أقول الإنسان أديب كمال الدين، أمْ
أقول الشاعر أديب كمال الدين؟ لست
أدري ما أقول.أمَّا هو فقد كان وسيبقى
(إنسانًا) و(شاعرًا)
.
أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي
عراقي، بدأ مشواره الشعري منذ أكثر من
واحد وأربعين سنة، إذ صدرت له أول
مجموعة شعرية بعنوان:" تفاصيل" سنة
1976 م،
ثم
"جيم"، "نون" ، "أخبار المعنى"،
"النقطة".
وفي سنة 2006م برز ديوانه الشعري :"ما
قبل الحرف.. ما بعد النقطة"، وتوالت
مجموعاته الشعرية في الصدور.
وستقارب هذه القراءة ديوانه الشعري
"في مرآة الحرف". يقع الديوان في
(160) صفحة من الحجم المتوسط، يضمّ
بين دفتيه (50) قصيدة، وقد صدر في
طبعة فاتنة عن منشورات ضفاف للنشر
والتوزيع ببيروت.
الخطاب الغلافي:
***************
يُعدُّ الغلافُ نصّاً بصريًا
محاذيًا لا يقلُّ أهميةً عن النصّ
الأصلي؛ فهو العتبة الأولى التي تواجه
القارئ قبل سبرهِ أغوار النصّ، ومنه
وجب الوقوف عنده.
إذا أمعنّا النَّظر في غلاف الديوان
يشدُّنا في بادئ الأمر اللّون الأزرق
السماوي الذي يدلُّ على دلالات كثيرة
أهمّها: الصفاءالمطلق، الحرية، العمق،
الطمأنينة. كما يفضي بنا إلى عوالم
الصوفية بما تحمله من نقاء وسكون حين
يتمثّل في لباس "الدلق" الذي يعرف
كذلك بــ: (الخرقة، الكيل، لباس
الفتوة) فهو شعار التصوّف الشائع في
العصر العباسي. نجد هذا اللَّون
فاتحاً تارةً، وقاتماً تارةً أخرى؛
فالفاتح حين يمتزج باللّون الأبيض
الذي يحمل طاقات إيجابية في الجهة
اليسرى، وبزيادة رقعة اللّون الأبيض
يزداد النُّور والتفاؤل وتتّسع مساحة
الأمل. بينما نلحظ امتزاجه بالأسود في
الجهة اليمنى، والأسود كما نعلم يوحي
بــ: الظلمة، الخوف، الكآبة والحزن.
ونراه خلف وجه الشاعر ليُعبّر عن
ذاكرة وماضٍ يتخللهما السواد.
أمَّا العنوان: "في مرآة الحرف" بفضل
تموقعه المميَّز في قلب الغلاف،
والكاليغرافية الأصيلة المونقة التي
صمّم بها، فقد استطاع أن يمارس
تأثيراً بصرياً مهماً على المتلقي، إذ
جاء مكتوبًا بخطٍ أزرق، قاتم وغليظ،
ويفصل العنوانَ عن انعكاسه خط أبيض
بارز يومئ بانكسارات وتبعثراث
وتحوّلات تعانيها الذات بين عالمها
والعالم الخارجي؛ إذ جاء الانعكاس
بلون مغاير للأصل.
وتحتل كلمة "شعر" مساحة صغيرة أسفل
الديوان لتشير إلى تجنيس العمل.
يمنحنا هذا الغلاف الذي يزدحم
بالإيحاءات والرموز فرص تأويل كثيرة
فتبقى القراءات مفتوحة للمتلقي.
القراءة:
*******
يبتدئ شاعرنا مجموعته بقصيدة
"أغنية إلى الإنسان" لتكون بمثابة
الإهداء؛ لأنَّ الديوان خلا منه، وهذه
القصيدة تشي بما تصطبغ به أخواتها من
نبض إنساني مفعم بتوهّج العاطفة.
هذه أغنية أعددتُها لكَ،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّثُ
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتُحاولُ
بإصرارٍ كبير
أنْ ترسمَ لها جَناحين
وعشّاً في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ
لا اسمَ له
ولا عنوان.
ص(11)
وكأنَّ بالشاعر يُعبّر عن
رؤيته في كتابة القصيدة وضوالّه منها.
أمّا عن التواشج بين القصيدة
والأغنية، يقول الناقد الأمريكي
أرشيبالد مكليش: "إنَّ ((الوجود))
الذي تشتمل عليه القصيدة مستمد من
((اللاوجود)) ، لا من الشاعر.
و((الموسيقى)) التي يجب أن تحتويها
القصيدة لا تنبثق عنّا، نحن الذين
نصنع القصيدة، بل عن الصمت: وتنطلق
جوابا لِقرعنا".(1)
كما تَتَّضح رؤية الشاعر أكثر في
قصيدة "تسع وصايا لكتابة القصيدة"
التي حاول من خلالها التعبير عن
ميكانيزمات العملية الإبداعية وركّز
على أهمية الصدق في العمل الفني كما
استهجن النمطية والسير وفق وتيرة
واحدة ليكون بذلك شاعرًا وناقدًا في
آنٍ واحد، يقول :
إذا
كتبتَ قصيدةً عن المطر
فاحذرْ أنْ تكتبها
ما لم تكنْ روحُكَ -
قبلَ جسدكَ -
قد تبلّلتْ بالمطر.
ص (42)
ويردف:
الشعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون
لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً
واحدة،
قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ
والاستعارات
لتثبتَ أنَّ الطغاة،
رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،
كانوا مُجرّد حمامات سلام.
ص (44)
يواصل الشاعر بحثه عن ماهيّة
الشّعر الذي شكَّل هاجسا له في أكثر
من قصيدة؛ فهاهي قصيدة "تعريف"
الحوارية تحاول بلورة مفهوم حروفيّ
للشعر:
حينَ سألتني حبيبتي السّاحرة
عن تعريفٍ للشِعْر،
تعريفٍ حُروفيّ بالطبع،
قلتُ لها:
الشِّعْرُ نون
لكنَّ نقطةَ النونِ ليستْ في
المُنتصف،
للأسف!
.....
قالتْ: لم أفهم الجواب.
ألا تعرّف الشِّعْرَ لي
بلُغَتي: لُغَةِ السّحَرَة؟
قلتُ لها:
الشِّعْرُ عندَ السّحَرَة
مثلّثٌ غيرُ مُكتمل،
مثلّثٌ بضلعين فقط.
ص
(52)
زئبقية الشعر هي التي تجعل
البعد الأخير ناقصا وهذا البعد هو
الذي يجعل النص منفتحا ومنه "لا بداية
ولا نهاية الكتابة نفي لكل سلطة،
وبهذا المعنى لا يبدأ النص لينتهي
ولكنه ينتهي ليبدأ". (2)
وفي قصيدة "إذا" تحترق الحروف في سبيل
البحث عن الوجود، فتصدح الأسئلة
وتتفجّر الكلمات لتجرف الآني والغابر
وتضعهما في شرك المساءلة.
إذا كانت النقطةُ هي الأسطورة،
فَمَن يكون الحرف:
أهو كلكامش
أم أنكيدو
أم الأفعى التي سرقتْ عُشبةَ الخلود؟
ص (53)
.....
إذا كانت النقطةُ هي الفراغ
فَمَن يكون الحرف:
أهو ثقب الفراغ
أم فراغ الثقب؟
ص (56)
....
إذا كانت النقطةُ هي التُفّاحة
فَمَن يكون الحرف:
أهو آدم
أم حوّاء
أم الذي وسوسَ لهما
آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟
ص
(61)
تنهال التساؤلات كالسيل المتوغل
في جميع الاتجاهات، وفي جمعها بين
الكثير من المتناقضات تعبير عن حالة
التشظي والانفلات التي تعيشها ذات
الشاعر، ولا تحتاج هذه الأسئلة إجابات
بقدر ما تحتاج تأملاً؛ لأنها تنبع من
مَعين التوتّر، الغياب، الضياع و
الغربة الشديدة التي يعاني منها
الشاعر سواء أكانت ذاتية أو خارجية،
كما يُزنّر استدعاء الرموز والأساطير
الأسئلةَ لتكون حفرًا في أخاديد
الذاكرة الإنسانية، و بما اكتنفته هذه
الرموز من انفتاح وشمولية استطاعت أن
ترسم صوّرًا اجتازت حدود المكان
والزمان.
ويعلو صوت الوطن والإنسان وقضاياهما
بقوةٍ في قصيدة "هوايات ما بعد الحرب"
التي نضح فيها الحرف حزنًا، فتكاثفت
المشاهد المؤثرة واحتشدت الصور
المؤلمة:
كنّا مُبتهجين حدّ اللعنة
ومسرورين حدّ القَرَف
وفرحين حدّ الجُنون
نرقصُ، كالأطفالِ تحتَ المطر،
تحتَ قنابلِ المدفعيةِ المُدهشة
وصواريخِ الطائراتِ التي كانتْ
تسَّاقَطُ علينا ليلَ نهار
كقطعِ الحلوى.
ص
(85)
....
ولذا، حينَ انتهت الحرب،
ظهرتْ لدينا هواياتٌ جديدة
مثل هواية جمع الرؤوس التي نسيها
أصحابُها
لسببٍ أو لآخر
أو هواية جمع سلاسل أرقام الجنود
القتلى.
ص (86)
***********************
المصادر: أديب كمال الدين،
في مرآة الحرف،الطبعة الأولى،2016،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان.
1- أرشيبالد ماكليش، الشعر والتجربة،
ترجمة:سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة
:توفيق صايغ، الطبعة الأولى 1963،
منشورات دار اليقظة العربية للتأليف
والترجمة والنشر، بيروت، ص17.
2- محمد بنيس، سؤال الحداثة، الطبعة
الثانية، 1988، المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء، المغرب، ص18
|