لماذا لا أكتب رواية؟
أديب كمال الدين
كتابة رواية ما هي نوع من الحلم المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحاضر على الأقل. فبعد أن أنفقتُ أكثر من ثلاثين عاماً في كتابة الشعر ونشرتُ تسع مجاميع شعرية، نال شعري- ولله الحمد- قبولاً لدى النقاد والقراء، فكُتِبتْ عنه عشرات الدراسات والمقالات بأقلام نقّاد ودارسين من مختلف البلدان العربية وتكلل ذلك بصدور كتاب: "الحروفي" الذي أعده د. مقداد رحيم ليحتوي جهود 33 ناقداً عراقياً وعربياً تناولوا شعري بالدرس والتحليل. وحين ترجمت بعضاً منه إلى الإنكليزية نال اهتمام الصحافة الأسترالية حتى أن قصيدتي: "أرق" قد أُخْتيرتْ واحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة.
ومع ذلك بقي هذا الحلم المستحيل يراودني من حين إلى آخر. لماذا؟
لأنّ كتابة الرواية تبدو أقرب إلى روح الكتابة بمعناها العميق: خلق الشخصيات ورسم ملامحها وتسيير حياتها وتنظيم صراعاتها وتحديد نهايتها وبثّ ما يريد الكاتب من خلال الشخصيات وصراعها ما يريد أن يبثّه كرسالةٍ إلى العالم إنْ كان يؤمن أن هناك رسالة ما يجب إعلانها. فإن لم يؤمن بهذا يمكنه من خلال حياة الشخصيات وكشف دواخلها أن يعرّي الإنسان وخرافاته المستترة وأحلامه المغيّبة ورغباته المجنونة واحتجاجه العبثي. وكلّ ذلك يتمّ من خلال التفاصيل الحيّة والدقيقة والتي توثَق لحياتنا المنكوبة بالحروب والحصارات والمنافي!
وعمل كهذا يجعل من الكتابة صلاة إبداع يومية، وحرفة تتطلب الصبر والسهر والكتمان، ولغة ينبغي تطويعها باستمرار. وفي هذا متعة لا تشبهها متعة أخرى. في حين أن كتابة الشعر مختلفة تماماً. نعم، فالقصيدة تكتب شاعرها أنّى تشاء! وما عليه سوى أن يستسلم لزيارتها المباغتة وحضورها الجميل. ما يحتاجه الشاعر هو ورقة وقلم لكي يلوذ إلى أعماق نفسه ويتماهى مع قصيدتيه الجديدة إلى الحد الذي يفقد فيه إحساسه بالزمان وبالمكان. فإذا ما انتهت القصيدة وانسكبت روحها وروح الشاعر على الورقة، أفاق فإذا الساعات قد مرّتْ عليه كأنها الدقائق المعدودات، وإذا بالمكان أليفاً رغم حركة الناس وحضورهم وغيابهم وضجيجهم!
إذن، فالقصيدة تباغتُ شاعرها، والرواية لا تحبُّ المباغتة والمواعيد غير المتفق عليها مسبقاً. القصيدة عمل مفاجئ، والرواية عمل مستمر ومنظم. القصيدة شمس تشرق بين ساعات ممطرة ومليئة بالبرد والكآبة والغيم فتملأ الروح بهجةً وسعادةً بحضورها الذي يشبه السحر. والرواية شمس صيف حار، صيف عراقي لا يشبهه أيّ صيف في العالم، أو صيف أفريقي ملآن بالأعاجيب، أو صيف أسترالي معروف الصفات والملامح والدرجات!
متعة القصيدة تكمن كذلك في كشف أعماق شاعرها. وقد تتعدّى موهبة الشاعر مياهه الإقليمية الداخلية ليستكشف أعماق الآخرين ومخابئ أرواحهم وكهوفهم المخيفة. لكن ذلك يبقى متعلّقاً بالخطوط العامة. أما التفاصيل فهي مهنة الروائي الرائعة! إنه الموثِّق لأصغر التفاصيل وأكثرها واقعية وعبثية وسوداوية: تفاصيل الآخر وأسراره وزواياه العميقة ومياه روحه وصبوات قلبه وصيحات رغباته وأحلامه المغيّبة وصيحات أعماقه!
قلتُ: إنّ حلم كتابة الرواية يراودني من حين إلى آخر ولكنه حلم أراه قريباً من الاستحالة. هذا صحيح. وقد راودني في العراق أكثر من مرة، وفي الأردن حيث أقمت أكثر من سنتين، وفي أستراليا. لكنني كنت أجيد فن الهروب منه. ولي في ذلك أسباب:
· أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالطغيان والطغاة والحروب والحصارات والأحزاب التي يقودها الانتهازيون والأنانيون وأنصاف المثقفين والأدعياء وحثالة المجتمع، مثلما أبتلي بالتقاليد العجيبة والعادات الاجتماعية التي صيّرت الحياة طامة كبرى! العراق الذي لم تزل تتصارع فيه بعنفٍ عجيبٍ قيمُ البداوة والحضارة، وقيم القرية والمدينة، وقيم المؤمنين والملاحدة، وقيم العنف والسلام، وقم اللصوص والزهاد، وقيم "الفرهود" والأمانة، وقيم العسكر والمدنيين، وقيم البرجوازية والفقراء، وقيم الشرق والغرب، وقيم الشمال والجنوب، وقيم المسلمين والمسيحيين، وقيم العرب والأكراد، وقيم علي ابن أبي طالب والحجاج!
· أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالانقلابات العسكرية التي سوّدت وجه العراق و"سخمته" وجاءت بالعسكر الذين حولوا البلد إلى ثكنة عسكرية لا تنتج سوى فن الرشوة و"اللفط"، وفن السلب والنهب، وفن المحسوبية والمنسوبية، وفن "التسخيت" و"اللواكة"!
· أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالأحزاب التي تولّي وجهها نحو المشرق والمغرب دون أن تولّي وجهها على الإطلاق نحو ابن البلد المنكوب، المحروم، المعذّب!
· أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالأمية الثقافية التي عمّقتها الديكتاتورية ووسعتها حتى شملت النخبة الثقافية نفسها إلاّ ما رحم ربي، والذي أُبتلي، قبل ذلك وبعده، بالأمية في مفهومها الأصيل!
في أرضٍ كهذه يكون الشعر هو الفن المطلوب ويكون كاتب هذه الأرض هو الشاعر. إنه، أي الشعر، الفن الذي يستجيب بسرعةٍ مدهشةٍ إلى الأحداث العجيبة والحروب العبثية والصراعات الزلزالية التي لا تكفّ عن التناسل والحضور، كما يستجيب بالسرعة ذاتها إلى صيحات الروح وسط الزلزال العنيف وصبوات القلب وسط الحرمان الأسطوري ودموع الروح وهي تنتقل من فاجعةٍ إلى أخرى. في حين تكاد الرواية أن تتهاوى إزاء عنف الزلزلة والصراع الوحشي، لأنّ فن كتابة الرواية، كما هو معروف، فن حضاري يستلزم، ضمن ما يستلزم، أرضاً ذات حد أدنى من الثبات والاستقرار حتى يستطيع الروائي أن يعرف أين تقف قدماه ليؤدي دوره المناط به. فكيف يمكن كتابة الراوية في بلد ينزف أبناؤه حد الموت دماً وحزناً وألماً نتيجة للصراعات الخرافية التي لم تعرفها أرض سوى أرض الرافدين، ونتيجة للانقلابات العسكرية التي نسفتْ مؤسسات العراق الحديث نسفاً، ونتيجة للأحزاب ذات وذات، ونتيجة للأمية الثقافية والأمية الاجتماعية؟
كيف للروائي أن يمارس مهمّته النقدية في مجتمع سحريّ وغرائبيّ من هذا النوع؟ بأيّ هامش مفقود أو ضحل أو ميت للحرية سيكتب الروائي إبداعه وهو الذي مهنته كشف التفاصيل الصغيرة لشخصيات المجتمع بشجاعة وشفافية وعين ذكية، وكذلك التقاط التفاصيل العميقة لأسرار هذا المجتمع المتناقض والعجيب؟ كيف له أن ينجز هذه المهمة المقدّسة دون أن يغامر بقطع رأسه أو بتكفيره أو نبذه أو تهميشه أو احتقاره؟!
ثم مَن سيقرأ رواية الروائي هذا بنسخها التي لا تتجاوز الألف؟ أهي النخبة المختارة أو المنافقة- سمّها ما شئت- والمتجسّدة بهيئة أصدقاء الروائي ومعارفه فقط؟ وهل سيدفع، كذلك، مِن جيبه للناشر"مصاص الدماء" لينشر له روايته التي أنفق في كتابتها السنوات، وعانى من أجلها ما عانى من صنوف الحرمان والمعاناة وشظف العيش؟
هنا يبدو الشاعر أفضل حالاً من أخيه الروائي بعض الشيء. فهناك صحف ومجلات تنشر القصائد وتدفع مكافآت لشاعرها. والقصيدة لا تطلب حيزاً كبيراً لنشرها. ترى مَن ينشر فصول الرواية؟ أية مجلة تغامر في أن تفرد لفلان الروائي عشرات الصفحات لنشر فصل من رواية تعرف حقاً أن القارئ المتعب، لا يعيرها انتباهاً إلا إذا كانت لاسم مشهور جداً أو كانت رواية ذات توابل جنسية؟!
لهذا كله تبدو كتابة الرواية، للأسف، حلماً مستحيلاً أو قل هو المستحيل بعينه!