّن له المعبود جوهره الطيني. وما خاتمة (الموقف) في هذه القصيدة سوى توكيد
لذلك الجوهر وإن جاء على شكل استفهاميّ: "أمِن
دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟" ذلك لغنى الخالق عن أيّ إجابة محتملة من جهة،
ولإرادته في توضيح ما وقع فيه المخلوق من التباس القصد.
وفي قصيدة (محاولة في السّحر) تتحوّل دموع الشاعر "بقدرة قادر" عند المساء إلى
سَحَرة، يسألونه عن سرّ بكائه فيمنحونه ما حُرم منه من ملابس الذهب، والطيران من
غيمة إلى أخرى، وسرّ اللذة، وتحويل الحلم إلى يقين. وحين توسّطت الشمس السماء اختفى
الذهب، وانقشع الغيم، وتوارت اللذة، وتبخّر اليقين: "فصرختُ يا دموعي" فقال
السَحَرة:
سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب
ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم(17)
لتبدأ انطلاقته الحروفيّة الساحرة التي ستسم كل مجاميعه اللاحقة بميسمها، وجموحها
إلى منبع الأنوار، ومحاولاتها اجتراح الأسرار الخفية منذ مجموعته الثالثة (جيم)،
ومنذ اشتغاله فيها على اشراقات (كهيعص) وتجلّيات (طلسم)، و(إشارات) التوحيديّ.
وصارت هيئة الحرف لازمة لعنوانات مجاميعه فمن الـ(جيم) إلى الـ(النون) ومن النون
إلى الـ(النقطة) ومن
النقطة إلى الـ(حاء). ولم تخلُ عنوانات مجاميعه اللاحقة من الحرف أو النقطة أو (ما
قبل الحرف.. ما بعد النقطة). وعندما اتسعت اشتغالاته نمت (شجرة الحروف) لتغطّي
بفيئها الوارف كائناته الحروفيّة التي وضعها في (أربعون قصيدة عن الحرف) ثمّ جعل من
الحرف
.............................................
(16)
مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ط1/ بيروت 2012/ ص 82.
(17) النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط2/ بيروت 2001/ص 10.
مقصداً ومقال قول في (أقول الحرف وأعني أصابعي) أما ما يخصّ مواقفه فقد حددها في
(مواقف الألف) مقتبساً جملة البدء فيها من النّفّريّ، وقد أكمل اشتغالاته تلك
بـ(الحرف والغراب) وثمّة مجموعة أخرى تناولت معنى الحروف والنقاط وإن خلت عنونتها
منهما كما في (أخبار المعنى).
مفصل السؤال:
بعد هذا السرد، ومحاولتنا استقراء السيرة الحروفيّة من داخل منجمها الإبداعي،
وباطنها المعرفي، وجوهرها الصوفيّ، وعمقها الحروفيّ، يطرح السؤال نفسه علينا: مَن
هو هذا المتبصّر بحروف الخليقة، والمستقرئ سرّ نقاط الكون، والكاشف ما خفي وراء
المعنى؟
إنه الألف (أ)،
أو الإنسان،
أو أديب كمال الدين، أو الحروفيّ:
أوقَفَني في موقفِ الألف
وقال: الألفُ حبيبي.
إنْ تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحروفيّ".(18)
قَدَرٌ رُسِمَ له، ونبوءة عَمَلَ على تحقيقها مستعيناً بما ملك من الحروف والنقاط
والمعاني، ومن نقاء السريرة وصفاء النية، وبلورة الروح، ونفاذ البصر والبصيرة، وقوة
الرؤية والرؤيا،
والزهد عن الدنيا، والتقرّب لأهل الله ليستأثر بما وعِدَ، وليمنح، من ثلاثة وثلاثين
ناقداً أدلوا
..........................................................
(18)
مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2012/ الصفحة 12.
بدلاء نقودهم في بئر حروفيّته العميقة، لقب (الحروفيّ).(19)
فهل اكتفى بلقبه هذا وتوقف
عند حدوده الدنيا؟ يبدو لي أنه لم يكتفِ به، ولم يتوقف عند حدوده الدنيا بل انه رام
ما هو أبعد منها بكثيرٍ من دون غرور، وأسمى منها بكثيرٍ من دون تبجّح، وأرفع شأناً
منها بكثيرٍ من دون استكبار. لنقرأ الموقف الآتي:
أوقَفَني
في موقفِ الاسم
وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟
قلتُ: النقطة.
قالَ: بل الحرف والنقطة جزءٌ منه.
ثمّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحروفيّ والحرف جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحروفيّ.
قالَ: بل الصُوفيّ والحروفيّ جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ:
الصُوفيّ.
...................................................
(19) الحروفيّ/ 33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة/ إعداد وتقديم:
د. مقداد رحيم/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط1، بيروت 2007.
قالَ: بل العارف والصُوفيّ جزءٌ منه.
ولما كانت تجربته الشعريّة غير مقولبة داخل أطر تحجيمية، أو محددات طرازية، على
الرغم من كونكريتية خلفيته الصوفيّة، فانه ارتضى بالحروفيّ لقباً شعرياً، وصفة
حروفية، واسماً دلالياً فيه ما يميّزه عن سائر المتصوّفة، وسائر الشعراء جميعاً.
ولو قبل بلقب (العارف) وهو لقب صوفيّ بحت لخسر ما هو أوسع من الصوفيّة وتجلّياتها.
إنها الإنسانية التي منحت قصائده امتيازاً شاملاً ودليلنا عليه اهتمام النقاد على
اختلاف مشاربهم ومناهلهم بقصائده الشعريّة التي وسعت أفراح البشر وأتراحهم جميعاً.
ولم تكن صفة الحروفيّ مستأثرة بصفاته كلها فثمّة صفات كثيرة أخرى تمثّلت شخصيته وما
انطوت عليه كالغريب، والمنفيّ، والمَحروم، والضائع، والمُمتَحن، والمُشتاق،
والسَجّاد، والمَنسيّ، والمُتضرّع، والمُنوّن، والمُتصوّف، والزاهد، والعارف التي
على الرغم منها اعترف بتواضع كبير أنه ما كان الا حرفاً محدد المصير كسائر حروف
الدنيا:
ما كنتُ إلا حرفاً،
ما كنتُ إلا ألفاً
مَصيري إلى التُراب
إذ خلقتني من طين.(20)
ولم يكن من بعد شيئاً آخر فالفعل الناقص (كنتُ) لم يأت هنا ليعبر عن الزمن الماضي
حسب، بل عن الزمنين (الماضي والحاضر المستمر) على حد سواء ولنا في القرآن الكريم
أمثلة كثيرة: "كان الله سميعاً بصيراً" أو "كان الله يحُبّ المحسنين" أو "كان الله
عليماً حكيماً" والمعنى المقصود في هذه الآيات هو: كان ولم يزل. إذا عدنا للصفات
المذكورة سنجد أنها استأثرت بعدد كبير من قصائده، أو تضمّنتها، أو أشارت إليها ربما
في أكثر من موضع أو
..............................................
(20)
مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2012/ ص 12.
مقطع أو بيت منها. فمن القصائد التي تناولت غربته في المواقف قصيدة (موقف الغربة)
وفيها يصل إلى ثلاث موجّهات لدرء نفسه منها:
قال: مَن عَبَدَني نجا مِن الغُربة.
ومَن أحَبّني قهرَ الغُربة.
ومَن عشقني كانت الغُربةُ عنده
نَسْياً مَنسيّاً.(21)
وثمّة موجّه آخر تمثّل في الشبه القائم بين غربته وغربة الأنبياء والصالحين ومنهم:
نوح، وصالح، وموسى، وعيسى، ويوسف، وأيّوب، والحسين فهو بين المارقين أو (الكفرة
الفجرة) كالأنبياء والصالحين تسامى على من أنكر صوت الحق قامة ومقاماً. وعلى الرغم
من تمسّكه بتلك الموجّهات والمشبّهات إلا أنّه لم يستطعْ على الغربة في بلاده صبراً
فشدّ الرحال مبحراً وهو العارف بالقرصنة التي تقوّض القلب في بحور الغربة، وهو
العارف أنه الغريب الذي لا أرض له، ولا مستقر، ولا مَن يعينه على عذابه المقيم،
وضياعه المكتوب:
أنا الغريب
لا أرض لي ولا هدف
لا وجهة ولا رغبة ولا قرار.
جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء
واللهو والغنى والحروب
فلم أجدْ أيّ شيء يعينني
..................................................
(21)
مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2012/ ص 34.
على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.(22)
وبقدر تأثير الغربة عليه كمحروم و"مفتون
تتقاذفه الدروب والبلدان والسنين"(23)
فإنّها احتضنت أغلب نتاجه الإبداعي مذ وطئت قدماه دروبها التي تقاذفته في لياليها
جمراً، وثلوجاً، وبكاءً وقصائد ارتقت به سلّم الإبداع والشهرة سواء تلك التي كتبها
باللغة العربية، أو التي ترجمها إلى اللغة الانكليزية. ومن مميزات ذلك النتاج
الشعريّ أنه خصص أربعة مجاميع منه تضمنت كل مجموعة على موضوعة تشظّت إلى عدد من
الموضوعات المختلفة مثل مجموعته (ديوان عربيّ) الذي انقسم على عدد من الدواوين
الفرعية مثل: ديوان الأسئلة، ديوان المقابلات، ديوان الأشياء.. الخ. أما مجموعته
الموسومة بـ(أخبار المعنى) فقد تضمّنت كل ما يتعلّق بالمعنى مثل: موت المعنى، أخطاء
المعنى، صراخ المعنى، راء المعنى.. الخ. وتضمّنت مجموعة (النقطة) على محاولاته
المختلفة مثل: محاولة في الرثاء، محاولة في الطيران، محاولة في الكتابة، محاولة في
الحروف.. الخ. وأخيراً جاءت مجموعة (مواقف الألف) لتضمّ مواقفه المختلفة مثل: موقف
الألف، موقف الظلام، موقف الكلام، موقف الجسد.. الخ. إنّ كل مجموعة من هذه المجاميع
الأربع بموضوعاتها الرئيسة المختلفة، وطرق توزيعها وتقسيمها أكدّت، بما لا يقبل
الشك: قدرةً شعرية كبيرة ومكنة أدائية عالية وفيضاً من الأفكار الراقية القادرة على
الانفلاق، والاستنسال، والابتكار، والتألق، وشكّلت بحسب رؤيتنا لها مثابات شعرية
مهمة، ومحطّات أساسيّة انطلقتْ منها قاطرات أديب الشعريّة مجددة مسارها على خطّ
سيرته الحروفيّة.
سيرة ذات حروفيّة إذن هي قراءة تأمليّة في سيرة منجز أديب كمال الدين الإبداعي،
ونتاجه الشعريّ بما حفل به من محاولات، ومعانٍ، ومواقف، وإشارات، ومغامرات،
وسندباديات، وشطحات، وإشراقات، وغور في الحقيقة المطلقة. سيرة نأمل أن نكون قد
وفّقنا في كتابتها بطريقتنا غير التقليدية.
.............................
(22) شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ ط1/ عمّان 2007 / ص 27.
(23) مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2012/ ص 16.
الفصل الثاني
تمهيد في الغياب، والتشاخص، والحروفيّة، والموت
"
الموت هو الحرف الأعظم. إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا يدانيه حرف. وكشاعر
اتخذ الحرفَ وسيلةً فنيّةً وروحيّةً حتّى
صرتُ بفضل ذلك أُدعى بـ(الحروفيّ)،
أقول: إنّ الحرف والحروفيّة، بل الشعر والشعريّة، إنما هي احتجاج
على الموت
وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه
وتخفيف سطوته
وعنجهيّته وعبثيّته."(1)
أديب كمال الدين
*
(1)
مقتطف من حوار منشور في جريدة السفير اللبنانية/ العدد 12570 الصادر بتاريخ 4/ 9/
2013 أجرى الحوار مع الشاعر والكاتب اسكندر حبش.
أولاً: الغياب:
لا وجود لما نسميه موتاً
بغياب الكائن الحي. بل لا وجود لأيّ منهما بغياب الآخر فهما وجهان لعملة واحدة
يستحيل الفصل بينهما على الرغم من اختلاف بعضهما عن بعضه الآخر في التفصيل والجوهر.
أحدهما ديدنه الحركة الدائبة المستمرة التي لم ولن تتوقف على مرّ العصور والأزمنة.
والآخر ديدنه السكون الذي لا قرار لسكونيّته على مرّ الأزمان والعصور. وثمّة تناقض
ظاهر يحكمهما ويجعل الصراع بينهما قائماً لا محالة.
للغياب أوجه عديدة أكبرها وأكثرها تعقيداً
وتأثيراً في الكائنات الحية هو الموت. وللموت أصابع من نار تطول الناس جميعاً،
تقتنص بهجة أيامهم، وتبسط لهم كفاً من لظى الغياب للرحيل الأبديّ. كل ولادة جديدة
للحياة تزيد تلك الأصابع ناراً واستئثاراً بفرصة إضافية للقبض عليها. وكلّما سقطت
ورقة كائن من شجرة الحياة حضرت تلك الأصابع بعزرائيلية مرعبة لتمارس طقس فرحها
الجهنمي في تغييب الروح. هذا الموت بوجهه الثابت أو بوجوهه المختلفة العجيبة،
والغامضة هو ما استأثر بدراستنا التي سنشتغل فيها عليه كثيمة مركزية للغياب في
قصائد الشاعر الحروفيّ أديب كمال الدين.
ومن أشكال الغياب التي خزنتها ذاكرتنا
الجمعية "غيابة الجُبّ" في قصة الصدّيق يوسف وهي من القصص القرآنية المعروفة التي
بيّنت سبب اختيار الأخوة للبئر مكاناً لتغييب أخيهم وهم الذين يعرفون أنّ القتل
غياب أبديّ، وأنّ في الجُبّ خياراً آخر مرهونا بمرور السيّارة والتقاطهم للمُغيّب.
وتشكّل غيابة الجُبّ لأديب كمال الدين واحدة من أسوأ أمكنة التغييب لعمقها،
وظلامها، وغموض ما فيها، وسريّة ما تدّخره من الأهوال والرعب والرهبة. وهي في الوقت
نفسه رحم الأرض وحِضنها الرؤوم المستقر، وسرّتها، وموضع الأسرار الدفينة، فضلاً عن
كونها التجويف المثير غريزياً. كما تحفظ ذاكرتنا الطفلية بعض ما سمعناه عن سكانها
من الجن، والأشباح، و(الطناطلة) وما تزخر به من القصص العجيبة والغريبة.
في قصيدة (العودة من البئر) استحضر أديب
كما الدين شخصية الصدّيق يوسف لتلقي أسئلة عتبها على الأب غيابياً:
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون
(2)
ومن سياق الأسئلة يبدو لنا السائل صبياً فطناً عارفاً بمسؤولية أبيه، وضعف أبيه،
وبعدم قدرته على مقاومة سحر لثغتها، وأنوثتها الطاغية فهي هنا الأنثى المشتهاة، وهي
خازن الأسرار، وسَقّاءَة الظمآن، وحاضنة المغيّب جزئياً أو كلياً. جاء في لسان
العرب: "هي العادِيَّةُ القديمة لا يعلم لها حافر ولا مالك، فيقع فيها الإنسان أو
غيره، فهو جُبار أي هَدَرٌ، وقيل: هو الأجير الذي ينزل البئر فينقيها أو يخرج منها
شيئاً وقع فيها فيموت". من الواضح أن أديب كمال الدين الذي اقتبس الحكاية من مصدرها
القرآني لم يقتبسها حرفياً، أو لنقل أنه يروي الحكاية خارج سياقها المعروف بعد أن
تماهت شخصيته مع شخصيتها الرئيسة. فإذا كان المصحف يروي عما حدّث ليوسف بطريقة
الراوي العارف بكلّ شيء فإنّ أديب كمال الدين يروي عن نفسه بنفسه بطريقة أنا ضمير
المتكلم:
صحتُ: سلاماً
إنني أهوي إلى القاع.
فهل سقطتْ دمعتُك
من بؤبؤ الحزنِ حتّى تراني؟(3)
.........................................
(2)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011/ قصيدة:
العودة من البئر/ ص13.
(3) المصدر السابق.
في القصيدة ثمّة اتجاهان متعاكسان يشير الأول إلى الأعلى وفيه تصعد روح الأب إلى
السماء، ويشير الثاني إلى الأسفل حيث علقت روح الأبن في غيابة الجُبّ وظلّت على
حالها وهي تترقب العودة والخروج من قعر المأساة السوداء وزمهريرها الذي ابتليت به
إلى حيث الحياة والدفء والنور الذي حُرِمتْ منه. في (قصيدتي الأزليّة) يكرر أديب
كمال الدين الحكاية نفسها وما جرى له ولأبيه كما وردت في القرآن لكنه يبتكر لها
نهاية أخرى تمثلّت في قول الّسيّارة:
ما قالوا: يا بشرى هذا غلام
بل قالوا: واأسفاه هذا هُلام.(4)
وحيث لا نفع للّسيّارة منه فقد تركوه في غيابة الجُبّ ومضوا لحال سبيلهم فظلّ على
حاله يكابد أمر الدنيا والآخرة وإذ غادرها وهو يحمل منها جرحاً غائراً، تمنى لو أن
في بيته بئراً أخرى غير التي احتضنته وضمته إلى صدرها بأذرع حجرية دون روح.
كلّما
تذكّرتُ الماضي
وددتُ لو أنّ بئراً في البيت
لأنظر فيها وأمسح الذكريات بهدوء.(5)
فهو يبغي من البئر الثانية شفاءه مما ورث عن الأولى من الداء الممض وكأنّي به أراد
أن يداويها "بالتي كانت هي الداء"
(6)
لقد أثّرت فيه البئر تأثيراً مبيناً، وارتبطت عنده بالذاكرة ومفازاتها، وبالأسرار
وغموضها، وبالطلاسم ومغاليقها، وبالأوصاف ومفرداتها، وبالغياب وآلامه المريرة حتّى
حفرت لها في
................................
(4)
شجرة الحروف/ دار أزمنة/ الطبعة الأولى/ عمّان 2007/ ص 19.
(5) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011/ العودة
من البئر/ ص 93.
(6)
الموسوعة العالمية للشعر العربي/ الشبكة العنكبوتية/ رابط:
http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=24831
مخياله أكثر من صورة وصورة فها هو ذا في قصيدة (صورتان لبئر) يشبه بها ذكرى أنثاه
قائلاً:
ذكراكِ تشبه بئراً مهجورة
تخرجُ منها الأشباحُ كلّ ليلة
لتعنّفني بإشاراتها وحركاتها(7)
ولما كانت البئر مرتبطة بشكل أو بآخر بأخيلتنا المجنّحة، وتصوراتنا لموجوداتها
الرهيبة
فأنّ الشاعر يلقي فيها الحجارة كل يوم لأربعين عاماً كي تخرج ما فيها من الأحلام
والرؤى لكن السلاحف فقط هي التي تتحرك في غيابتها السوداء.
البئر كما نراها في قصائد أديب تمثل أسوأ
حالات تغييب الطفولة، وحرمانها، ويتمها وهذا هو العامل المشترك الأعظم بين طفولته
ويتمه وبين طفولة يوسف الصّدّيق ويتمه الإجباري. فالأول حُرم من أبيه الذي مات بين
يديه وهو لا يزال طفلاً، والثاني حُرم من أبيه بتغييبه عنه في غيابة الجُبّ
أولا وعيشه في بلاط العزيز ثانيا.
وفي الحاليتين وقع فعل الغياب وأثره على طفولتهما المعذبة.
ومن أشكال الغياب في قصائد أديب كمال الدين أيضاً الغربة بوجوهها المختلفة وأشدّها
تلك التي أشار إليها أبو حيّان التوحيديّ في كتابه (الإشارات الإلهيّة)
حين قال:
"أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه،
وأبعد البعداء من كان بعيداً من محلّ قربه.. لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود،
ويغمض عن المشهود، ويُقصَى عن المعهود.. يا هذا.. الغريب من إذا ذكر الحق هُجِرَ
وإذا دعا إلى الحق زُجِرَ"
(8)
.............................
(7)
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة/ ط1/ عمّان 2006/ الصفحة 119.
(8)
التوحيديّ- الاﺸﺎرات الإلهية – ت . د. بدوي.
وأشار إليها أديب كمال الدين في مواقفه قائلاً:
أوقَفَني في موقفِ الغُربة
وقال: الغُربةُ تبدأُ من الروح
فحذارِ من غُربةِ الروحِ يا عبدي(9)
كما أشرنا إليها في اشتغالنا على سيرة الشاعر الإبداعيّة. وستأتي ضمناً في اشتغالنا
اللاحق على الثيمة المركزية لدراستنا.
ثانيا: التشاخص:
لقد شخصنت الكائنات نفسها، وتشاخصت في ما بينها، ففرض الإنسان (كشخص) نفسه عليها
جميعا خارجاً عن قانون استسلامها الطبيعي للغياب ببرود. وعمل جاهداً على الهروب
منه، أو التنديد به، أو العمل على تحييده، وهذا أضعف الإيمان. من هنا وردت
(الشخصنة) كحالة لتمييز الكائن جسدياً وقد جاء في لسان العرب " شَخُصَ الرجلُ فهو
شخيصٌ أي جَسيِم" و"كلّ شيء رأيت جُسْمانَه، فقد رأيتَ شَخْصَه" و"تَشخّص له: تراءى
له بصورة شخص" والشخص سواد الإنسان وغيره"(10)
أما التشاخص فهو الاختلاف والتفاوت فيما بين الشخوص. وقد جاء في (لسان العرب) أيضاً
أن بعض أهل اللغة أنشدوا قائلين: "تَشاخَصَ إِبهاماكَ، إِن كنتَ كاذِباً، ولا
بَرِئا من داحِسٍ وكُناعِ". والتشاخص في قصائد أديب كمال الدين يعني تحديد
الموجّهات بين سائر شخوصها من خلال البعد الفاصل بينها وبين الموت أو لنقل مجازاً
بين حرف الحضور (الحياة) ونقطة الغياب (الموت). وعلى وفق هذا
.........................................
(9) مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ط1/ بيروت 2012/ ص 34.
(10) المنجد في اللغة/ الأب لويس معلوف اليسوعي/ المطبعة الكاثوليكية/ بيروت ـ
لبنان.
التشاخص ودرجة تحققه إبداعياً قسّمت شخوصه الشعريّة على أقسام سنأتي على ذكرها
تفصيلياً.
ثالثاً: الحروفيّة:
أما الحروفيّة التي تسامت باشتغالاتها المختلفة فأنها تلاءمت مع التصنيف التشاخصيّ
المشفوع بروح تلك الحروفيّة وموجهاتها، ومحدد بما قَبْل
حرف الحضور،
وما بَعْد نقطة الغياب. وما بين (القبل والبعد) حياة حافلة بحروفية تتسع
الدورات
الزمنية، والدلالات
الصوفيّة. وتتجلّى بوادر ذلك في عنونة
مجموعة أديب كمال الدين (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) التي سبق وإن وضعنا لها
المحددات الآتية:
أولاً. ما قبل الحرف:
أفكار تترى، ورؤى تموج، وصور تتلاحق في مخيال الشاعر، وشخوص يرتقون زمنه الشعريّ،
وصراع يطول أحلامه، ويشتتها أو يمنحها زهوها الخاص. عمر يناهز عمر الكينونة،
ويتجاوز ملكوت الدينونة مجسّداً في هيئة امرأة من نار، أو رجل من برد، جنون، صحراء،
رعب، عذابات سود، يتم، ضياع، عظام، جماجم، موت، و.. و.. و.. وآخرة ما بعد الموت،
وما بعد الجحيم تطول وتطول بلا انتهاء قبل أن تمنح صيرورتها اللغوية، وصورها
الشعريّة، وقبل أن تكتب حرفاً بعد حرف، ونقطة بعد نقطة. وإذ تكتب وتمهر بآخر النقاط
السود الطيّعة،
أو تلك التي لا تطيع يظل ما بعدها قائما على ما قبلها حيث الوجود السماوي البشري
الأول للشخصية الأرضية الأولى. وهي مساحة واسعة للاشتغالات الصوفيّة.
ثانياً.
ما بعد النقطة.. مصائر غير محددة، ومستقبل مبهم.. زمن يتأسس على احباطات الحاضر،
على معاناة الحروف المشخصنة، واضطرابات النقاط، على جنون اللغة وجنوحها نحو
العذابات الأزليّة، رحيل ممعن في الموت، وغياب ممهور بالاختفاء الأبديّ.. دهر
يعوي.. يقوم ويعوي، وشمس مثل حذاء طفل يتيم ترجع لتنام، والشخوص مثلها إلى
نومهم يرجعون.. ملكوت بلا ملامح، بلا وجوه، وصحراء تمتد إلى آخر الوجود.
ثالثاً. ما بين الحرف والنقطة حياة نتحرّى فيها منجز الشاعر الذي تميّز، منذ وقت
مبكر، بالكشف عن هموم النقاط والحروف وشخصنتهما.(11)
ومع أن الحروفيّة، إبداعياً، استقرّت كأسلوب متفرّد للشاعر أديب كمال الدين،
واكتملت أو قاربت الاكتمال شكلاً وبناءً، بحسب أغلب النقاد الذين اشتغلوا عليها،
إلا أن أديباً لا يزال يواصل البحث بجد وجهد كبيرين، في محاولة منه للالتفاف على
الغياب (الموت) من خلال الإيغال بالتجربة الحروفيّة التي ستسمه بحرف من حروفها، أو
نقطة من نقاطها، أو تمنحه صفة أو اسماً أو كنية يُكنّى بها مثل حرف (الشين) على
سبيل المثال لا الحصر(12).
ولما كانت تجربته في الكتابة عن الموت أو الغياب متشعبة، وموزعة على عدد من مجاميعه
الشعريّة،
ومرتبطة بشكل مباشر بشخصيات منتخبة بتشاخص كبير، وحروفية خالصة لذا توجّب عليّ
دراسة هذه الشخصيّات التي تمتدّ على مساحة شاسعة شعرياً، وخالصة حروفياً، واستقراء
تجاربها المختلفة، والمرتبطة بالموت بأشكال حددناها، على وفق البعد الفاصل بينها
وبين الموت، كما يأتي:
1.
شخوص ما قبل الموت وتشمل القصائد الآتية:
تمسّكْ بها واستعنْ، فيروز، زوربا، زائر شقّة البارك رود.
2.
شخوص
على خطّ الموت وتشمل القصائد الآتية:
حارس الفنار قتيلاً، قنينة جان دمّو، فتى النقد، مهند الأنصاريّ ثانية، عفيفة
اسكندر، شهرزاد، أخي الكافكويّ، دستويفسكي.
3.
شخوص
ما بعد الموت بخطوة واحدة وتشمل القصائد الآتية:
قصائد الرأس، إنّي أنا الحلّاج، صقر فوق رأسه الشمس، يا صاحب الوعد، المطربة
الكونية،
...................................................
(11)
من مقالة لنا تحت عنوان (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة وما بينهما) منشورة في
المواقع الالكترونية ومنها موقعي الشخصي:
www.sabahalanbari.com
(12)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 100/ قصيدة: شين
الموت.
البياتي،
لوركا، مطرب بغداديّ، لافتات يوسف الصائغ، عبد الحليم.
في هذه القصائد استحضر أديب كمال الدين كل هذه الشخصيات شعرياً ليبثّ من خلالها،
بعد استعراض عطائها ما قبل الموت، استنتاجاته لما بعد الموت الذي صار ينظر إليه
كمعبر بين عالمين على درجة عالية من العليّة، أو استبطان النتائج كمحصلة نهائيّة،
وكل ما قام به، في أغلب هذه القصائد تحديداً أنّه حدد خياراته، واستلهم بمنهجية
حروفيّة موشّاة بالدراما شخصيات تركت خلفها إرثاً كبيراً من العلم والأدب،
والمعرفة، والفنون مثل: الحسين، والحلّاج، وزوربا، ورعد عبد القادر، ومحمود
البريكان، ود. حسن ناظم، ومهند الأنصاري، وأم كلثوم، وعبد الوهاب البياتي في مجموعة
(أقول الحرف وأعني أصابعي) ولوركا، وعماد حسن، وجان دمّو، وناظم الغزالي، ود. حياة
الخياري، وسيلفيا بلاث، ويوسف الصائغ، وعفيفة اسكندر، وعبد الحليم حافظ، وشهرزاد،
ومهند الأنصاريّ، وعبد الجبّار عباس، وفيروز، ودستويفسكي في مجموعة (الحرف والغراب)
ونوح، والسجّاد في مجموعة (مواقف الألف) وأوفيليا في مجموعة (النقطة)، وتولستوي في
مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف)..الخ.. الخ. ومن المؤكد أن هذه الخيارات لم تكن
عشوائية قطعاً، ولم تكن بسبب ذيوع شهرة كل شخصية اشتغل عليها أو على عطائها حسب،
فهو يدقق في خياراته التي تتلاءم وهدفه الذي يوجّه القصيدة إلى حيث يريد بأمل
تذكيرنا وعظياً بانطفاء الشخصية، وزوال ما خلّفته وراءها من جاه، ونفوذ، ووهج،
ومجد، وعظمة، وشهرة شيّدت في حياة ما قبل الرحيل إلى العالم الآخر. وقد أشار إلى
هذا بدءًا من قصيدته (شين الموت) حين ارتعبت الشين، وبكت، وماتت وبعد موتها بخطوة
واحدة بقيت نقاطها ترقص إلى يوم يُبعثون على الرغم من أن (الشين) لم تكن شخصية ذات
سيرة واضحة، وإنجاز محدد بل شخصية حروفيّة شعرية خالصة سنفرد لها ولبقية الحروف
المشخصنة مساحة من هذه الدراسة.(13)
لقد شغلت الحروف والنقاط ولم تزل
..........................................
(13)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 100/ قصيدة: شين
الموت.
حيّزاً كبيراً في تجربة أديب كمال الدين. عليها أسس رؤياه، وبوساطتها رسم وجوه
شخوصه وعذاباتهم. هي قانونه المركزي،
وشغله الدائم، وهاجسه المستمر وما خرج عنها ليس إلا جزءًا يقع من تجربته موقع الضوء
من القمر، والماء من النهر، والحزن العراقيّ من دجلة الثَّكول.
ما بين القبل (قبل الحرف) والبعد (بعد
النقطة) إذن يؤسطر أديب كمال الدين حياة شخوصه الدامية، وشعورهم الدائم بالعذاب
والغربة،
والموت، وما بعد الموت.
رابعاً: الموت:
ولما كان الموت هو الموجّه الرئيس في
عملية التشاخص لذا وجب البدء به، والتعرّف على هيئته السوداء، أو شخصيته البيضاء
انطلاقاً من رؤيا الشاعر له كشكل وفعل مهما اختلفت تسمياته فإنّه محكوم بالتشابه.
الشاعر الراحل محمود البريكان، على سبيل المثال لا الحصر، أطلق عليه اسم (الزائر
المجهول) و(الزائر الغامض)(14)
الذي تنبّأ بقدومه فقدم إليه بشخصية قاتل. وأطلق عليه أديب كمال الدين اسم (الزائر
الأخير)(15)
الذي وسم به إحدى قصائده، وشخصنه على هيئة شاب أنيق بثياب سود. ومن خلال رد الفعل
المستمر داخل القصيدة، والتوصيف الشعريّ لملامح الموت، وحركاته، وأفعاله تجسّدت
صورته، الشعردرامية، التي سنحاول النظر إليها بعيون محايدة على سبيل المثال:
فمن النظرة الأولى، وهي نظرة خاطفة، وفي المشهد الأول وهو مشهد درامي، تشكّلت فيه،
على خشبة القصيدة سينوغرافيا واقعية في مؤثثاتها وغرائبية في هيئتها حيث يجلس الشاب
الأنيق (الموت) في غرفة مجاورة، لكم تخيّل مؤثثاتها، للمساحة التي تشغلها الشخصيةُ
المنادى عليها من قبله لتمثّل بين يديه بجبروت لم يبقَ منه غير وجهه المشوب باصفرار
الخوف والرهبة العجيبين فأيّ خوف هذا! وأيّ رهبة من كل تلك الأناقة الباذخة! وأيّ
جامع
.......................................
(14)
الزائر المجهول تسمية وردت في قصيدة حارس الفنار للشاعر الراحل محمود البريكان.
(15) الزائر الأخير/ من قصائد مجموعة الشاعر (شجرة الحروف) الصادرة عن دار أزمنة
للنشر والتوزيع/ عمّان 2007. الصفحة 10.
ذلك الذي جمع بين لون الحداد والأناقة!
لننحي التعجب قليلاً، ولنتابع فعل الشخصية الأكثر دراماتيكية من الموت نفسه، ولنسأل
أنفسنا لماذا تنظر بعينين فارغتين إلى سقف الغرفة؟ ولماذا تضع على ركبتيها كتاباً
على هيئة حقيبة؟ وماذا عساه يفعل هذا الزائر في صمته المريب؟ يقول الشاعر:
كان يجلسُ في الغرفةِ المجاورة
شاب أنيق بثيابٍ سود
ينظرُ إلى السقف
بعينين فارغتين من أيّ شيء
ويضعُ على ركبتيه
كتاباً على هيئةِ حقيبة
أو حقيبة على هيئة كتاب(16)
بدءا لا بد لنا من الإشارة إلى وجود شخصين متجاورين في هذه القصيدة: الأول ممثل
بصوت الشاعر (صوت الحياة) والثاني ممثل بشخصية الزائر الأخير (صدى الموت) الشخص
الأول يروي: "كان يجلسُ في الغرفةِ المجاورة/
شاب أنيق بثيابٍ سود"، والثاني يفعل: "ينظرُ إلى السقف/
بعينين فارغتين من أيّ شيء/
ويضع على ركبتيه/
كتاباً على هيئةِ حقيبة/
أو حقيبة على هيئةِ كتاب". الرواية تشير إلى التجاور الحتمي بين الحياة والموت،
وتلازمهما الأزلي بهيئة غرفتين لا تفصل بينهما سوى بوابة الدخول من عالم الحضور
الواضح إلى عالم الغياب الغامض. الأول يترقب المصير بعينين ممتلئتين برغبة البقاء،
والثاني يحدد المصير بعينين فارغتين من أيّ شيء. لم يعد الأول يملك ما يجنبه
..................................
(16)
الزائر الأخير/ من قصائد مجموعة الشاعر (شجرة الحروف) الصادرة عن دار أزمنة للنشر
والتوزيع/ عمّان 2007. الصفحة 10.
رهبة ذلك الملاك الأنيق بثيابه السود وما يحمله من العجائب والغرائب. يقول
(مرتبكاً):
حين ناداني
دخلتُ مرتبكاً
كجثّةٍ تسقطُ في البحر(17)
لقد توارت عظمة الكلمات، واختفى مجد الحروف، وانهارت شجاعة الشاعر وحكمته الحروفيّة
فسقط أمام نقطة الموت كجثّة في البحر. كانت شخصية
الزائر مهيمنة، مهيبة،
فريدة، وساحرة بما يكفي ليسقط أمامها ليس ككائن قابل للسقوط حسب بل كجثّة هامدة
انعكست عليها أو من خلالها صورة ردة الفعل الأكثر صدقاً في حضور الزائر الأنيق
الجميل والمخيف.
قال بلغةٍ مبهمةٍ كلاماً عجيباً
وأشار إلى الكتابِ: الحقيبة(18)
لقد أنطق أديب كمال الدين هذه الشخصية بلغة مبهمة وعجيبة لم تكن بحاجة إليها
فأفعالها الدراماتيكية الصامتة كانت أكثر بلاغة من الكلمات الصائتة: أشارت للكتاب
حسب، فوجد الشاعر حجراً يُصوّب للقلب، وشفتين بآلاف القُبَل، وكؤوساً من العشب
والطين، وحذاءً من الخمر، وأفخاذ نساء، ودموعاً لؤلؤيّة وحروفاً وقصائد باكية.
والأغرب من هذا كله وجد النقطة (مركز الكون) على يد الزائر العجيب (الموت) وهي
تحمل:
ألوان الفجر والمغيب
حَمَلها بيده الصفراء المرتجفة
..........................................
(17)
الزائر الأخير/ من قصائد مجموعة الشاعر الموسومة (شجرة الحروف) الصادرة عن دار
أزمنة للنشر والتوزيع/ عمّان 2007. الصفحة 10.
(18) المصدر السابق.
دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.(19)
في المشهد الثاني وهو مشهد إيمائي صامت يمدّ الشاعر يده لأخذ النقطة من يد الموت
لكن
يده
لم تصل إليها فما من أحد ظفر بها قبله من الأوّلين والآخرين. كان الأنيق ينظر إليه
بعينين فارغتين حسب. وكان الشاعر ينظر للنقطة حسب، وكان:
مدهوشاً بألوانِ الفجرِ والغروبِ فيها
كجثّةٍ تُلقى في البحر.(20)
وإذا كان الموت في هذه القصيدة يكشف عن فحولة هيئته الذكورية الخالصة فإنّه في
قصيدة (امرأة بشعر أخضر) يشي بأنوثته الباذخة، راسماً نفسه من زوايا ثلاث هي في
واقع الأمر وجهة نظر الشاعر ورؤيته لصورة الموت ومكملاتها. يرى من زاوية النظر
الأولى:
امرأة دون عمرٍ محدد
تسوقُ سيّارةً سوداء
سيّارة مسرعة
تسوقها امرأةٌ عارية(21)
في هذه الزاوية ترك الشاعر أمر الزمن منفتحاً بلا محددات عمرية وهو العارف أن ما من
عمر محدد للموت. وترك الأنثى بلا محددات شخصويّة ولكنه جعلها على جانب من الإثارة
حين وصفها بـالـ(عارية) وعلى جانب من الحركة حين وصفها بالـ(مسرعة) ذلك أن الموت في
حقيقته الماثلة يتضمن العري والتحوّل معاً. المرأة تتحرّك بواسطة نقل سريعة هي
الـّسيّارة السوداء وهذا مزج مقصود بين دلالتي الحركة واللون. فالحياة على الأرض
تسير بسرعة هائلة متناسية أن الموت هو من يمسك المقود ويتحكم بدورانه الزمني في كل
لحظة من
....................................
(19) الزائر الأخير/ من قصائد مجموعة الشاعر الموسومة (شجرة الحروف) الصادرة عن دار
أزمنة للنشر والتوزيع/ عمّان 2007. الصفحة 10.
(20)
المصدر السابق.
(21) ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة/ ط1/ عمّان 2006/ الصفحة97.
لحظاتها ساحباً خلفه طابور توابيت الأرواح الميّتة.
قارئ هذا النص سيجد، من خلال
مطلعه، نفسَه أمام لوحة للموت لم تكتمل بعد فهي لا تزال قيد الرسم،
وربما لن تكتمل أبداً، فبعد خمسين عاماً من فرز الألوان، والحركة الغامضة،
والترميز، والتبئير، والأنسنة لا تزال شخصية الرسام (قناع شخصية الشاعر) تقوم بفعل
الرسم، ولا تزال المرأة تنظر إليه، من داخل اللوحة، نظرة تنطوي على غموض مريب
يفسّره الشاعر على أنه (دعوة) وحسب، على الرغم من أنها ولّدت لدى الرسام ارتباكاً
مريباً كان لنا بمثابة بقعة ضوء صغيرة في نهاية النفق الطويل لهدينا إلى حقيقة
الموت الذي اكتشف الشاعرُ أنه يبدأ طقوسه بداء (الارتباك) الأزليّ الذي لا شفاء منه
أبداً. يقول الشاعر مسترسلاً في القصيدة نفسها:
السيارةُ مسرعة
والرسّامُ مرتبك
لأنّ المرأة ذات الشعر الأخضر
بثدييها العاريين
بعينيها الكبيرتين
بملامحها الساذجة
تحدّقُ فيه طوال الوقت.
هل كانتْ تدعوه؟
لأيّ شيء؟(22)
لم يرد الشاعر القول أنها تدعوه لإكمال الرحلة معها فلم يحن بعد أوان الافصاح عن
الخطوط العريضة للوحة الرسام، ولا تزال ريشته تضع بتأن على قماشة الرسم ما يجعلها
تكتمل. في زاوية النظر الثالثة وبعد أن يضع الرسّام لسيّارة الموت عجلاتها تتغير
صورته فتكتسي ملامحه بصفرة الموت فيما المرأة بشعرها الأخضر المتطاير:
تسوقُ السيارةَ بسرعة
لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء!(23)
............................................
(22)
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة/ ط1/ عمّان 2006/ الصفحة97.
(23) المصدر السابق.
مما تقدم نستنتج أمرين يشير أولهما إلى أن الشاعر ركّز جلّ اهتمامه على الشخوص في
مجموعتيه الأخيرتين (أقول الحرف وأعني أصابعي) و(الحرف والغراب) بشكل خاص، وثانيهما
أن معظم القصائد التي أشرنا إليها، وأخرى غيرها، تشترك بقاسم أعظم يجعل أمر تناول
بُعْدها عن الموت أمراً ممكناً من الناحية التشاخصيّة.
ولا بد لنا بعد هذا الفصل الذي سعى
إلى بيان محدداتنا للغياب والتشاخص، والحروفيّة، والموت، الولوج إلى شخوص القصائد
باعتبارهم العنصر الأكثر مركزية في دراستنا من خلال متابعة أفعالهم وردودها،
ومنجزاتهم ونتائجها، وحياتهم وقربها من نقطة الموت، ومصائرهم وبعدها عن الموت ضمن
التقسيم الذي حددناه سلفاً بثلاثة أقسام.
البــــــــــاب الثـــــــــــاني
التّشاخص موتاً في حروفيّة أديـب كمال الدين
الفصل الثالث:
شخوص ما قبل الموت
"هكذا ظهر وبقوّة في قصائدي حمورابي ونبوخذنصر وكلكامش وأنكيدو والمعرّي والتوحيديّ
والحسين والمأمون والشريف الرضيّ وغيرهم. ومع هذا بالطبع ظهرت رموز الإنسانية
الكبرى كنوح وإبراهيم الخليل ويوسف وموسى وعيسى ومحمد
(صلوات الله عليهم)، كما ظهرت رموز الإنسانية الأخرى ذات البعد المسرحي والتراجيدي
كأوديب وهاملت وأوفيليا وماكبث!
كلّ هذا ظهر لأنّ شعري معنيّ أولاً وأخيراً بالإجابة عن معنى الحياة وسرّها، وعن
معنى الموت وسرّه، ولماذا كُتِبَ على الإنسان مثل هذه الرحلة العجيبة المليئة
بالأحزان والمآسي: الرحلة التي لم يخترها لا في توقيت الولادة ولا في توقيت الموت!"(1)
أديب كمال الدين
*
(1)
مقتطف من حوار نشر في صحيفة الاتحاد الكردستانية بتاريخ 6- 10- 2009.
تمهيد:
شخوص ما قبل الموت: هم شخوص
مرّوا تحت (حاء) الحياة، والحُبّ، والحرب. خبروا مباهج (الحاء) ومنافيها، ونالوا
منها أسوأ ما تمنحه للبشر من قهر، واضطهاد، وتغييب، وموت. هم عكازة الشاعر في
الصحراء والمنفى، ومقوده في ترويض البحر والموت. منهم من ارتبط به بعروة الصداقة
مثل: د. حسن ناظم، وعماد حسن. ومنهم من ارتبط به بعروة الأدب والفن مثل: زوربا،
وفيروز. لكل واحد منهم ما يميّز شخصيته، وعطاءه، وأسلوبه في العيش، لكنهم جميعاً
يقعون تحت مؤثّرات الموت إلى أجل مسمّى بمن فيهم شخصيته التي تمارس حضورها بطرق
مختلفة: فمرّة من خلال حضوره المباشر المكافئ للشخصية المركزية مثل قصيدة (تمسّكْ
بها واستعنْ)، ومرّة كشخصية مركزية مثل قصيدة (فيروز)، وقصيدة (المطربة الكونية)،
ومرّة يتجلّى حضور شخصه كصوت ناقل لأخبار ما قبل الموت كما في قصيدة (زوربا) وقد
تختفي شخصيته أحياناً وراء سطور القصيدة كمبدع لها، وخالق لشخوصها، ومتحكّم
بأحداثها، ومسيطر على أداء الشخوص فيها وهذا ينطبق على أغلب القصائد، ومرّة يظهر
لنا كحرف في مواجهة مصيرية مع الموت مثل قصيدة (صيحات النقطة)، ومرّة كشخصية منشطرة
إلى منادى ومنادى عليه حيث تقوم الشخصية الثانية بمناداة الشاعر أو أن الشاعر ينادي
على نفسه بنفسه مثل قصيدة (لِمَ أنت)، ومرّة كشخصية تفتتح القصيدة حسب، لتباشر
الشخصية المهيمنة دورها مثل قصيدة (حوار) وعلى الرغم من تعددية هذا الحضور
واختلافاته إلا أن القارئ يستطيع، بقليل من الصبر، (القبض) على شخصية الشاعر
متنكّراً بواحد من أقنعته التقنية المختلفة فما باله وهو العارف معرفة يقينية بوجود
الشاعر في كل قصائده كخالق لها، ومبتكر لتفاصيلها؟ ليس حضور شخصية الشاعر واختلافات
سبل حضورها هو ما نريد الوصول اليه حسب، فهو لا يشكّل إلا واحداً من الأهداف
الستراتيجية التي تسعى هذه الدراسة إلى تحقيقها. لقد اهتدينا لشخصيته بسهولة ولكن
هل نستطيع الاهتداء إلى شخصيات القصائد بالسهولة نفسها إذا افترضنا قدرتنا على ذلك؟
وهل يمكننا تصنيفها بحسب ما وردت في مجاميعه كلها؟ ربما نستطيع ولكن ليس دون سلطان
يصل بنا إلى جوهرها المكنون. وما دمنا بصدد شخصيات القصائد وتجربتها في الحياة أو
خوضها معركة التنديد بالموت لنا أن نسأل: هل يمكن لأيّ شخصية تصادفنا أن تكون
مركزية في قصيدة ما؟ ولماذا لا تكون كذلك وهي تمارس حياتها، وتقلّبات تلك الحياة،
وتبدلاتها بشكل يومي وتفصيلي؟
اذا استعرنا من
)غوته(
أن "الفن هو الفن، لأنه ليس الحياة" فإننا نجزم أن الشخوص في القصائد ليست كما هي
في الحياة أيضاً. وإذا صار نقاد المسرح لا يمتدحون العقدة في العمل المسرحي،
ويكتفون بمدح الشخوص كونها كائنات بشرية نقتنع بوجودها الحقيقي فإننا نذهب مذهب مَن
يعترض على هذا في الشعر. بل ونحرّض ضده في واقع الحال. إن عبارة كائنات بشريّة
نراها ذات عموميّة على درجة عالية من النقيصة ذلك لأننا ندّعي فقط أننا نعرف بعضنا
بعضاً ولكن في حقيقة الأمر أننا لا نعرف بعضنا بعضاً إلا ظاهرياً. الشاعر والمبدع
هما من يخبرنا ببعض أسرار الشخصية من زاوية نظر محددة برؤيتيهما المتلائمتين مع
طبيعة تلك الأسرار. ولو جرّبنا هذا على واحدة من قصائد أديب كمال الدين لوجدنا أن
الشخصية فيها تخطّت حاجز الحياة متحوّلة إلى عالم أضاف لها ما جعلها مختلفة ومغايرة
لأصلها الأول فشخصية (يوسف الصدّيق) على سبيل المثال وطفولته المنتهكة امتزجت
بطفولة أديب كمال الدين وحرمانها ويتمها مما جعلها مركبة من مجموعة صفات صبت كلها
في مصب مشترك واحد انصهرت فيه متحوّلة إلى مصل جديد منه خلق الشاعر الشخصية الجديدة
بعِبَرها، وجوهرها، وبوحها المتصل والمنفصل في آن واحد. وإذا كان خطّ الشخصية
البياني (يوسف الصّدّيق) قد أشار رأس السهم فيه إلى مسار أفقي تصاعد قليلاً فأنه في
قصائد أديب كمال الدين (البئرية) أشار إلى مسار متصاعد باتجاه ذروة شعرية درامية
ملتحمة بهدف القصيدة وستراتيجيتها. ولا غَرْوَ
إذا نحن قلنا إن شخصيات القصائد
عند أديب كمال الدين تلبس، أحيانا، لبوساً درامياً متأتٍ من تأثير الدراما على
تكوينه المعرفي منذ بداية مشواره الأدبي.
قد يبدو أديب كمال الدين في قصائد ما قبل
الموت مرناً حدّ تقبّله بعض الشخوص ممن لا يتوافقون وإيمانه المطلق، ولا غَضاضة في
هذا فالقضية غير محددة أو مقتصرة على ما هو عام في هذه العلاقة داخل القصيدة لأنّ
القصيدة حددت هدفها الذي سنجد أنها تنتهي إليه دوماً، في هذا القسم على أقل تقدير،
وإن جاءت بصيغ مختلفة مثل قصيدة (زائر شقّة البارك رود). ثمّة قصائد أخرى تندرج تحت
هذا القسم وهي التي تناولت الحروف أو النقاط كشخصيات لها أثرها وتأثيرها في حياة ما
قبل الموت ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة (حُبّ) وقصيدة (ارتباك) وقصيدة
(اكتشافات الحرف) وقصيدة (حلم) من مجموعة الشاعر (شجرة الحروف) فضلا عن قصيدة (شين
الموت) من مجموعة (الحرف والغراب).
قد
يعتبر أحد ما أن أغلب قصائد الشعراء، وأديب كمال الدين واحد منهم، تقع ضمن هذا
التقسيم المنفتح على الحياة بشكل واسع للغاية، وهو محقّ إذا لم يأخذ محدداتنا بعين
الاعتبار، وهي محددات تمسّ الجوهريّ من منجز الشخوص في حياتهم السابقة للرحيل
الأخير إلى عالم الموت، ولهذا سنجد قصائد أديب كمال الدين التي اشتغلنا عليها في
هذا القسم حصراً متشابهة إلى حد ما في عمومياتها، ومتوافقة في نتائجها، ومتقاربة في
نهاياتها، وممثلة لدورة الشخوص الزمانية التي تجمعها وحداتها الزمانية المتقاربة.
وبما أن شخوص هذا القسم استأثروا بمساحة غير محددة في قصائد أديب كمال الدين لذا
ركّزنا اشتغالنا على بضع قصائد منها أملاً في إعطاء صورة واضحة للمهم والجوهري في
موضوعتنا الرئيسة.
ولا بد لنا ونحن نتناول موضوعة الشخوص أن نشير إلى إهداءات الشاعر التي اقترنت
بأسماء شخصيات محددة أنها لم تكن مجرد إهداءات حسب، كما هو شائع أدبياً بين جمهرة
الكتاب والمبدعين، بل تجاوزت ذلك إلى وضع الشخوص (المهدى إليهم) في مركز الحدث داخل
القصيدة. إنهم أبطالها المحوريون أحياناً، والمشاركون لشخوصها المحوريين أحياناً
أخرى. وهذا لا يلغي طبعاً وجود إهداءات تقليدية سابقة في قصائده مثل قصيدة (محاولة
في السحر) والتي لم نعثر فيها على أثر للدكتورة بشرى موسى صالح، وقصيدة (محاولة في
البهجة) التي لم نعثر على شخصية حسين درويش فيها، وكذا الحال بالنسبة إلى فيصل عبد
الحسن وغيرهم.
نماذج من شخوص ما قبل الموت:
أولاًــ حسن ناظم:
في قصيدة (تمسّكْ بها واستعنْ)(2(
تتجلّى شخصية حسن ناظم في أربعة مقاطع على سبيل المثال: الأول إخباريٌ
يخبرنا الشاعر فيه أن صديقه الذي جمع الدنيا في حروف ثلاثة (ح ، س، ن) كان دليله
الوحيد حين سقطت الشمس وتشظّتْ وعمّ الظلام فصار لِزاماً على الشاعر أن يجمع
شظاياها، وصار على حسن ناظم أن يتماسك ليكون دليلاً. من هنا يبدو أن حسن ناظم هو
المعني في عنونة القصيدة من خلال فعليها (تمسّكْ واستعنْ). الفعلان هما شرطا
الصداقة التي أرادها أديب أن تكون طوق نجاة مما هما فيه وكأنّي به يقول لصديقه إن
لم تفعل هذا وذاك فإننا من الهالكين.
في المقطع الثاني وهو مقطع استفهامي ولكن
ليس بقصد الاستفهام التعجيزي حسب، بل بقصد ترفّع الشخصيتين أيضا (أديب
وحسن) عن الدنايا، والتدليس، والتبليس، ومدح السلطان. وبقصد بيان الاستحالة على
كليهما أن يكون شأنهما شأن المتمسكين بأذيال وليّ نعمتهم من السَفَلة، والمطبّلين
المزمّرين، وأنصاف الشعراء، وأنصاف البشر. وعليه كان محالاً عليهما جمع شتات
الحقيقة في ظرف أقل ما يُقال فيه أنه ظرف عصيب.
في المقطع الثالث يتكرر الاستفهام التعجيزي ولكن بصيغة مَن يقوم بالفعل فتأتي ردّة
الفعل على غير هواه:
حين مدحنا حاءَ الحُبّ
نلنا حاءَ الحرب،
وحين مدحنا حاءَ الحريّة
.................................
(2) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011.
نلنا، بكرمٍ أسطوريّ، حاءَ الحقد(3)
وكان من نتائج هذا أن امتلأت حقائبهما بالبرد، والمنافي، ولم يبقَ لهما طوق نجاة في
بحار الغربة إلا التماسك في المقطع الأخير من القصيدة وهو مقطع معطوف على عنونة
القصيدة (تمسّكْ بها واستعنْ) يفصح أديب كمال الدين فيه عن عروة ذلك التمسّك القائم
على حرفي الياء والسين (يَس) وبهما يحيلنا إلى السورة القرآنيّة السادسة والثلاثين
(سورة يَس)، ولكن لماذا سورة ياسين تحديداً؟ لأنها تضمّنت الإخبار بقصة أهل القرية
(انطاكية على الأرجح والتي كان يحكمها ملك يدعى انطيخس) التي كذّب ملكُها ومريدوه
الرسلَ الذين أرسلوا إليهم بالحق المبين، واضطهدوهم كما اضطهد الطاغيةُ ومريدوه
الصديقين: في بغداد دافعاً بالشاعر إلى الاغتراب، وفي بابل فارضاً المنفى على حسن
ناظم. ولأجل نهوضهما معاً (المغتربُ والمنفيّ) رأى الشاعر أن لا مندوحة عن استخدام
فعلي الأمر (تمّسكْ واستعنْ) ليأمر ناصحاً صديقه التمسّك بعروة هذه السورة،
والاستعانة بها:
علّها تعلّمنا كيف نرقص
ذات يومٍ
مثل الدراويش على بابِ بغداد
أو علّها تعلّمنا
كيف نجمعُ شظايا الشمس
حين يصطادنا الموت
ولا بد أنْ يصطادنا الموت
......................................
(3)
أقول
الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011.
يا أخي ودليلي!(4)
القصيدة إذن اشتغلت على حياة الشخصية المركزية فيها (حسن ناظم) فضلاً عن شخصية
الشاعر التي طرحت نفسها من خلال الضمير أو الصوت الموكّل برواية قصة الشخصيتين
معاً، وملازمتها لشخصية القصيدة بعد أن ألغت الفواصل بينهما. القصيدة أيضا ادخرت
كمّاً هائلاً من الحقائق الاجتماعية والسياسية كان ممكناً التطرق إليها ولكن ما
همّنا ويهمّنا في هذا البحث هو التركيز على المسافة الفاصلة بين الشخصية ونقطة
الموت كما مرّ بنا في تمهيدنا للتشاخص والحروفيّة والموت.
ثانياًــ فيروز، المطربة الكونيّة، عفيفة اسكندر:
إذا كانت شخصية الشاعر في القصيدة السابقة قد طَرَحَت نفسها بشكل مكافئ للشخصية
المركزية أو التي افترضنا مركزيّتها فأنه في قصيدة (فيروز) جعل من شخصيته مركز
القصيدة ومحورها(5)
كما جعل من شخصيته مركزاً ومحوراً لقصيدة (المطربة الكونيّة) باستخدام أغاني
السيّدة أم كلثوم أداة فنية انعكست من خلالها معاناته عبر مراحل حياته من الاستقرار
إلى التشتت فالاغتراب. وهذا هو عين ما فعله في قصيدة (فيروز) إذ جعل من الشخصية
الثانية داخل القصيدة أداة فنية لتأكيد حالات الحدث الرئيسة الثلاث باستخدام أغنيات
فيروز كأيقونات تدخر كمّاً معلوماتياً أو استذكارياً أغنى الشاعر عن الدخول في
التفاصيل التي من شأنها أن ترهّل القصيدة، واستكمالاً للمقارنة نقول أن القصيدتين
اشتغلتا على الحالات الثلاث المشار إليهما: الاستقرار، والتشتت، والاغتراب في قصيدة
(المطربة الكونية). والطفولة، والشباب، والكهولة في قصيدة (فيروز).
.......................................
(4) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2011.
(5) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 89.
يقول في قصيدة (فيروز):
كنت أسمعُها منذ الطفولة،
منذ الدشداشة اليتيمة
والسرير الوحيد(6)
في مطلع القصيدة هذا ثمّة محددات أوليّة مهمة في شخصية الشاعر منها ما هو ذوقيّ
سماعيّ متأثر بطرق السمع والانتقاء المهذبين "كنت أسمعها منذ الطفولة" والسماع هنا
متعلق بالسيدة فيروز، وبعائلة الشاعر التي دخل صوت فيروز إليها كطقس يومي توارثه
واعتاد عليه. ومنها ما هو اقتصادي يشير إلى انتمائه الطبقي، أو الفئوي "منذ
الدشداشة اليتيمة". ومنها ما يتعلّق بالشعور المبكر بالوحدة المنتجة "السرير
الوحيد". ويقول في مطلع قصيدة (المطربة الكونيّة):
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو لواعج روحي
وارتباكها الأزليّ
إلى أغنياتكِ المزهرةِ بالشوقِ والأنين،
إلى صوتكِ الذي تحفُّ به
.......................................................
(6)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 89.
ملائكةٌ
من الدمعِ والياسمين،
إلى نيلكِ وشمسِ أصيله الغامضة.(7)
الرقم بداية يشير إلى النضج والحكمة. يقول أديب كمال الدين في أحد حواراته:
"الأربعون رقم مقدّس دينياً وشعبياً وسحرياً وفلكلورياً وخرافياً. فهو سن الحكمة
والنبوة والنضج"
(8)
وسنجد أن أديباً يكرره في قصائد أخرى مثل (محاولة في الرثاء) إذ تبدأ القصيدة
مطلعها كما يأتي:
في الأربعين
في العامِ الأربعين
جلستُ على بابِ الحُلْم
كان الحُلْم نحيلاً كموعدٍ ضائع
طيّباً كنارٍ بدويّة(9)
ومن هذا الرقم يأخذ المعدود مسمّياته فيها
مثل الصيحة الأربعين، والليلة الأربعين، والخزانة الأربعين، والطعنة الأربعين،
والباب الأربعين. وفي قصيدة (محاولة في الابصار) يسمّي الدمع في الأربعين خرافة
(10).
وعود على بدء فان هذا الرقم يشير في (المطربة الكونية) إلى
زمن الطفولة، وإلى الأسْرة التي منحت المطربة الكونية أولويات السماع المستمر، وإلى
لواعج روح الشاعر، وصوت أم كلثوم الذي "تحفّ به ملائكة من الدمع والياسمين". لقد
تلازمت حالة السماع عند الشاعر لأم كلثوم وفيروز مع تقدمه في العمر مرحلة إثر مرحلة
بعد أن ابتدأ معهما منذ الطفولة. واذا كانت الحرب قد فرضت عليه عزلة ما في (المطربة
الكونية) فأن هذه العزلة قد امتدت لروحه التي لم يزرها أحد في قصيدة (فيروز):
......................................
(7)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 101.
(8) راجع الحوار الذي أجرته مع الشاعر من تونس د. حياة الخياري باستخدام الرابط
الآتي:
http://www.adeebk.com/huarat/HaYat.htm
(9)
النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط1/بيروت 2001/ الصفحة 5.
(10) النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط1/بيروت 2001/ الصفحة 85.
لذا لم يصلْ
إلى بابِ روحي أحد
ولم يزرني أحد.(11)
فهو لم يكن على اتصال دائم مع مجايليه من الشعراء الرسميين (إن جازت التسمية) ولم
تتوافق محددات السياسة مع جموحه وتطلعه إلى البعيد يوم ذاك، ولم يهدف من وراء
الزيارة التواصل بالمفهوم الشائع للتواصل. أما الحالة الثانية فمرتبطة بصورة البحر
المسموع عنه ذهنياً "شايف البحر شو كبير" وغير المنظور اليه واقعياً ثمّ تشكّلت
صورته (بعد الرؤية) كحالة أقسى من خناجر النساء، وسيوف البرابرة. لقد شكّلت هذه
الحالة
تشاؤمية رؤية الشاعر الشبابية التي سينتقل منها إلى الشيخوخة وهو لم يزل يسمع صوت
فيروز الشجيّ "ضاق خِلقي يا صَبي". لقد كبر الصبي، وكبرت عذاباته، ومكابدته حتّى
راح:
يحدّق في النقطة
ساعة تشييع الأمل
إلى مثواه الأخير،
وليرقص مع الحرف
وسط الطريق الفسيح إلى المقصلة.(12)
لقد جاءت النهاية في هذه القصيدة (الطريق الفسيح إلى المقصلة)، بعد استعراض ما حفلت
به من حياة ما قبل الموت، متقاربة مع نهاية قصيدة (تمسّكْ بها وأستعنْ) والتي قال
فيها:
...............................................
(11) الحرف والغراب/ الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة
89.
(12) المصدر السابق.
"لا بد أن يصطادنا الموت"، وكذلك جاءت على
درجة عالية من التقارب والتشاؤم مع نهاية (المطربة الكونيّة) التي كان فيها يتبع
أثر صوتها:
إلى
المنافي السعيدة
حيث الموت الذي لا يعرفُه أحد
ولا يسألُ عنه أحد،
أعني إلى المنافي السعيدةِ التي ترى الموت
لوحةً معلّقةً فوق جدارٍ قديم!(13)
ولم تكن النهاية في قصيدة (عفيفة اسكندر) مختلفة عن القصائد السابقة فقد ظلت تغنّي
الأغنية نفسها "حتّى فارقتها الروح".
القصيدة جاءت
بمقطعين متساويين اشتغل الأول على خبر موتها، وشكواها إلى الله كي يظهر (الحوبة) في
المفارقين حبيباتهم، واشتغل الثاني على الجزم والاستدراك إذ لم يظهر الله حوبتها،
ولم يستجب لأغنيتها المخضرمة لكنها ظلّت على الرغم من هذا الجزم تستدرك شكواها على
مدى ثلاثة أزمنة سميت بأسماء القتلى وقاتليهم: الملك وقاتله، والزعيم وقاتله،
والطاغية وقاتله، وتشكّل هذه الأزمنة، في واقع الحال، تاريخ العراق الحديث المبنيّ
على أساس قتل اللاحقين، بموكب السلطة، للسابقين لهم في دورات مستمرة على المحور
ذاته في بغداد التي رآها الشاعر دون روح:
مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،
مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،
مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.(14)
.............................................
(13)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 101.
(14) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 61.
ثالثاًــ زوربا، زائر شقة البارك رود
في قصيدة (زوربا) حاول الشاعر
أن يذكّر شخصية (زوربا) بالمصير نفسه ولكن بطريقة تشي ببعض المغايرة. ولمن لا يعرف
زوربا نقول: لم تكن شخصية زوربا شخصية حقيقية. إنها من ابتكار الكاتب الروائي
الكبير(نيكولاس كازنتزاكي) وانها مُثّلتْ في السينما بتشخيص الممثل العالمي (إنتوني
كوين). وقصيدة (زوربا) واحدة من القصائد التي اشتغلت على التسويف التام المبني على
معرفة سابقة بهذه الشخصية من الناحية النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وتمتاز
بسلوكها الفكه، وروحها المنفتحة على المرح حتّى وهي تمرّ بأعلى درجات الإحباط
والقهر. وعندما تكون عاجزة تماماً عن التعبير الدقيق عن نفسها فأنها تلجأ للرقص
حسب. وربما بسبب هذا بدأ الشاعر قصيدته بتسويف الرقص "سترقص، إذن، يا صديقي" (إذن)
هنا جاءت حرف جواب ومكافأة لما سبق من المعلومات التي ادخرتها الشخصية الأيقونية
(زوربا) واستنتاجاً عاماً مستخلصاً من تلك المعلومات. سنلاحظ ونحن نتابع رقص
(زوربا) أن الشاعر اشتغل في البدء على حركتين رئيستين لقدميّ الشخصية: "سترفع قدمك
إلى الأعلى" وقد ترتّب على هذه الحركة ابتسامة زورباوية هي مزيج من الشهوة
والسخرية. و"سترفع قدمك الثانية" وترتب عليها النظر إلى البحر الهائل، والغامض،
والمخادع الذي لا سبيل إلى ترويضه بالرقص كما جاء في القصيدة. الشاعر يضع زوربا بين
اختيارين تعجيزيين: ترويض البحر أو ترويض الموت. وهنا الطامة الكبرى فزوربا
سيواجههما بالضحك والسخرية:
ما لنا وللموت في هذه الساعة النادرة؟
(سحقاً، إذن للموت!)
(15)
لكن هذه الشخصية الشفّافة بمرحها، والأريحية بطبعها، وبقلبها المفعم بالطفولة،
والمحبة،
....................................................
(15) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة
20.
والسخرية ستظل تضحك ساخرة بلا مبالاة. يقول أديب كمال الدين:
وستضحكُ حقاً
ليس من حلمِكَ الذي تناثرَ فوق البحر
ولا من جسدِكَ الذي لم يعدْ يصخب مثلما البحر
ولا من البحرِ الذي لا يستمع لموسيقاك الهائلة
فهو مشغول بعُريه الفادح منذ ألف عام.
ستسخرُ. ممن إذن؟(16)
من الرقص؟ أم الرمل؟ أم الحُبّ؟ أم الحظّ؟ أم الخوف؟ ولا تملك إلا أن تقول رافضة
(لا) لكل هذا. وستكرر لاءاتها حتّى تنهار فوق الرمال مطلقة عند نفسها الأخير (لا!)
بشيء من التعجب. وربّ سائل يسأل علام التعجب بعد تلك اللاءات المفرطة في النهي،
والردع، وثقة الالغاء التام؟ لم تجب القصيدة، ولا الشاعر، ولكن نيابة أجابتنا علامة
التعجب (!) في آخر القصيدة وهي ترى إلى القادم بثقة، ومهابة، وكبرياء، وجبروت
ليتسلّم روح الجسد الذي انهار فوق الرمال. لقد كانت شخصية زوربا كما وصفناها تماماً
في حياة ما قبل الغياب (الموت) ولكن ماذا عن الشخصية في قصيدة (زائر شقّة البارك
رود) التي جمعت بين اثنين على درجة عالية من التناقض المقصود، في مساحة محددة، هما:
الله وزائر شقّة البارك رود. أو لنقل الايمان المطلق، والتشكيك التام؟
ولكي يتقبّل القارئ هذه الشخصية بما هي عليه فإنّ أديباً يمنحها صفتين
مثاليتين هما: الصداقة والطيبة. إنّ الله في هذه القصيدة ليس شخصية من شخوصها، إنما
هو رمز تِقَويّ حسب. أما الشاعر فيها فأنه يطرح شخصيته كصوت ممثل لشخصية تمثله،
وتلقي بظلالها على شقّة البارك رود.
المقطع الأول، وهو قصير نسبياً، يشي:
أولاً بعزلة المكان التي لا يبددها سوى الله والزائر،
...................................
(16) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة
20.
وثانياً اعتكاف الشاعر، واستغراقه في صفاء روحيّ تتجلّى عبره صورة الله الخالصة
النقية، وغير المشوبة بالشك، وثالثاً كون شخصية الزائر غير مقصودة بشكل مجرد
لذاتها، وإنما هي محض رمز أو حالة تفضي إلى بلورة الروح، وتسامي اليقين، وتنزههما
وخلاصهما من الشك في أن الله:
سيكون في نبضةِ الروحِ
حرفاً من الشمس.
(17)
في المقطع الثاني من هذه القصيدة يسوّف الشاعر زيارة هذا الصديق (الشك) كما لو أنه
لص يتسلّل للمكان ساعة تكون عزلته على أشدّها، والليل على آخره: "وهو يحملُ موتاً
خفيّاً بين أضلاعه" وعلى الرغم من تأثيره الدهيّ على يقين الشاعر(الصوفيّ)، وتسلله
إلى أعماق إيمانه تسحره الحروف وأسرارها، وتدهشه (يس، وطسم، وكهيعص)(18)
فلا يستطيع التكتم على ما شاهده من التجارب البيّنات مثل تجربة نوح وقومه، وإبراهيم
وقومه، وموسى وقومه، والحسين وقومه لكنه على الرغم من هذا سينكر خلق الله للكاف
والنون، وبعثه لنوح بطوفان، وموسى بعصا، كما سينكر الكاف والنون أيضاً ليخرج في آخر
القصيدة مبتسماً:
من شقّتي في البارك رود
في هدوء عجيب.
لقد نجح الشاعر في شخصنة الشك داخل القصيدة، ونجح في تأجيج الصراع بين الشك
................................................
(17) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ صفحة 23.
(18) حروف ابتدأت بها بعض السور القرآنية.
واليقين، ولم ينتصر لأحدهما دون الآخر، أو
ينحاز لنفسه أو ليقينه، وخيراً فعل إذ أشرع أبواب القصيدة على القادم من الزيارات
ذلك لأنّ الصراع لا يزال قائماً (بين الشك واليقين) حتّى الساعة، وربما حتّى انتهاء
شخوصهما على هذه البسيطة.
رابعاًــ شخصيات الحروف
وبالطريقة التي شخصن بوساطتها الشك، في
القصيدة السابقة تحديداً، شخصن الحرف في قصيدة (حُبّ)، ومنحه ما للشخوص من ملامح،
ونزوات، ورغبات، وحِكْمة، وحُكْم، ومشاكسة، وبصيرة، وعبقرية، و.. و.. إلخ.
بشكل عام انقسمت القصيدة على مقطعين بأربع مفردات أساسية نطق بها الحرف عبر أربع
مراحل تاريخية في حياة الشاعر لتكون بديلاً موضوعياً عن الحُبّ من وجهة نظر الحرف
كشخصية مركزية داخل القصيدة. شخصية الحرف صغيرة، وجميلة، وطافحة بالشهوة، ومتقدّة
بحيوية طفولتها، وحازمة وجازمة أمرها، ومتمتعة بإصرارها المدهش. في الحالات الأربع
التي تطرحها القصيدة ثمّة استمرار على الإجابات المشاكسة من قبل الحرف، وإصرار
وتشدد من قبل الشاعر على ضرورة اعتراف الحرف بالحُبّ. ففي المقطع الأول يطلب الشاعر
من حرفه أن ينطق بالحُبّ فيبادره الحرف المشاكس قائلاً: "حريّة" وقد ترتب على هذه
الحريّة ضياع الشاعر لسنين لا حصر لها، وهذا هو ثمنها حين يعيش الشاعر في زمن أقلّ
ما يُقال عنه أنه زمن مصادرة الحريات واستلابها. الحرف بفطنته أراد أن يضع الشاعر
أمام حقيقة كونه بلا حريّة تؤهّله للارتباط حُبّاً. الشاعر من جهته أمر الحرف ثانية
كي ينطق بالحُبّ لكن الحرف بدا أكثر مشاكسة حين نطق بثقة عالية بالنفس "حماقة" وقد
ترتب على الحماقة ضياع آخر للشاعر في حماقات الدنيا، وهوسها، وبراءتها، وإبليسيتها.
وإذ قال للحرف قل حُبّاً قال الحرف حرباً فضاع الشاعر في حروب ثلاث نجح أديب كمال
الدين في منحهنّ ما اتصفن به فكانت الأولى "حرب الأجداد" أو ما تعارفت السلطة على
تسميتها (القادسية الثانية) وكانت الثانية "حرب الأوغاد" أو التي اطلق عليها حرب
الخليج الثانية. وأما الثالثة فكانت "حرب الأحقاد"
التي نفث فيها المحتل كلّ سمومه وأحقاده القاتلة
على أرض السواد والعباد. ومع هذا كله ما انفكّ الشاعر مردداً النطق بحاء الحُبّ،
وما انفكّ الحرف ينطق حاءات الحريّة، والحماقة، والحقد، والحرب حتّى اكتملت حاءاته
بحكمتها، ورؤيتها، وبصيرتها، وتطابقها مع الواقع المعيش للشاعر الذي ظل متمسكاً
بحاء الحُبّ حتّى النفس الأخير:
وبقيتُ كمجنونٍ أصرخُ في وجهه
حتّى متّ: قلْ حُبّ
حُبّ
حُبّ!
(19)
وبهذا
تكون القصيدة قد ربطت بين ما جرى لشخصية الحرف بطبيعته الناطقة، وباستقرائه المنطقي
للواقع، والشاعر بطبيعته المنفتحة على المحبةِ حدّ بلوغ الموت في نهاية المطاف.
وعلى الرغم من المحصلة النهائية لهذه الأزمة (موت الشاعر وثبات الحرف على اصراره)
إلا أن الصراع كان مكافِئاً بين شخصيتي الشاعر والحرف. وفي قصيدة مهداة إلى سعيد
الغانمي بعنوان (ارتباك) يجسّد الشاعر الحرف والنقطة مشخصناً إياهما داخل حوار
مصيري بين شخصية الشاعر، والطفل، والشمس، والشيخ من جهة وبين شخصيتي الحرف والنقطة
من جهة أخرى. الحوار يشي بوجود أربع حالات لإحباط الشخوص وإرباكهم كل حالة منها
تبدأ بتساؤل الشخصية عمّن سيعينها على الوصول إلى ذروة مبتغاها. في المقطع الأول
يتقدم الشاعر طليعة السائلين فيلقي بقرطاسه للحرف والنقطة كي يكتبا قصيدته لكن
القدر يجيء فيمسحهما من على شاشة المعنى ليظلّ الشاعر مذهولاً مثل صخرة طوال العمر.
وبالطريقة نفسها يأتي دور الطفل الذي يطلب أخذه إلى حضن أمه فيتبرّع الحرف ومعه
النقطة للتنفيذ لكن المأساة تأتي لتمسحهما أيضاً، ولتترك الطفل باكياً الليل بطوله
"
كشحّاذٍ ينامُ في شارعِ الثلجِ والمطر"
وفي المقطع الثالث وبالطريقة نفسها أيضاً يتكرر السؤال،
.............................................
(19)
شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ ط1/ عمّان 2007/ الصفحة 30.
وتتكرر إجابة الحرف والنقطة ليأتي العبث ماسحاً إياهما وتاركاً الشمس جالسة تقلب
كفّيها. ويأتي دور الشيخ قبل الموت ليسأل عمّن سيحفر قبره ويصلّي عليه فيتبرع
الحرف بالحفر، وتتبرع النقطة بالصلاة ولكن:
جاءَ الشيطان
ومسحَ الحرفَ والنقطة
من شاشةِ الوجود.
فجلسَ الشيخُ مرتبكاً
لا يعرفُ كيف يموت(20)
لقد عملت المحبطات الأربع (القدر، والمأساة، والعبث، والشيطان) على دحر قدرات
الحرف، والنقطة، وأفعالهما التسويفية،
عن طريق حذفهما من على شاشات: المعنى، والمسرّة، والحياة، والوجود.
ووقفت بحزم كمصدّات في طريق المضيّ إلى غاية كل شخصية من الشخوص الأربعة فلا الشاعر
استطاع أن يطلق أسرار القصيدة، ولا الطفل أدرك حضن أمه، ولا الشمس استطاعت أن تشرق،
ولا الشيخ استطاع الظفر بمن سيصلّي عليه بعد موته. لقد أربكت المحبطات حياة الشخوص
الأربعة، ولم تترك لهم مجالاً للصراع المتكافئ، أو لوصولهم إلى أهدافهم قبل آجالهم
ولو قبل وقت الأجل بقليل. ومن وجهة أخرى أرى أن الأربعة يمثّلون شخصيّة واحدة أو
مراحل مختلفة لشخصيّة واحدة ابتغت الوصول إلى الحقيقة المستحيلة
بإسناد من شخصيتيّ الحرف والنقطة ولكنها بدلاً عن هذا سقطت ضحية لداء الارتباك الذي
لا شفاء لها منه أبداً، وهذا هو عين ما اعترف الشاعر به في نهاية قصيدته (الحرف
يتشظّى.. النقطة تتدروش!) قائلاً:
........................................
(20)
شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ط1/ عمّان 2007/ الصفحة 56.
لأنني أعرف
أنّ إصابتي بداءِ الارتباك
لا شفاء منها أبداً.(21)
قد يرجع سرّ العجز هذا إلى براءة الحرف والنقطة، وفجر طفولتهما الذي لم يأذن لهما
بعد باكتشاف اسرار الوجود ولهذا سعى الشاعر إلى زجّهما في التجربة القاسية التي
منها بدأ الحرف اكتشافاته(22)
لسرّ الحُبّ والهذيان واللذة، وسر البحر والشعر والدمعة، وسر النهاية والجنون
والموت ليغفو إغفاءته الأخيرة في أحضان الزائر الأخير. الحرف هنا كما هو حاله في
بعض قصائد أديب كمال الدين شخصية مركزية فاعلة لها ما يميّزها من الأفعال،
والأقوال، والسلوك، والغايات، ولا يتوانى في خوض صراعه بغية الوصول إلى الحقيقة تحت
أيّ مسمّى لهذه الشخصية فهو العاشق والمعشوق، والقاتل والمقتول، والرافض والمرفوض،
والطفل والكهل، والصوت والصمت، والذكرى والنسيان، والشاعر والمعربد والمشرّد
والصعلوك والساحر والمشعوذ و.. و.. إلخ من المسمّيات التي لا يمكن عدّها في قصائد
أديب كمال الدين الحروفيّة. قد لا يطرح الحرف نفسه كشخصيةٍ ذات كينونة بشرية تتصف
بعقلنة الحياة ومنطقتها وإنسانيتها ولكن يكتفي بلعب أخطر الأدوار، وأكثرها رهبة
ورعباً لنا من بقية أدواره الرهيبة حين يقتحم حياة القصيدة بهيئة الموت. لنقرأ
المقطع الثاني من قصيدة (حلم):
طارت النقطةُ بعيداً.
كان بانتظارها قطارٌ أسود طويل
وسككٌ بيض
وإشارةُ سيرٍ مُلوَّنة.
..............................................
(21)
شجرة الحروف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع/ط1/ عمّان 2007/ الصفحة 88.
(22) شجرة الحروف،
دار أزمنة
للنشر
والتوزيع/ط1/ عمّان 2007/ الصفحة 63.
ضربت النقطةُ بجناحيها الناعمين إشارةَ السير
فصهلَ قطارُ الكلامِ صهيلاً جميلاً،
وصعد البخارُ من منخريه
قليلاً قليلاً
حتّى هبط من بابِ القطار
حرفٌ بملامح قاسية
وأناقةٍ مفرطة
وشاربٍ كثّ
وكتابٍ ثمين
ولسانٍ طويل.(23)
الحرف النازل من قطار الزمن كان أنيقاً، وكانت أناقته مفرطة كأناقة الشاب بثيابه
السود في قصيدة (الزائر الأخير)،
(24)
يترجّل بشارب كثّ وبكتاب يحفظ فيه الأرواح والنفوس. يلتقط نقطة الحياة فيتوقف
زمنها، ويضعها في الكتاب العجيب. يضع كل من مرّ به داخل ذلك الكتاب الغريب "ويدخل
كلُّ شيء في غيبوبةِ الموت".
شخصية الحرف من الممكن أن تتبدل في قصائد
أديب كمال الدين فكما هو رمز للموت والتغييب في هذه القصيدة نجده رمزاً للحياة
والحضور والمحبّة في قصيدة أخرى.
يقول الشاعر في قصيدة (لغة منقرضة):
.........................................
(23)
شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع/ط1/ عمّان 2007/ الصفحة 81.
(24)
شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ ط1/ عمّان 2007. الصفحة 10.
نظرتُ إلى الحرف
كانَ شاباً مليئاً بعنفوانِ العشق.
وكانت النقطة
مراهقةً مثل عاصفة من العشق.(25)
إن دلّ هذا التغيّر على شيء فإنّما يدل على أن الحرف عند أديب كمال الدين كائن عضوي
وحيوي قادر على تغيير نفسه وعلى تمثّله لكثير من الأشياء في وجودنا الهش الآيل
للغياب. يقول الشاعر في
احدى لقاءاته: "النقطة – مثلما
هو الحرف- وجه من وجوهي العديدة. وهي تتغيّر في وظيفتها وفي رمزيّتها وفي دلالتها
وفي معناها وظلال معناها كثيراً أو قليلاً من مجموعة إلى أخرى بل من قصيدة إلى
أخرى. وهذا هو بعض من سرّ تجدد الحروفيّة لديّ وقدرتها على الحياة أمداً طويلاً
"(26)
فالحرف والنقطة هما حياة كاملة متضمنة على كل شروطها، ومواصفاتها، وموجهاتها
الوضعية أو غير الوضعية وقد تعامل أديب معهما، في هذا القسم، كما تعامل مع بقية
الشخوص وهم ينعمون بحياة ما قبل الموت.
السؤال الآن هو هل كانت شخصيات هذا القسم متشبثة بحاء الحياة، وهل أعلنت الاحتجاج
على الموت كما جاء ذلك على لسان الشاعر في لقاء معه أجرته الباحثة الأكاديمية د.
حياة الخياري من أنها:
"احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وحضوره
وعنجهيّته وعبثيّته"؟
(27)
أرى أنّها لم تستطع إلى ذلك سبيلاً لأن كل سفنها اصطدمت بصخرة الموت الناتئة وهذا
عين ما أكدته ناقدة أكاديمية هي د. أسماء غريب في كتابها (تجلّيات الجمال والعشق ص
182) قائلة: "الموت عند أديب كمال الدّين هو الحرف الأكبر الذي كتبَ من أجله قصائد
بدت في ظاهرها حروفية، شاعرية ومليئة بالعذوبة واللذة المعرفية، لكنها في نهاية
المطاف لم تستطع أبداً أن تخفي وجه الموت القابع
................................
(25)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت 2013/ صفحة 107.
(26) راجع اللقاء المنشور في موقع الشاعر باستخدام الرابط الآتي:
http://www.adeebk.com/huarat/HaYat.htm
(27)
راجع اللقاء المنشور في موقع الشاعر باستخدام الرابط الآتي:
http://www.adeebk.com/huarat/HaYat.htm
بداخلها" فلو أخذنا قصيدة (محاولة في الاحتفال) بمقاطعها الستة مثالاً لوجدنا أنها
بسملت نفسها بالفرح حين افتتحها الشاعر قائلاً:
محتفلاً بنفسي
وضعتُ دمي في كأسي
وصغتُ منه أوركسترا حروفي ونقاطي.(28)
مفتاح الفرح هنا هو الاحتفال وإن اقتصر على النفس أو الروح. والدم بديلها المادي،
والكأس بديل الجسد، والأوركسترا هي نتيجة الانسجام الهائل بين الروح والجسد، بين
الحركات والإيقاعات، بين المادي والروحي، بين تصويت الحروف وتصميت النقاط، وهي من
وهب الروحَ معنى الفرح الإنساني، والشاعرَ معنى الحياة البشرية، والقصيدةَ معنى
التجريب:
هل أجربُّ الرقص؟
نعم، سأهيئُ من حروفي
رقصةَ باليه لكريّاتي الحمر والبيض(29)
لكنّ الشاعر يقفز إلى الخطوة اللاحقة فينحّي الأوركسترا بكل حروفها ونقاطها
وإيقاعاتها ومباهجها ليحلّ محلّها الموت بتابوته، وسكناته، وأحزانه، وقبضاته
المهلكة كما لو أنه مدخول بالبهجة، ومعجون بدم الفرح.
هل أجرّبُ الموت؟
نعم، سأهيئُ من حروفي تابوتاً أخضر
يحمله الشيوخُ الملتحون ليضعوه في قصرٍ من المرمر
فأكون معهم وحولهم وبانتظارهم
أصيحُ صيحةَ أهل بدر.(30)
......................................................................
(28)
النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط2/بيروت 2001/ الصفحة 36.
(29) المصدر السابق.
(30) المصدر السابق.
ثمّ يجرّب الشاعر الحكاية، والإفلاس، والصبا، والحُبّ، والمسرّة، والليل ليذعن
بعدها لهاتف الموت. في المقطع
الأخير من القصيدة يختصر مساراتها مكرراً الاحتفال لكنه يعود ثانية ليذعن لأمر
الموت بعد أن توّج دمه ملكاً للكلمات، وسلطاناً للحروف، وإمبراطوراً للنقاط، وبعد
أن أطلق "موسيقى الفرح العظمى" أطلق النار على الدم:
أطلقتُ عليه النار
وإذ تلوّى دمي بدمه
وصار يسحبُ خيط الدم بألمٍ فادح
دهشتُ لهولِ المشهد
ثمّ ضحكتُ وضحكتُ..
وبكيتُ..
ومتّ! (31)
لم يستطع الشاعر في محاولاته تخطي حاجز الألم الممض حتّى بالموسيقى فـ"موسيقى
الألم لا تُنسى"
ولم تستطع أجهزته الاستشعارية التخلص من متلازمة الموت حتّى وهو يجسّد الفرح
الانساني، والمحبّة الراقية، والمشاعر المتدفقة بالوصف الرومانسي الجميل. يقول
في المقاطع الثلاثة الأخيرة من قصيدة (الغراب):
كنتِ مليئة بالموسيقى،
مقمرة كليلةِ صيف،
طيّعة كجوهرةٍ تضيء في الظلام،
ساذجة كببغاء تلثغ،
وخرقاء كضحكةِ مجنون.
***
أنتِ من علّمني الرقص:
الرقص فوق جثث الحروف
...........................................
(31)
النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط2/بيروت 2001/ الصفحة 36.
وركام الساعات الكبيرة المحترقة.
***
أنتِ غرابي
كان ينبغي أن أقولها في بدء القصيدة
لأريح وأستريح.(32)
لقد انتهت مناورات الشاعر أخيراً إلى الاعتراف المؤجّل منذ بدء القصيدة (أنتِ
غرابي) وهو اعتراف أراد الشاعر تنحيته بأمل التخلّص من تلك الملازمة التي كلّما
عتّم عليها، أو ندّدَ بزوالها برزت له من بين سطور المعنى فهي (قابعة) فيه على حدّ
تعبير د. أسماء غريب، وراسخة في عمق حروفيته، ومتدفقة شرايينها تحت اللحم الحيّ
لجسد القصيدة. ويظل السؤال ماثلاً: ترى هل يتحقق تشبّث الشخوص بالحياة في القسمين
اللاحقين؟ لننتظر ونرى.
نقاط الاستنتاج:
·
شخوص ما قبل الموت: هم شخوص خبروا الحياة، والحُبّ، والحرب، والمباهج، والمنافي،
ونالوا منها أسوأ ما تمنحه للبشر من قهر، واضطهاد، وتغييب. اشتغل الشاعر على سيرهم
أو إرثهم الإبداعي وهم من الشعراء، والفنانين، والأدباء، والحروف المشخصنة.
·
اتخذ حضور الشاعر في قصائد شخوص ما قبل الموت عدّة وجوه منها: حضوره كشخصية مركزية،
وكشخصية مكافئة للشخصية المركزية، وكشخصية تمارس حضورها بهيئة حرف من الحروف، أو
منشطرة إلى منادى ومنادى عليه.. إلخ.
·
الشخوص المنتخبون لهذه القصائد أعاد الشاعر تأهيلهم
لها فهم منظور إليهم من زاوية رؤيته التي تلاءمت وطبيعة كلّ منهم. وقد ألبسهم
لبوساً درامياً متأتٍ من تأثير الدراما على تكوينه المعرفي منذ بداية مشواره
الأدبي.
...........................................
(32)
مجموعة حاء/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ عمّان بيروت2002.
·
قصائد شخوص ما قبل الموت حددت هدفها الذي وجدنا أنها تنتهي إليه دوماً، فهي متشابهة
في عموميّاتها، ومتوافقة في نتائجها، ومتقاربة في نهاياتها.
·
بعض قصائد شخوص ما قبل الموت هي اهداءات من الشاعر إلى أصدقائه وتميّزتْ بزجّه لهم
في معترك القصيدة فهم شخوص فعّالون فيها وممارسون لحياتهم وأنشطتهم ضمن دورتهم
الزمانية.
·
في الأنموذج الأول (تمسّكْ بها واستعنْ) ثمّة مفصلان أساسيان متحكّمان بمصير
شخصيتها المركزية (حسن ناظم)
فضلاً عن شخصية الشاعر التي طرحت نفسها من خلال الضمير أو الصوت الموكّل برواية قصة
الشخصيتين معاً، وملازمتها لشخصية القصيدة بعد أن ألغت الفواصل بينهما.
·
في الأنموذج الثاني اشتغل الشاعر على بنى التشتت والاغتراب في قصيدة (المطربة
الكونية). وعلى الطفولة والشباب، والكهولة في قصيدة (فيروز). وكانت القصيدتان
محكومتين مع القصيدة السابقة لهما (تمسّكْ بها واستعنْ)، واللاحقة (عفيفة اسكندر)
بالنهاية ذاتها.
·
في الأنموذج الثالث وفي قصيدة (زوربا) تحديداً انتهت القصيدة بعلامة التعجب (!)
التي اكتسبت أهمية استثنائية كونها جاءت بعد ستة لاءات ممثلة لشخصيتها المركزية
(زوربا) لتحدث انعطافة هائلة في الوقوف باستسلام تام في مواجهة الموت.
·
في الأنموذج الرابع اشتغل الشاعر على شخصنة الحروف ومنحها ما للشخوص من ملامح،
ونزوات، ورغبات، وحكمة، وحكم، وبصيرة، وعبقرية، وجعلها كائنات عضوية وحيوية قادرة
على التعبير عن نفسها وعلى تمثّلها للكثير من الأشياء في وجودنا الهش الآيل للغياب.
فضلاً عن شخصنة الشك والنجاح في تأجيج الصراع بينه وبين اليقين.
·
مفتاح الفرح في هذا الفصل هو الاحتفال وإن اقتصر على النفس أو الروح. والدم بديلها
المادي، والكأس بديل الجسد، والأوركسترا هي نتيجة الانسجام الهائل بين الروح
والجسد، بين الحركات والايقاعات، بين المادي والروحي، بين تصويت الحروف وتصميت
النقاط، وهي من وهب الروحَ معنى الفرح الإنساني، والشاعرَ معنى الحياة البشرية،
والقصيدةَ معنى التجريب.
·
وبشكل عام يمكننا القول: إنّ الشاعر في هذا الفصل من البحث اشتغل على حياة الشخوص،
وعلى عيشهم في تلك الحياة وصولاً إلى ما قبل الموت. ولا يغيّر من الأمر شيئاً كون
بعضهم من الراحلين أو المنتظرين على خطّ الموت لأنه اشتغل فقط على حياتهم ما قبل
الموت.
الفصل الثاني:
شخوص على
خطّ الموت
"اتخذتُ الشعر أسطورةً شخصيّةً حروفيّة أفسّرُ بها حاءَ الحياة والحُبّ والحرب
والبحر.
لقد أتاح الشعرُ لي أن أسجّل نبضات قلبي كإنسان مشغول بالجمال الروحيّ
والجسديّ والطبيعيّ والسماويّ وأنا أنتقلُ بين البلدان والزمان والبحار.
إنّه بوصلة بحريّة ورمليّة وصخريّة وتكنولوجيّة. إنّه الموسيقى
الأسمى والأعظم والأجمل تلك التي تهتزُّ
لها الروح طرباً
أو رعباً ويرقصُ لها
الجسدُ لذّةً أو فرحاً أو موتاً"(1)
أديب كمال الدين
*
(1)
مقتطف من حوار مع الشاعر نشر في صحيفة الاتحاد الكردستانية بتاريخ 6/10/2009.
تمهيد:
يتوسّط هذا الفصل حالتين: حالة ما قبل الموت، التي انتهينا من تفاصيلها، وحالة ما
بعده التي سنشتغل، في الفصل اللاحق، على بيان موجهاتها. وفيه تتجلّى حالة الشخوص
وهم يمرّون بتجربة الوقوف على خطّ الموت، أو على ضفافه، أو يحاولون عبور صراط
التحوّل من حالة الماقبل إلى حالة المابعد. وهم عالقون في منطقة مربكة ضبابية
وغامضة. أسسوا في حياتهم مجداً رفيعاً، وصنعوا لأنفسهم ألقاً ورفعة، وتركوا بصمات
مميّزة في حياة البشر روحياً ومعنوياً، وقد شهد لهم القاصي والداني، وأسطَرَ حياتهم
الشعراء والأدباء فتحوّلوا إلى رموز وأيقونات أدبية. فما هي طبيعة وحدود المنطقة
الافتراضية التي تركوا فيها، أو وَجَدوا أنفسهم عليها في مواجهة كبرى مع الموت، أو
دفعهم الشاعر إليها أملاً في اكتشافهم سرّ الأبديّة؟ قد لا تفصح القصيدة عنها بما
يكفل الوصول إليها ولكننا نستخلصها من فعل القصيدة، ذلك الفعل الذي يتفوّق على
سردها، ويتمظهر فيها كدال على فعل ظاهر أو خفيّ أو مخزون في ذاكرتنا الجمعية وعلى
وفق هذا نستدل عليها في قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) والتي تناول فيها الشخصية
البديلة (حارس الفنار) لتنوب في حضورها عن شخصية الشاعر القتيل محمود البريكان من
خلال فعلي الأمر (اقلبْ وحطّمْ) اللذين يشيران إلى الزمن الحاضر، الزمن الذي حدثت
فيه عملية القتل أولاً ومحاورة بديل القتيل الذي لم تجف دماؤه البريئة بعد ثانياً.
وفي قصيدة (دوستويفسكي) تجلّت لنا من خلال وقوف الشخصية منتظرة حبل الموت. أما في
قصيدة (شهرزاد) فقد حددتها ذاكرتنا الجمعية، ومعرفتنا بوقوف شهرزاد على خطّ الموت
وهي تروي لشهريار حكايات من ألف ليلة وليلة، في الوقت الذي
يقف مسرور وراء الستار متأهباً لقتلها. وفي قصيدة (مهنّد الأنصاريّ ثانية)
وهي رثاء موجّه للأنصاريّ الغائب كشخصية كُتِبت القصيدة لها وعنها من دون أن تكون
لها أيّة شخصية بديلة تمثل حضورها داخل القصيدة. فالشاعر وحده الواقف على خطّ الموت
يناديه محاسباً ومعاتباً وقد اكتفى الموت بالإصغاء لندائه المكلوم. وفي (قصائد
الرأس) حددت القصيدة موقع
الشخصية على خطّ الموت باستخدام ظرف
الزمان (حين) في البيت الأول منها: "حين
تدحرجَ الرأسُ المثقلُ بشهوةِ الدم".
ومن الأمثلة المهمة في هذا القسم قصيدة (أخي الكافكويّ) التي صوّرت بدقّة عالية
شخصية معطوبة ظنّت أنها ستموت الآن لكنها بقيت على خطّ الموت سبعين عاماً. وأخيراً
اشتغل أديب كمال الدين على حروفٍ شخصنها، وأنسنها بطريقته الحروفيّة، وأوقفها على
خطّ الموت لتساهم بإلقاء ضوء أو أكثر على سرّه المستحيل مثل قصيدة (تناص مع الحرف).
نماذج من شخوص على خطّ الموت
أولاًــ حارس الفنار:
في قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) يخاطب
الشاعر (الفنار) كراصدٍ وراءٍ ثبّت شهادته لمجريات ما حدث على الأرض أو البحر أو
تحتهما وقد قتل حارسه الذي اتخذ منه أديب كمال الدين بديلاً إبداعياً للشاعر الراحل
محمود البريكان مبتكر الشخصية الافتراضية (حارس الفنار) الذي قُتِلَ غدراً.
ونظراً لمحاولتنا التوسع في الاشتغال
عليها كواحدة من القصائد المهمّة التي تنتمي إلى أكثر من قسم واحد من تقسيماتنا
الثلاثة فإننا نضعها كاملة بين أيدي القراء الأعزاء أملاً في أن تكون قراءتهم
العضوية الفاعلة لها ما يدعم اشتغالنا على موجهاتها الفكرية والبنائية وعلاقتها
بخطّ الموت.
حارس الفنار قتيلاً
(1)
اقلب المائدة
وحطّم الكؤوس
فلقد قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!
حارسُكَ الذي أنفقَ سبعين عاماً
جالساً تحتَ عرشكَ الوهميّ
وفوقَ ساحلكَ الوهميّ
يرقبُ السفنَ وهي تغرق
أو تتيه في الأزرقِ اللانهائيّ
ويرقبُ الموتى وهم يراجعون
لوائحَ أسمائهم
في جهنّم باسمين يرتعدون
أو في الجنّةِ واجمين لا ينطقون.
نعم،
قُتِلَ حارسُكَ الذي اعتزل
كلَّ شيء مضى
وكلَّ شيء أتى
لينجو بجلده في بلادِ السواد.
وما عرفَ أنّه سَيُذبَحُ يوماً
ذبح الخرافِ بأرضِ السواد.
(2)
ما قتلته النفسُ التي سماؤها الشهوات
ولا تلك التي سماؤها الكراسي والسياط
بل قتلته النفسُ التي سماؤها الدينار
وخرجتْ من مسرحِ جثّته
بحفنةِ دنانير
لونها الدم
وأحداقها الدم.
فاقلب الكراسي والمائدة
أيّهذا الفنار
وحطّم الكؤوس
على مسرحِ النفوس.
فلقد ذهبَ الذي اعتزلَ وما نجا
والذي أنفقَ العمرَ كلّه
يخدمُ الحرفَ كلّه
ويبسمله كلّ ليلة
بالياءِ والسين.
ذهبَ بعد أن رقص
مع الزائر المجهول
عارياً كنبيّ
عارياً يحملُ بيديه الضعيفتين
رأسَه المقطوع!
(2)
وسنبدأ اشتغالنا من نقطة العنونة (حارس الفنار قتيلاً) التي جاءت مبنية على عنونة
سابقة لها (حارس الفنار) للشاعر البصري الراحل محمود البريكان. وقد عَدّ أديب كمال
الدين هذه القصيدة واحدة من القصائد العظيمة في الشعريّة المعاصرة حدّ اعتبار
مبدعها من شعراء الواحدة.(3)
ليس مهماً أن نختلف مع أديب في تقييمه هذا أو نتفق معه لأنّ المهم في نظرنا
واشتغالنا هو ما حققته قصيدته الاعتراضية، وما توصّلت إليه ككائن شعري له خصائصه
المتفرّدة. وعودة للعنونة نجد ضرورة في تحديد شخصية الفنار ثمّ شخصية حارسه
وعلاقتهما بالبريكان. فالفنار أو المنار كما تعارف العرب على تسميته هو ضوء أو سراج
وهّاج يوضع فوق منارة أو برج مرتفع تسهل رؤيته من قبل السفّان (ملاح السفينة)
فيتجنب بوساطته الخوض في المناطق الصخرية المهلكة، أو الممرات المائية الخطرة. وقد
وظّف لكل فنار حارس يقوم بالحراسة، والصيانة، والإدامة. أما من الناحية الشعريّة
فهو البديل، والرمز،
.........................................
(2) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2011/ الصفحة 29.
(3) هذا ما حدّثني عنه الشاعر في واحدة من جولاتنا في مدينة أديلايد بشكل مباشر عام
2013.
والدال، والرقيب، والشاهد، والرائي لمجريات الحياة، والحافظ لها، والقائم على
سلامتها، والخالق لمباهجها. وقد وجد البريكان نفسه ممثلاً لها أو وجدها ممثّلة فيه
فالفنار هو صرح التجربة التي خاضها على مدى سبعين عاماً حارساً لها، وحاضناً
لمكابدتها، ومبتكراً لمباهجها. وعلى هذا التماثل قامت قصيدته (حارس الفنار) ثمّ جاء
أديب كمال الدين فأضاف لها ما يميز حال الحارس (قتيلاً) لتصبح التسمية الكاملة
الجديدة (حارس الفنار قتيلاً).
تبدأ قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) بجملة فعلية أمرية: "اقلب المائدةَ وحطّم الكؤوس"
كرد فعل صاخب لفعل تمهيدي هادئ ورد في مطلع قصيدة البريكان (حارس الفنار):
"أعددتُ مائدتي وهيّأتُ الكؤوس
متى يجيء الزائرُ المجهول؟"(4)
وربطاً بين العلّة والمعلول فأنّ الشاعر
يخفّف من طبيعة الأمر بجملته السببية: "فقد قُتِل حارسُكَ أيّهذا الفنار" العلة
والمعلول هنا يشكلان البسملة الدرامية التي يبرر دراميّتها فداحة فعل قتل البريكان
مطعوناً بسكين، وسلسلة طويلة من الموت غرقاً على مدى سبعين عاماً من الرصد،
والمشاهدة. فهل كان من الطبيعي جداً أن يكون الفعل هادئاً، وردّه صاخباً؟ وما الذي
جعله يخرج (كَرَدٍّ) عن مسار حكمته الراسخة؟ لقد هيّأ البريكان مستلزمات الضيافة،
وجلس منتظراً الزائر المجهول بقناعة وحكمة تامتين فما الذي استفزّ أديب كمال الدين،
وحرّك في دخيلته كل هذا الغيظ والغضب وهو المؤمن بحتمية الموت وحقيقته المطلقة؟
لنطرح السؤال بطريقة أخرى فهذا السؤال يبدو كما لو أنه يريد الحق الذي يُراد به
الباطل: لو
.......................................
(4)
الموسوعة العالمية للشعر العربي. الرابط أدناه:
http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=63186
كان الموت قد حضر كزائر في ضيافة البريكان بالشّكل الذي أراده وصرّح به في قصيدته
(حارس الفنار) فهل سيستشاط أديب غضباً؟ إذن لماذا كان ردّه عنيفاً وصاخباً؟ يجيبنا
مطلع القصيدة لأنّ الحارس سقط مغدوراً به، ومطعوناً بسكين آثمة اخترقت جسده النحيل.
لقد اختار البريكان بإرادته عزلتَه في
أيّامه الأخيرة، (والعزلة في جوهرها شكل من أشكال الغياب) ولم يبقَ له ما هو أكثر
أهمية من الانتظار بحكمة العارف والمُجرّب الذي خبر الحياة وأطلق طيور حكمته فيها،
ورأى إلى الموت كما لو أنه استكمال لمسيرة طال أمدها وآن أوان بدئها من جديد. أراد
أن يغنّي وحيداً وبعيداً أغنيته الأخيرة ليستسلم بعدها لحكمة الموت، ولم يحسب أن
قاتلاً ما سيحطّم عزلته ويحيله إلى جثة هامدة قاطعاً عليه طريق انتظاره للزائر
المجهول.
إذا اعتبرنا ما تقدّم بمثابة التمهيد، أو
الجزء الأول من المقطع الأول من القصيدة فأن الجزء
الثاني منه شكّل فكرة القتل وتأكيد وقوعها. وفي هذا كلّه استلهام مشرق
لدرامية موت الشاعر محمود البريكان الذي أهداه أديب كمال الدين هذه القصيدة.
في الجزء الأول من المقطع الثاني تضع القصيدةُ أسبابَ الموت المتوقعة وهي تخالف
السبب الفعلي لموت حارس الفنار كمبررٍ لتكرار فعلي الأمر (اقلبْ وحطّم) الذي بدأ
بهما في مقدمتها، وتوكيدٍ لاعتزال الحارس كل شيء من أجل النجاة وما نجا. وقد أرادت
من نفي موته على يد السلطة أو بدافع الشهوات أن تحدد الدافع الحقيقي لموته (السرقة)
ليؤكد مدى فداحة قتل شاعر كبير مثل البريكان مقابل الحصول على بضعة دنانير منقوعة
بدمٍ إنسانيّ بريء.
وفي الجزء الثاني ـــ وهو جزء رثائي تفرّد
في تمجيد الحارس، الذي خدم الحرف وبسمله طوال حياته، وذكر مآثره، ورحيله المفاجئ،
وتساميه، ورفعته وترفّعه عن الدنايا. لقد رحل الحارس كرحيل الأنبياء والقديسين:
"ذهب بعد أن رقص.. مع الزائر المجهول.. عارياً كنبيّ".
القصيدة إذن بدأت بفعلي الأمر الأعنف مواجهة للموت (اقلبْ وحطّم)، وانطلقت من نقطة
بدا الشاعر فيها منفعلاً وغاضباً ومحرضاً، وانتهت بما قدمته من رثاء، وتعظيم،
وتقديس لشخصية حارس الفنار أو محمود البريكان. لقد رحل البريكان حاملاً رأسه
المقطوع دون انتظار ولو لحظة واحدة على خطّ الموت فهل كان تصنيفنا للقصيدة قد وقع
سهواً؟ لنرجع ثانية إلى القصيدة بمقطعيها لنرى أن الشاعر يملي أو يأمر الفنار ليقوم
بفعلي القلب والتحطيم مرّتين، مرّة في المقطع الأول وأخرى في المقطع الثاني،
احتجاجاً على وقوع فعل القتل بعد أن هيّأ الحارس المائدة، وأعد الكؤوس طوعاً
لاستقبال زائره المجهول. ولا بد من
الانتباه
إلى أن استكمال الاستحضارات من قبل الحارس جاءت بعد تيقّنه من زيارة الموت له زيارة
حتميّة لها أجلها أو هذه على الأقل هي رؤية البريكان للموت في قصيدته (حارس
الفنار). لقد حدث القتل العرضي فأثار أديب كمال الدين، وأثار غضبه وانفعاله وتذّمره
من الطريقة التي قُتِلَ بها الآن أو قبل الآن بلحظة زمنية قصيرة استناداً على قوله:
"فلقد
قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!"
وبناءً على حالته النفسية والعصبية، وانفعاله وغضبه الشديدين الذي لم يسبقه رثاء أو
ذكر لمآثر القتيل كما هو شائع اجتماعياً. لقد تأخر الرثاء إلى ما بعد المقطع الأول
فالشاعر لا يريد تبديد غضبه بكلمات الرثاء، ولا تمييع انفعاله بمواساة الفنار فلم
يمرّ من الوقت ما يكفي لاخماد ثورة غضبه، واطفاء نار انفعالاته. هذا فضلاً عن أنه
لم يتطرّق إلى حالة القتيل فيما بعد وقوع القتل، واكتفى بذكر مآثره وبسملته للياء
والسين، وخدمته للحرف.. الخ. الشخوص هنا إذن تقف على خطّ الموت معلنة احتجاجها عليه
ونفورها منه في محاولة للحؤول دون وقوع ما سيقع، أو ردّاً على ما قد وقع. وبذا تدخل
القصيدة ضمن تصنيفنا الصحيح (شخوص على خطّ الموت) المنفتح على أكثر من قسم من
الأقسام الثلاثة ذلك أن الموت قد وقع أولاً ثمّ جاءت القصيدة ثانياً وهذا يعني ثمّة
حد فاصل استغرق زمناً هو في حقيقة الأمر إشارة انتهاء دورة زمن الشخصية، ودخولها في
دورة جديدة.
ثانياًـــ جان دمّو، وفتى النقد
في (قنّينة جان دمّو) التي أسس عنونتها
أديب كمال الدين على ثنائية (القنّينة/ دمّو) تتحوّل القنّينة إلى مُلازَمَةٍ
أساسية في حياة الشخصية، وظلٍ ثابتٍ ملازمٍ ومؤثرٍ فيها من الناحيتين الروحية
والشعريّة. لقد منحت القنّينة دمّو حياة مميّزة بالسخرية، وسلوكاً قائماً على
الاستهجان، ظاهره التشرّد وباطنه الرفض. لقد رأى دمّو، وهو النازح من المدينة
(كركوك) إلى العاصمة (بغداد) الحياةَ الثقافية تزدحم بالمزيّفين من الشعراء وأنصاف
الشعراء، والإمّع من الأدباء وأنصاف الأدباء ولم يكن له بدّ من استخدام الشتائم بكل
قبحها للنيل من شخصياتهم المجوّفة، وهي عنده على نوعين فمنها ما يستخدمه ضد
المتشاعرين والمتهافتين على موائد السلطة وفتاتها، ومنها ما يكيله لأصدقائه أو
المقربين إليه. لقد رفض دمّو الحياة الباذخة الزائفة بكل ما لها وما عليها، وارتضى
بحياة التشرّد والصعلكة مادامت لا تمسّ ذرة من نقاء سريرته، أو شعرة من رأسه الذي
لم تلوّثه المحاباة، والتملّق، واستجداء الوجاهة والجاه. ولم يبقَ له فيما اختار
سلوة غير الخمر، ورفيق درب غير قنّينة الخمر، ولا غرابة، بعد هذا، أن يختارها أديب
كمال الدين كأيقونة دالة على دمّو لتكون مبتدأ عنونته (قنّينة) المضافة إلى (جان
دمّو) حصراً.
اشتغل أديب كمال الدين على هذه الشخصية باعتبارها ضميراً شعرياً جمعياً مستتراً "ضميرُنا
المُستتر"
الذي خصّ به الشعراء من أمثاله باستخدام الضمير (نا) المنسوبة اليهم كشعراء حصّنوا
أنفسهم وشعرهم كما حصن دمّو نفسه وشعره من الانزلاق وراء الشهوات. وبما أن فعل
الصعلكة عند دمّو أكثر حضوراً من فعل الشعر لديه كما يقرر هذا أديب في قصيدته
قائلاً:
"ضميرُنا
الذي يكتبُ الشعر"..
"دونَ
أنْ نقرأ له قصيدةً واحدة!"
لذا جعل من (المستتر) صفة لضميرهم الجمعي. وسيكون أكثر تحديداً عندما يصفه بحالة
السكر المستمر "
ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار" هرباً من واقع فجائعي وكارثي لا قبل لدمّو على تحمّله
فيواصل الهرب من الصحو ونقمته إلى السكر ونعمته: "ضميرُنا الذي يصحو"..
"كي
يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه"
وعربدته العابثة كطفل وديع حتّى اذا ما فرغ من (فكاهاته) فأنه ينام:
"مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة".
لقد
فرغ من رفيقة دربه ومناهضتها للصحو، وصار لزاما عليه، بمقتضى حاجته الجسمية، أن
يخلد للنوم. فهل ينام وحيداً بعيداً عن منقذته الوديعة؟ يقول أديب كمال الدين أنّه
ينام لكن "قنّينةُ
الخمرةِ قربَ رأسه". تقيه سموم أفاعي الأهل، ولدغ عقارب الجار، وذيول كناغر
الغرباء. خارطة معاناة كبيرة ينوء بها على امتداد الطريق من كركوك إلى بغداد، ومن
بغداد إلى عمّان، ومن عمّان إلى سدني حيث توقف به قطار الغربة، وقطار الروح.
هل كان دمّو صعلوكاً؟
لم أجد إجابة فورية على سؤال أسرع من
الإجابة على هذا السؤال فبضغطة زر واحدة على الكمبيوتر تجد عشرات الـ(نعم) ولا تجد
ما ينفي الصعلكة عنه على الإطلاق وكأنّ الجميع قد اتفقوا دون سابق اتفاق على حقيقة
صعلكته الماثلة. فما طبيعتها وما يميزها عند دمّو؟ لنقرأ المقطع الآتي من القصيدة
نفسها:
ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة
وشعراءَ الطغاة
والشعراءَ المرتزقة
والشعراءَ السَفَلة،
ويحقدُ على الزمانِ الذي لم يمنحْه
سوى وسام العربدة
وعصا الصراخِ بالحقيقةِ المرّةِ كالعلقم.
(5)
.................................................................
(5) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2013/
الصفحة 26.
يحدد أديب كمال الدين كنه الضمير (جان دمّو) في كرهه للطغاة، وشعراء الطغاة من
المرتزقة، والسفلة، وغيرهم. وفي حقيقة الأمر فإنّ أديباً يتحدث عن كرهه الذي يشترك
به مع دمّو، ولم يجاهر به كما جاهر دمّو به ليل نهار وبطرقه المحفوفة بالسخرية،
والسباب، والشتائم التي يرى دمّو أنها المفردات الوحيدة التي تليق بكل المتشاعرين
أو الشاعرين بعقدة الصغار. صعلكة دمّو إذن هي صرحه المشيّد من قرميد الحقيقة المرّة
والمريرة، والقائم على أعمدة المجاهرة والبوح. مفتاحه الدفاع عنها، والاقتصاص لها.
وباحته لغة لا يتمتع بها إلا جان ومن هو على شاكلة جان، وعلى شاكلة مَن نال وسام
العربدة في عالم احتشد فيه المتصاغرون بهدوء مريب. وبثوا سمومهم في جسد الثقافة
ببرود، وصارت لهم في كيانها صولات وجولات لم يقف في وجه تيارها الجارف شاعر كما وقف
دمّو وهذا هو امتيازه عن سائر الصعاليك. لم يقوَ جان على تحمّل المزيد من مكابدة
الثقافة وزيفها وهو يتقدم نحو شيخوخته بخطى واسعة. ولم يفهم تلك المكابدة أحد من
الشياطين أو الملائكة، كما يزعم أديب كمال الدين، ولم يبقَ له في حياة آيلة إلى
نهايتها سوى قنّينته المخلصة التي طبعت على شفتيه قُبْلتها الأخيرة تاركة إياه على
خطّ الموت وهو يستشعر أثر قُبْلتها على شفتيه المشوبتين باصفرار باهت كاصفرار وجوه
الموتى:
قنّينةُ الخمرةِ هذه
كانتْ صديقته الوحيدة،
صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه
بهدوءٍ أسْوَد
وهي تقبّله بشغفٍ أسْوَد
قُبْلةَ الحياة.(6)
....................................................
(6)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2013/ الصفحة
26.
لقد نال دمّو أخيراً من قنّينته ما انتظره طويلاً وكثيراً. قُبْلة بلون الموت
وهدوئه العجيب. إنها قُبْلة الحياة الخالدة.
ثمّة أكثر من عامل مشترك بين الشاعر جان
دمّو، والشاعر/ الناقد عبد الجبّار عباس. فكلاهما أصدر مجموعة شعرية يتيمة، وكلاهما
ذاق مرارة العيش، وشظف الحياة، وما أحنى رأسه لسلطة أو زمرة غشوم. وفي كليهما ما
يجعل أديب كمال الدين شبيهاً بما يتحلّيان به من زهد وإباء، وترفّع عن الدنايا،
وقبول بالحرمان، ورفض للترف والرفاه وبحبوحة العيش، وتمسّك بمبادئ الخلق الكريم،
وحرص على فضح الزائف في حياتنا الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، وقد نال كل منهم
نصيبه من التغييب، والاقصاء، والنفي، والغربة. في الجانب الآخر نال عبد الجبّار
عباس لقب (فتى النقد) من شيخ نقاد العراق د. علي جواد الطاهر تثميناً لجهده المبكّر
في النقد الأدبي، وتقييماً لجعل كل أنشطته الفكرية والثقافية وقفاً على النقد حسب
بعد أن توقّف طوعاً عن كتابة الشعر. كما نال بعد وفاته تكريم الطاهر له بتأليف كتاب
عنه طُبع تحت عنوان (عبد الجبّار عباس.. ناقداً). وقد استلهم بعض الشعراء قصائدهم
من وحي شخصيته وحياته التي عاشها بأمانة ونبل كبيرين فكتبوا قصائد مهمة مثل الشاعر
موفق محمد في قصيدة (الجُبّ والعقرب) والتي جاء فيها:
(أقسم يا عبد الجبار
طيلة هذا العمر المرِّ
ومنذ عرفتك في غيابة هذا الجُبِّ
لم أتبيّن وجهك
فجاءني صوتك منذ اليوم الأول مشحوناً يتخثّر فيه الموت
فتأبطت جراحي
قلت : اصبر يا ملك الضيم
وتجرّع من هذا السمّ قليلا
فسيأتي بعض السيّارة
وسيصرخ واردهم : يا بشرى
فأجاب الصمت
وتوسدّنا الجُبّ طويلا).(7)
وكذلك الشاعر أديب كمال الدين الذي جعل من لقب عبد الجبّار عباس، الذي ناله عن
جدارة ومكنة عاليتين في اشتغالاته النقدية منذ وقت مبكر من حياته الأدبية، عنونة
لقصيدته من دون أن يدخل أي تغيير على عبارة الطاهر (فتى النقد).
بنيت قصيدة (فتى النقد)(8)
على قول شعبي مأثور منقول عن عبد الجبّار عباس من ثلاث جمل لثلاث كؤوس تشكّل كلّ
واحدة منها حالة من حالات انفلاته من مرارة الواقع، وكآبة الحياة، وعتمتها القاتلة:
بعد كأسه الأولى
سيبتسمُ فتى النقدِ قليلاً
ثُمَّ يضحكُ بصوتٍ مُجلجل.
وبعد الثانية
سيغنّي أغنيةً عن حرمانِه الأزليّ
وأشواقِه الهائلة.
وبعد الثالثة
سيرقصُ مثل زوربا
...........................................
(7) القصيدة مأخوذة من مقالة الشاعر سعد جاسم الموسومة (عبد الجبار عباس.. ذكرى
الغياب) المنشورة في موقع مجلة الف الالكتروني في 12/ 9/ 2008. الرابط أدناه:
http://www.aleftoday.info/article.php?id=2723
(8)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2013/ الصفحة
79.
أو ربّما مثل الحلّاج
أو ربّما مثل طير ذبيح.
تمثّل الكأس الأولى صلة الوصل بين عالمين
مختلفين: عالم الصحو، الذي كان دمّو يقاطعه دوماً بسكرة لاحقة كما مرّ بنا، وهو
عالم ذاق كل مراراته اللاذعة ولم يعد قادراً على تحمّل شجونه وآلامه. وعالم السكر
الذي يأخذه من حيث يدري أو لا يدري إلى الابتسام والقهقة، والغناء والحداء، والرقص
والمرح، أو إلى الشعور اللذيذ بالفرح، والنشوة، والتحرر من قيود تراجيديا حياته
اليومية الرتيبة. في المرحلة الأولى يدبّ دبيبها حالما تصل إلى دماغ شاربها. وفي
الثانية تعمل على تخفيف الأنشطة الدماغية. وفي الثالثة يتحرر الشخص من بعض
المسيطرات القمعية فتتحرر الشخصية مما اعتادت عليه لتقوم بما ترغب به دون رادع لهذه
الرغبة التي هي في الأصل رغبة مقمعة لا نعرف إلى أيّ اتجاه يشير رأس السهم فيها
أإلى الفرح المطلق كما في حالة زوربا؟ أم إلى اليقين المطلق كما في حالة الحلّاج؟
والإجابة وحدها من يفسّر لنا لماذا يجهش بعض السكارى بالبكاء بينما يطلق بعضهم
الآخر عقيرته بالغناء.
في المقطع الثاني تتقاطع إرادتان: إرادة الناقد/ الطفل عبد الجبّار عباس وإرادة
الإمبراطور. الأول سعى إلى قول ما لا يُقال حتّى ولو لم يعقل قوله أحد وهو العارف
أن لا أحد يقول ما يقول. والثاني أختار أبسط أنواع العقاب للأول، وهو العارف أنّ
الأول جاء إلى العاصمة كي ينام بين أحضان مراجعها ومصادرها الجميلة، ودررها
المعرفية الثمينة، وجواريها الشعريّة الحسان. أمر بطرده من بغداد التي احتضنت فتوته
النقدية وإرجاعه إلى حاضنته الأولى التي تفجّرت فيها مواهبه الشعريّة والنقدية. في
هذا المقطع يستعير أديب كمال الدين أو يدخل في تناص مع قصة ثياب الإمبراطور ليقول
لنا إنّ الطفل الذي صرّح بعريّ الإمبراطور كان عبد الجبّار عباس وعليه استحق لعنة
المملكة المبنية على خرافة الإمبراطور وأكاذيبه المنطلقة من داخل مصنع البلاط
الرهيب:
أعادهُ في زمنِ الجوعِ والقهر
كي يرتدي قميصاً من العزلة
أسودَ أسود
ويموت سريعاً
كومضةِ نجم
بقلبٍ كسير
وعينين دامعتين.(9)
لقد كان فتى النقد طوال ذلك الزمن واقفاً منتظراً على خطّ الموت فما من أحد واجه
الطاغية إلا وكان الموت له أبسط أنواع العقاب. أراد الطاغية لعبد الجبّار أن يموت
ولكن بعزلة سوداء، وبعينين دامعتين، وبقلب كسير. مات عبد الجبّار عباس واقفاً ثمّ
مات الامبراطور مستسلماً، وشتّان بين الميتتين.
ثالثاًـــ مهند الأنصاريّ
في القصائد الثلاث السابقة كنا قد اشتغلنا
على الشخوص الواقفين المنتظرين على خطّ الموت. وكان الشاعر يدير اللعبة من برجه
الحروفيّ (من خارج القصائد) دون أن يكون بينه وبين الموت تماس مباشر بينما نجد ذلك
التماس على أشدّه بين الشخصية وبين فعل الموت
في قصيدة (مُهنّد الأنصاريّ ثانيةً) حيث يقلب أديب كمال الدين تلك المعادلة ليضع
نفسه في مواجهة صعبة مع الموت وعلى خطّه الفاصل، وهو يناديه بأفظع الأسماء والصفات
(الوحش المهذب، والوحش سليط اللسان) ويسائله محاسباً ومعاتباً بشدّة وإصرار بالغين:
.........................................
(9) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2013/
الصفحة 79.
أيّها الموت،
أيّها الوحشُ المُهذّب،
كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأم روحي
ومرآةَ حرفي؟(10)
إن أديب كمال الدين يدرك خطورة المواجهة، ويفهم ضرورة أن تكون لها دفاعاتها المحكمة
وهو لهذا يلجأ إلى ذكر أكثرها قناعة لشخصية يستحيل إقناعها. ولعل ما يبرر ذلك هو
أولاً.
إنّ المتوفى هو كليم الشاعر وهذا يحيلنا إلى ما جاء في قصة النبي موسى (كليم الله)
ويثبت لنا درجة القرابة الروحية بين الشاعر وبين كليمه مهند الأنصاريّ، وثانياً.
إنّ الأنصاريّ هو التوأم الروحي للشاعر أديب كمال الدين، وإنّ إلحاق الأذى بأيّ
منهما يترتّب عليه إلحاق الأذى بالآخر، وثالثاً إنّ الأنصاريّ هو المرآة التي تنعكس
عليها حروفيّة أديب، وطاقته الإبداعية بما يشي بجوهر العلاقة وعمقها الإبداعي
والإنساني. ثمّ يخبر الشاعرُ الموتَ عن ضحيته التي كان قلبها متوهّجاً بالمحبّة
السامية. وعبر ستٍ من الكيفيّات الاستفسارية يحاول معرفة أيّ سبب لرحيل توأمه
الروحيّ. لقد نجا أديب من الموت وهو الواقف على خطّه الرفيع بينما غادر الأنصاريّ
ذلك الخطّ إلى العالم الآخر. ولعلّ من الجدير الاشارة إلى أن أديباً لم يقدّم
التماسه من أجل الأنصاريّ إلا بعد أن وضع شمس الأنصاريّ ساطعة بين يديّ الموت في
قصيدة (مديح إلى مهنّد الأنصاريّ) مذكّراً إياه بشمس الأنصاريّ التي أحبّها الله
كما أحبّ النون وصاحب النون لكنّ الموت – بالطبع - لم يعن بالتماس الشاعر فلفّها
بعباءته السوداء الحالكة.
رابعاًـــ الشاعر والحروف
وفي قصيدة (ثلاث صور للموت) يقف الشاعر على خطّ الموت أيضاً لا للدفاع عن شخصية أحد
من اصدقائه، ولا عن شخصية من تلك التي تركت ظلالها على جغرافية
.......................................
(10)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2013/ الصفحة
77.
حروفيّته الشعريّة، ولكن للدفاع عن نفسه ضد الموت الذي حضر هذه المرة بهيئة شرطي:
حين جاء الشرطيّ
وطرقَ البابَ بعنف
قلتُ له: ما تريد؟
قال: روحك.(11)
هنا تتجلّى البساطة المفرطة العجيبة في السؤال، والعقدة الكبيرة الرهيبة في
الإجابة. من السهل طبعا أن تكون إجابات الموت البديهيّة بعفوية مفرطة وهو الممارس
لفعله يومياً وتفصيلياً. تحضرني قصة رجل من مدينتي سار إلى جانب جلاده باتجاه
المشنقة في سجن بعقوبة الرهيب وكان الجلاد من أقاربه المقرّبين. قال الرجل ملتمساً
من قريبه الخلاص من الموت: (دخيلك) فأجابه الجلاد ببساطة مفرطة (لا تخاف العملية
مراح تاخذ أكثر من
دقيقة)
أي أنّ عملية الشنق لن تستغرق
أكثر من دقيقة واحدة! هذا هو نصف الصورة الأولى أما نصفها الثاني فأنه يقلب
الموازنة أيضا فالشخصية لم تبدِ خوفا أو هلعاً أو تردداً في مواجهة الموت، ولم
ترتبك وهي تسقط جثّة في البحر كما في قصيدة (الزائر الأخير) ولكنها وقفت ببرود قاتل
فاق برودة الموت نفسه لتقول للشرطي/ الموت:
إنني أبحثُ عنها
منذ نصف قرن دون جدوى!
وأغلقتُ البابَ بهدوء.(12)
لتنتهي الصورة الأولى هكذا دون فلترة لتفاصيلها، أو ماكياج لشخصيتيها على خشبة مسرح
الحدث. الإجابة انطوت على معنيين أحدهما ظاهر مُعلَن والآخر غائب مستتر نستقرئ فحوى
............................................
(11)
مجموعة حاء/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ عمّان – بيروت 2002/ الصفحة 62.
(12) المصدر السابق.
غيابه من خلال الضحكة التي أطلقتها
الشخصية ساخرة من نفْسها التي لا تزال تبحث عن نفْسها دون جدوى في إشارة واضحة إلى
أن الشخصية لم تعش الحياة كما ينبغي بل كما خطط لها الغاشمون المتسلّطون.
في الصورة الثانية يتكرر حضور الشرطيّ،
ويتكرر سؤال الشاعر ماذا تريد؟ وحين يرد الشرطيّ: "روحك" تقفز الشخصية فرحاً
بلقائها المرتقب مع الموت ليضع حداً للمهزلة التي اسمها الحياة. في هذه الصورة يتضح
سرّ الشخصية التي تشي برغبتها في الخلاص بعد أن بلغت الحياة من التسلط، والجور،
والظلم، والظلام، والاستهتار، والسقوط ما لم يطقه أحد على مدى خمسين عاماً،
وتعلن جهاراً عن مستتر الصورة الأولى.
وفي الصورة الثالثة وهي الأقرب إلى خطّ
الموت يحضر الشرطيّ مطالباً بروح الشاعر التي هبطت كغيمة فوق حديقته فيقول له
الشاعر ببرود "خذْها:
فأمسك الشرطيّ بيدِ الغيمة
وهي تصرخُ وتبكي وتزرقُّ وتزرقّ.(13)
إلى هنا انتهت الصور الثلاث للموت ولكننا لم ننته بعد من القصيدة فثمّة سؤال مؤجّل
لا بد من طرحه لتكتمل غايتها: ترى لماذا حضر الموت بهيئة شرطي هذه المرّة ولم يحضر
كزائر أو ضيف أو امرأة بشعر أخضر أو بهيئة طيّار؟ إذا اتفقنا أن الإجابة لا تحتاج
إلى تفكير عميق فعلى القارئ، نظراً لوضوح الرمز وبساطته، العودة إلى مفتتح النص
ليقرأ القصيدة من جديد انطلاقاً من فهمه لرمزية الشرطيّ وتأثيره في الحياة التي
اشتغلت عليها القصيدة، ولننسحب من هذه المهمة التي تقع خارج دائرة اشتغالنا على
الموت ومسافاته الافتراضية.
ثمّة قصيدتان أنسن الشاعر حروفيهما ووضعهما في مواجهة مربكة مع الموت في تناصين
.......................................
(13) مجموعة حاء/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ عمّان – بيروت 2002/ الصفحة 62.
مختلفين هما (تناص مع الموت) و(تناص مع
الحرف). تقع الأحداث فيهما على خطّ الموت. وأبطالهما أو بالأحرى شخوصهما هم: الشاعر
كشخصية رئيسة والحرف كشخصية ثانوية في القصيدة الأولى. والحرف كشخصية رئيسة والشاعر
كشخصية ثانوية في القصيدة الثانية. تبدأ الأولى بتحديد مسار الشاعر على طريق الذهاب
إلى الموت:
في الطريقِ إلى الموت:
الموتِ القديمِ المقدّس،
فاجأني موتٌ جديد
موتٌ لذيذٌ بطعمِ السمّ
موتٌ لم أحجز له موعداً أو مقعداً.(14)
وإذا كان الموت بهيئته أو هيئاته التي تعرّفنا عليها في قصائد أديب كمال الدين
يشكّل موتاً قديماً فما هو هذا الذي يصفه بالجديد اللّذيذ المفاجئ؟ الشخصية الرئيسة
في القصيدة تجيبنا في المقطع الثاني بوضوح يفسّر نفسه بنفسه في الأبيات الآتية:
في حضرةِ الموسيقى التي تندلق
لتكتب حاءَ الحياةِ وباء الحُبّ
ينبغي أن أكتبَ شعراً
مليئاً بالبحرِ والطيور.
لكنني،
ولسببٍ غير واضحٍ أو مفهوم،
أكتبُ عن الموت.
.........................................
(14)
تناص مع الموت قصيدة من مجموعة الشاعر (أربعون قصيدة عن الحرف)/ دار أزمنة للنشر
والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان الأردن 2009.
ربّما لأنّ الموتَ هو نديمي الوحيد
أو صاحبي الذي يُحسن الرقصَ قربي
حين أنهارُ وسط الطريق.(15)
فبعد أن كان الشخوص، والشخصية الرئيسة في هذه القصيدة واحدة من تلك الشخوص، في
مواجهة عنيفة مع الموت، ومحاولة جادة للتنديد به تتحوّل إلى صديقة له يرقصان
ويمرحان معاً، وينادم كل منهما الآخر (المقطع الثالث) فصداقتهما الجديدة مسالمة
ومحايدة حد إلقاء أحدهما (الشخصية الرئيسة) التحيّة على الآخر (الموت). أما المقطع
الرابع فقد خصص لبيان طرق استقبال الموت المختلفة في أماكن مختلفة وبه ينتهي دور
الشخصيّة الرئيسة ليصار إلى تقديم شخصيّة الحرف (المقطع الخامس) ثمّ إلى تمجيد
الإله (المقطع السادس) ليبدأ الدور الفاعل للحرف في المقطع الأخير وهو يرد على
الشخصية الرئيسة مطمئنا إياها قبل أن يغادر محلقاً في السماء، وتاركاً إياها في
مواجهة مع الأشباح الذين أحاطوا بها سعياً وراء القبض على روحها المرتبكة التي لم
تغادر خطّ الموت بعد. الحرف الذي قرر أن الكلّ سيموت عاد من تحليقه البعيد ليلعب مع
الشاعر في القصيدة الثانية فوجد
الشاعر ضائعاً، وحبيبته عارية فذهب إلى الله فالنبيّ فالوليّ فالصوفيّ فالمجهول:
فالتقى بالموتِ الذي صفعه على أمّ رأسه
صفعةً واحدة
حوّلته إلى قطعةِ فحم.(16)
لقد تلقّى الصفعة في لقاء حاسم ونهائي على خطّ الموت فتفحّم فرحل إلى ما هو أبعد
منه بكثير
بينما ظلّ الأطفال يكتبون
بفحمته المتبقية السوداء أسماءهم، والشاعر قصائده في
......................................
(15)
تناص مع الموت: قصيدة من مجموعة الشاعر (أربعون قصيدة عن الحرف)/ دار أزمنة للنشر
والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان الأردن 2009.
(16) تناص مع الحرف: قصيدة من مجموعة الشاعر (أربعون قصيدة عن الحرف)/ دار أزمنة
للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان الأردن 2009/ الصفحة 43.
عالم آيل لطوفان جارف. لم يبقَ أمام الشاعر وحرفه الذي عاد في قصيدة (جاء نوح ومضى)
سوى الانتظار العبثي للموكّل بإنقاذ العالم من طوفان لن يبقي على أحد من البشر. لقد
بقيا معاً في انتظار نوح وسفينته الجامعة يحدوهما أمل الوصول إلى برّ الأمان،
والتطهّر من رجس عالم حقّت عليه العاقبة وما من خيار بعدها سوى الانتظار الطويل
فانتظرا طويلاً وكثيراً ليس كالمتوهّمين حضور (غودو)(17)
بل كالواثقين المتيقّنين من حضور نوح وسفينته المنقذة.
شخصيتان رئيستان في هذه القصيدة هما: شخصية الشاعر الراوي لقصتها، وشخصية الحرف
المنشطر عن الشاعر والملازم له في آن. فضلاً عن الشخصية الغائبة التي مارست حضورها
من خلال انتظار الشخصيتين لها إيماناً منهما أن لا خلاص بغير فلكها الذي وسع جوفه
بذور كائنات ثنائية حيّة ستنمو وتكبر في رحم حياة جديدة وعادلة.
بسملت القصيدة نفسها بتسويف الموت أملاً في الخلاص من معاناة الحياة التي لم تعد
تُطاق، ومشاق الرحلة المضنية التي لم تصل إلى غايتها، وتكالب المصائب والنوائب،
وهيمنة الوحشة والوحدة، وانفراط عقد الغبطة والمسرّة. يقول الشاعر مخاطباً نفسه من
خلال الحرف:
ستموت الآن.
أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.(18)
فالشاعر لا ينسى أبدا أنهما يقفان على خطّ الموت، ولا أمل لهما بالنجاة إن لم يحضر
نوح بسفينته المنتظرة. العالم يغرق بسوءاته وبظلمه وظلامه شيئاً فشيئاً. الطوفان
يزحف مبتلعاً بجبروت هائل كل
ما هو حي، وسفينة نوح تلوح في الأفق
البعيد كبصيص أمل أخير لكوكب الأرض. رحلة مجهولة المصير وما من أحد ذكر شيئاً عن
اهوالها ومصائبها التي لا تنتهي.
....................................
(18)
اربعون قصيدة عن الحرف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان الأردن
2009/ الصفحة 7.
طوفان الظلمات يكنس كل شيء حيّ. نفوس
مصابة باليأس المطبق، وشخوص تكدّست خساراتها حتّى أضحت بثقل سلسلة من الرّواسي
والتلال. الشاعر وحرفه ينوءان بمختلف العذابات وهما ينتظران على قارعة البرّ أو على
شواطئ البحار حتّى تُقْبل نحوهما سفينة الخلاص فيشيران لها، ويلوّحان بما ملكت
أيمانهما من الملابس والثّياب. يصرخان ويستنجدان ويطلبان الإغاثة حتّى إذا ما
استكانا راح الشاعر يكمل حكايته لصديقه الحرف قائلاً:
انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.
جاءَ نوح ومضى!(19)
فما من حلّ يأتي من الماضي ولا من منقذ يقفز المسافات الطويلة ليدخل عبر بوابة
الزمن من الماضي المنصرم إلى الحاضر القائم. لقد باء الانتظار باليأس الذريع
فالماضي، كما هو شأنه أبداً، مشغول بأحداثه ومكابدته ولن يرى الملوّحين له على
قارعة الانتظار. يقول الشاعر مبرراً عدم انتباه نوح لهما:
لم ينتبه الرجلُ إلينا
كان طيّباً ومسالماً
ومهموماً بسفينته وابنه وطيوره.(20)
لقد جاء نوح إذن، ولكنه مضى دون أن ينقذ الشاعر وحرفه الموشك على الموت وكان هذا
مدعاة ليأس جديد. لقد خذل الحرف فوهنت قواه، وصار قاب قوسين من الموت، ولم تسعفه
جرعة الماء ولا رغيف الخبز الذي قدّمه الشاعر له بإيثار للحؤول بينه وبين القائم
على خطّه المهلك ولهذا يرفع الشاعر عقيرته بالصراخ:
................................
(19)
(20) أربعون قصيدة عن الحرف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان
الأردن 2009/ الصفحة 7.
لا تستسلمْ!
تمسّكْ بحلمكَ وإنْ كانَ خفيفاً كالغبار!
أرجوك
أنا لم أفقد الأمل بعد!
أرجوك
ال........ن............ج.............دة!
ال........ن............ج.............دة!
ال........ن............ج.............دة!(21)
ويستمر صراخ الشاعر وما من أحد يسمع، ويستمر في طلب النجدة وما من منقذ يأتي.
ويستمر الموت راصداً مهيّئاً للانقضاض على ما يصادفه من الأرواح الهاربة من دوامته
الرهيبة، والعالقة على خطّه المهلك. وبقدر الضحايا التي تقف على صراطه بأمل الخلاص
من براثنه ثمّة من وقف عليه منتظرا بتفاؤل كبير، أو محبطاً بشكل عجيب كما هو حال
ديستويفسكي، وأخي الكافكوي، وشهرزاد، وآخرين لم نجد كبير أهمية لتكرار الإشتغال على
شخصياتهم في هذا الفصل من فصول اشكاليّة الغياب.
نقاط الاستنتاج:
·
شخوص على خطّ الموت: وهم شخوص عالقون في المنطقة الافتراضية (منطقة خطّ الموت) وهي
منطقة مربكة، ضبابية، وغامضة، وشخوصها ما انفكوا يحاولون عبور صراطها من حالة
الماقبل إلى حالة المابعد. ويمكننا استخلاص وجودها من فعل القصيدة الذي يتفوّق عادة
على سردها ويتمظهر فيها كدال على فعل ظاهر، أو خفيّ، أو مخزون في ذاكرتنا الجمعية.
·
شخوص هذا الفصل أعلنوا احتجاجهم على الموت، ونفورهم منه، وتجنّبهم له، ومحاولتهم
الحؤول دون وقوعه، أو الاستسلام له، أو انتظاره طائعين أو مرغمين.
.........................................................
(21)
أربعون قصيدة عن الحرف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان الأردن
2009/ الصفحة 7.
·
اشتغل أديب كمال الدين على شخصية جان دمّو باعتبارها ضميراً شعرياً جمعياً مستتراً
حصّن نفسه وشعره من الانزلاق وراء الشهوات، كما حصّن الضمير الجمعيّ نفسه ضدّها.
واشتغل على شخصية فتى النقد عبد الجبّار عباس كشخصية مناوئة لشخصية الامبراطور ألقت
بظلالها على الضمير الشعريّ الجمعيّ المعارض.
·
لم يستثن الشاعر نفسه من الوقوف على خطّ الموت، والتنديد به، ومقاومته، أو مساءلته
عما فعل بأصدقائه المقرّبين. وقد كُتب للشاعر النجاة، ولأصدقائه الوفاة.
·
وعلى الرغم من مقارعة الشاعر للموت إلا أنه بدا في قصيدة (ثلاث صور للموت) أكثر
استسلاماً له، وأكثر اهمالاً لروحه، وأشدّ شغفاً لحضوره كطريقة لبيان تردّي الحياة،
وسقوطها تحت براثن الظلم والظلام والأنظمة الجهنمية.
·
حاول الشاعر تحييد الموت، وعقد نوع من العلاقة الحميمة بينهما لكنه فشل في التأثير
على سطوته، أو التخفيف من عنجهيته. كما أنّ الوقوف إلى جانبه على صراطه الرهيب لم
يمنح الشاعر ولا حرفه السلام والاطمئنان من ضربته القاضية.
·
حلّ أزمة الموت لن يأتي من الماضي فما من منقذ يقفز المسافات الطويلة ليعبر من
بوابة الماضي المنصرم إلى الحاضر القائم ليقدم حلاً أو مقترحاً لحلّ ثمّ أن
الانتظار محكوم باليأس مهما بالغ اليائسون في التلويح والانتظار.
·
تجربة الوقوف على خطّ الموت إذن سواء للشاعر أو حرفه أو غيرهما من الشخوص لن تصل
بهم إلى برّ الأمان، ولن توقف المدّ الهائل لأمواج الموت الهادرة.
وبانتهائنا من هذا الفصل يكون التشاخص قد بلغ أشدّه، ويكون قد وصل إلى الحالة
الأشدّ حرجاً حيث يكون فعل الموت مستأثراً بالحركة المهيمنة على مفاصل الحياة
كلّها، وعلى فاعلية الروح وأجهزتها، ويكون الشخوص قد دخلوا غرفة الموت التي لا عودة
منها إلى أبد الآبدين، ويكون السؤال المهم والأخير: كيف سيراهم الأحياء، وماذا
سيقولون بعد أن غادروا خطّ الموت إلى ما بعده بخطوة واحدة حسب؟ لنأمل أن يقدم لنا
الفصل الأخير الإجابة المنتظرة.
الفصل الثالث:
شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة
أنا أنتقلُ من بلدٍ إلى آخر ومعي صليب روحي: أسئلتي الكبرى عن مصير الإنسان في هذه
الحياة: ما الجدوى وما الفائدة؟ الناس في شُغِل عن الموت: سؤال الحياة الأوّل
والأخير
وهم في شُغِل عمّا ينتظرهم في ما بعد الموت(1)
أديب كمال الدين
*
(1)
من لقاء مع الشاعر
نُشِرَ في صحيفة الزمان- لندن 1- 7- 2009.
تمهيد:
تناولنا في القسمين السابقين
شخوص القصائد في حالتين: حالة ما قبل الموت (الحياة) وحالة وجودهم على الخطّ الفاصل
بين عالمي الحياة والموت. وفي هذا الفصل من بحثنا سنتناول حالة الشخوص ما بعد الموت
بخطوة واحدة. والخطوة هنا تعني المجال أو المسافة الحرجة التي تقع بعد الموت
مباشرة. وهي الرابط الذي يشدّ الأواصر بين المتوفى وبين مَن تركهم وراءه على قيد
الحياة. وهي مسافة حددت معالمها من خلال بعض التجارب الفريدة لشخصيات تركت بصمتها
على سجل الحياة، وغادرت مخلّفة وراءها إرثاً ابداعياً متفرّداً. البحث إذن اقتصر في
اشتغاله على التخصيص تجنّباً للتعميم الذي قد يسقطنا في مطبّات حرجة، وتتناول شخوص
أديب كمال الدين الذين اصطفاهم من بين الخلق جميعاً لأسباب ذاتية وموضوعية وصوفيّة
أحياناً. وتمتاز خطوتهم بعلاقتها المتينة بشخوص ما قبل الموت. فهي تتضمن على
مواقفهم من الشخصية، ساعة أو لحظة وضعت خطوتها الأولى على طريق الغياب الأبديّ،
وعلى آرائهم فيها، وكشف ما كانوا يضمرون لها وما يكشحون. ومن تلك الشخصيات التي
تناولها أديب كمال الدين ضمن هذا القسم: الحسين بن منصور الحلّاج من المتصوّفة،
وعبد الوهاب البياتي، ويوسف الصائغ، وفريدريك غارسيا لوركا، ورعد عبد القادر من
الشعراء، وعبد الحليم حافظ، وناظم الغزالي من المطربين.. إلخ. ولعلّ أقرب هؤلاء
الشخوص إليه هو الحسين بن منصور الحلّاج الذي تماهى معه بطريقة بدت أكثر حميمية من
سابقاتها إذ جاهر بحلاجيّته في قصيدة (إنّي أنا الحلّاج) التي حاول فيها أديب كمال
الدين اجتراح ما سيؤول إليه إرثه الحروفيّ/ الصوفيّ بعد خطوة من الموت من خلال ما
طرحه الحلّاج من الأسئلة عن ذلك المآل الذي سيفضي به إلى الضياع الذي كان للحلاج من
قبل: "تضيع كما ضعت من قبلك". فهو يفترض الجحود والتنكّر كحالتين ملازمتين لتجربة
المبدع بعد خطوة من الموت، كما يفترضه في القصائد الأخرى وهذا يحدد بالضبط الكيفية
التي ينظر بها أديب كمال الدين سلبياً إلى التقييم العام بعد رحيل المبدعين. ففي
قصيدة (البياتي) وبعد أن يستطرد في ذكر مآثره، وصولاته الشعريّة، وجولاته الفكرية
سلباً وايجاباً، بما له وما عليه يذكّرنا بما قيل عنه بعد الموت بخطوة واحدة حسب.
ثمّ يكتفي من كل هذا بالتأسف مقرراً أن هذا هو حال الشعر دوماً. أليس هذا هو ما آل
إليه حال الشاعر رعد عبد القادر في قصيدة (صقر فوق رأسه الشمس)؟(2)
ألم تنتهِ حياته في القصيدة "إلى ما ينبغي لها أو لا ينبغي لها" حيث لا فرق بينهما
عند أديب كمال الدين ولهذا تراه يدين ـــ بعد الموت بخطوة واحدة ـــ أصدقاءَ الشاعر
الراحل رعد عبد القادر الذين صعقوا لموته ثمّ نسوه بسرعة البرق "ليبحثوا بين دفاتر
أيامهم المتهرئة عن المباهج، والنساء، والدنانير"؟
لنتوقف قليلاً بعد الموت بخطوة واحدة، ونعاين موقف الشاعر المكتوم، أو موقفه الذي
لم يصرّح به من خلال ما صرّح به. يبدو لي أن أديب كمال الدين يكيل لشخصياته
بمكيالين: الأول لا يتطرق فيه إلى نتائج المنجز الإبداعي لأنه منجز خالص لا تشوبه
شائبة، ولا يحتاج إلى أن يتّخذ القراء موقفهم منه بطريقة سلبية لهذا اكتفى برثائه
كما فعل مع البريكان ولوركا، وسلفيا بلاث. والثاني: تركه للنسيان، كحالة مخفّفة،
مثل الشاعر رعد عبد القادر، أو للسبّ، والشتم، والتحول من العملقة إلى التقزيم مثل
الشاعر عبد الوهاب البياتي.
المكيالان إذن يمثلان طبيعة التقييم غير المصرّح به عن هؤلاء الشعراء وعن أولئك.
وما ينطبق على البياتي ينطبق على يوسف الصائغ أيضاً في قصيدة (لافتات يوسف الصائغ)
التي كال فيها أديب كمال الدين للصائغ أسئلته التوبيخية ثمّ التشكيكية الكاشفة عما
خفي من أسرارها. ومن الجدير بالذكر أن غالبية هؤلاء الشخوص انتقلوا لخطوة ما بعد
الموت بسلطان، على ضآلته وتفاهاته، يبدوا حاسماً بما يكفي للتحكم بأرواحهم المرتبكة
التي غادرت الحياة بعد أن تألق نجمهم ثمّ انطفأ بعلّة صغيرة ـــ هي في واقع الأمر
مفرطة الصغر ـــ أدت إلى رحيل الشخصية، فدودة البلهارسيا كانت السبب وراء رحيل
المطرب الكبير عبد الحليم حافظ على سبيل المثال. كما رحلت معظم الشخصيات الطربية،
بعللها وأسبابها، وهي وإن
..................................
(2) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت
2011/ صفحة 24/ قصيدة: (صقر فوق رأسه الشمس) وهذا العنوان مأخوذ حرفياً عن قصيدة
الشاعر الراحل رعد عبد القادر (صقر فوق رأسه الشمس).
اختلفت ـــ من حيث التشخيص ـــ مع غيرها إلا أنها لاقت المصير نفسه فجعل أديب من
مصيرها وعظاً شعرياً تحت مظلته الحروفيّة الوارفة.
أخيراً لم تستطع الضجّة التي خلفتها هذه الشخصيات بكل ما أوتيت من قوة التطريب أن
تصمد أمام هدوء وصمت المقبرة. ولم تستطع حياتهم بكل ما رفلت به من الشهرة العريضة،
والصخب الباذخ أن تبدد صمت المقبرة، وسكونها الأسطوريّ:
وحدها المقبرة
بقيت تتأمل المشهدَ في هدوءٍ ولا مبالاة.(3)
نماذج شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة
أولاًــ عبد الحليم حافظ، وناظم الغزاليّ:
في قصيدة (عبد الحليم) التي جاءت بثلاثة مقاطع شعرية ثمّة تكثيف لحياة ملحمية على
درجة عالية من الدرامية. لم يبدأ الشاعر فيها الاشتغال على شخصية القصيدة متناولاً
طفولتها ودودة البلهارسيا الكامنة فيها بل انطلق من القمة التي تربّعت عليها:
حينَ انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة
ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،
سالتْ روحُه العاشقة
وسطَ حنين الناي وأنين الكمان.
(4)
................................................
(3) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 105.
(4) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 65.
في هذا المقطع الاستباقي من القصيدة استخدم أديب كمال الدين (فنجان القهوة) قطعة
إكسسوار موحية ومشيرة إلى واحدة من اضخم
أعماله الطربية (قارئة الفنجان)، أو بمعنى آخر استخدم مفردات صغيرة أو عبارات دالة
مثل:
اصابع العندليب:
كمؤشر إلى قمّة مجد عبد الحليم الابداعي الذي فرض على الوسط الفني منحه هذا اللقب
الرفيع (العندليب) يوم لم تكن الألقاب تُمنح بالمجّان للمبدعين.
روحه العاشقة:
التي تشير إلى عشقه المطلق لفنه التطريبي الرفيع.
حنين الناي:
الذي يشير إلى كل ما في غنائه من الحنين المتدفق كالمطر على روح يباب.
انين الكمان:
وهو تعبير عمّا في طربياته من شجن وحزن شرقي.
إنّ جلّ هذه الدوال تدّخر طاقة تعبيرية منحت القارئ ما يكفي لمعرفة أي شخصية مهمة
تلك التي اشتغل عليها الشاعر أو على منجزها بأناة ودقة شعريتين. إذن مقدمة القصيدة
ـــ إن جاز الاستخدام ـــ أعطت صورة امتازت بدقتها عاكسة عملقة اتصف بها عبد الحليم
حافظ جعلت المقطع مهيّئاً لاحتمالات كثيرة أوّلها توجّس القارئ ـــ بحافز كسر
الفنجان ـــ من أن شيئا ما سيحدث فتغيب بحدوثه الشخصيةُ، وتتوارى عظمتُها إذا ما
عرفنا أن الخطوط التي ازدحم بها الفنجان وتقاطعاتها، وشتّى صورها تمثل حياة الشخصية
أو جانب من جوانبها الكثيرة (بحسب قارئي الفناجين) وأن هذه الحياة قد ارتبكت خطوطها
جرّاء الكسر، وسالت روحها على خلفية فضاء طربي حزين.
في المقطع الثاني يبدأ الشاعر جملته الأولى بفعل القص الناقص (كان): "كان مطرب
قارئة الفنجان" ويختم جملته الأخيرة بالفعل الناقص نفسه (كان): "كان عبقرياً، إذن،
ليكونَ نجم النجوم" وما بين الفعلين سرد مكثف لما قدمته الشخصية على صعيد الإبداع،
والتألق، والشهرة، والنجومية. المقطع مؤخّر عموماً عن الفعل المركزي (الموت) الذي
تقدّم القصيدةَ ليقدم قراءته التنبؤيّة لما ستؤول إليه حياة الشخصية.
أما المقطع الأخير فهو استدراكي جاء
لمعارضة المقطعين (الأول والثاني) مفتتحا استدراكه بـ(لكن) التي حوّلت الشخصية من
كائن مروِّض (روَّض الفقر، والجوع، والحرمان، والحظّ الممزق، ومئات السندريلات) إلى
كائن مروَّض بفعل دودة البلهارسيا التي تحوّلت إلى نقطة راسخة على آخر سطر من سطور
حياته الباذخة لتخطو القصيدة، بعد الموت، خطوتها الأولى فنخرج منها متّعظين بها أو
بما آلت إليه شخصية عبد الحليم حافظ. لقد انكسر
الفنجان بين أصابعه:
حتّى سالتْ روحُه العذبة،
وهي في قمةِ الحُبّ والشوق،
وسطَ دموع الناي وأنين الكمان.(5)
القصيدة إذن ختمت نفسها بمفتتحها متدرعة بشيء من التكرار والتوكيد فروح العندليب
سالت عابرة الخطوة الأولى إلى ما بعد الموت حيث لم يكن ثمّة من يودعه غير الناي
والكمان اللذين أطلقا بحميمية، ومحبّة مفرطة أنغامهما الرثائية الحزينة وهما
يودعانه الوداع الأخير الذي لا بد من التأكيد على مغايرته إذ لم تترك القصيدة
أبوابها مشرعة أمام المودّعين، والنادبين، والمؤبّنين، والمتقوّلين. اكتفتْ فقط
بالناي والكمان كملازمين لحياة الشخصية ومماتها وعبورها إلى ضفة الغياب.
ويشاطر ناظمُ الغزالي في قصيدة (مطرب بغداديّ) عبدَ الحليم حافظ في قصيدة (عبد
الحليم) المصير نفسه، والخطوة الأولى، بعد الموت، نفسها فبعد أن بلغ الغزالي الشهرة
الواسعة، والتألّق، والنجومية، وبعد أن مسّ وتراً، وأطلق طيراً سمع تصفيقه الشرق
والغرب:
صارَ على موعدٍ من الموت
......................................
(5) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 65.
حتّى اذا تعثر به في صباح غريب،
بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.(6)
في تلك الساعة القاسية التي تعثر فيها الغزالي بالموت وخطى خطوته الأولى ما بعد
الموت، وهو الممتلئ صحة وعافية "بوجهه
السمين"،
خرجت بغداد تودّعه، بمحبة قلّ نظيرها، إلى مثواه الأخير. وأطلق الدفّ عقيرته
بالنواح والعويل، والكمان بالآهة والأنين، والناي بالألم والوجع الممض. عند تلك
الخطوة اختفت عاشقته البغدادية التي غنّى لها (يمّ
العيون السود)
و(واگفة
بالباب) و(عيّرتني بالشيب)
وهي تجر خيبتها إلى الأبد تاركة في النفس لوعة الغياب والحضور، ولوعة الـتألّق
والأفول، وموعظتيهما الصادمة. ثمّة ما لم تجهر به هذه القصيدة والتي سبقتها، وظل
مختفياً وراء سطورها ومسكوتاً عنه فيها أراد الشاعر الوصول اليه بفعل قراءة تفاعلية
تفتح أمام القارئ أبواب الدخول إلى ما وراءها من الحكمة والموعظة. ألم يمتلك عبد
الحليم حافظ كل مسببات البقاء وهو القابض على الشهرة والمال؟ ألم يكن هذا لناظم
الغزالي أيضاً؟ ألم يكن لغيرهم من المشاهير والعظماء؟ نعم كان لهم هذا ولكنه وقف
عاجزاً أمام جبروت الموت وحضوره المهيمن. بل أنه عجز عن الوقوف بوجه دودة
البلهارسيا التي اختطفت الأضواء من سيّد الأضواء، وساحر الشرق والغرب. الحكمة إذن
تكمن في عظمة الكائن البشري التي تتنازل عن عرشها وجبروتها متهاوية ومتصاغرة أمام
كائن ضئيل جدا بهيئة دودة ممرضة.
ثانياًــ عبد الوهاب البياتي، يوسف الصائغ، لوركا:
لنغادر الآن مسرح الطرب وشخوصه، وندخل في فضاء الشعر كي نعرف ردة فعل الأحياء بعد
خطوة واحدة من موت الشعراء، ولنبدأ من قصيدة (البياتي) ومن الإشارة إلى عنونتها
التي اكتفت بلقب الشاعر (البياتي)
نظرا لذيوع شهرة هذا اللقب الذي عُرِفَ به عبد الوهاب
.....................................
(6) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 39.
كشاعر رياديّ مجايل للسياب والملائكة، وهما أول من كسر العمود، وبدد التفعيلة،
واستبدل وحدة البيت بوحدة القصيدة، ولا يخفى على القارئ ما للبياتي من أثر في الشعر
العراقي والعربي جعله من طلائع شعراء تلك المرحلة.
في شخصية البياتي ثمّة ما يغري على
تناولها، والاشتغال على منجزها. وربما بسبب هذا انتقاها أديب كمال الدين لتكون
واحدة من الشخصيات الممثلة للشعر وتجلّياته، والشهرة ومقتضياتها، والشخصية
وشطحاتها، والموت ونتائجه. وقد وضع أديب كمال الدين يده على أبرز المثابات في تاريخ
هذه الشخصية شعرياً حيث استخدمها، بطريقة الاسترجاع والاستذكار عندما بدأ بروايته
لشخصية البياتي الماثل بفروسية في قفص اتهام الشعر. يقول أديب كمال الدين مفتتحاً
القصيدة وموجّهاً الكلام للبياتي مباشرة:
كنتَ تجيدُ لعبةَ الشعرِ بنجاحٍ ساحق:
تجيدُ لعبةَ البوكر الشعريّ
والنرد الشعريّ
والدومينو الشعريّة.
وفي الشطرنج
أنتَ الأستاذ الذي يمرّرُ الجنودَ بخفّة
ويطلقُ السهامَ من فوق القلاع
بمهارةٍ وبدقّة.(7)
...............................................................
(7)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/
صفحة 114.
هل أراد أديبُ للبياتيّ مدحاً حين جعل منه لاعباً مجيداً لكل أنواع اللّعب الشعريّ؟
هل أراد الكشف عن مهارات البياتي في لعبة الشعر؟ وهل الشعر لعبة ترفّه عن لاعبها
الماهر كما تفعل الدومينو والنرد وسائر اللعب الأخرى؟ لا ينبغي لنا استعجال الرد
لأننا أمام شاعر يحمّل القصيدة أكثر من معنى، ويلبسها أكثر من وجه، ويجيد الإزاغة
عما يضايقه من الأفكار المضادة. ولا ينفكّ يعلن عن قدرة البياتيّ التي اكتسحت
الشاعر الديناصور، والشاعر المهرّج، والبهلوان، والدونجوان ببطولة فردية مثيرة
وقائمة على شدة البأس والشكيمة في قيادة المبارزات الشعريّة حتّى يحل المقطع الثاني
وتحل معه رواية أديب كمال الدين الجديدة عن البياتي والتي يقول فيها:
كنتَ تجيدُ لبْسَ القميصِ الأحمر
وحمْلَ لافتةِ الشغيلةِ والتقدّمِ والصراعِ الطبقيّ،
والبكاء على ناظم حكمت
حينما يقتضي الحال.(8)
وهي رواية تفتح أمامنا باب التشكيك بما قاله الشاعر عن البياتيّ ففي البيت الأول من
هذا المقطع ذكّرنا أديب كمال الدين إلى أن البياتيّ كان يجيد لبس القميص الأحمر
وأراد من هذه الإشارة بيان انتماء البياتيّ للحزب الشيوعي العراقي، وتعكّزه على
شعارات الشغيلة والصراع الطبقي، وتجييرهما لتسويق شهرته الشعريّة حسب. يخاطب أديبُ
البياتيَّ قائلاً:
تعرفُ كيف تسخّرُ ماردَ الإيديولوجيا
لتلميعِ عرشكَ الشعريّ
(9)
وقد ثبت هذا بعد تخلي البياتيّ عن الحزب الذي ساهم فعلاً بإيصال صوته لقاعدة الحزب
..............................................
(8)
(9) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت
2011/ صفحة 114.
الجماهيرية الواسعة آنذاك.
ولا يقلّ فعل التسويق هذا عن تجييره
لعلاقته بالشاعر التركي الثوري ناظم حكمت لتسويق ثوريته ويساريته التي انتهت
بالاسترخاء في احضان سلطة الحزب الشمولي الحاكم. وبالطريقة نفسها ذرف الدموع عليه
كلما أقتضى الحال. فلم تكن الدموع من أجل ناظم حكمت حسب بل من أجل البياتي نفسه
وإلا لماذا يبكيه "حينما يقتضي الحال" فقط؟ ربّ مجيب يقول أليس هذا هو عين ما نفعله
حين نتذكر أحباء لنا رحلوا وتركوا في انفسنا لوعة الفراق؟ والجواب نعم نحن نفعل هذا
ولكن ليس كلما اقتضى حالنا وجود مخرج مما نحن فيه إلى ما نريد الوصول إليه. ولا
حاجة بنا الآن للعودة إلى المقطع الأول لنجيب عن الأسئلة المؤجلة فقد وضحت الإجابة،
وظهر المسكوت عنه، وما خفي وراء الكلمات. ولا أدلّ على هذا من قول الشاعر:
وتسخّرُ عفريتَ النقد
لخدمةِ سبأكَ الوهميّ.(10)
في هذين البيتين تجلّى تقييم أديب كمال
الدين لتجربة البياتي الذي سخّر النقد ليرتقي به إلى مصاف لم يبلغها أحد من
الشعراء. فهل كانت تجربة البياتي ضرباً من الوهم؟ وهل العيب فيما أنجزت أم فيما
انتهزت؟ تلك موضوعة لا مجال للمجازفة والتحليق بأجوائها في في هذه البحث لذا سنترك
لغيرنا أمر سبر أغوارها، والوصول إلى حقائقها التي لم تعد دفينة كما كانت.
في المقطع الثالث تصل بنا القصيدة إلى ما
نريد الاشتغال عليه، إلى الموت أو إلى ما بعد الموت بخطوة واحدة حسب حيث يستدرك
أديب كمال الدين في مفتتح هذا المقطع قائلاً:
.......................................
(10)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/
صفحة 114.
لكنْ قبل أن تموت بقليل،
وقد صرتَ شيخاً عليلاً،
بدأ أعداؤكَ بالصعودِ إلى المسرح
وهم يتهامسون.(11)
لقد قلب حضور الموت السحر على ساحره بعد أن وهنت قواه، وخارت فاعليته، وفرضت
الشيخوخة عليه عللها وضعفها فاستطالت ألسن أعدائه وبدأت همسها المريب. وعلى الرغم
من عظمة المتهامسين ومكانتهم في الشعريّة العربية إلا أنهم لم يستطيعوا الوقوف في
حضرة البياتي ليصرّحوا بما يخفون ويضمرون. وبعد رحيله بخطوة واحدة حسب، وقفوا بشموخ
ليشتموه من على منصات الشعر والثقافة:
في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،
شتموك
وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً
حتّى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر الفحل"!(12)
تلك علّة ابتليت بها رياديّة الشعر العربي ولا تزال. كما ابتليت بها السياسة
العربية ولا تزال. فقد سعى بعض الشعراء ليكون حادي ركب الشعر ومسيرته الطويلة. وسعى
بعضهم ليشار إليه بها على أقل تقدير. ولما لم يكن ذلك في مستطاعه انتقل من السعي
وراءها إلى شتم من استأثر بها وهو العارف أن ثمّة من هو أحق بجدارة عالية، وبقدرة
كبيرة، وبشاعرية
...................................
(11)
(12) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار
العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 114.
فائقة. وهذا هو الحال الذي استنتجته القصيدة في مقطعها الختامي الأخير إذ اطلق
الشاعر وهو لا يزال مخاطباً البياتيّ آهةَ أسفهِ المرير:
واأسفاه
هكذا هي حال الشعر!
ولم تكن تلك الحال هي الوحيدة حسب، فثمّة حالات أخرى انتبه إليها أديب كمال الدين
ضمن اشتغاله على شخصيات مهمة كشخصية الشاعر يوسف الصائغ في قصيدة (لافتات يوسف
الصائغ)
التي جاءت بثلاثة مقاطع يبدأ أولها بما قبلها، باعترافات مالك بن الريب. فمن هو هذا
المالك الذي تماهت اعترافات الصائغ باعترافاته؟
إنه شاعر تميمي من نجد، وقاطع طريق،
ومجاهد في الحرب ضد خراسان. شعرَ بدنو أجله لأسباب اختلف الرواة عليها. كتب قصيدة
رثاء لنفسه، اعترف فيها باستسلامه للموت بعد أن كان يده الضاربة، وعُدّت من أفضل ما
كتبه العرب في باب رثاء الذات. يقول بن الريب في هذه القصيدة:
(13)
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجـــــــــــــــدْ |
سوى
السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيـــــــــا |
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانـــــــــــــــــــــــــــــــه |
إلى
الماء لم يترك له الموتُ ساقيــــــا |
ولكنْ بأطراف (السُّمَيْنَةِ) نســــــــــــــــــــوةٌ
|
عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما
بيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا |
ومنها أيضاً:
يقولون: لا تُبْعِدْ وهم يَدْفِنوننــــــــــــــــــي |
وأينَ مكانُ البُعدِ إلا
مَكانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا |
غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غـــــــدٍ |
إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويـــــــــــــــــــا |
وكمالك كتب يوسف الصائغ أجمل قصائد مجموعته (اعترافات مالك بن الريب) لكنه لم يستطع
صون تلك الـ(اعترافات)، أو الحفاظ على سموّها، وتألقها، وتوهجها فاعترف ماثلا
...........................................
(13) (مالك بن الريب) ويكيبيديا الموسوعة الحرة/ الشبكة العنكبوتية.
بين يدي الطاغية، معلناً ولاءه المطلق، وتخلّيه عن مالك، وعن التي انتظرته عند تخوم
البحر(14)
ولأنه ظلّ حاملاً لجثّة بن الريب بعد أن تسبب في قتله فأنّ أديباً يدعوه إلى تركه
ليرقد في أمان وسلام:
حاملاً على ظهرِك
جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،
واقفاً تحتَ لحية ماركس الكثّة
وشوارب ستالين الصخريّة
لتهتفَ بملء الفم
تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ
ومقارعةِ الإمبرياليّة.(15)
في هذا المطلع الواضح البسيط نجد ثمّة مقاربة بين شخصية الصائغ وشخصية البياتي
فكلاهما استظل بفيء اليسار، والأممية، والصراع الطبقي. وكلاهما نَضا قميصه الأحمر
مستبدلاً
"بسرعة البرق" لحية ماركس الكثة بلحية عفلق الحليقة، وشوارب ستالين بشوارب صدام
حسين. لقد رفع الصائغ لافتاته الجديدة ومنها لافتات الحرب، وكتب أردأ القصائد في
مدح ولي نعمته الجديد مما حدا بأديب مناداته ليطرح بصدق أسئلته المتأسفة الدامغة: "لمَ
خذلتَ نفسَك؟" و"لمَ خذلتَ مالكاً معك؟" و"لِمَ خذلتَ سيّدةَ التفّاحاتِ الأربع؟"،
وليطالبه بإنزال مالك من على ظهره بعد أن ولّى زمن الهتاف تحت اللحى والشوارب
الأيدولوجية.
............................................
(14)
(انتظريني عند تخوم البحر) قصيدة طويلة من قصائد يوسف الصائغ التي استلهم فيها حياة
الشاعر الراحل من قبله بدر شاكر السياب.
(15) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
لقد رحلت الشوارب المقدسة، ورحلت معها
اللافتات والشعارات الرنانة والطنانة، ورحل الصائغ أيضاً وبعد خطوة واحدة من الموت
بدأ الكل يحتسي خمراً ولكن من تراب.
في جماجم من تراب
ليشربوا مرعوبين مذهولين إلى الأبد!(16)
لقد أضاء أديب كمال الدين في هذه القصيدة والتي سبقتها الجوانب المعتمة من حياة
الشخوص، وجعل من صورهم واضحة وجليّة، ومن إنجازهم الشعريّ أو المعرفي أداة إدانة
لاعوجاجهم وانحرافهم واستبدالهم ذهب الفكر بالتبن كي تأتي الخطوة الأخيرة، فيما بعد
الموت، وامضة خاطفة لم يحسبوا لها، قبل خطوة أو يزيد، حساباً.
ويبدو أن أنموذج (لوركا) في شعر أديب كمال الدين يختلف تماماً عن نموذجيه السابقين
(البياتي والصائغ) فلم يغيّر لوركا في مساراته الفكرية، ولم يطلق الشعارات تحت قبضة
الطاغية الفولاذية ولم يتراجع أمام جبروت وطغيان فرانكو ولهذا استحق الرثاء الخالص،
والتمجيد الذي لا تشوبه شائبة، والمديح الذي لا غبار عليه والذي جاء بعد عدة جمل
سينية سوّفت (في المقطع الأول) موت الشاعر الغرناطي على يد فرانكو، أو أتباعه، أو
رصاصه المسعور كما سوّفت البكاء عليه من قبل القتلة، وأشباههم، وأعدائهم في المقطع
الثاني الذي تساوى فيه البكاء عليه كمغدور به مع يوسف النبي كمغدور به أيضاً في
دلالة قطعية على نقاء لوركا وقداسته:
سيبكي عليكَ، إذنْ، أخوتُك:
أخوةُ يوسف
مثلما سيبكي الشيخُ الكبير
والمرأةُ التي جُنّتْ بحُبّك
..........................................
(16)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.
حتّى الذئب سيبكي عليك!(17)
من الطبيعي في شعر أديب أن الشخصية مأخوذة بما جُبلت عليه، وما وصلت إليه.
مأخوذة بإنسانيتها، وصونها لجوهر تلك الإنسانية. مأخوذة بطيبتها وبخبثها
أحياناً، أو بكل ما ملكت يمينها وهي لهذا وذاك لا تمثّل فرداً مجرداً ففي كيانها
تتماهى عشرات وربما مئات بل آلاف الشخصيات. ولعلّ شخصية الشاعر هي الشخصية المركزية
التي تناسل منها كم هائل من الشخوص
على مدى مسيرته الإبداعية. وكأن لا فرق بين لوركا على سبيل المثال وبين أديب
وبينهما وبين يوسف الصدّيق أو سائر الشخصيات التي لم ترضخ لظلم وقسوة الظروف
القهرية المحيطة. حتّى الشخصيات التي عدّت على الجانب الآخر فأنها على الرغم مما
شاب سلوكها من انحراف وانتهازية وأنانية إلا أنها لا تخلو من جانب مشرق ينزهها عن
الاستسلام للدنايا.
في المقطع الثالث ثمّة تسويف آخر يشي بفعل
القتلة الذين سيبحثون عن قبر لوركا ليذرفوا دموع التماسيح كل يوم لا حُبّاً
وفقداناً للوركا بل لغاية دنيئة في نفوسهم يرتجونها.
أما المقطع الرابع والأخير فهو مقطع
استدراكي استدرك الشاعر فيه معللاً خلود قصائد لوركا على الرغم من زيف الزمن
الفرانكوي استدراكاً أدّى وظيفته المركزية وإن لم يجترح الخطوة الأولى ما بعد الموت
مباشرة إلا من خلال ما آلت اليه حياته التي امتلأ بها مجدداً.
هكذا امتلأتَ بالحياةِ إذنْ،
يا أيقونةَ الشِعْر،
وصارت شمسُ الأنهارِ سفينتك
وقمرُ الفضّةِ دليلك
........................................
(17)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
وشعراءُ الفجرِ في كلِّ مكان
نوافذَكَ التي تتألقُ بحروفِك
أيّها الغرناطيّ القتيل.(18)
في هذه القصيدة وفي هذا المقطع تحديداً استخدم أديب كمال الدين فعل الصيرورة
والتحوّل من حال إلى أخرى (صارت) لبيان ما آلت إليه حالة لوركا بعد اطلاق الرصاص
الفرانكويّ على جسده النحيل. القصيدة بمقاطعها الثلاثة وحتّى طليعة المقطع الرابع
إذن كانت تحكي قصة حياة لوركا في الزمن الفرانكويّ الذي قتل فيه وقد تحولت بعد فعل
الصيرورة لتحكي لنا ما حدث بعد خطوة
واحدة من الموت حسب.
ثالثاًــ الحسين بن منصور الحلّاج:
لم تكن النماذج السابقة التي اشتغلتُ عليها في هذا الفصل هي النماذج الوحيدة التي
تصلح لبيان حالة ما بعد الموت بخطوة واحدة فقط، فثمّة نماذج أخرى لها من الأهمية ما
للنماذج السابقة ومنها قصيدة (إنّي أنا الحلّاج). وهي قصيدة تماهى فيها الحلّاج
وأديب كمال الدين وانصهرا في شخصية واحدة،
فمن هو هذا الحلّاج القرين؟ ولماذا اختاره أديب كمال الدين ليكون الناطق في هذه
القصيدة؟ وعلى من تعود عنونتها؟ أعلى الحلّاج نفسه أم على أديب كمال الدين؟
الحلّاج هو أبو مغيث الحسين بن منصور الحلّاج ولد في أحدى قرى البيضاء الفارسية عام
244 هجرية، وترعرع في واسط العراق، ودرس المناهج الصوفيّة، وتبحّر في حروف اللغة
ونقاطها وترميزها باعتبارها مادة اللغة الأولى، وتوصل لحقيقة الأشياء من مسمّياتها
وهو القائل على سبيل المثال لا الحصر: "سُمِىَ
عزازيل، لأنه عُزِلَ، وكان معزولاً في ولايته؛ ما رجع من بدايته إلى نهايته، لأنه
ما خرج عن نهايته".
....................................
(18)
الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
وكان أوّل المتصوّفة الذين تحدثوا عن النقطة والدائرة ثمّ ثبت كلاهما، من بعده،
كمصطلح في اللغة الصوفيّة. له كتاب (الطواسين) وفيه يستجلي قيمة الحروف
وتراكماتها اللغوية والدلالية مؤكداً أن التجليّ الأتم لها في القرآن. ويعدّ الكتاب
انجازاً، وتطويراً، وتتويجاً بارزاً لمسيرة اللغة الصوفيّة. حُكِمَ عليه بالسجن،
وفيه عُذّب وجُلد وقُطّعت أطرافه ثمّ رأسه وأُحْرِقت جثّته وقيل أنّ رماد جثته
جُمعَ ووضِعَ فوق مئذنة لتذريه الرياح إلى كل مكان. وقيل رُمِي رماده في نهر دجلة
عام 309 هجرية. من أشعاره التي قادته إلى الصلب:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنــــــــــــــــا |
نحن روحان حللنا
بدنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا |
فإذا أبصرتني أبصرتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــه |
وإذا أبصرته
أبصرتنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
|
ونظراً لتشابه شخصيتي الشاعر والحلّاج، كمتصوّفين ذاقا مرارة العيش وشظفه، اختار
أديب كمال الدين الحلّاج ليكون (المخاطِب) الناطِق باسم القصيدة. ويكون هو
(المخاطَب) المتلقي لفحوى خطابها الحلّاجيّ. وعليه فأن العنونة تعود تبعا للفاعل
المخاطِب في القصيدة إلى شخصية الحلّاج. وفي الوقت نفسه نحكم بعائديتها لأديب كمال
الدين باعتباره خالق مفرداتها، ومؤثث لغتها، والمسيطر على حركاتها وسكونها، والموجه
لرأس السهم على لوحة بياناتها. وبمعنى آخر أن الشخصيتين معاً تعملان وفي آن واحد
على لعبة النص من خلال الضميرين (أنت أنا) و(أنا أنت).
في مطلع القصيدة يخاطب الحلّاج الشاعرَ
الحروفيّ (أنت أنا) كما لو أن الشاعر يخاطب نفسه (أنا أنت):
لا تقتربْ من ناري!
من نارِ قلبي وسرّي،
فإنّي أخافُ عليكَ من النار(19)
ثمّة نهي واضح وأكيد في هذا المطلع استخدمت فيه (لا) أداة لنهي الشاعر عن الاقتراب
من نار المخاطِب (الحلّاج) بحزم وجزم غير قابلين للمداولة بعد أن أدرك الحلّاج مدى
الخطر المحدق بالشاعر الذي بدأ الاحتراق فعلاً بنار القلب وسر العشق. ولما فشل في
نهيه صار يحذره فقط "فكنْ على حذرٍ" ولما لم يأخذ الشاعر بتحذيره عاد لاستخدام
النهي ثانية:
لا تقتربْ!
أخافُ عليكَ من الصلب
وما بعد الصلب.(20)
الشاعر غير هيّاب بالصلب ولكنه توّاق لمعرفة ما بعد الصلب خلافاً للحلّاج الذي يخاف
عليه أن يرى الصلب ولا يخاف عليه مما بعده فهو يستهون ما سيُقال بعد خطوة من موته
على ما قيل قبل موته وهو يخشى على الشاعر الشقاء، ومناصبة الأعداء، والصعود إلى
خشبة الصلب. ومع خشيته وخوفه من الهلاك فأنه يعرف معرفة يقينية أنّ الشاعر لم ولن
يتجنب الاحتراق بنار المعرفة التي خبر الاحتراق فيها مئات المرات:
لا تقتربْ!
فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة
وما ارعويت.(21)
ومن النهي والجزم ينتقل إلى الأسئلة التفسيرية والتوضيحية بأمل اقتناع الشاعر بما
حذّر منه وما وقع له من قبل أن يضع الشاعر خطوته الأولى على طريق الغياب الأبديّ."
كيف
...............................................
(19)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/
صفحة 17.
(20) المصدر السابق.
(21) المصدر السابق.
سيُسمّونكَ حين تموت؟" وهو سؤال تشكيكي
غرضه إقناع الشاعر أنّ كل شيء سيتبدل بعد الموت بخطوة واحدة فلا الحروفيّة ستظلّ
على حروفيتها الخالصة، ولا معجزة الحرف الإلهي ستظل على إعجازها، ولا أسطورة النقطة
ستظل على اسطوريتها، وسيكون تقييم تجربة الشاعر العرفانية والمعرفية آنذاك قائماً
على أسس غير واقعية ولا منطقية لأنهم:
سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة
وبمقولاتهم الجاحدة
لتضيع كما ضعتُ من قبلك؟
أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية
وبعشقهم المزيّف
لتضيع ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟(22)
هنا تلتقي رؤيتان لما بعد الموت: رؤية الحلّاج الذي مرّ بالتجربة وقسوتها، ورؤية
الشاعر الذي تنبّأ بها وعانى في سبيلها ومن جرّائها. والرؤيتان أكدتا في هذه
القصيدة ما أكدته قصيدة
(البياتي) من هول الـ "مقولات الجاحدة" وغير المنصفة، وتلك التي قادت الشعراء إلى
الضّياع. وهذه النقمة كلها أراد الشاعر استبصارها بعد أن تنبّأ بها خوفاً من أن
يعامل إرثه الحروفيّ بالجحود نفسه، وبالتقييم نفسه، وهو العارف أن هذه هي حال الشعر
على مرّ العصور والأزمنة.
لقد مررنا بمثابات التشاخص الثلاث، وعبرنا مساحات الموت الافتراضية، وتوقفنا على
دكة الغياب الأبديّ في رحلة لم تصل إلى نهايتها فثمّة مساحة رابعة أخرى لا تزال قيد
الغموض، ولا يزال الشعر متهيّباً من الخوض في بحورها أو في مجاهيل بحورها العامضة
فما من أحد عاد منها ليروي عنها روايته التي لا يتلبسها الغموض ويكفينا أننا غامرنا
فخضنا رحلتنا الاستكشافية في إشكاليّة الغياب وتشاخصه في حروفيّة الشاعر أديب كمال
الدين.
......................................
(22)
أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/
صفحة 17.
نقاط الاستنتاج:
·
شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة: هم الشخوص الذين عبروا خطّ الحضور المؤقت إلى عالم
الغياب الأبدي، وخطوتهم ما بعد الموت تعني تلك المسافة الحرجة التي تبدأ بعد موتهم
مباشرة.
·
اشتغل الشاعر على شخصيات مصطفاة وملائمة لما تتطلبه غاية قصائده، وخطوتهم ما بعد
الموت المرتبطة مع شخوص المرحلتين السابقتين بسلسلة الأقوال وردود الأفعال السلبية
والايجابية التي باحوا بها بعد رحيل الشخصية بخطوة واحدة.
·
الشخصيات التي اختارَها شعرياً، واشتغلنا عليها نقدياً جلّها من الراحلين إلى
العالم الآخر بطريقة فيها من الدرامية ما يجعلها مؤهلة للتناول شعرياً ونقدياً.
وتنقسم على فئتين: الأولى من الشعراء، والثانية من المطربين أو من لهم صلة بهاتين
الفئتين. وقد اقتصرنا في اشتغالنا عليهم على التخصيص دون التعميم تجنباً للسقوط في
المطبّات الحرجة.
·
ركّز الشاعر في هذه المجموعة من القصائد على الخطوة الأولى لما بعد انتقال الشخصيات
إلى العالم الآخر موضّحاً من خلالها، ضمناً، فكرته عن الشخصيات، وجوهر موقفه من
نتاجها الإبداعي، وحكمته بلبوسها الوعظيّ، والحروفيّ، والإنسانيّ.
·
لم نجد كبير فرق بين لوركا على سبيل
المثال وبين أديب كمال الدين، وبينهما وبين يوسف الصدّيق أو سائر الشخصيات التي لم
ترضخ لظلم وقسوة الظروف القهرية المحيطة.
السؤال الذي يظل ماثلاً بعد رحلة البحث الطويلة هذه هو: هل يمكن لرحلة مقبلة أن
تتوغل في أعماق المساحة الافتراضية الرابعة؟
أتمنى ذلك حسب.
خاتمة الكتاب مقدمته
في خاتمة الكتاب وجدتني مضطراً للعودة إلى بسملته، أو بكلمة أدقّ إلى عنونته (إشكاليّة
الغياب في حروفيّة أديب كمال الدين) التي حددتُ هدفها في البحث الدائب،
والسعي الحثيث للظفر بالإجابات المحتملة عن إشكاليّة الغياب. فالإشكاليّة من
الناحية الأكاديمية تجترح أسئلة لم يتم الردّ عليها من قبل، أو لم تكن الإجابات
شافية ووافية ضمن بحث أو عدد من بحوث تمّ تناولها في مجال ما، أو في تخصص محدد
بمادة تلك الإشكاليّة. ونظراً لسعة
موضوعة الغياب، وتشعّبها،
وتفرّعها فقد ركّزت السعي في اجتراح الأجوبة عن احدى ظواهر الغياب الرئيسة التي
شغلت الفلاسفة والأدباء والشعراء على مرّ العصور والأزمنة ألا وهي ظاهرة الموت.
ولما كانت موضوعة هذه الظاهرة واسعة هي الأخرى فقد حصرت إجاباتي، سعياً وراء
التركيز، والاختزال، والدقّة، في قصائد أديب كمال الدين التي حاولت اجتراح ما خفي
منها، وسبر أغوارها، وأسرارها القصيّة. ووجدتني وأنا أغور في سيرته الحروفيّة أمام
كمّ، غير قليل، من القصائد التي ركّزت اشتغالَها على هذه الظاهرة بغرض التخفيف
منها، أو تحييدها، أو التنديد بها، وليس أدلّ عليها من لفظ والده أنفاسه الأخيرة
بين يديه الصغيرتين ليورثه يتماً قاسياً، ودموعاً حفرت أخاديدها على جغرافية حياته
الطفليّة المرتبكة، وعيشاً راح يعبث بمقدراته (أخوة يوسف) جيلاً بعد جيل، وحرباً
بعد حرب، وغربة بعد غربة. لقد غادر مع بعض السيّارة غيابة الجُبّ البابلي، وحطّ
رحاله الثقافي في بغداد التي لم يجد فيها ما يميّزها من الألوان سوى الأسود الحزين،
والأحمر الناطق باسم الموت بعد أن امتلأت شوارعها بلافتات العزاء السود، وبعد أن
ارتدت ثياب الدم.
كان يقف متأملاً بحزن دفين قوافلَ
التوابيت الوطنية وثواكلها من نساء الوطن منطلقة على الطريق السريع إلى المثوى
الأخير بجنون رهيب. ووجدتني أقف أمام رجل شهد الموت، وخبر مكابداته في حروب أُسقطت
فيها على مدينته آلاف الأطنان من حاويات الإبادة الجهنمية. أجساد، وجثث، وأشلاء
مبعثرة على قارعات الطرق. رؤوس بلا أجساد، وأجساد بلا رؤوس، وكتل من اللحم المفروم،
أو المهروس، أو المشوي تتوزع على الحارات والشوارع الحزينة. حزّ للرقاب، ونحر
للأضحيات البشرية، وخنق للنفوس المحرّمة وما من منقذ تهتزّ في رأسه قَصِيبة. مساحة
أضحت أوسع مما تَسَعُهُ روحه الجانحة دوماً إلى السّلم، والمَحبّة، والنقاء فاستغاث
بالشعر، واستنجد بقصائده علّها تخفّف وطء الموت قليلاً.
كتب عن صور الموت، وعن حروفه النارية، وعن
تحليقه فوق مطارات الحياة المرتبكة، وعن رحلاته التي مهما طال أمدها فأنها تفضي
إليه، ولم يكن عنده ثمّة فرق جسيم بين إنثوية الموت وذكوريته، وعن ردود الأفعال
البشرية التي خلّفها الموت قبل اصطياده للروح، أو إبانها، أو بعدها بقليل، أو بعد
اقتيادها إلى مستقرّها الأخير. وبناءً على هذا وذاك حددتُ عناصر إشكاليّة هذا
الغياب وأسئلتها المركزية، وسعيتُ جاهداً للوصول إلى تلك الإجابات، فقدمت
للقارئ الكريم فهمي
للغياب، والتشاخص، والحروفيّة، والموت قبل البدء بمتضمنات فصول البحث التي تناولت
فيها شخوص قصائد أديب كمال الدين بحسب موقع كل منهم من الموت أو قربه من خطّه
الفاصل العازل بين عالمين متصلين، عبر صراطه
الافتراضي الرفيع،
ومنفصلين عن بعضهما بعضاً. وعرّفت الموت على أنه الوجه الأكثر تعقيداً من أوجه
الغياب، والأكثر تأثيراً على الحياة وموجوداتها الحية. وخلصت من خلال قربه وبعده عن
شخوص أديب كمال الدين إلى تشاخص بعضهم عن بعضه الآخر فمنهم من ظلّ خارج ما
افترضتُهُ مساحةً للموت، ومنهم من وقف على تلك المساحة الافتراضية بانتظار الرحيل
الأبدي، ومنهم من تخطّاها إلى عالم الأبديّة فأغلقت باب الكتاب الأولى، وطرقت بثقة
عالية باب الدخول إلى (التشاخص موتاً في حروفيّة أديب كمال الدين) حيث تناولت
التفاصيل المهمة في حياة (شخوص ما قبل الموت) مؤكداً أنهم شخوص
مرّوا تحت (حاء) الحياة،
والحُبّ، والحرب. خبروا مباهج (الحاء) ومنافيها، ونالوا منها أسوأ ما تمنحه للبشر
من قهر، واضطهاد، وتغييب، وموت. وابتدأت بشخصية (حسن ناظم) في قصيدة (تمسّكْ بها
واستعنْ)، موضّحاً صلة الوصل بين الشاعر والشخصية المركزية في القصيدة، وهربهما من
الموت الديكتاتوري إلى الغربة، والمنفى. وفي الأنموذج الثاني، الذي فرض الشاعر نفسه
عليه كشخصية مركزية، وتضمّن على ثلاث قصائد تشابهت نهاياتها، وتحدد مصيرها في
"الطريق الفسيح إلى المقصلة" و"لا بد أن يصطادنا الموت" و"المنافي
السعيدة حيث الموت" أكّدتُ على
تشاؤمية رؤية الشاعر الشبابية التي ظلّت ملازمة له منذ الطفولة التي انتهك براءتها
إخوة يوسف. ووجدت أن الموت لم يكن رحيماً بشخصية (زوربا) ذلك الرجل الأريحيّ الذي
لم تتوقف ضحكته حتّى وهو يواجه أصعب المواقف وأكثرها استلاباً للفرح البشري، ولم
يستطع برقصه ترويض الموت وهو الساخر الذي لم يحفل بعنجهيته، والقائل بعناد "سحقاً،
إذن للموت" لكنه حين وقف أمامه وجهاً لوجه عقدت لسانه الدهشة، وشلّه التعجب ولم يعد
ناطقاً بسخريته الباسلة. وكما اشتغل أديب كمال الدين على هذه الشخصيات اشتغل على
شخصنة الحروف وزجّها في تجربة الموت، ومنحها حرية المشاكسة والمناكدة، فكلما طلب
منها أن تقول كلمة (حُبّ) تقول ما يغايرها فتتسبب في ضياعه سنين طويلة، وتمنحه ما
يحيل الفرح إلى ألم ممض، والموسيقى إلى حزن عميق، والحياة إلى حماقة وحرب ليرحل
عنها، ولتبقى هي راسخة ثابتة موغلة بعنادها ومشاكساتها المريبة. إنها شخصيات مركزية
أحيانا لها ما يميّزها من الأفعال، والأقوال، والسلوك، والغايات. وهي تخوض صراعها
المرير من أجل الوصول إلى مراميها، وتحضر في القصائد بهيئة غريبة، ومريبة، ومثيرة
للرعب في نفوس الشخوص متقمصة هيئة الموت الرهيب، فتنزل من قطار الزمن بأناقتها
المفرطة، وشواربها الكثّة لتصطاد روح النقاط، وتضعها في عليين، أو سجّين، أو في
غيبوبة الموت الأبديّ.
في فصل (شخوص على خطّ الموت)
افترضتُ وجود مساحة عازلة بين عالمي الحياة والموت على هيئة صراط فاصل
ومصيري تتحدد عليه مصائر الشخوص الذين تناولتهم بما رفلت به حياتهم من الابداع،
والتألق، والنشاط، والنجومية التي انطفأت في حضرة الموت بعد أن أشاد بها القريب
والبعيد، والمحُبّ والكاره، والصديق والعدو، والشاعر والمتشاعر. وابتدأتُ بمن انتظر
الموتَ وأعدّ له الموائد والكؤوس ليحلّ عليه ضيفاً لكنه فوجئ به قادماً متنكراً
بقناع قاتل أثار حفيظة الشاعر، وغضبه، ومطالبته بتحطيم تلك الموائد والكؤوس. إنه
(حارس الفنار)، أو محمود البريكان، أو الشاعر المغدور الذي أثار قتله إرباكاً في
واقع الحال، وواقع القصيدة على حد سواء. ونجح أديب كمال الدين في بيان حقيقة الفرق
الواضح بين موته كمضيّف منتظر وصول ضيفه الأنيق (الموت) وبين موته قتيلاً على يد
آثمة، ووضعنا أمام خيارين، أو في حقيقة الأمر سؤالين ليس أولهما أقل تعقيداً من
ثانيهما: هل كنّا نتقبّل الموت على طريقة البريكان لو أن الضيف الخارق للعادة جاء
في الموعد الذي حدده البريكان نفسه بعد أن أعدّ الموائد والكؤوس؟ وهل ثمّة فرق في
الموت على يد الضيف الأنيق أو على يد القاتل المترصد؟ لقد أجابنا أديب كمال الدين
من خلال غضبه المستفز، ومطالبته بتحطيم الموائد والكؤوس، والوقوف بوجه الموت، أو
التنديد به وهو العارف أن الموت آت لا ريب فيه. وهذا هو موقفه بالضبط عندما اختطف
الموت توأم روحه (مهند الأنصاريّ). إن أديب كمال الدين هنا يفترض ردّة الفعل
الإنسانية الخارقة لفرضيات الموت المطلقة. بل أنه ينطلق منها ولا يتوقف عند
محدداتها وهذا هو بالتأكيد ما جعل شعره موضع اهتمام القاصي، والداني، والقارئ
والدارس، والباحث، والناقد، والمتابع للشعر، والمتأمل في تجلّياته الجماليّة
واللغويّة. وإذا كان البريكان قد هيّأ نفسه لانتظار الزائر الأخير (الموت)، واستكمل
استعداداته فأن جان دمّو لم يكن أقل استعداداً لاستقباله بلا مبالاة، وببرود شاعر
رأى الحياة من حوله خاوية، وخالية من أيّ معنى فاعتزل ملذاتها، وعاقر الخمرة حتّى
آخر لحظة في حياته التي لم تعرف من المباهج سوى الشعر، وسوى شتم المتثاقفين، وأنصاف
الشعراء. ومثلما عانى دمّو من غربة الروح عانى فتى النقد منها فكلاهما ذاق مرارة
التغييب والتغريب ولم يحفل بالموت في حياة ميّتة أصلاً.
في القصائد الثلاث السابقة كان الشخوص في
مواجهة خاسرة على خطّ الموت وكان الشاعر مبتعداً بما يكفي لضمان سلامته ولكنه في
قصيدة (مهند الأنصاريّ) ارتضى لنفسه الوقوف على ذلك الخطّ ببسالة بعد أن أخذ الموت
منه توأمه الروحي (مهند الأنصاريّ) متحدياً وصاباً جام غضبه على الموت، وعائداً منه
بسلام مبين. وفي قصيدة (ثلاث صور للموت) يكرر الشاعر وقفته على خطّ الموت أيضاً
ولكن بعد أن استبعد بسالته في المواجهة، وارتضى لروحه المغادرة من عالم لم يعد فيه
ما يغري بعيشه لحظة بعد لحظة. لقد تراكم شعوره بالضياع، وفقدت روحه قوة ارتباطها
بالمكان (الجسد)، ولم يعد يتعرّف عليها بعد غياب طال أمده، وكبرت وكثرت مكابدته،
فتنازل عنها للشرطيّ (الموت) بسهولة مفرطة وهو بهذا يلفت انتباه قارئه إلى ضحالة
الحياة، وخوائها وضرورة تغييرها، أو بخلافه التخلّي عنها كما تخلّى عنها السابقون
واللّاحقون، أو كما تعاملت معها الحروف عندما وجدت نفسها على ذلك الخطّ أيضاً.
في فصل (ما بعد الموت بخطوة واحدة) حددت معنى تلك الخطوة المهمة لأن القصائد التي
كتبها أديب كمال الدين ضمن هذا الفصل صبّت في مصبّ الاهتمام بموقف من ظلّ يرقب خطوة
الراحلين ليفصح عن موقفه بمنتهى الصراحة أو القباحة. واشتغلت على شخصيات اصطفاها
الكاتب لتكون الأنموذج الأرقى شعرياً، والمؤهل اجتماعياً
وانسانياً، والمتلائم مع
فكرة الغياب الأبديّ. ووجدت أن الشاعر يكيل لشخوص قصائده، في هذا الفصل، بمكيالين.
يكيل بالأول محصلة حاصل تجربة الشخوص ورقيّها، وتساميها،
وانسانيّتها. ويكيل
بالآخر إحباطاتها،
وخيباتها، والقدرة على نسيانها برغم ما خلّفته وراءها من
إرث إبداعي لا يُستهان
بمكانته أدبياً أو فنياً. واخترت من نماذج هذا الفصل أولاً المطرب الذي ردد صدى
أغنياته الشرق والغرب
عبد الحليم حافظ، والمطرب الذائع الصيت ناظم الغزالي. واخترت ثانياً مشاهير الشعر:
عبد الوهاب البياتي، ويوسف الصائغ، وغارسيا لوركا،
وأخيراً المتصوّفة
الحسين بن منصور الحلّاج. لقد بسط الموت سطوته على هذه النماذج المصطفاة بعد أن
بلغت سطوتها الفنية والأدبية أوجها في عالم الأدب والفن والتصوّف، وتمكّن أديب كمال
الدين البرهنة على أن للموت طرقه التي تَسْخر من عملقة البشر ونجوميتهم عندما يجعل
من ابسط الأشياء،
وأصغرها، وأضعفها سبباً لرحيلهم المحتوم. وضربنا مثلا على هذا بدودة البلهارسيا
التي تغلّبت على حياة المطرب الممتلئة بالحيوية، والنشاط، والفاعلية عبد الحليم
حافظ. والشاعر كغيره من شخصيات قصائده التي أدركها الموت يتطلّع إلى معرفة ما سيقال
عنه بعد رحيله فيتماهى مع شخصية الحلّاج، ويرى من خلالها ما ستؤول إليه حياته، وعلى
وجه الدقة قصائده، ويفترض أن الموقف منه (الجحود) سوف لن يكون بأفضل من السابقين له
من الشعراء لأن هذا هو حال الشعر ونتيجته دوماً كما يقول في قصيدته (البياتي).
وماذا بعد؟
ثمّة الكثير الذي لم نشتغل عليه بعد، والذي نأمل أن يطرق أبوابه غيرنا من النقاد،
والباحثين، والدارسين. وأن يجترحوا
أسرار التجربة الحروفيّة
التي اتصفت بها هذه القصائد، وان يستخرجوا من بحورها الدرّ المكنون. وإيماناً منّا
بسعة التجربة التي حاولنا اكتشاف ما لم يكتشف منها تركنا الأبواب مشرعة أمام
الداخلين إلى عالم أديب كمال الدين الشعريّ، وفضاءاته المعرفية لسبر ما فاتنا من
أغواره القصيّة.
*
كتب للمؤلف
1 |
طقوس صامتة
ومسرحيات أخرى
|
دار الشؤون الثقافية العامة.. بغداد |
2000 |
2 |
ليلة انفلاق الزمن.. مسرحيات صائتة |
اتحاد الكتـاب العرب.. دمشق |
2001 |
3 |
البناء الدرامي في مسرح
محيي الدين
زنكنة |
دار الشؤون الثقافية العامة.. بغداد |
2002 |
4 |
ارتحالات في ملكوت الصمت.. مسرحيات |
دار الشؤون الثقافية العامة.. بغداد |
2004 |
5 |
المخيلة الخلاقة في تجربة زنكنة الابداعية |
منشـــورات مجلة بيفين.. السليمانية |
2009 |
6 |
المقروء والمنظور.. تحارب محدثة في المسرح
|
سردم للطباعة والنشـــر.. الســـليمانية |
2010 |
7 |
المكان ودلالته الجمالية في شعر شيركو بيكس |
دار نينوى للنشر والتوزيع.. دمشق |
2011 |
8 |
قاسم مطرود في مرايا النقد المسرحي |
دار نون للنشـر والاعلام.. القاهرة |
2011 |
9 |
تجلّيات السرد وجمالياته في قصص زنكنة |
دار الشؤون الثقافية العامة.. بغـــداد |
2011 |
10 |
كتاب الصوامت |
دار التكوين للترجمة والنشر.. دمشق |
2012 |
11
|
سيرة كاتب ومدينة/ لقاء مع صباح الأنباري |
منشــورات مجلة الف.. دمشق |
2012
|
12 |
التأصيل والتجريب في مسرح عبد الفتاح رواس |
منشورات اتحاد الكتاب العرب.. دمشق |
2013 |
13 |
محي الدين زنكنة.. الجبل الذي تفيأنا بظلاله |
منشورات مهرجان كلاويز.. السليمانية |
2013 |
14 |
شهوة النهايات..ثلاث مسرحيات عراقية صائتة |
دار الشؤون الثقافية العامـــة.. بغـــداد |
2013 |
15 |
إشكاليّة الغياب في حروفيّة أديب كمال الدين |
منشورات ضفاف.. بيروت |
2014 |
تحت الطبع
الرسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال/ قوس قزح للطباعة/ كوبنهاجن الدنمارك.
انتهى
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة