المعرّي في التيه
شعر: أديب كمال الدين
1.
إذ يَعْوي الليلُ، يقومُ دمي يَتشبّثُ بي:
ماذا حلَّ بتلك الأرض؟
قتلتْ أحداً؟
سرقتْ فاكهةَ الأغرابْ؟
ضاعتْ في البرّية؟
وقعتْ في المستنقع
وتعرّتْ من برقِعها؟..
هل أوجعها صوتُ السيفِ على الرقبةْ؟
يا الله
لطفكَ، لطفك
فحدائقُ موتي ذي تمتدّْ
وزفيفُ دمي يشتدّْ
والأرضُ... مددْ.
2.
باسمكَ
قد خَرَجَ الرجلُ: الطفلْ
من قمقمهِ المعجِز
ومضى يصطاد فراشات الماء.
ولأنّ الخبزَ عنيفٌ في زمنِ الطحلب
باعدتِ الأرضُ خطاها وَمَضتْ للعتبةْ
آكلةً سمّاً مكتئبةْ.
عادَ الرجلُ: الطفلُ ليوقدَ شمعتَهُ فرأتها الأرضُ.
صرختْ وطوتها تحتَ جناحيها،
شربتْ ماءً آسنْ
وعواءً للفجرِ الآثمْ.
3.
باسمكَ قُدّرتِ الأقمارُ منازلَ والأيّامُ سنينْ
ومضتْ من خلفي مئذنةٌ
لم أرقبها والكأسُ تمزّقني إرباً إرباً.
ألأِنّ الشمعة قد سقطتْ
في الماءِ الآسنِ، أولدُ من موتي
لأُعَذَّب منفيّاً في كلِّ صباحْ؟
4.
ها أنتَ معي فَتَقدّمْ!..
سأريكَ عذابي فَتَقدّمْ!..
لا تقنطْ وانحدر الآنَ إلى البُركةْ.
سقطتْ شمعةُ روحي
فبكيتُ دمي وشبابي..
وصرختُ بوسْطِ البرّيّةِ: مَن ينقذني؟ مَن؟
صهَلتْ في وجهي الريحُ. وجِعْتْ
فأكلتُ عيوني. كانَ المسرحُ مُمتلئاً بالناسْ.
فصرختُ: أنا الطفلُ
لا أفهم هذي المحنة. أُوعِدْنا بالماءِ، رغيفِ اللهْ.
لِمَ يفقأُ هذا الدهرُ الجبّارُ
عينيه، يسوطُ الناسْ؟
ما مِن رحمةْ؟
في اللحظةِ، في اللحظةْ
اشتعلَ النورُ فقامَ الناسُ لطقسِ النومْ
مبتهجينْ
وأنا وحدي كنتُ اليقظانْ
وأنا الأعمى المنحوسُ المُكتملُ العينينْ.
5.
وتَقدّمْ!..
سأريكَ جهنّم في الأرضْ
وأريكَ اللعبةَ كاملةً، فَتقدمْ!..
فَهَمَستُ بصوتٍ مخذولٍ: "أنا أعمى".
- (لا بأس عليكَ سأجعل من دمِكَ البشريّ يرى
ويحسّ، يتيهْ).
فأراني كيف تُباعُ الأرضُ وتُجتثُّ الأشجارْ.
وأراني كيفَ تُلاكُ الكلماتُ، يُباعُ الأطفالْ.
وأراني دائرةَ الأفلاكِ. صَرختْ:
باسمك
لا شأنَ لديّْ
أشعلتُ الشمعةَ في الريح
سرقتْها الأرضْ.
حرقتْ كفّي أشلاءُ النارْ.
ماذا أفعل؟
قد سلَّ الدهرُ الخيطْ
فَبقيتُ وريداً من غير دمٍ..
ولقيطاً من غير قناعْ.
6.
باسمكَ قد دارتْ دائرةُ النقمةْ
وأنا أدخلُ في دارِكَ عُرياناً أنتَ غطائي،
محزوناً أنتَ هنائي، مأكولاً أنتَ سِناني،
فَتَرفّقْ!..
عاشرتُ جحيمَ الناس
وخطوتُ بقلبِ جهنّم..
هذي سَقَرٌ مَرّتْ، فَتَرفّقْ!
7.
أعطاني قلباً آخرَ. أوردني نهرَ الحكمةْ.
فسترتُ عرائي وحملتُ سناني ومَضيتْ.
8.
لكنّ الأرضَ، الليلةَ، قد ذُهِلَتْ.
الأرض، الليلةَ، تأكلُها صرخاتُ دمي.
سَرقتْ؟
قتلتْ أحداً؟
جَلَستْ فوقَ العَتبةْ؟
أنا أعرفها تجلسُ فوقَ العَتبةْ
لكنَّ حنانكَ أوسع، ربّي، فَتَرفّقْ!
لا تتركْني للريحِ لتنبش أيامي
لا تتركْني للحوتِ ليلقمَني الوحشةَ والبحر ورائي..
لا تتركْني ليهوذا يصلبني..
لا تتركْني أتساقط في الوادي بحثاً عن جبلٍ تتجلّى فيهْ
لا تتركْني للّاتِ . وما مِن لاتٍ أو هُبلٍ أو عزّى..
لا تتركْني للطوفانْ
ودمي قد أبصرَ خفْقَ حماماتٍ عادتْ
برحيقِ النورْ.
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة