الشاعر أديب كمال الدين:
- للتأثير الأدونيسي (أو اللوثة الأدونيسية!) دور شديد السلبية على المنجز الشعري السبعيني.
- الرقابة الذاتية لا بديل عنها وهي صمام الأمان الذي يمنع من كتابة ما هو ركيك أو ضعيف أو مبتذل.
حوار: محمد الهجول
هل يخلق الحرفُ شاعراً.. كما هو شأن الحرف في لوحة الفنان العراقي التي أُنجزت في منتصف القرن الماضي، فصارت ظاهرة ملفتة امتدّ ضياؤها الى العالم العربي والأجنبي كذلك؟ وهل خيارات اللوحة بالإمس والقصيدة اليوم نزعة تسمح بأن يكون الإقتباس معنى يمضي الى أقصى ما يظهره الجمال في صورة فنية معبّرة؟ ربما يحدث ذلك.. ففي تجربة الشاعر العراقي المقيم في أستراليا: اديب كمال الدين نلمس مظاهر الاستعانة بموتيفات الحرف، عبر محاكاة تتزين بالثقل الباطني لمدلولاته فقصيدته لا تزال تبزغ وتولد بين النقطة والحرف وسرهما الممهور بالبساطة والفيض والغموض.
في هذا الحوار يكشف لنا الشاعر أديب كمال الدين بعضاً من مناطق قصيدته الحروفية مارّاً على مناخات تجربة الشعر في العراق متوقفاً عند جيل السبيعنات الشعري كونه واحداً من شعرائه.
* استخدم الفنان العربي المعاصر الحرف كثيمة مرهونة بالانحياز للهوية. من أي المستويات يمكننا أن نفهم توظيف الشاعر أديب كمال الدين للحرف في قصيدته؟
- استخدامي للحرف كان بحثاً تراجيدياً عن شمس الروح وسط الظلمة الكونية. كان بحثاً أسطورياً عن المعنى أو حتى ما يشبه المعنى وسط عالم الضياع واللامعنى، وكان لغة ابتهال ودعاء وتهجّد وسط الأبواق الضاجّة، ولغة حبّ وسط أنهار الحقد والكراهية، ولغة شوق عارمة في عالم لا يكاد يطيق الناس فيه بعضهم بعضاً. هكذا جاء هذا الاستخدام صادقاً وطيباً ومُحبّاً ومخلصاً. ليس هناك من ادعاء أوتأستذ أوتمظهر بل كان هناك بحث مخلص ودؤوب لا نهاية له لأنّ أسرار الحرف العربي لا نهاية لها هي الأخرى. ولم يكن وراء ذلك هدف للحصول على ملذات الدنيا الفانية من مالٍ أو شهرةٍ أو جاه أو مجد.
الحرف هو أخي الإنساني، وشريكي في محنتي المليئة بالتأمّل والسؤال والاستفهام، المليئة بالدمع والانكسار والأسى، المليئة بالأمل رغم الخراب البشري العارم.
نعم، الحرف شريكي في الرحلة التي عبرتُ فيها السنين والبلدان والقارات، وهو درعي: أنا الأعزل الأبديّ الذي كُتِبَ عليه فرمان الحرمان ومُنِحَ كأس أيوب سراً وعلناً وسُرِقَ شبابه وحلمه وَصَبَواته في الحرب ثم في الحصار ثم في المنفى. ولأنّ علاقتي بالحرف قديمة، حيث تجاوزتْ الثلاثين عاماً لذا لم تكن ثابتة البتة، وهذه واحدة من حَسَناتها الجميلة. كانتْ علاقة عشق وتأمّل، علاقة تصوّفٍ واتحاد، علاقة تأسطرٍ وحلول، علاقة فرح كفرح مَن يرقص مذبوحاً من الألم أواللذة أوالشوق.
هكذا اكتشفتُ الحرفَ فاكتشفني هو الآخر. اكتشفتُ أنّ الحرف يمتلك مستويات عديدة يبزغ من خلالها كأيّ شمسٍ حقيقية. إنه صاحب المستوى الروحي، والرمزي، والقناعي، والصوفي، والدلالي، والسحري، والتراثي، والتشكيلي، والإيقاعي، والأسطوري، والخارقي، والطفولي.
وهكذا خلال رحلة مجاميعي الشعرية العشر، تغيّرت العلاقة وتعمّقتْ وتجددتْ، لكنها لم ترتبك ولم تتكلّس أو تصاب بداء الريبة ولا بدوار التكرار. فحيناً كان الحرف معشوقاً هائماً في أقصى درجات العشق والهيام كما في مجموعتي الشعرية: "نون" 1993 أو طلسماً صوفيّاً كما في مجموعتي الشعرية: "جيم" 1989 أو رمزاً باذخاً للكون مادام الكون كلّه فيه كما في مجموعتي: "النقطة" 1999 أو تأملاً روحياً وحوارياً وتشكيلياً في المستقبل الذي أصبح ماضياً كما في "حاء" 2002 وفي "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" 2006 أو قناعاً ضارباً جذره في عمق التاريخ والتراجيديا كما في "شجرة الحروف" 2007. حتى وصلتُ في آخر المطاف إلى اتخاذ الحرف أخاً روحياً بكل معنى الكلمة، كما هو متحقق في آخر مجاميعي: “أربعون قصيدة عن الحرف” التي ستصدر قريباً إن شاء الله عن دار أزمنة بعمّان.
أما الحرف فقد كان أكرم مني. فلقد اتخذني خليلاً رغم ارتباكي الخطير وتناقضي المطلق. وأطلق عليّ صفة الشاعر، فلّله الحمد. ولأخي في رحلتي البروميثوسية الشكر، أعني أخي الحرف. وأضيف: لقد أطلق الحرفُ عليّ ليس صفة الشاعر فقط بل صفة "الشاعر الحروفي" أو "الحروفي". أليس الحرفُ أكرم منّي إذن؟!
* جاءت تجربتك الشعرية واحدة من أبرز تجارب جيل السبعينات الشعري في العراق. كيف تعامل هذا الجيل مع طرائق الكتابة الشعرية لتوفير مساحة مناسبة لكشوفات النص الافضل والتحرر من تأثيرات الأجيال التي سبقته؟
- شكراً لهذا الإطراء. حقاً امتلكت بعض الأصوات في جيل السبعينات بصمتها الشعرية. وبعد أن أصبح للرقم 40 وصوله الوشيك إلى تاريخ ظهور هذا الجيل، فقد حان الوقت المناسب تماماً للنقد، وبخاصة النقد الأكاديمي، ليقول كلمته في إبداع هذا الجيل، بموضوعية وعلمية وصفاء وشفافية، بعيداً عن المجاملات والأخوانيات والنفعيات والمغالطات والتحزّب والأدلجة والأهواء الشخصية.
أما كيف تم الابتعاد عن التأثيرات فذلك أمر يقع ضمن شروط التناول النقدي المطلوب والأساسي لمَن أسس أو حاول أن يؤسس لصوته الشعري الخاص ويضع بصمته الفنية الإبداعية في خارطة الشعر العراقي والعربي. وهو أمر في غاية الأهمية.
وحين أتحدث عن نفسي فإنني أقول بتواضع: إنني منذ بداية مشواري الشعري كنتُ مهموماً بأن أكتب شيئاً ينتمي إليّ ولا ينتمي إلى غيري، ينتمي إليّ ولا ينتمي إلى أدونيس أو سعدي يوسف أو سواهما من الأسماء التي أثّرتْ بقوة ولزمن طويل على بعض الأسماء في جيل السبيعنات، وبخاصة أدونيس الذي امتد تأثيره إلى الأجيال التي تلت السبعينيين. ولم يطل الوقت بي كثيراً حتى قادني التصوّف إلى نبع الحرف. وهناك وجدتُ للحرف سرّاً وللنقطة طلسماً. ووجدتُ نفسي أكتب شعراً ينتمي إلى السرّ بقدر ماينتمي إلى الواقع، شعراً يقول الواقع كما هو ويتستر بالحرف قناعاً كاشفاً كل شيء.
لقد امتلك التأثير الأدونيسي (أو اللوثة الأدونيسية!) دوراً شديد السلبية على المنتج الشعري السبعيني. وقد أشرتُ الى ذلك في العديد من الحوارات التي أُجريت معي طوال مشاوري الشعري، بل كتبتُ عن ذلك أكثر من مقالة أو دراسة أهمها التي تحمل عنوان "البديل" و التي نُشرت في منتصف الثمانينات في مجلة الطليعة الأدبية. وبالطبع ما كان لهذا التأثير الأدونيسي أن يمتدّ بهذه الفعالية العالية وهذا الامتداد الزمني لو واجه عند الشاعر السبعيني تجربةً إنسانيةً أو روحيةً متميزة أو متماسكة على الأقل. ولكنه (الفراغ) الإنساني و(الفراغ) الروحي تركا الباب مفتوحاً للتأثير الأدونيسي أن يدخل وأن يلبث طويلاً.
* التجاهل والتهميش علامات فارقة لسياسات المؤسسة للنظام المنهار تجاه تجربتك الشعرية..
- نعم. ذلك أن المؤسسة الإعلامية للديكتاتورية كانت تنظر للشعر على أنه فقط وسيلة “لتثبيت الكرسي” والدفاع عنه حتى النَفَس الأخير. وهذا الامتهان الخطير للشعر سبب طوفاناً من الرداءة الشعرية، العمودية خصوصاً، في سنوات الحصار العجاف، التي اكتسحت الصحف اليومية والمجلات على اختلافها. وقبلها كانت سنوات الحرب العراقية-الإيرانية حيث طغت “دواوين المعركة” على كلّ شيء، واضطرت دواوين الوجع الإنساني والروحي والصوفي إلى التستر والاختفاء حفاظاً على نفسها وعلى أرواح شعرائها.
انظرْ إليّ حيث لم أستطع من نشر مجموعتي الشعرية “جيم” الا عام 1989 أي بعد انتهاء حرب العبث المخيفة تلك التي أكلت الملايين من شباب العراق وإيران ورمّلتْ مَن رمّلتْ ويتّمتْ مَن يتّمتْ. وماهي الا شهور معدودة حتى دخل العراق في فخ الحرب مجدداً ليعود شعر الحرب: شعر “النخوة” و"العزة" و"الكرامة" ليتسيد الخطاب الإعلامي من جديد وبشكل مفجع. وكنتُ قد نشرتُ مجموعتي “ديوان عربي” عام 1981 أي توقفتُ أو أُرغِمت على التوقف بعبارة أدق لمدة 8 سنوات بالتمام والكمال. إذن، متى سيجد الشعر الإنساني فرصته وسط هذه القعقعة الإعلامية الضاجّة؟ كيف له أن يظهر ليُقرأ ويُنقَد ويأخذ مساحته التذوقية عند المتلّقي؟
ليس هناك من وقت. فكلّ شعر لا يخدم الديكتاتور هو شعر لا ضرورة له حسب تعبير مسؤولي الإعلام في الحقبة السابقة المنهارة. وكلّ شعر لا يمجّد حروبه وغزواته وصولاته هو شعر مريب ومشكوك فيه، وشاعره يعيش في الوقت الخطأ والمكان الخطأ. نعم، لا وقت لشعر كهذا على الاطلاق وسط وسائل النشر والصحافة التي تسيطر عليها الدولة سيطرة مطلقة.
حقاً كانت محنة قاسية، والتهميش الذي ولّدته في روحي هذه المحنة سبب لي هو الآخر معاناةً كبيرةً وألماً فادحاً. كانت طبول الحروب الصدامية لا يخفت قرعها ولا يهدأ صوتها المرعب لزمن طويل جداً وكأنه زمن لا نهاية له. وقد تحمّلتُ كل هذا التهميش وذلك التجاهل بصبر أيّوبي منطلقاً من إيماني الأكيد بحقيقة أن الشعرهو صوت الإنسانية النبيل والعميق والنادر، وكل ابتذال له انما هو ابتذال لا يُغْتَفر ولا يمكن تبريره بأيّ شكل كان. ولقد أعانني الإيمان والتصوف والزهد على مواجهة هذا الألم الثعلبي الرمادي لسنوات وسنوات رغم شعور المرارة الفادح.
* حول الشعر الحديث تحديداً، ألا ترى معي أن بعض المتناولات النقدية تأتي كنوع من المزاولة التي تنتهك التأويل الفني الذي صاغه الشاعر في قصيدته؟
- إنّ قراءة القصيدة إبداع حقيقي بحد ذاته. وهذا الإبداع يستند إلى مجموعة من العوامل الثقافية والروحية والنقدية والاستيعابية والتذوقية، وحتى- أحياناً- إلى "العلاقة الشخصية" التي قد تربط الناقد أو القارئ بالشاعر إن توفّرتْ مثل هذه العلاقة. وبالنسبة لي أعاني بعض الأحيان، مثل أي شاعر آخر، من القراءة التي تحاول جاهدة "لي" عنق القصيدة باتجاه مقاصد لا وجود لها في جسد القصيدة التي أكتبها بل هي موجودة في ذهن الناقد فقط، وهذه القراءة القاصرة تدفع بالنص بعيداً عن معناه ومدلوله ومرماه. طبعاً هذه المشكلة النقدية تكاد تكون شائعة. وقد قرأتُ الكثير من التحليلات النقدية التي تناولت شعر السياب والبياتي، على سبيل المثال، و"شطحتْ" -أي التحليلات النقدية- إلى أمكنة وأزمنة وأفكار وآراء واستنتاجات وخلاصات نقدية لم تخطر على بال السياب والبياتي البتة. ويمكن كشف ذلك بيسر وسهولة لأنّ قصائد الشاعرين واضحة ومتوفرة لكل مَن يريد. لكنها المبالغة في الطرح، أو الانطلاق من حمّى الايديولوجيا كرهاً أو بغضاً، أو استسهال العملية النقدية أصلاً.
لكنْ في قصائدي التي تعتمد الحرف، فإنّ إمكانية حدوث ذلك، ربما بنسبة أكبر، هي إمكانية لا يمكن إغفالها. لأنّ ما يمكن أن تسْميتُها ب"ثقافة الحرف" لا تتوفر بسهولة عند جميع النقاد، فهي تحتاج إلى معرفة بأسرار الحرف القرآنية والصوفية والروحية والقناعية والخارقية والتراثية والتشكيلية والسحرية والدلالية. ومثل هذه الأسرار هي ما أسمّيه بمستويات الحرف التي أخاطبها في قصائدي.
ومن جانب آخر، هو الأهم، وجدتُ الكثير من النقاد العراقيين والعرب، عبر تجربتي الشعرية التي تجاوزت الثلاثين عاماً وعبر مجاميعي الشعرية العشر، مَن هو قادر على أن يغوص، بمهارة وتألق واقتدار، في بحر الحرف ويخرج أنواره الظاهرة والمستترة كل حسب جهده وعمق تجربته.
ساعدني هؤلاء النقاد حقاً في تعميق علاقتي مع نصي الشعري من جهة ومع القارئ من جهة أخرى. وأنا مدين لهم ولجهودهم المبدعة التي لا تُقدّر بثمن، مدين بعمق وبصدق. وبعضهم عانى في الماضي كثيراً، وربما يعاني الآن أيضاً، في نشر ما يكتبه عني لأنني أقف عارياً تماماً إلا من قصيدتي الحروفية، فلا مؤسسة- بأيّ شكل من أشكال المؤسسسة- تدعمني، ولا مريدون يرددون ما أريد أو أرغب، ولا هم يحزنون. إنني أنحني أمام محبتهم ونبلهم وإبداعهم، وأقول لهم: شكراً يا مَن كنتم حرفي الناطق بالحق ومرآتي الناطقة بالجمال. شكراً وألف شكر.
لقد كانت مقالات هؤلاء النقاد بالنسبة لي عشبةً كلكامشية يكمن فيها سحر الحياة. أقول هذا دون مبالغة. نعم، كانت إشارة مضيئة على أنني لم أسفح سنوات حياتي عبثاً، ولم أتمسّك بصولجان الحرف خطأً. هؤلاء النقاد الذين زاوجوا النقد بالإبداع أو بالشعر أو بالمسرح أو بالترجمة أو بالقصة القصيرة تابعوا رحلتي متابعة جميلة وأضاءوا تفاصيلها بلطف وعمق ونبل لا حدود له. ترى: هل تكفي كلمة الشكر رداً على حسن صنيعهم؟
* يعتقد البعض أن الرقابة الذاتية في كتابة النص الإبداعي مدعاة للوصول إلى صياغة متفوقة غير تقليدية. ألا ترى أنها في أحيان تتجه بالنص إلى تدوينات عصيّة غبر مألوفة، الأمر الذي يدفع إلى خلق القطيعة بين النص والمتلقي؟
- الرقابة الذاتية مطلوبة تماماً. فالشاعر هو الناقد الأول لنصّه. وينبغي أن تكون هذه العلاقة بناءة وليست علاقة تخريبة. إذا حدث مثل هذا التخريب بسبب الرقابة الذاتية فهذا يعني أن ثمة خطأ ما لدى "تكوين" الشاعر الثقافي والنقدي، وقد يكون الخطأ قاتلاً. فيما عدا ذلك فإن الرقابة الذاتية لا بديل عنها وهي صمام الأمان لديه والحافظ الحقيقي الذي يمنعه من كتابة ما هو ركيك أو ضعيف أو مبتذل.
الرقابة الذاتية مطلوبة مهما كان عمر الشاعر الفني. وهي تتعمق وتغتني وتتطور بمرور السنين وازدياد عدد النصوص المكتوبة. لكن يحدث أحياناً أن يكتب الشاعر قصيدة جديدة تختلف تماماً عن قصائده السابقات. وهنا يُحار الشاعر في أمر هذه القصيدة فكيف يمكن أن يصنّف هذا المخلوق الجديد؟ كيف له أن يعرف أن ما أنجزه هو صعود حقيقي أم ارتباك فني؟
ليس هناك من حل سحري للسؤال. الرقابة الذاتية ينبغي أن تؤدي دورها بشكل ايجابي لتحفظ للشاعر منجزه الجديد وتطلقه الى القراء.
* ما أفضل قصيدة كتبتها؟ ولماذا هي الأفضل من سواها من شعرك؟
- ليست هناك قصيدة كتبتها هي الأفضل. لأنني أحاول أن أضع روحي كلّها وتجربتي الشعرية والحروفية والإبداعية في كلّ قصيدة أكتبها. ولكن القصائد، بداهةً، لا تتساوى في منجزها المتحقق لأسباب لا تُحصى وإن أراد كاتبها ذلك.
وهكذا ستجد أن هناك قصائد اهتمّ بها النقاد ودرسوها وحللوها وابتهجوا بها أكثر من غيرها. وهناك قصائد لم تلقَ مثل هذا الاحتفاء رغم أنها لا تقلّ عن السابقة في مستواها الكتابي كما أعتقد. أحياناً أرى أنّ للقصائد – مثل البشر- حظوظاً مختلفة!
من القصائد التي أحببتها لأنها مثّلتْني بنجاح واهتمّ بها النقد، أذكر: "موت المعنى" و"وصول المعنى" و"ماضي المعنى" و"كاف المعنى" و"أنا وأبي والمعنى" و"قبور المعنى". وهذه القصائد نُشرتْ في مجموعتي: "أخبار المعنى" الصادرة عام 1996. وفي مجموعة: "جيم" الصادرة عام 1989 هناك قصائد: "إشارات التوحيدي" و"طلسم" و"المعري في التيه" و"كهيعص". أما مجموعة: "نون" الصادرة عام 1993 فكان هناك اهتمام شديد بمقاطع المجموعة أكثر مما تم الاهتمام بقصائد المجموعة بحثاً ووصولاً إلى سرّ النون الرائع والكبير. وفي مجموعة "النقطة" التي صدرت طبعتها الأولى عام 1999 وطبعتها الثانية عام 2001 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فقد تمّ التركيز على قصائد" محاولة في أنا النقطة" و"محاولة في دم النقطة" و"محاولة في الموسيقى" و"محاولة في الحروف" و"محاولة في العزلة" و"محاولة في الرثاء" و"محاولة في السحر".
وفي مجموعة: "حاء" الصادرة عام 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أيضاً فقد كان الاهتمام منصبّاً على قصائد مثل: "خسارات" و"جيم سين دال" و"دمعة مضيئة" و"زمن أرعن" و"وحشة الرأس" و"ملك الحروف" و"ملل". وحين أقمتُ في أستراليا أصدرتُ مجموعة: "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" عن دار أزمنة عام 2006 وكانت قصائد مثل: "يا بائي وبوابتي" و"اذهبوا للجحيم" و"صيحات النقطة" و"حوارات النقطة" و"قطرات الحب" هي مدار البحث النقدي.
وحين أصدرتُ عن الدار ذاتها عام 2007 "شجرة الحروف" فقد انصبّ الاهتمام على قصائد: "وصف" و"قصيدتي الجديدة" وقصيدتي الأزلية" و"شجرة الحروف" و"الزائر الأخير" و"الغريب" واكتشافات الحرف" و"ارتباك".
أحياناً، يا صديقي الطيب، أحبّ قصائد معينة من قصائدي لأسباب شخصية وغير فنية: فمثلاً قصيدة صوّرتْ لي حدثاً شخصياً، وأخرى أرّختْ لي ذكرى معينة. وثالثة أحبّها لأنها قصيدتي لي وحدي!
*كيف تنظر إلى تجربتك الآن؟
- أنظر اليها على أنها الخلاصة التي استطعت تحقيقها بكل ما استطعت من جهد وقوة. فأنا وأنتَ قد عشنا حياتنا كلها أو معظمها في بلد ديكتاتوري عمّق في المجتمع ثقافةَ الإنانية والكراهية والسرقة والاستحواذ والقمع والطرد والتهميش وألغى بدون رحمة أو شفقة ثقافةَ التسامح والمساواة واحترام القانون والإمانة والتعاون. لقد كُتِبَ على شعب العراق أن يُقاد من حرب إلى حرب ومن حصار إلى آخر مثل خروف صغير لا يملك الا الثغاء، ووسط جيران فرحوا، بل رقصوا بجنون، لما حلّ بالعراق من مصائب ونكبات وكوارث.
ولكي نقول الحقيقة كلها، فلقد خرّبت الأحزاب العراقية (إلا ما رحم ربي) وليس الديكتاتورية وحدها صرح هذا المجتمع. وعملتْ بخبثٍ أو بغباء أو بسذاجةٍ أو بقلّة معرفة على أن يتحوّل الإنسان الطيب إلى ضحيّة بطريقة بشعة.
في وسط هذا الخراب الأسطوري حاولتُ أن أحتكم إلى نفسي التي تؤمن بمبادئ التصوّف والزهد والايمان بالله وبفناء كل شيء عدا الخالق المهيمن الجبار، وأن أبتعد ما استطعتُ عن الجوقة الهاتفة باسم الصنم والقابضة على دنانيره الملوثة بالدم والراشفة لكؤوس خمرته في خمارات اتحاد الأدباء وفنادق الدرجة الأولى.
كان خطابي الشعري يستند إلى بحث صادق عن أناي وسط مجتمع يتهاوى شيئاً فشيئاً كلّ يوم وسط الحصار، بعد أن تهاوى أو كاد بعد حربين بشعتين ثم تبعتهما الثالثة. كان خطابي مهمّشاً لأنه غير مطلوب إعلامياً. وكنتُ أُقاد بكلمة مَن قال: "كنْ في هذه الدنيا كعابر سبيل".
كان هذا هو سرّي الخاص، وكانت هذه هي خشبتي التي تعلّقتُ بها. كنتُ كأيّ عارف مخلص في سؤاله تمام الإخلاص، وعاشق في حبّه إلى درجة الهيام، ومتيّم في محبوبه إلى الدرجة التي يصعب وصفها أو يستحيل، ومتيّقن أن الدنيا لا تغرّ إلا السفهاء والأوغاد، فكان أن اتبع هدى مَن قال لن تراني ولكن انظرْ إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، واتبع محبّة مَن دخل إلى الحضرة الكبرى، ثم اتبع حيرة مَن لولا تسبيحه لبقي في الحوت إلى يوم يبعثون، ثم اتبع خطاب مَن قال إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً، واتبع حوار مَن قال أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّم الغيوب، ومن ثم اتبع، أولاً وأخيراً، نقطةَ مَن قال الحمد لله حمداً يليق بمَن خلق السموات والأرض وقدّر فيها أقواتها فكان الخالق، الرزاق، المعين، الكريم، العزيز، المتعال، الجبار، المهيمن، الحليم، الغفور، اللطيف، الحافظ، القاهر، الرحمن، الرحيم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن.
هذا هو الجانب الروحي من الإجابة، أما الجانب الفني فإنني كتبت مجاميع عديدة تصف هذا السفر الكبير والعجيب لي وللإنسان في العراق. لقد حاولتُ أن يكون خطابي الشعري مختلفاً عن السائد. هذه المحاولة كلفتني حياة كاملة. ربما كانت محاولتي ذات شأن! لكن الحرف الذي لبس عندي لبوس القصيدة حاول ويحاول دون كلل أو ملل أن يكشف ما حدث وما سيحدث، وأنا أحاول أن أقول من خلاله وبه وفيه. وكلّ شيء رهن بالمحاولة وقانون المحاولة. وهناك، قبل كلّ شيء وبعده، قانون الموت الذي هو أكبر من المحاولة وقانونها وأكبر من الحرف، رغم أن الموت حرف هو الآخر!
**********************************
نُشر الحوار في صحيفة (البيان)– العراق– بغداد- العدد 335 بتأريخ 22- 10- 2009