إشارات التوحيديّ
شعر: أديب كمال الدين
إشارة الفجر
*******
لو أنزلنا هذا الفجرَ المحمومَ على جبلٍ للغيرةِ والشمسِ
لرأيتَ الماءَ سعيداً والطيرَ يغنّي شيئاً
عن ذاكرةِ العشب.
لو أنزلنا هذا الفجرَ الأسْوَد
وعلى وطنٍ للحُبّ
لرأيتَ الزهرَ الدافئ ينمو، يلتفُّ على الجسدين وحيداً
ويمشّط ُ شَعْرَ القلبْ
بأصابع من ندمٍ أخضر
ويمشّطُ شَعْرَ القُبُلات
بأصابع من بلّورٍ أزرق.
لو أنزلنا هذا الفجرَ المسجونَ على أرضٍ
لا تنمو فيها الخيبةُ والصحراءْ
لرأيتَ الحرفَ عجيباً يحكي برنينِ الماء
عن خفْقِ الحُبِّ وفاكهةِ الله.
إشارة الشكوى
********
ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ البكاءْ
أنهارُ بحرٍ أُطفِئتْ في رمادْ
أو شجرٌ ممتلئٌ بالثمرِ الناضجِ قد
ضُيّع وَسْطَ الوهادْ
أو وردةٌ موعودةٌ بالحُبّ قد أُحْرِقَتْ
أو قُبْلةٌ قد حُوصرتْ
مثل بريءٍ يُقادْ
بين صهيلِ الحرابْ.
ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ الرّحيلْ
كثبانُ رملٍ تختفي في رياحْ.
إشارة المدن
*******
مُدُنٌ: مأوى لرغيفٍ مُحْتضرٍ
ورغيفٍ مغموسٍ بالشهدْ،
مأوى للكوخِ المهدومِ، القصرِ الملآنْ
بالمرمرِ والغلمانْ،
مأوى لشوارع قد سُقِيتْ بالرغبةْ،
لسيوفٍ تخفي جسدَ امرأةٍ من دُرٍّ مُلتهبٍ..
تترجلُّ من هودجها الأسْوَد.
مُدُنٌ: مأوى للسرّاقِ، الشرطةْ
للشحّاذين، الخيلِ، البقّالينْ
مأوى لنساءٍ شَبِقاتٍ،
أطفالٍ ضاعوا، أرصفةٍ لا تحوي إلّا غُرباء.
إشارة التهويمات
**********
هَوّمتُ، إذنْ، في صحراءِ الله.
هَوّمتُ، معي خطوات دمي
وزُجاجات الفجرِ الثكْلى.
هَوّمتُ، أنا روحُ العشبِ
عنقُ العُصفورِ وذاكرةُ التُفّاحْ،
وجعُ الطين ِالأسْوَد
لأمنّي الروحَ بأرضٍ تُؤوي جذري المنفيّ..
لَعلّي أَلقى مَنْ سَمّاها
مَنْ قالَ لذاكرة ِالتُفّاحْ:
كوني... كانتْ شجراً مُحترقاً يلتفُّ على الماءْ.
لا ماءْ!
إشارة السؤال
********
قَلبٌ يُدْهُشهُ الماءُ ويغريه العُشب
قلبٌ مِن ورقِ الرغبةْ
يتساءلُ عن جسدِ العمرِ المجنونْ
لِمَ يأتي أو يرحل؟
ولماذا تبدو الدنيا عند الحُرّاس
حُلماً يهمي كالماءِ الهادئ في ساقيةٍ مُعشبةٍ
ملأى باللؤلؤ والمرجانْ؟
... تبدو عند الناس
كدراهم تُلْقى في النهرِ الجارف،
ذكرى لكؤوسٍ قد مُلِئتْ بالريحْ؟
إشارة الهزيمة
**********
(الصوت):
أأبا حيّانْ
من بعدِ ليالٍ معدودةْ
ستفارقُ هذي المعمورةْ
فَتنـّبـهْ!
فالعمرُ بهِ شيء ظلّ.
أعطهْ
ما يسكنُ فيهْ:
جسداً يطربه أو ثوباً يلتفُّ عليهْ.
صفحاتٍ تكتبُها وتنادي فيها العُقبانْ
بعصافير الغدرانْ.
أأبا حيّانْ
كنْ
رجُلَ الذهبِ المتناثرِ والغلمان المسرورينْ!
(التوحيديّ):
آهٍ
يكفي
فأنا رجلٌ أدّبتُ لساني..
حتّى استخفى في الصمتِ
بقناعِ نبيّ.
إشارة الموت
********
المـوتْ!
ضيفٌ مهذارْ
ضيفٌ لم يدعَ إلى شيءٍ، لكنّي الليلةَ أدعوه
لبقايا جسدٍ معطوبٍ،
أدعوهْ
لزمانٍ ما عَرفتْ أشجارُ الروح ِ به إلّا
أوراق دمٍ وزعانف مِن ألمٍ أزرق،
لزمانٍ ما عرفتْ عيناي بهِ ثوبَ الملكوتْ.
فأغمغمُ محموماً من كأسٍ..
تتحدّثُ عن أزهارٍ تطلعُ صابرةً من بين القضبانْ
ويعربدُ في قلبي الجوع.
إشارة الحريق
**********
احترقي تهويمة الروح وفجر الكلماتْ.
احترقي. ماذا جنيتُ من هوانا الضائعِ المضطربِ
إلّا دموعاً تغتدي كوردةٍ من لهبِ
أو حسرةً ما تنتهي؟
غادرة أنتِ إذنْ
بل هزأة: "مستفعلن" سيّدتي!
هيّا ارقصي يا نارُ يا بحرَ الشواظْ ،
أصابعي ومعصمي
في قلبكِ المقدّدِ.
هيّا ارقصي وهيّئي
مائدةً من جسدي المحترقِ.
إشارة الرؤيا
*******
1.
الرحمن
خَلَقَ الإنسانْ
علّمه ما لم يعلمْ..
علّمه ما كانَ يكون
ما لم يكُ في الحُسبانْ.
المأساةُ اتسعتْ، مَن لي يا ذاكرة خَرِبةْ
أنْ أقرأ أوجاعي
والشاطئ مهجوراً يهذي بأناشيد الهمِّ.
المأساةُ اتسعتْ، فبأيّ أقترحُ الليلةْ
فرحي الربّانيّ،
أقودُ الليلَ أسيراً
والبحرَ صديقاً
والصخرَ ودوداً
والمرأةَ
كأساً
قد
مُلِئتْ بالفجرِ، غناءِ العشبْ،
ألقِ الأقمارْ.
الرحمن
خَلَقَ الأكوانَ وسلّمني مفتاحَ الأرضِ وبايعني.
لكنْ عذّبني الجندْ
إذ آلمني أرقُ الليلِ المطعون، فشرّدني السلطانْ.
فبأيّ أقترحُ الليلةَ معراجي..
وأقودُ مماليكي، شمسي وغيومي نحو الله؟
الرحمن
خَلَقَ الإنسانْ
آتاهُ الحكمةَ طيّعةً والبلبلَ والهدهدْ.
لكنّ الأرضَ انذهلتْ والمأساة اتسعتْ وتعرّتْ
والغربة قد كبرتْ.
فأشيري يا كلمات الرحمةِ..
إنّ الإنسانَ بحُسبانْ.
2.
كثرَ اللغطُ
وبدتْ صيحاتُ الآخر فاتنةً بعلاماتِ الإبهامْ!
فعجبتُ، دهشتُ، وقلتْ:
أوَ هذا جمركَ يا حرفي،
يا مَن تخفي ألقَ الأشياءِ وفاكهةَ الأيّامْ؟
وعجبتُ عجبتْ
حتّى أنكرني رأسي. لكنّي
في عمقِ الضجّةِ أبصرتُ طيورَ الله
تهبطُ في روحي وتذيعُ بقلبي الأثمارْ.
فنظرتُ إلى الضجّةْ
وصرختُ: سلاماً للهدأةِ إذ بزغتْ في روحي، مرحى.
وفرحتُ، بكيتْ
مثل العصفور العطشان
وَجَدَ الغدرانْ.
إشارة الختام
*********
قالَ: إليّ إليّ..
أشارَ إلى جبلِ الرؤيا فصعدتُ، إلى جذرِ الأفلاكِ قرأت
روحَ الطفلِ، عذابَ الأحفادْ
حتّى امتشقتْ كفّي السرَّ الأعظمْ،
كانت بيضاءْ.
وهبطتُ بجنحِ الطيرْ
ونسيمِ الفجرِ، رذاذِ الشطآن.
***************************************
* (هو فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومُكْنة) هكذا يصف
ياقوت الحموي في كتابه (إرشاد الأديب) علي بن محمد التوحيديّ البغداديّ المعروف
بأبي حيّان التوحيديّ. وليست كلمات ياقوت هذه بجارية مجرى المبالغة أو آخذة بطريق
المجاملة، البتة. فلقد كان التوحيديّ بحقٍّ واحداً من أولئك الكتّاب العظام الذين
جالوا في النفس البشرية جولةً عميقةً وكشفوا عن طبقاتها الجوّانية بشجاعة نادرة
وبطريقة العارف الخبير، المعذّب، الفصيح، المتفرّد. وكتابه (الإشارات الإلهية) أفضل
دليل على ما نقول. لقد حمل التوحيديّ خلال رحلة حياته همّ الأديب المكافح الأصيل
الذي يحافظ بقوّة، على كلمته ما استطاع من السقوط والابتذال. وقد دفع ثمن هذه
الكلمة غالياً: عذاباً يوميّاً متصلاً وفقراً مدقعاً وشظفاً وتجاهلاً. حتّى
اضطر أواخر حياته إلى إحراق كتبه بعد أن رأى أن لا طائل من ورائها. وقد قال عـن هذا
الحدث: (إني جمعتُ أكثرها للناس ولطلب المثالة بينهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ
الجاه عندهم، فحرمتُ ذلك كله. ولقد اضطررتُ في أوقاتٍ كثيرة إلى أكل الخضر في
الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصّة والعامة وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى
تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يُحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم، ويطرح في
قلب صاحُبّه الألم). أمّا أهمّ كتبه أو ما وصلت منها في الأدق، والتي أخرجها، أغلب
الأمر، قبل أن يحرقها فهي: الإشارات الإلهية، البصائر والذخائر، الإمتاع والمؤانسة،
الصداقة والصديق، مثالب الوزيرين، الهوامل والشوامل. توفي التوحيديّ عام 414 هجرية.
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة