دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1 ، بغداد، العراق 1996
الأعمال الشعرية الكاملة :
المجلّد الأول
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2015
الترقيم
حسب الطبعة الثانية
القصائد
- أنا وأبي والمعنى
135
- أخبار
المعنى
138
-
أخطاء المعنى
140
- موت
المعنى
143
- ألف
المعنى
146
- أنثى
المعنى
148
- نون
المعنى
152
- راء
المعنى
154
- حواريّة
المعنى
156
- قبور
المعنى
159
- صراخ
المعنى
161
- دال
المعنى
162
-
باء المعنى
165
- نسيان
المعنى
168
- مخاطبة
المعنى
171
- صورة
المعنى
171
- طيران
المعنى
171
- إله
المعنى
172
- ارتباك
المعنى
172
- مأساة
المعنى
173
- خيانة
المعنى
174
- إيقاع
المعنى
175
- رومانسيّة
المعنى
176
- شمس
المعنى
178
- زمن
المعنى
179
- نَصّ
المعنى
181
- أغنية
المعنى
182
- بيت
المعنى
182
- عري
المعنى
183
- ماضي
المعنى
185
- ضحك
المعنى
188
- كاف
المعنى
190
- وصول
المعنى
192
أنا وأبي والمعنى
سقطَ الساحرُ من مائدةِ السحرِ على الأرضْ.
فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه. بكى، واهتزَّ كما يهتزُّ الطائر
حين تُمرّر سكين الذبحِ على الرقبة.
الأرضُ تكرّرُ لعبتَها. ما كنتُ أكون. الغيمُ يجيءُ ويذهبُ
والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا معنى أبداً. أختبئُ اليومَ كطفلٍ،
أرنو للفجرِ، أقرّرُ أنْ أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم، يذهب
سيف الظالمِ في الظلماتِ. فما أحلى الكلمات! وما أسخفها!
سقطَ الساحرُ. كانتْ امرأةُ الساقين الفاتنتين تهدهد...
لا معنى لإعادةِ مشهدِ حبٍّ مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.
المرأةُ واقفةٌ خلف الشبّاك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص
وما مِن شيء ينقذها. سقطَ الساحرُ من مائدةِ الفعلِ، فعضَّ
يدي، قالَ: سأقتصُّ من الظالمِ. هدّدني بعيون الجمرِ، تقدّم
من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمْعَ طيورٍ ملأتْ جوَّ الغرفةِ بالهذيانْ.
أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ مسحورٌ، أنّ الساحر يبكي كالطفل..
نظرَ الساحرُ لي، قالَ: بأنّي الطفل.
فتعجّبتُ من القول
ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ سوداءْ.
قامَ الساحرُ بالرقصِ، اختطَّ لنا أرضاً تكفي لكلينا، قالَ: هنا
نرقصُ- واختطَّ بجانبها أرضاً أصغر- وهنا سنموت.
علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل
والطفل كذلك، والسيف قويّ، والمعنى مكتنزٌ في الرقص
فارقصْ!
أخبرتُ الساحرَ أنّي أعمى لا أعرف إلّا خيطاً من ذاكرةِ
الفجرِ وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.
غضبَ الساحرُ من كلماتي وافرنقعَ منّي، قالَ بأنّي كذّابٌ
خَرِفٌ. أخذَ الساحرُ بالرقصِ، فهبَّ إلى الساحةِ مدفوعاً بسهامٍ
ورموزٍ زرق وشموسٍ حمر. واهتزّتْ ذاكرةُ الغرفةِ حتّى غضب
الغيمُ وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء. افرنقعَ غيمُ شتاءِ
الروح. اشتدَّ المطرُ البريُّ. نظرتُ إلى ما حولي علّي أتلمّسُ
شيئاً: الغرفةُ فارغةٌ كالموتِ. الساحرُ مشغولٌ بالرقصِ. الطائرُ
في جوّ الأسطورةِ ينمو. هبّتْ ريحٌ طيّبةٌ فتذكّرتُ المرأة تأتي،
تأخذني لفراشِ الحُبّ تؤدّبُ أوجاعي، وتذكّرتُ الطفلَ يحلّقُ
في النهرِ، تذكّرتُ السيفَ رجالاً ما عرفوا إلّا الكذب الأسْوَد
وعوانس من سخفٍ وخيوطٍ من لحمٍ ودمٍ. فصرختُ: أبي..
هلَّ أبي كهلالِ العيدِ بطيرِ النورسِ مؤتلقاً. واشتدَّ المطرُ البرّيُّ.
افرنقعت الغيمةُ واهتزَّ جدارُ الغرفةِ ثوباً في الريح. الساحرُ
يلعبُ، لم يتعبْ من رقصته، وخيوطُ العرقِ المصبوب على
الجسدِ العاري هبطتْ. كنتُ أحسّ بأنّي أُقْتَلُ هذا اليوم وأنّي
سأغادرُ ساحةَ رقصِ الساحرِ مُتجهاً بهدوءٍ نحو القبر المرسوم
على الأرضِ. المطرُ قويّاً يشتدُّ. الغيمةُ تعصفُ تعصفُ تعصفُ.
جاءَ أبي، هبطَ الساعة من سقفِ العالمِ. كانَ أبي يتألّقُ شمساً للفجرْ.
صرخَ الساحرُ في وجهي: ارقصْ. قلتُ بأنّي أعمى.
ضحكَ الساحرُ، قهقه ثُمَّ ارتجفَ الساحرُ حين تألّقَ وجهُ أبي في
الغرفة. أمسكَ بالعين الجرداء فأحياها. أمسكَ بالأذنِ الجرداء
فأسمعها، أمسكَ بي. اشتدَّ المطرُ فخفتُ على ثوبِ أبي الأبيض
أنْ يتّسخَ. وقالَ أبي: لا تحزنْ إنّكَ في عيني. فبكيتُ، نظرتُ،
رأيتُ الفجرَ لأوّل مَرّةْ.
ووقعتُ على كفِّ أبي لأقبّلها. والغيمةُ تعصفُ عصفاً.
وبدا أنّ الأرضَ ستغرقُ. قالَ أبي: لا تحزنْ هذا مطرُ الفقراءِ،
انظرْ. فنظرتُ العشبَ بقامةِ طفل!
أخبار المعنى
مرّتْ
سبعٌ مثمرةٌ بالموحشِ
من أخبارِ الطيرِ وأخبارِ الوحشِ، الناس. ومرّتْ سبعٌ مثمرةٌ بالطيّبِ من أخبارِ
العسلِ الأسْوَد والزنبقِ والماء. ومرّتْ
سبعٌ لاهيةٌ لا تعرفُ بيتاً أو عنواناً أو معنى، وأنا أتجلّى في لغةِ الجسدِ
الغامضِ. أمحو أمطاراً لم تسقطْ وغيوماً لم تفزعْ وبحيرات من أسباخِ طفولتي
المُرّة. أشكو وجعي للسنواتِ، وما مِن سنوات تقدرُ أنْ تفهم
هذا الوجع الأزرق. أشكو معناي المقتولَ إلى الكلماتِ الفضّةِ: لا جدوى، الكلماتِ
الرملِ: فلا جدوى، الكلماتِ النارِ: فلا جدوى، أخرجُ مفزوعاً. دارتْ دائرةُ
السعفِ العالي في جسدي: والريحُ مضتْ. سنواتٌ انقرضتْ: ماذا أفعلُ كي أنجو من حلمٍ
يتلبّسُ خاصرتي، يأخذني للمنفى،
يدفنني حيّاً، يخرجني، يوقفني قدّام الله وحيداً ويضيّعني كي
يلقاني في الليل فيقطع رأسي إذ أعبر جدران الحكمة؟ يهوي الرأسُ بنهرِ الطابوقِ
المنهارِ. أصيحُ بجمْعِ الناسِ: "و...هذا رأسي فانتبهوا"! يبقى
الجسدُ المدهوشُ عنيفاً لا يعرفُ للموتِ طريقاً أو معنى. عذّبني المعنى. قادَ
المعنى بيتي نحو المنفى، ألقى القبض على أسئلتي، أودعني حجرات المنسيين وأخرجني
نحوكِ مفتوناً فوجدتكِ في ذاتِ الغرفةِ، في لغةِ الفضّةِ عاريةً فذهلتُ.
ومرّتْ أزمنةٌ وأنا أتجلّى في عُريكِ حتّى فنيتْ عيني ماتتْ،
واخرسّتْ أذني عن نطقِ الكلماتِ. ومرّتْ أزمنةٌ حافيةٌ مثمرةٌ
بالأشواكِ. التهبتْ أسناني، سقطتْ. قامتْ أمراضُ الدنيا في جسدي. أكلَ الدودُ أصابع
أقدامي. والتفَّ الموتُ على خاصرتي، وتقاذفني ذئبُ الذهبِ الذائب حتّى
ضحكَ الثعلبُ: ثعلبُ أصحابي من فرطِ طفولةِ قلبي. وبكى الصيفُ على عريي
الفاضح، وافرنقعت الغيمةُ عنّي، تركتْني. فرأيتُ الموتى يقتتلون ببابكِ
دهراً. فتساءلتُ نبيّاً مجنوناً عن معناكِ: اسمكِ: مَن أنتِ؟ أميم
المعنى أم باء البلوى أم راء الرغبة أم فاء الفتنة، شين الشهواتْ؟
سـقطَ الماضي، وأتى ما يأتي، وافرنقعت الساعاتُ فلا جدوى. جسدي
يخضرُّ كعشبٍ ويموتُ كرملٍ ويضيعُ بنهرِ الكلماتِ فلا جدوى. أُقـْتــَلُ أو
يُرفَعُ رأسي فوق الرمح، يُنادى باسمي في الريحِ فلا جدوى. فلغاتُكِ قد
قتلتني. لم تأكلني الأمراضُ ولم يذبحني السيفُ وما حاصرني الماضي
بالدعوةِ للبحرِ الفاضحِ. يطلعُ من بين لغاتكِ جسدٌ عار يفتحُ بابَ القبرِ
إلى بابِ الدارِ يناديني. فأشيخ سريعاً وأنا بين طفولة أسماء صباي. ويدعوني
تفّاحاً مُرّاً. يدعوني فأجوسُ المنفى: منفى الرملِ ومنفى القبرِ
ومنفى المدنِ الموءودةِ باللامعنى حتّى أصل الغيمات.
أخطاء المعنى
أعتذرُ اليومَ إليكِ:
إلى خطأ في أطفالِ الطين،
خطأ في دمعِ الظالمِ، في طعناتِ المظلومينْ،
خطأ في حبٍّ حطّمَ فيَّ الأبوابَ وأوصدني بالمزلاجْ.
أعتذرُ اليومْ،
قَوّمتُ بأرضِكِ قَوْمي..
كانوا أشباحاً
سلبوا أصباغَ طفولتهم
من ساقيةِ الأسباخْ،
ناموا منتصف الليل عُراةً كالأسماكْ.
وارتحتُ إلى ميسمكِ المفتوحِ كشقِّ التفّاحْ.
كنتُ أوزعُ خطأً مضغوطَ الشفتين ومرتجفَ المعنى..
أسبحُ في موجٍ أخضر، أطفو كالطحلبِ، أغفو..
سكّيراً تعتعه الخمرُ المرّْ.
من بابكِ حتّى محرابكِ حتّى موتك
قامَ الليلُ الأسْوَدُ فجراً وانفتحَ الصبحُ رسولاً من ماء
للعطشانين بجمرِ الصحراء.
قامَ النخلُ كأبريقِ الساحرِ. زقزقت السعفاتْ
وانفجرَ القمحُ على بابِ الزقّورات.
قمتُ، فقامَ إلى موتي الأخّاذ حمورابي يتظاهرُ بالهيبة..
أنكيدو يركبُ رمحاً من ريشِ النارْ،
كلكامش في بابِ العصرِ يغنّي
ونبوخذ نصّر يرسمُ روحَ المعنى في قلبي
ويعاشرُ أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي..
قومِي. قامَ الليلُ إلى فجري
فاكتحلتْ عيني وأضاءتْ محجرَها الباردْ.
نهضَ الموتى قربَ الباب، انشقّوا
كالومضِ، انشقّوا كشياطين صغارْ.
قومِي، أثلجني موتُ أبي، عذّبني دهري الأعمى..
صرخاتُ الجدِّ المحمول على رمحِ المعنى.
من بابكِ حتّى محرابكِ حتّى موتي
أشفقتُ على نفْسي.
كانَ الدهليزُ صغيراً وأنا أدفعُ لولبَ غصني
مملوءاً بالزيتون. أنادي علّ الغيمة تجلسُ في حضني،
جلستْ. فتدثّرتُ بغيمتكِ الخضراء
وبكيتُ كما يبكي صوفيٌّ عمّدهُ الشيطانْ.
صحتُ: انقلبي فيَّ ولا تقتربي
وانشقّي فيَّ ولا تنفتحي..
وانفجري فيَّ ولا تنهمري.
أرعبني صوتي..
اهتزّت شفتاكِ... الرطبُ الأحمرُ شهداً،
سقط َالرطبُ الأحمرُ شهداً.
فبكيتُ، صهلتُ بقهقهتي.
عذّبني العصفوُر الداخلُ فيَّ وأيقظني هدهدُ رأسي..
ديكُ دموعي وهزارُ عذابي.
قمتُ إليك.
كانتْ أرضُ اللهِ تغرّدُ فيك.
وأنا أعتذرُ اليوم إليكِ: إلى
خطأ في اللهجةِ من خطأ في المعنى..
خطأ في البهجةِ أو خطأ في الدمعةْ،
خطأ في خطأ في خطأ الرأس،
خطأ في خطأ الرمحِ الداخلِ في الرأسِ. انهارتْ أركاني..
هبطَ البحرُ إلى موجي.
ركبَ الأزرقُ أخضرَ روحي،
فابيضّتْ عيناي من الذلّ.
قمتُ إلى ثدييكِ أناشدُكِ الرحمة..
كانتْ كلماتكِ جُثثاً تتساقطُ من سعفاتِ الرطبِ الأحمر..
كانتْ كلماتكِ أطياراً موتى فضحتْ جسدي..
من أقصى جسدي حتّى أقصاهْ.
كانَ اللهُ يراقبُ خيبةَ أخطائي..
ويناشدني أنْ أصمدَ وسط الريح وأنْ لا أنهار كسدّ من طين.
موت المعنى
أختارُ لموتي أسئلةً من طينٍ، ومرايا تفضحُ أجساداً من قطنٍ، ومعارك لم تحدثْ.
وأناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتستّرُ في اخفاء هزائمِ كلماتي كي أخرجَ مُحتفلاً
والناس سكارى يرتجفونْ.
أختارُ لموتي عنواناً ورسائل خالية إلّا من خيبةِ أطفالي، ودراهم كاذبة، سيقاناً
تلهبُ أغنيتي الدرداء. وأختارُ لموتي معنى، وأضمّخهُ بالطيبِ وأنشرهُ في السرِّ على
أكتافي. وأهاتفُ أنكيدو القابعَ في أعماقي: أنّ
امرأة الغابةِ توقظُ فينا
تفّاحَ الصبواتِ وتقتلُ طلعَ الربّ حذارِ. أشاورُ كلكامش ليلاً لنؤسس مكتبةً لحروفِ
الحقِّ، الحبِّ، وحاءِ الشعراء المنسيين. وأختارُ لموتي مأساةً وأؤسس سيناً أخرى لا
تدخلُ في كلماتِ اليأسِ، السورِ، السجنِ، سلامِ الرعبِ، سقوطِ الأسنان. وأختارُ
لموتي ريحاً وعواصف من قلقٍ وأحاكمه وسط شواطئ
لا يتعرّى فيها غربانُ الكلماتِ المنخورةِ، ألقي القبض عليه وأدفنه في الأرضِ
وأختارُ لموتي موتاً أبهى، أكثر طولاً وشباباً. أختارُ لموتي راقصةً وأكون الطبّال
فهزّي هزّي. أتعبنا
أنَّ
الزمنَ الموحشَ باعَ الريشَ هنا في حاناتِ المنسيين، فهزّي، الناقدُ مشغولٌ بدراهمه
والشاعرُ صارَ مصفّفَ حرفٍ في مطبعةِ السخفِ الكبرى. اشتدّي رقصاً. صرخَ النحويّ
بنا: غلطٌ غلطٌ. فصرخنا بالنحويّ الصارخِ: غلطٌ غلطٌ.
وسكرنا حتّى نمنا في وحلِ الشارعِ، واشتدَّ بنا قلقُ الرئتين، مواجعُ عينين ارتبكتْ
في ظلماتِ الأرضِ. أقمنا مأدبةً لخطايانا، عاشرنا أنفسنا فيها واشتقنا لسريرِ
الحبِّ وتهنا. كانَ اللهُ يراقبُ خيبةَ أخطاءِ الجسدِ الفادحة المعنى. هزّي هزّي.
صرخَ الضائعُ من أقصى الأرض بحرفِ السين فقالَ لنا: قتلتْني سينُ الأسئلةِ
المذعورةِ والخبزِ الحافي والأطفال البردانين، فلا جدوى من كلماتِ النورِ، لغاتِ
المعنى. فاشتاقَ إلى قتلِ الرئةِ الثكلى، قالَ لنا: سأكون التابع والكلب القابع. هل
مِن عظمٍ للضائعِ وسط السين البائع فجر الكلمات بخبزِ المسلولين؟
سقطَ الشعراءُ على سينِ الحرفِ، اختاروا القتلَ على هيئةِ أحجارٍ وانتشروا في
دغلِ الكلمات. اخترتُ عداءَ الضائعِ والحرفَ النائمَ في معجمه. هدّدني. صارَ
الضائعُ يهجوني حتّى
يطفئ
نارَ الغضبِ المسعورِ، فأضحكُ أجتازُ دواليب العثرات. ومن موتي
الأسْوَد أبعثُ كلماتِ الحبِّ لأشجارِ الفقراء يجيءُ الردُّ عنيفاً: لا جدوى!
انتبهي: أختارُ لموتي حرفاً. ليكنْ هذا الحرف الميم. نمزّقه حتّى
يتكوّن ثانيةً من غير دماء يابسةٍ وكلابٍ تسعى. ليكنْ هذا الحرف الواو، انتبهي سخفٌ
لا حدّ له يا سيّدتي! أتعبني دوري، كنتُ الملك العادل وسط الأتباع
الفرحانين المملوء بحكمةِ أجدادي. صرخَ المخرجُ وسط الحفلة: قفْ! هل جدّدتَ إجازةَ
سوقِ السيّارة؟ أتعبني دوري، كنتُ المتأمّل في صفحاتِ الأرضِ، أحلّلُ تاريخاً،
أستجلي أسراراً. صرخَ المخرجُ: قفْ! هل تقدر أنْ تجعل حرفَكَ
يخرج (بالمقلوب)؟ وكنتُ العاشق، سيّدتي الباء لها ثديٌ من عسلٍ وفمٌ من خمرِ
اللذّةِ، لحنِ مسرّاتٍ. صرخَ المخرجُ وسط سرير الحبّ: وهل تقدر أنْ تنبح؟ كنتُ
الطفل فلا جدوى من تهديدي. أشجاري خضرٌ وثماري زاهيةٌ كأغاني الجبلِ الأبيض.
عانقتُ القهقهةَ البيضاءَ فلا جدوى من تهديدي. جاءَ المخرجُ ضيّعَ معنى الأمّ وألقى
القبضَ على أسرار أبي. فأبتهلَ الجسدُ القابعُ فيَّ. وأيقظني المخرجُ من نومي كي
أنظرَ موتي فبكيتُ. انحسرتْ لغتي. أرسلتُ رسائل عاجلة للأنكيدو، الكلكامش. عاطَ
النحويُّ بنا: غلطٌ غلطٌ. ركبَ النحويُّ الضائعَ في الدهليزِ المظلمِ. فانطفأتْ
لغتي. واقتربَ الموتُ حثيثاً من بابِ البيتِ، فأغلقتُ البابَ، تسوّرَ محرابي في
منتصفِ الليلِ وقالَ بأنّي الموت فلا مهرب. أضحكني سخفُ الموتِ، فقلتُ: أنا
أهرب؟ هل يهربُ شيخٌ أعمى من موتِكَ يا هذا المتسوّر محرابي، يا هذا المتسوّر
محراب الله؟
ألف المعنى
أدخلُ اليوم في هيئةِ الحرفِ والحرف روحْ
فرحاً مثل رأسٍ يحدّقُ في المقصلة.
قلتُ للحرفِ: إنّي أسوحُ بأرضِ العذابْ.
قالَ لي: الأرضُ لا تعرفُ الناسَ والناس غرقى..
لهم أعينٌ لا يرون بأحداقها
ولهم لعنةُ الدهرِ مدفونة كلّ يومٍ..
لهم ألسنٌ كأفاعي الهنودْ.
حطَّ قربي الهنودُ قليلاً قليلاً وطاروا..
أفقتُ قليلاً من الليل
وأزحتُ الأفاعي بعيداً بعيداً إلى أوّل الدهر،
فانكشفتُ بفجرِ النخيلِ الطويلِ. تسلّقتُ أعذاقهُ
مثل كفّ تساقطُ أعذاقها إصبعاً إصبعاً
في هدوء.
وانتبهتُ طويلاً: فلا النخل نخل ولا الأرض أرض..
ولا الماء ماء.
حوصرتْ دمعتي حين قتلاي قاموا إليَّ بسيفٍ طويل،
حوصرتْ لغتي ألف دالٍ وياءٍ وباء
صيحة من هباء.
قلتُ للحرفِ: أنتَ الذي يعرفُ النخلَ يمنحهُ
فسحةَ الوقتِ والوقت ريح.
قلتُ للحرفِ: إنّ الأماني كلابٌ هزيلة
والليالي ذيولْ
وأنا فرحٌ مثل رأسٍ سيهوي من المقصلة.
أنثى المعنى
1.
الباءُ لها شكلُ الأنثى،
شكلُ الحلمِ السرّيّ وضوضاء الأمطارْ.
الباءُ فنارْ.
(أخرجُ من شيخوخةِ رأسي
في المرآة،
ألقي القبض على الشاعرِ فيَّ وأجلسه قربي
منتصف الليل، وأدفئه من بردِ شتاءٍ مقرور.)
تدخلُ في دائرةِ الفعلِ الباء.
العشبُ يفيضُ وتحضنُه النخلة.
لا تأتمري يتها النخلة.
القلبُ اليابسُ بين يديك
والجوعُ شديد
والأمطارُ تحاصرُ بيتَ الفقراءْ.
2.
الباءُ جمالٌ وحشيٌّ
الباءُ: الليلُ بلا أحداقٍ ونجوم.
الباءُ: فِراشٌ مكتظٌّ بالمعنى..
( أخرجُ من شيخوخةِ قلبي..
وأحدّقُ في حرفِ الفجرِ وحرفِ اللهْ
فأرى وجهي يتغضّنُ، والكلماتُ الحقّْ
تتوعّدني بالمحذور.)
نشتبكُ اليوم أنا والباءْ
أغصاناً تزهو بالجوعِ،
الأثمارْ
وسط الريح الهوجاءْ.
نتهامسُ بالكلماتِ السودْ:
لا حبّ ولا ذرّة حبّ
جسدٌ يفنى بالدعوةِ للجسدِ الأفعى.
تكتسحُ الأمطارُ الساحةَ والشارع.
3.
الباءُ: البحرُ بعيدٌ: سجّادةُ ألوانٍ غامضةٍ بالطيرْ.
الباءُ: الصحراءُ هنا تمتدُّ مفاجأةً للهاربْ.
لا ليل سوى الليل الأعمى
والفجرُ بعيداً أقعى. الأسْوَدُ سيّدُّ دعوتنا
والأخضرُ واجمْ.
(أخرجُ من شيخوخةِ أدويتي..
كم مِن بحرٍ يفصلنا؟
كم مِن مرآةْ؟
كم مِن سنةٍ ألقتْ فيها القبض على كتفينا؟
كم مِن لغةٍ صمتتْ في منتصفِ الفعلِ الفاعلْ
واحرنجمَ فيها فعلُ الجزمِ، صفاتُ العاشقْ،
وعيونُ القطِّ، جناحُ الباشق؟)
4.
الباءُ دعاء سريّ أسكنتُ مخارجه قلبي
حتّى مات القلبُ بدائرةِ الباءْ.
والباءُ لها شكلُ الماء.
(أُخرِجُ مِن دفترِ عمري سبعَ رسائل مِن أجلكْ
أرسلُها قبل مراسيم الدفن وتحطيم المرآة
للطيرْ،
للفقمةِ، للطفلِ الضائعِ، للقطِّ النائمِ، للأفعى،
للنخلةِ، لل....
أعوي بضعَ دقائق غاضبةٍ وأضيعُ بقبري وسط الأمطار.)
ندخلُ في دائرةِ الفعلِ ودائرةِ القبرْ.
القبرُ نظيفٌ كالحبّ
والحبُ إلهٌ في شكلِ جماجم تتناثرُ في الطين.
5.
الباءُ لها شكلُ الألفِ المذعورْ،
شكلُ التاءِ الممتدّةِ ما بين اللاشيء،
شكلُ الجيمِ المجنونةِ بالجنّة والجنّْ.
ولها هاءُ همومي،
واو وعودي،
حاءُ حنيني،
طاءُ طيوري،
ياءُ دعائي.
الباءُ لها شكلُ الكافِ وأوعية اللام
ولها دائرةُ الميمِ الحمراء ونون الخالقْ.
6.
الباءُ دعاءٌ لا يفهمه أحدٌ غيري..
وأكاذيبي الموزونة: فعلن فعلن.
والباءُ لها شكلُ الأمطارْ
تكتسحُ الدنيا وتكونُ الطوفانْ.
(أخرجُ مِن رعبِ حروفي شيخاً مكتهلاً
ببياضِ الرأسْ
لأفاجَأ بالباءْ.
فأمدُّ يدي لمسدسِ خوفي وأوجهه نحو المرآة،
أطلقهُ بهدوءٍ أعمى
وأموت).
نون المعنى
1.
بائي باءُ الغدرِ ونوني نون المجهولْ.
أتفيّأُ موتي مُنتظراً
حبراً مِن نور.
2.
لا بأس إذا ضحكتْ منّي
صاحبةُ النون وواستني
في غرفتها سرّاً.
لا بأس إذا نزعتْ
سرّتَها وانتبهتْ لعذابِ العرجون.
3.
أقترحُ اليوم لها حُبّاً من طين،
هذي النون المفتونة بالفتنةِ والموتْ،
وأضيءُ لها بحراً مُزدحماً بشموعٍ وأنينْ.
4.
لا بأس فسيدتي أحيتْ في حرفي..
كلَّ عذاباتي الممتدّة مِن حتفي حتّى حتفي.
5.
الكافُ إلهي- فانتبهوا يا موتاي- الراءُ اسمي..
ضاعَ كما ضاعَ البحرُ على سجّادةِ موتي.
والألفُ أنا: مجهولٌ في هيئةِ شاعرْ،
وإلهٌ في هيئةِ مجهولْ.
والباءُ حبيبةُ قلبي ضاعتْ في دائرةِ الحوتْ.
والحاءُ أبي
والعينُ عيون من جدّي. انتبهوا للنونِ تجيءُ من الأقصى.
هل تحرقني النون
أم تتركني أنزفُ في السرِّ على سجّادةِ موتي؟
6.
لا معنى لي إلّا في حرفي.
مرّتْ سنةٌ عاريةٌ من عمري، مرّتْ عشرون.
الحرفُ أنا: متّهمٌ بجنونِ الراءِ، صهيلِ الألف..
بكاءِ الباءِ، ربيعِ الكافِ، نزيفِ الحاءِ، صمودِ العين. انتبهوا
إذ تسرقني النونُ إلى عريي اليوميّ، أضيعُ وأفنى.
انتبهوا رأسي فوق الرمح إلهٌ يبحثُ عن معنى!
راء المعنى
خرجتْ راؤه مِن يقين الحروفْ.
فتنصلّتُ
مِن صهوةِ الخوفِ
وسط الظلامْ
عارياً كالطفولةِ في حلمِها،
كالفراتِ المهاجرِ في لحمه، كالسنين التي تختفي
في رمالِ القبورْ.
وابتسمتُ
كما ينبغي
للذي يُشنَقُ اليوم في حلمه.
وتمنطقتُ بالحاء، والحاء ماءْ،
والطفولةُ عريانةٌ وأنا لحنها: الخربشات.
فاستقمْ أيّها الموت
إنني قادمٌ مثل أرجوحة طيّبةْ،
إنني قادمٌ مثلما خرجتْ راؤه مِن يقين
الحروفْ.
وحروفي
تستبدلُ اليومَ
عنوانَها
في هدوءٍ مجيدْ،
لا تراجع، لا ثرثرةْ.
فاستقمْ يا حنيني الطفوليّ في وردةٍ آملة.
إنّه زمن الراء
تأخذُ الحاءَ في حضنِها
وتقبّلها قُبْلتينْ.
إنّه زمن الباء
تأخذ الراءَ في فجرِها باتجاه المطرْ.
فاستقمْ أيّها السيف، قلتُ: استقمْ
أيّها القوس
إنني أملكُ الراءَ تعويذةً،
أملكُ الباءَ أرجوحةً للنبّوةْ
ويقيناً له خوذة من حديد.
أحتوي طعنةَ الدهرِ: حرّية الحاء
حرّية الراء: حرّيتي كي أموت.
حواريّة المعنى
1.
إذ هبّتْ غاباتُ السيفِ وطوّقت الصحراء،
اقتربَ الحاءُ مِن القافِ، فقالَ القاف:
مرحى للشهداء!
قالَ الحاءُ: أكونُ شهيداً؟
قالَ القاف:
أوّلهم أنتَ وسيّدهم.
لكَ أنْ تتخلّدَ في أزمنتي..
أنْ تدخلَ دهري الأعمى.
2.
بدمي أطهو الكلمات وأُخرِجُ حرفي فرحاً..
لأوزّعه في السرِّ على أطفالي.
لكنّ الخيبة تأسرني في منتصفِ الليل
وتعصّبُ عينيّ وتوقفني قدّام الموت حثيثاً.
فأرى مائدةَ دمائي تزهو في الغيماتْ
والعشب يثرثرُ في أقدامي فجراً من كلماتْ.
3.
لا معنى يولد إلّا مِن موتي.
لا معنى يزهو إلّا في قتلاي.
4.
في حلمي
لمستني كفُّكَ يا جدّي
فبكيتُ رأيتُ الكفّ تشيرُ إلى
حاء الرأسِ المرفوعِ على الرمح.
لكنّي بعد معاشرة الأفعى ومجالسة الذئب..
وجدتُ الحاءَ هنا حاء الرمح
لا حاء الماءْ.
5.
للخيبةِ وقعُ سلاسل، للخيبةِ ترجمةُ رسائل قتلى، للخيبةِ حتّى.
فعلامَ نؤسسُ مسرحَكَ الأرضيّ ونأخذُ بالأبعد والأدنى؟
فعلامَ وجنحكَ يمتدُّ ويمتدُّ وبحرُكَ أكبر مِن دائرةِ الأفعى؟
وعلامَ تلاحقُ موتي وأنا الأعمى؟
6.
وقعتْ سينُ سمائي في سينِ الرأسِ، اهتزَّ دمي.
بانَ عمودُ الصحراءِ عميقاً واقتربتْ منّي ريحُ العرش.
7.
سأكون قريباً مِن إيقاعِكَ يا فجراً
يُحْملُ فوق الرمح.
سأكونُ الراء، أنا الراء
منذ طفولة أمطار المعنى في قلبي.
وأكونُ الألف، أنا الألف
منذ شروق الشمس إلى غيبوبتها المرّةِ وسط الأمطار.
سأكونُ السين، أنا السين
منذ مجيء الهدهد مِن سبأ الناس.
قبور المعنى
غابةُ أنثى تتقاطعُ في موسيقى غامضةٍ، تتسربلُ بالألوانْ
حتّى أيقنتُ بأنَّ الماءَ له شيء مِن شكلي..
وبأنّي أتلاشى قرب زجاج الغابة ذئباً
يبحثُ عن أنثاهْ،
وبأنّي الليل. فماذا يحدث؟
الغابةُ تلعبُ، واللعبُ هنا فظٌّ كالسكّينِ وقاسٍ..
والأصبعُ ترفعُ شيئاً،
والضحكاتُ تمزّقُ غيمَ الغرفةِ مِن شفةٍ حتّى أخرى.
الأنثى ترفضُ، والأنثى قرب الأنثى، لا شيء سوى الأنثى.
أولمْ لي شيئاً
يا زمن الأنثى.
أوَ تعبثُ بالغابةِ قربي وأنا أتمزّقُ أزمنةً من رغبات؟
لا تصرخْ، لا تطعنْ، فأنا مرميّ في ماضي الماضي.
الغابة ترفضُ، تغضبُ، تخفي ضحكتَها
الألوانُ تسيلُ: الأخضرُ في حضنِ الأحمرِ، والأزرقُ بلّورْ،
والأصفرُ يشهرُ ألوان عذابي
كي أخرجَ طفلاً في عاشرتي..
وحشاً في العشرين، وكهفاً في السبعينْ.
الغابةُ تلعبُ. انظرْ، حدّقْ، لا شيء سوى التحديق الأعمى!
الغابةُ تنضو شيئاً، تتسربلُ بالفتنةِ، تنمو، تتجلّى.
الغابةُ أيامٌ غامضةٌ تتكّسرُ ليلاً
لغةً عارمةً بالدعوةِ للبحرِ. الأنثى تضحكُ قرب البحرْ.
تكشفُ شيئاً هذي الأصبعْ.
يبكي في أحشائي شيخٌ مزّقه سيلُ الألوانِ الجارف،
رجلٌ عذبّه جسدُ الأنثى يغفو سنوات
ويفيق على سدّ مِن لذات،
طفلٌ أتعبَه الليلُ وأورقَه فجرَ طيور.
الغابةُ أنثى مِن نور.
الغابةُ تلعبُ. انظرْ حدّقْ أنفقْ عمرَك..
لا شيء سوى التحديق الفاسق!
الغابةُ ملهاةٌ والشيخُ مضى للقبر.
الأنثى شبعتْ مِن لعبتها..
لبستْ ثوباً أسْوَد يسترُ عري الجسد البضّْ.
والطفلُ بكى، منتصف الليل بكى.
وأنا أحملُ تابوتَ الشيخِ بألوانِ الأنثى، ببكاء الطفلْ،
أمضي لقبورِ الماءْ.
صراخ المعنى
أصرخُ في أزمنتي:
مِن يومٍ حتّى يومٍ، مِن سنةٍ حتّى أخرى،
أبكي، أتدثرُ بالصمتِ المُرعبِ، أغفو
وأقومُ وأدعو وأصومُ، أناشدُ بابَ المعنى
بكلامِ اللامعنى
مهزوماً مخذولاً
مطعوناً في السرّ، ومُنتصراً في العلنِ المُعَلن!
دال المعنى
أقفرَ مِن هيئتهِ حرفي، ناشدني في موعدِ طينٍ مجنونٍ أنْ ألقاكِ، فمَن
أنتِ؟ سيسألني الحرفُ هنا عن مغزى أسئلةٍ مِن هذا النوع فأضحكُ منه قليلاً. مَن
أنتِ؟ خرافاتي أم خيباتي؟ صَبواتي أم لعَناتي؟ زيفي المُعْلَن في الشارعِ أم تاريخ
زبرجد أجدادي المحمولين على رمحِ المعنى؟ سأكون صريحاً: أخفي قلقي في مفتتحِ المنفى
وأناور في تحديدِ العنوانِ لأكسبَ وقتاً يخفي خيباتي لكنّي أقفرتُ من المعنى،
وزّعتُ ثيابي للفقراء، خرجتُ إلى الشارع عرياناً أبحثُ عنكِ فصاحَ الأطفالُ
عليَّ. افرنقعت الساعاتُ. اشتدَّ رمادي واشتعلَ الرأسُ جنوناً. أختارُ حديثاً أعمى
فأجيبُ على مهزلتي: أنتِ أنا، وإذن، مَن أنتِ؟ أنيرُ ظلامي: مِن أجلكِ حاربتُ دمي
يا نزوتي الكبرى. أعلنتُ الموتَ على تاريخٍ أسْوَد. قمتُ أهشُّ على كلماتي كي أحيا
فخرجتُ إلى مدنٍ من طينٍ وخرافات. قبّلتُ امرأةً مِن حرفِ الباءِ، رسمتُ لها طيراً.
ضحكتْ، فأتى الطيرُ إليها حلّقَ فوق الماء قليلاً. ورسمتُ لها البحرَ عميقاً.
ضحكتْ، وضعتْ في هيئته سفناً. ورسمتُ لها موتاً. ضحكتْ، صارَ الفجرُ نخيلاً. فدخلتُ
إليها فيها معها، فافرنقع صوتُ دمي واشتعلَ الماءُ وصاحَ الطيرُ وطارَ الحرفُ.
اشتدّتْ شمسي، ماءَ غلامي وعوى قلبي. فبكتْ امرأةُ القلبِ وقالتْ: (اهدأْ إنّكَ
مجنونٌ بالحُبِّ اهدأْ). فرفضتُ وصاياها واشتدَّ خطابي هلعاً وبعدتُ كثيراً. فاحتار
زماني فيَّ وألقاني في الطين ولم يسمعْ منّي شيئاً. اختطفُ اليومَ دموعي
وأصدّرها حرفاً أبيضَ مِن قلقِ الطيرِ وموتِ البحرِ، بقايا الرملِ وفحمِ الجمرِ.
أناشدُ نفْسي: مَن أنتِ؟ ولكنّي في رحمِ الأنثى بايعتُ حروفاً أخرى غير
الحاء، الباء. وبايعتُ الدال فمتُّ ومرّتْ أزمنةٌ مِن أسباخٍ ودموعٍ، أزمنةٌ مِن
عارٍ ونباحٍ. فارَ الحرفُ كما التنـّور فخفتُ على نفْسي وصرختُ بقيعانكِ:
مَن؟ مِنّي أم مِن غيري؟ موتي أم فجري؟ ضحكي أم نزواتي؟ مَن أنتِ؟ اشتدّتْ أزمةُ
حرفي، أقفرَ مِن هيئتهِ، طار إليكِ قليلاً وبكى: أنتِ الدال فمَن يغنيني عن خيبةِ
حبّي فيكِ؟ ومَن أنتِ؟ أحاقـدةٌ أم ساحرةٌ؟ طبّالٌ أم راقصةٌ؟ مدنٌ مِن صخرٍ وعذابٍ
أم بيتٌ مِن دفء ومرايا؟ ما أفعلُ إذ ألقاكِ؟ أأطلقُ ناراً أم أطلقُ طيراً؟ ألقي
القبض على نفْسي أم أهدأ خوف جنون يأخذنـي للأسباخِ، القملِ؟ ومَن أنتِ؟ أدالِ
الدار، الدرّة أم دال الدلّةِ والدود؟ أكونُ صريحاً يا خيبتي الكبرى: متّهمٌ قلبي
بالزيفِ وأغصاني بالوحشة، فاكهتي. أنتِ الحرف عميقاً كالأسْوَد يأتي. والربُّ
يُهيّئُ مائدتي. الأخضرُ يرحمني. جدّي يلقاني في الرملِ يربّتُ فوق الموت الجاثم في
قلبي. أهتزُّ قليلاً فأفيقُ من الحمّى والموتِ وأهبطُ مِن نارٍ صاخبةٍ مُعتذراً عن
جفوةِ ليلٍ من صخرٍ ونباحٍ، مِن رملٍ وأمومةِ قشٍّ، وأقبّلُ كفّكِ، أبكي كالأرملةِ
الثكلى، أهبطُ مِن نارٍ صاخبةٍ، بهدوءٍ أعمى أسألُ: مَن أنت؟
باء المعنى
باءُ البعد.
باءُ البابِ ولا باب هنا إلّا بابك.
باءُ الحزنِ
عميق كالبئر.
باءُ الراءِ ولا برّ
بل بحر يجترُّ عميقاً قلبي،
يأكله كالذئبِ فأبكي،
باءُ الرغبةِ في فجرٍ يتجلّى.
أسقطُ مِن موتي كي ألقاكِ فأفنى..
أعلنتُ براءةَ قلبي مِن تُهمةِ قتلي..
وتنصلّتُ وكانتْ أغنيتي تتجلّى بدمائي وسعادةِ قتلي..
الباءُ رضابٌ وفمٌ مِن عسلٍ وفراتٌ ينطقُ سرّاً..
والباءُ خرافاتي: أدعو أنْ تأتي بغرائب سحري..
فتجيءُ مِن النافذةِ القصوى
فأعلّمها أنْ تسكن بيتاً مِن فعلن فعلن،
أنْ تتهجّى حرفاً مِن رملٍ ورمادٍ، أنْ تتركني
لأقول الميم فيسخر كلكامش.
لأقول العين فتسقط عيني..
لأقول النون فيسكت أنكيدو..
الباءُ دعاءٌ يقتلني.
الباءُ أكاذيب ودموع، والباءُ رجوع.
فمتى؟ أين؟ متى؟ يأخذني الدمعُ قويّاً: أين؟ متى؟..
ألموعد حبٍّ ضاعَ ليومٍ، يومينْ،
سنة، سنتينْ،
دهر، دهرينْ؟
فانتبهي يا لغة الطين: الكلُّ أتى وأنا وحدي..
أين؟ متى؟ قُومِي من حفرةِ قبري..
قُومِي: كيفَ أكونُ سعيداً وأنا في سجنكِ ليل نهار؟
الباءُ رجوعٌ: أحملُ مبخرةَ الروحِ إليكِ وأجلو
صفحةَ روحي مِن إثمِ الهجران.
أين تكونين اليوم:
في باءِ القُبْلةِ قربَ حروف الذهب الأعلى
أم في باءِ خرابي حيث الموت له عينان؟
أين تكونين اليوم؟
عذّبني جسدي بالنارِ. فقامتْ أعضائي مِن غفوتها..
قصّتْ رأسي كالعشبِ وألقتهُ بعيداً في المرآةْ.
البابُ خرابٌ: هل يسمعُ صوتُكِ صوتي؟
أم إني سكران يصرخُ فوقَ السطح حتّى يحتجّ الجيرانْ؟
الباءُ سكاكين تقتلني في منتصفِ الليل فأنهضُ مستتراً
ألبسُ خرقةَ أجدادي. مَن يأخذُ بيدي؟ أصرخُ: مَن؟
كلكامش يضحكُ. أنكيدو يهذي.
كلكامش يجلسُ في قاعاتِ العرشْ.
أنكيدو يغفو حتّى ساعة إعداد الساعة طفلاً ونبيّاً مجنوناً.
أصرخُ: مَن؟ وأنا أعلنُ عن موتي في حفلٍ رسميّ
وأوزّعُ في السرّ بطاقاتِ المدعوّينْ،
فأرى كلكامش يسألُ كالأعمى عن معنى الباءْ،
أنكيدو يبكي بدموعٍ مِن طين.
نسيان المعنى
1.
وسألتُ الجمرةَ: ما النسيانْ؟
قالتْ: ريحٌ سوداءْ.
وسألتُ الجبلَ فقالَ: الدمْ.
وسألتُ الصحراءَ فقالتْ: هوذا التيه.
وسألتُ الفجرَ فقالَ: النومْ.
فكتبتُ قصائد مِن نومٍ ودمٍ، تيهٍ، ريحٍ سوداءْ
حتّى أنساكِ بسينِ النسيان.
لكنّي لم أصل النونَ ولم أصل السينَ القاسيةَ العينين ولا ياءَ اليّم.
وكتبتُ قصائد مِن فجرٍ وجبالٍ، جمرٍ ورمال
حتّى أنساكِ بياء النسيان.
لكنّي عدتُ بثلجِ الجبلِ، عناءِ الجمرةِ، لحمِ الفجرِ وسروالِ الصحراءْ.
2.
يا نون
يا سين القسوة، ياء اليّم.
* قالَ الأوّلُ: يسألُ أحدٌ عن معنى النسيان؟ لماذا؟
* قالَ الثاني: عبثٌ عبثٌ.
* قالَ الثالثُ: هي ذي الكأس.
* قالَ الرابعُ: كنْ فيكون.
* قالَ الخامسُ: معناه الدهرْ.
3.
- ضعتُ طويلاً كغرابِ الطوفان.
- ألقيتُ القبضَ على أسئلتي كاللصّ.
- وشربتُ الخمرةَ حتّى (تعتعني) الكأس، ارتجفتْ أعضائي..
ماتتْ في قلبي الصبواتْ.
- ومضيتُ أجرُّ عذاباتي نحو القبُب الخضر.
- لكنْ طوّقني الدهرُ وصاحَ بقلبي: اتبعني..
حتّى تعرف سرّي، سرّ النسيان.
فمضيتُ لنقطف أوراقاً يخفيها في البئر.
مرّتْ عشرةُ أيامٍ وشهور وسنينْ.
لم نصل السينْ.
وبقيتِ أمَامي جسداً حيّاً يتبعني
في موتي، يكتبُ سفسطتي وعنائي..
ويناقش دولابَ الفجرِ، سريرَ اللذّةِ، بابَ المعنى قربَ فراشي..
ويرّبتُ فوق الكتفينْ،
يهمسُ لي بالغامضِ مِن حرفِ السينْ
ويمزّقُ ثوبَ مسرّاتي
ويهشّمُ كلماتِ الحُبّ، يصادرُ قدّاحَ طفولةِ قلبي..
وبقيتِ أمَامي جسداً حيّاً يتبعني في موتي، يهزأُ منّي،
يشتمني ويقدّمُ لي، في طبق ٍمن ذهبٍ، فاكهةَ الموت.
مخاطبة المعنى
مَن أنت؟
وعلامَ أخاطبُكَ، اللحظة، مجنوناً؟
صورة المعنى
سقطَ الساحرُ في كأسي..
فبكيتُ على نفْسي.
طيران المعنى
وأصيّرُ خوفي حرفاً ورمادي حرفاً
وأنيني حرفاً، أركبُها وأطيرُ إلى الموت.
إله المعنى
دعْ لي الباءَ ولا تأخذْها
فلعلّي ألقى نقطتَها
ذاتَ صباحٍ أو ذاتَ مساءْ.
فأقومُ مِن القبرِ إلهاً أبعثُ في جسدي الروحْ!
ارتباك المعنى
مرتبكاً مذعوراً
كانَ
المعنى قدّامي وورائي
يبحثُ عن معنى
لطلاسمي العظمى!
مأساة المعنى
خرجَ الحطَّابُ إلى الغابةْ،
سرقَ الناسَ وروّعَ أطفالَ الأمراء.
فأتى الفهد
وأتى النمر
واشتاقَ الثعلبُ للثاءِ... أخيراً:
هبطَ الأسدُ الغاضبُ من نفّاثتهِ العملاقةْ.
لحظتها، هربَ الحطَّاب.
طارَ الناسُ إلى خيبتهم.
ضحكَ الأطفالُ كثيراً منّي إذ مُزّقتُ كثوبٍ مُتهرّئْ،
قُطّعتُ كما شاءَ الحظّ
وارتفعَ الرأسُ إلى موكبهِ... فوقَ الماء!
خيانة المعنى
حاصرني المعنى باللامعنى..
أجلسني في تاءِ الموتِ قليلاً..
أجلسني في نونِ الحزنِ وقالَ النونُ عيونْ.
أطفأَ
نوري مرتبكاً، قالَ بأنّ العين
سقطتْ في نكدِ الدنيا..
فهلمّ الساعة نخرجُ، نخفي موتاً من نورْ.
فخرجنا في الظلمةِ. أعطاني المعنى سيفاً..
قالَ: اقطعْ رأسكْ!
ففعلتْ!
وضعَ المعنى الرأسَ على الرمح
ومضى يحملهُ في الطرقاتْ
وسط صهيل الناس!
إيقاع المعنى
عبثاً أخلقُ إيقاعاً باركني تفّاحُكِ فيه خليلاً..
أقلقني أجّاصُكِ، أحرقني رمّانُكِ بالنار.
حين رأيتُكِ كانتْ غرفةُ حبّكِ خضراءْ
والنورُ يجيءُ مِن النافذةِ القصوى أخضرَ كالشمس
ومسرّاتي تخضرُّ طيوراً مِن ماء.
وامتدّ الجسدان بنا، أخذانا للّامعنى،
غمرانا في إيقاعِ الحاءْ،
تركانا نُذْبَحُ، نُؤسَرُ، نُقتَلُ مِن فرطِ اللذّةْ.
فتساءلتُ كدرويشٍ أعمى عن معنى المعنى
وتساءلتُ كطفلٍ عن معنى الماءْ!
رومانسيّة المعنى
يا فاءَ فراغي، يا راءَ رعودي وطفولةَ برقي، يا سرَّ لذائذي القصوى، يا غيماً
يتجلّى حرفاً يعشقُ ثوبَ أميرتي الطفلة في وقتِ البهجةِ. يمنحُها باقاتِ الورد
البرّيّ. يُقبّلُها بنثيثِ الأمطارِ البيضاء، ويأخذُها للأرجوحةِ واسعةً بحدائق مِن
أخضر ما يمكن في كأسٍ مِن ضوءٍ لا يفنى. يأخذها للريحِ ويجلدُ، مِن أجلِ إشارتها،
الدهرَ الجبارَ. ويرسمُ لوحتَها غامضةً بخيوطِ الوحشةِ والزرقةِ، فجرِ الشفتين.
ويخلطُ أقواسَ الحبّ بثوبِ مسرّتها، يشعلُ نهديها كي يخطفَها للأعلى ويحلّق مذهولاً
ثملاً وشديد المعنى. أنتِ معي، كفّكِ كفّي، عيناكِ بعيني والليلُ يموء ويفتحُ عينيه
بعيداً نحو الأقصى. يا لطفولة أعضائي ونعومة أغنيتي حدّ دخول المعنى في اللامعنى،
يا وصل لذائذي القصوى: يا لمسرّاتي. يا لعواصف تترى. انقلبتْ فينا الأرجوحةُ سرّاً
وسقطنا في الأسْوَد والأحمرِ، في الموتِ المرِّ فضائح كاملةً وجراراً كُسِرتْ في
عيدِ الحرمانِ ومقتلِ شمسِ طفولتي الكبرى. لم تأخذنا الأرضُ إليها. لم تحملنا
الريحُ وكفّكِ ضاعتْ في البحرِ وكفّي. وسقطنا في العتمةِ وسط فراغ الفاءِ،
غباء الراءِ وألف القسوةِ، غين الغفلةِ. ألقانا الهجرانُ بعيداً. ضعنا طفلين يتيمين
بسوقِ ثعالب غاضبة فارتجفتْ دمعتُنا في الليلِ الفاضحِ حتّى ظهرتْ في جسدينا
كلماتُ الموتِ فمتنا.
شمس المعنى
سينُ الساعةِ تسعى حتّى اهتزّت خطوتُها. زلزلت الريحُ على بابي مطراً وحشيّاً أقعى.
قلبي كالشحّاذِ سيفنى. وعلى بابِ الشمسِ أشمُّ دمي وطيوري ومواقعَ أحفادي المستترين
بنورِ الحاءِ ونورِ الباءِ إلى حرفٍ من ذهبٍ يفنى الدهرُ ويبقى. وعلى
بابِ الشمسِ أبيعُ ثيابي مُبتهجاً وثيابَ الطفلِ النائمِ في أعضائي. أمضي
مُستتراً يتبعني المعنى.
زمن المعنى
زمنٌ منكِ يجيءُ ويولعُ شمساً أخرى في ليلي، يولعُ أقماراً تتجلّى في أرضٍ
سوداء بفجري. زمنٌ منكِ يخاطبُ بستانيّاً ينبتُ أشجاراً من سمٍّ في مقبرتي. زمنٌ
منكِ يجولُ بعيداً أبعد مما أتصوّرُ وقريباً حتّى أبكي، يخفي هاءَ هداياه الغامضة
الشفتين ويخفي سينَ السرّ بعينيه الضيّقتين ويصبح حارسَ مقبرة يرغب ألّا يوقعني
الزلزال بطوفانِ الشمسِ فلا جدوى. زمنٌ منكِ تحوّلَ في خطواتِ الفجرِ إلى جلّادٍ،
وتحوّلَ في خطواتِ الظهرِ إلى قاضٍ، وتحوّلَ في العصرِ إلى مجنونٍ، وتحوّلَ في
خطواتِ الليلِ إلى أفعى. زمنٌ يمطرني بحروفِ الحاء معذّبةً بالأسْوَد
مِن قلقي ومضمّخةً بدمي، يمطرني بحروف الراء معذّبةً بالأصفر، يمطرني بعذابِ رحيلِ
الأجدادِ إلى المنفى، يترمّدُ في حاضري الأبيض، يولعُ مستقبلَ مَن لا يجلو
لغةً كي يسكت عن حرفٍ مكتوبٍ، فأراهُ يضيءُ، يضيءُ، ويعصفُ، يعصفُ لكنْ
لا يخبو أبداً. زمنٌ سرقَ الأثمارَ، السحرَ، النارَ فأمستْ أثماراً فاسدةً، سحراً
مِن دونِ نساء أسطوريّاتٍ، ناراً لا تعلنُ شيئاً. ولذا أوصاني ألّا أرثي خيبته وسط
ظلامي، أوصاني ألّا أرثي أحداً. زمنٌ كالقاربِ يسقطُ مِن أعلى الشلالِ،
ويمضي مِن يومٍ حتّى يومٍ، مِن سنةٍ حتّى سنةٍ، مِن قرنٍ حتّى قرنٍ.
يتجلّى بوذيّاً في الأدنى، صوفيّاً في الأعلى، ملكاً في المعنى،
رأساً يُحْمَلُ فوقَ الرمح إلى أقصى الأقصى.
نَصّ المعنى
جئتِ لمسرحِ قلبي بشموعٍ مِن طينٍ وأصابع غامضة الشفتين، ثيابٍ من ذهبٍ
عارٍ. وصعدتِ إلى أقصى المنفى بخطى غامضة ودخلتِ إلى مأثرةِ الفعلِ القصوى. كانَ
المعنى يرقصُ مدهوشاً مِن عُري الحرفِ وعُري الجسد ِالطالع منكِ فقمتِ إلى
أحرفه بنجومٍ مِن جمرٍ وسيوفٍ مِن نارٍ. حاصرتِ خطاه بقاعِ المسرحِ حتّى ضحك
المعنى. إذ ما شاهدَ مِن أسْوَدكِ الساطع إلّا عُرياً مِن فرحٍ وسماءً
مُلِئتْ بالقطنِ الناصعِ، أرضاً باركها نهرُ الأجداد فأضحتْ في هذه الساعة رملاً
يعصفُ عصفاً. أحرقتِ المشهدَ حتّى أُفْسِدَ نـَصّي وعلا نَصُّكِ. ضاعتْ ألوانُ
القُبْلةِ، ضاعتْ أحداقُ اللوحةِ. فهوى الأبيضُ في هدأته والأزرقُ في بهجته
والأصفرُ في لعنته ليقوم الأخضرُ يركب غامضَ أسرار فضحتْ زيفاً، ويقومُ الأحمرُ
يغتالُ المركبَ، والأسْوَدُ يقنطُ أرملةً ثكلى. وتغيّر حرفُ النَصّ إلى حلمٍ لا
يحوي الساعة شيئاً. إذْ كانَ يغنّي عن حُبٍّ فإذا ينطقُ عن حجرٍ، يصفُ الطيرَ
يحلّقُ في الأقصى فإذا يصفُ الموتَ يحلّقُ في الأرضِ. فأسألُ سيّدةً تهوى فنَّ
التمثيلِ وفنّ الحبّ الأسْوَد، أسألُ، ودمي يهذي: كيفَ يكون المعنى عبثاً يا سيدةً
قتلتْ نوناً تبحثُ عن صادِ المعنى؟
أغنية المعنى
أغنيةٌ مِن لحنِ دمي تتحدّثُ عن فاكهةٍ من طينٍ وحبورٍ وطفولاتٍ مِن فجرِ حليبٍ
أبيض، عن أحجارٍ تومئُ بالشرِّ وتغوي، عن أفخاذٍ تعوي. أغنيةٌ يرسمُها فلاحٌ يزرعُ
أشجارَ الظلمةِ وسط الأمطارِ وزلزلةِ الماءِ، ويرسمُها طفلٌ يغرقُ في النهرِ
عميقاً. أغنيةٌ تفرحُ كالسكّينِ
وتبكي كالسكّين.
بيت المعنى
للمعنى بيتٌ خَرِبٌ. للمعنى باب أدخلهُ، بهدوءٍ أسطوريّ،
أخرجُ مِن بين ثيابي سكّيناً غامضةً وأفتشُ عن لحمِ عذابي وأقطّعه بحروفي
المرّة وسط هدوءٍ أعمى، لأدندن في كأسي: للمعنى بيتٌ، سكينٌ، لحمٌ ألِقٌ.
للمعنى قمرٌ، موتٌ. للمعنى أعداء شرسون، وللمعنى ربٌّ وملائكةٌ ونجوم.
عري المعنى
يا لحظةَ رُمّاني، يا صرخةَ تفّاحي، يا موعدي الأقصى، يا رعدةَ كأسي، يا
قهوةَ ليلي، أولمتُ لأعضائي فاكهةَ الفجرِ فجاءَ الموتُ سريعاً وانقلب المعنى في
فنجان لغاتي. أصرخُ: لا جدوى. أشحذُ مِن زمنٍ قاسٍ حرفَ مسرّاتٍ، قطرةَ ماء، دمعةَ
طيرٍ وبكاء نخيل أعمى. أصرخ: لا جدوى. والموتُ على بابي في هيئةِ بحرٍ أسْوَد مخضرّ
العينين ومصفرّ البصماتِ لذيذاً يتبعني في خطوةِ رملي وترابي حتّى أحتدّ
بروحي جسداً يفنى. كفّي تحملُ تابوتي وأنا مِيتٌ وابني في الطرفِ الثاني مِن
تابوتِ الليلِ يساعدُها في نقلِ الجسدِ الفاني. أُنْقَلُ حتّى جدّي، أخطو في الرملِ
الأحمر، يلقاني أصرخُ: لا جدوى. لم أشربْ ماءً، لم أرَ سنبلةً تخفي قلبي لحظتها. يا
لبوةَ أفكاري، يا ريحَ نهاراتي، يا كهفَ خطاي وميسمي الناهض، يا سرّ الأفعى:
أخلقُ ما شئتُ مِن الحرفِ، أمزّقُ نوناً أو كافاً، ألفاً، راءً، سيناً أو دالاً، لا
جدوى. الشِعْرُ يغنّي في فرحٍ أسطوريّ خيبتَه ويقومُ يقبّلُ دمعي كي نقتل شيئاً
يدعى المعنى. الشِعْرُ يغنّي في فرحٍ أسطوريّ لعنته ويقومُ يقبّلُ كفّي كي
أقتله سراً، يذبحني علناً في المنفى. الشِعْرُ رداءٌ لا يُجْدي. وأنا عارٍ من كلّ
مواعيد عذاباتِ الحبِّ، وعارٍ مِن خطواتي، عارٍ حتّى مِن عنوانكِ، عارٍ مِن
فضّتي القصوى، عارٍ مِن كوّةِ موتٍ غاضبةٍ تلغي ما شئتُ وتعلنُ في خطٍّ أكبر من
كلِّ كواكب هذي الأرض بأنْ لا جدوى. فيقبّلني جدّي في دعةٍ. يهبطُ فجرٌ في قلبي،
وأنامُ بوسطِ الرملِ كذكرى إنسان عاشَ فقيراً مُستتراً في صحراء كُبرى.
ماضي المعنى
جاءَ الماضي في الفجرِ الأبيض مرتدياً قبّعةً مُغبّرةْ
ورداءً أسْوَد..
جاءَ الماضي لشوارع يعرفها
مثل امرأة تعرفُ هدهدَها
ومكاناً منحتْ فيه بلابلها للقتلْ.
2.
الماضي خلف الباب. فهل؟
لكنْ مَن يضمن أنْ أبقى سهلاً كالسُلّمْ
إذ يحضرُ طفلٌ مبتهجٌ بالموتِ وبالنسيانْ؟
3.
الماضي خلفَ البابْ.
وأنا منذ دهور أرِقٌ كالساعاتِ المعطوبةِ. لكنَّ الماضي
لا يجرؤ أنْ يدخل. وأنا لا أجرؤ أنْ أفتحَ باباً
لضيوفٍ لا أعرفهم!
4.
جلسَ الماضي خلفَ الباب.
أكلَ الماضي خلفَ الباب ونامَ، استيقظ
عند الفجر وفكّرَ باللاشيء طويلاً
وتزوّجَ، مارسَ عادته الزرقاءْ.
5.
خلفي الباب وقدّامي البابْ.
خلفي المعنى، قدّامي المعنى.
6.
مِن ثقبِ البابِ أراهُ يقومُ مِن الموت.
ويروحُ، يجيءُ، يروحُ، يجيءُ ويهذي..
أُلقي القبضَ على نفْسي!
7.
مَن يفتحُ ميمَ الماضي؟..
مَن يفتحُ راءَ الرغباتِ وشينَ الشمسِ المبقورةْ
والقمرَ المقطوعِ الرأسِ؟ ومَن
يفتحُ سينَ سريرِ اللذّةِ، ميمَ الدم؟
مَن يفتحُ ميمَ الدم؟
8.
في فجرٍ أبيض كالسكّين
شاهدتُ القبعة َالمغبّرةَ والثوبَ الأسْوَد.
فتذكّرتُ بأنّي منذ دهور لا تُحصى وأنا خلف الباب
أرِقٌ كالساعاتِ المعطوبةِ. أمسكُ في كفّي الماضي،
أطعنهُ بالسكّينِ وأخنقهُ مُبتهجاً بنسيمِ الموت،
مُبتهجاً كشعاعِ الشمس،
مُبتهجاً بأنيني،
مُبتهجاً بسوادِ دمي.
ضحك المعنى
1.
لا جدوى..
هربتْ سيّدةُ الجسدِ الطافحِ بالحُبْ
نحو البحر العاري بفحيحِ الأجسادِ، أنينِ الرغباتْ،
نحو المدن الموءودة باللامعنى..
نحو القتل الأسْوَد، نحو النسيان.
هربتْ دون شموسٍ، قمرٍ، ندمٍ، ذكرى.
2.
لا جدوى..
هربتْ سيّدةُ الجسدِ الطافح باللذّات.
الليلة ألبسُ سروالَ الصحراءْ،
ألقي القبضَ على أعضائي
وأحاكمها بدعاوى سينِ الفسقِ وهاء الهجرانِ إلى أقصى تاء اللذّات.
أعلنُ عن خلْقِ قصائد تفضحني كاللص.
أعلنُ عن موتي مقتولاً منتصف الليلْ
برصاصةِ قنّاصٍ. وأسارعُ في إرسالِ مراثٍ ساخرة منّي،
وقت هياج الشمسِ إلى نفْسي..
فليسقط جسدي: جسد الصعلوك!
وليسقط رأسي: رأس الملك المجنون!
كاف المعنى
قالَ الأخضرُ حين تقبّلَ موتي اليوميّ..
وحرماني الأزليّ ومقتلَ شمس طفولتي الذهبيّة..
خذْ مِن كافي حائي، خذْ منها قافي.
خذْها ينبوعاً يشفي صحراءَ لغاتك:
يشفي تأتأةَ الروح
وسط البلهاء وثأثأةَ الروح
وسط الغرباء وشقشقةَ الروح
بين لصوص الليل، لصوص الماءْ.
خذْها كالبحرِ قدوماً، كالعرشِ قواماً،
كوميضِ الجنِّ جنوناً وجواباً.
خذْها ناراً تفضحُ فيها سبأ الناس.
خذْ كافي سينَ سلامٍ، راءَ رعودٍ، باءَ بهاءٍ، نونَ قيامٍ..
ياءَ لغاتٍ، تاءَ تخوتٍ، واوَ وعودٍ، دالَ دوالٍ، لامَ لُمى،
مِن تحتِ الماءِ أتى
أخضرَ يهبطُ في قلبِ العاشقِ ياقوتاً أحمر،
في قلبِ الولهان نبوءةْ.
أخضرَ يهبطُ في قلبِ القطبِ طفولة،
في قلبِ الطفلِ شموسَ أمومة.
فافرحْ يا مَن تسمعني في السرّ..
وتنكر أنّكَ تسمعني خوف السينْ.
سأناديكَ بأسمائي: الأخضر ينبوعي
أتجلّى فيه ولا يتجلّى في أعضائي..
الأسْوَد طيري، الأبيض فجري، الأحمر فلسفتي وعيون طغاتي..
خذْها مُعجزةً منّي: الحرفُ يناديك.
الحرفُ يجوسُ بحِيرتِكَ الصفراءْ.
الحرفُ عناءْ.
أعطيكَ الكافَ فلا تسألْني عن شيء أبداً.
ادخلْ في الكافِ وكلّمْها ما شئت..
فإنْ شئتَ الكاف إليكَ تكون دليلاً
لتقودكَ نحو الأخضر: نحْوي يا أعمى.
نحْوي فالكافُ تجلّتْ وبدتْ ثاقبةَ المعنى،
نحْوي والشمسُ بكفّكَ تعرى وتذوبُ فلا منأى.
وصول المعنى
ووصلتُ إليك أخيراً يا معناي، تعرّفتُ إلى أشكالكِ ذات
الوقعِ اللغزيّ: مربّع أطيافكِ، خطّ الحسراتِ الممتدّ إلى دائرةِ المنفى،
ومثلث رغبتك الحيّ كما الأفعى، ومعين الضحكِ الأعمى، وزوايا فجركِ، ليلكِ، نومكِ
وقت صراخ الشمس. تعرّفتُ
إلى أشجاركِ: أشجار الجوعِ، الموتِ، الغضبِ الأسْوَد حتّى أمسكتُ بأنهاركِ مُستتراً
مِن عُريي الأزليّ: فرات الأطفالِ يطيرُ بعيداً عنّي، أغرقُ فيه، أضيعُ وأجلو
عن لغتي ألماً يعصرها، قيظاً يوقدها. تنمو، أتباركُ فيها، أدخلُها فتنامُ
بساقٍ غامضةٍ نحو الأعلى فأدوخُ وأبكي. يهبطُ فجرٌ مِن قلبي وأدندنُ: جاءَ الطيرُ
أخيراً مِن منفاه إلى كفّي، استتري فيَّ ولا تنهمري. صاحَ فراتُ الأجدادِ
المكتهلين بموتِ اللامعنى: انتبهِ اليومَ لسرِّ الحرفِ
بموضعِها وتموضعْ فيها واثمرْ فالعمرُ حديثٌ خَرِفٌ يهذي. يهبطُ فجرٌ مِن
قلبي. أهبطُ حتّى الشارع، في بيتِ القُبلاتِ الثكلى أودعُ معناي وأصعدُ حتّى دجلة
ذات الجسد العذب الشفتين فلا تعطيني إلا ما تعطي سيّدة
للبعلِ، فماذا أفعل؟ دوّخها مَن يملكُ ساريةَ الإسمنت وسارية الدينار فلا تخفي وجعَ
الضائعِ مثلي. أمسكتُ بأنهاركِ مُستتراً فرأيتُ بعيداً أبعد منكِ وأقرب منّي
نهراً أسْوَد يصفرُّ عليه الناسُ مِن الخوفِ طويلاً، نهراً أبيض يسودُّ عليه الناسُ
مِن الصحراء، ونهراً عذباً شاهدتكِ فيه نائمةً منتصف الليل تئنّين إلى
المعنى. ووصلتُ إليكِ أخيراً وعبرتُ خليجَ الزمنِ الفاسدِ، أمسكتُ بمستنقعِ
أفعالٍ يخفيها في لكنته، أمسكتُ الفعلَ الحاضرَ، حاورتُ السينَ
بكتْ والراءَ احتدمتْ. ودخلتُ بأقواسٍ يخفيها في خيمته. ودخلتُ الفعلَ الماضي أركبُ
صيحاتي وذنوبي فانهارَ المستقبلُ قدّامي وتقزّمَ حتّى أضحى شمساً مِن أطفالٍ
فعرفتُ الحقَّ بعينيه الضيّقتين. إذن:
ألقيتُ القبضَ على الكلّ وأدخلتُ الكلَّ جميعاً في أزمنتي في
قارورةِ أفعالي، فاستتروا خوفاً. والكافُ تناشدني ألّا أنهار، فأهذي كالطودِ، أقومُ
أقاتلهم فرداً فرداً. تعطيني أخضرَ منحدراً مِن قائمةِ الأعلى. فَرِحاً كنتُ أنادي
أشياء بَعُدتْ فتعود إليَّ ولم تعرفْ أحداً، تُذهَل، تُدهَش، تمضي. وأحاورُ ما
قبلي ما بعدي، أستنجدُ بالكافِ على نفْسي فتجيبُ عليّ وتفرحني. ووصلتُ
إليكِ بدمعي الأسْوَد، حاربتُ الوحش طويلاً بأصابع موتي حتّى
حاصرني الفجرُ رمالاً ترقصُ، أخرجني مِن منفاي وألقاني قدّام الليل وحيداً في نهرِ
الريحِ. ومِن أجلكِ رأسي كانَ شجاعاً يرفضُ أنْ يؤوي
قطّاعَ الطرقِ البلهاء وباعةَ ساعاتِ رمادٍ تتطايرُ وسط
العميان. وكانَ شجاعاً صنديداً: إذْ كيفَ لرأسٍ مقطوعٍ مُرمى، في نهرِ
الريحِ تدلّى، لملاقاةِ الموتِ يقومُ وحيداً؟ كيفَ
لرأسٍ مقطوعٍ أنْ يسمع، وسط الحومة، أشجاراً مُثقلةً بطيورٍ
رُسِمتْ أسماءُ الحُبّ عليها وطفولاتُ الماء؟ وكيفَ لرأسٍ مقطوعٍ أنْ يدخل في
حلمٍ يصهر أزمنةَ الدنيا حتّى يأتيكِ ويكشف غامضَكِ السرّيّ وعريكِ عريّ أعمى؟
وصلَ الرأسُ إليكِ بطيرِ الحاءِ وسحرِ الباء ومعجزةِ الكافِ الكبرى. أمسكَ في شغفٍ
نزواتكِ، أربعةً مِن أطيافكِ، سبعاً مِن لهجاتكِ، تاءً مِن لذّتكِ القصوى. قامَ
بأمطاركِ حتّى شفيتْ صحراؤك مِن أمراضِ الدنيا. قامَ الرأسُ إليّ أخيراً، قبَّلَني،
صاحَ بأعضائي فتنبّهتُ مِن الموتِ إليكِ، وجدتُكِ عاريةً قربي. رجعَ الرأسُ إلى
جسدي، قالَ: أنا المعنى. فبكيت.
|