حوار مع الشّاعر الحروفيّ أديب كمال الدّين

أجرت الحوار الأستاذة الدكتورة سعاد بسناسي جامعة وهران1 /الجزائر

عضو المجلس الأعلى للّغة العربيّة

مديرة مخبر اللّهجات ومعالجة الكلام

أنا حرف يبحث عن نقطته

 

تتشرّف أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ بوهران/ الجزائر برئاسة أ.د. سعاد بسناسي أن تُجري هذا الحوار الماتع في عوالم التّصوّف وأسرار الكون وتجلّياته مع الشّاعر العراقيّ القدير أديب كمال الدّين.

 يسرّنا أن نرفع لك أصدق التّحايا وأبلغها من بلد المليون ونصف مليون شهيد، بلدُ العزّة والكرامة والشّهداء الجزائر، وباسم أسرة أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ من وهران نسعدُ أن نكون بين حروفيّاتك السّامقة، وما جادت به قريحتك........

- بدايةً نطلبُ منك تقديمًا مختصرًا عمّن هو أديب كمال الدّين خاصّة لمن يرغبون في التّعرّف إليكم أكثر ممّن لم يسبق لهم ذلك؟

* أنا حرف يبحث عن نقطته، أي عن سرّه. وقد عشتُ حياة صعبة من الطفولة حتى الشيخوخة. ومررت على كل محطات المعاناة من اليتم إلى الحرمان إلى شظف العيش  إلى التهميش إلى الحرب إلى المنفى!

إذن أنا حرف ممتَحن! وكل هذه العذابات صيّرت منّي شاعراً، شاعراً مختلفاً. نعم، صرتُ شاعراً لأنَّ حرفي لا يعرفُ أن يمشي إلّا على الجمر. والجملة الأخيرة هي عنوان أحدث مجاميعي الشعرية التي نشرتها في المجلد السابع من أعمالي الشعرية الكاملة التي صدرت مؤخرا ولله الحمد في بيروت.

أما بلغة التفاصيل  فأنا شاعر ومترجم وصحفي عراقي مقيم في أستراليا. وُلدت عام 1953 - العراق. وتخرّجت من كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد 1976. كما حصلت على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدرت ثلاثين مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، منذ مشواري الشعري الذي بدأته مع مجموعتي الأولى: "تفاصيل" 1976، أذكر منها: "نون"، "النقطة"، "شجرة الحروف"، "الحرف والغراب"، "مواقف الألِف"، "في مرآة الحرف"، "حرف من ماء"، وفي الإنكليزية صدرت لي مجاميعي:  أبوّة"، " ثمّة خطأ"، " حياتي، حياتي". كما أصدرت المجلّدات السبعة من أعمالي الشعرية الكاملة، مع مختارات منها، وفيها يظهر جليّاً استخدامي الحرف العربي ملاذاً روحياً وفنيّاً. وقد تُرجمتْ أعمالي إلى العديد من اللغات كالإيطالية والإنكليزية والفارسية والأوردية والإسبانية والفرنسية والكردية. ونلتُ جائزة الإبداع عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائدي ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي. كذلك صدر 16 كتابا نقديّا عن تجربتي، مع عدد كبير من الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعمالي الشعريّة وأسلوبيتي الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر ومصر ولبنان والهند والمغرب وإيران وتونس.

 

- لعلّ المطّلع على أعمالك الإبداعيّة يدرك أنّ رؤيتك الكشفيّة تتماهى مع المطلق، حيث سرّ العلم، وسرّ الحال، وسرّ الحقيقة، وسرّ التّجليّات، فضلاً عن شعورك بمسئوليّة البحث عن يقين محور الكون، سؤالي: هل كان ذلك بدافع خلق عوالم ممكنة؟

* أنا أنتقلُ من بلدٍ إلى آخر ومعي صليب روحي: أسئلتي الكبرى عن مصير الإنسان في هذه الحياة: ما الجدوى وما الفائدة؟  ما معنى هذه الرحلة التي كُتب عليّ – ومعي مليارات من البشر- أن أقوم بها دون أن يتمّ سؤالي! ولماذا هم القلّة من الناس الذين يشاركونني هذا الصليب الروحي في حين تنعم الأغلبية بمتع الطعام والشراب والجنس والركض وراء المال دون أن يؤرق بالهم هذا السؤال الهائل! ثمّ إن الناس في شُغِل عن الموت: سؤال الحياة الأول والأخير وهم في شُغِل عمّا ينتظرهم في ما بعد الموت، بل هم في شُغِل عمّا ينتظرهم بعد حين من الدهر فهم أبناء يومهم وأبناء ملذاتهم ودنانيرهم ودولاراتهم ومشاغلهم اليومية البسيطة والساذجة إذا ما قارناها بمسألة الموت الخارقة. يحدث لي هذا وأنا أحمل معي في الوقت ذاته إحساسي العميق بالسحر: سحر البحر والجبل والصحراء والغابة والجسد،  أي سحر تفاصيل رموز الحياة. فتراني أتأمل هذا السحر الذي يسمّونه الجمال بعين مَن يراه للمرّة الأولى أو للمرّة الأخيرة. وبين رؤية المرّة الأولى للجمال ورؤية المرّة الأخيرة يلعب القلب لعبته العجيبة: لعبة الشعِر والحرف والحبّ والتأمل العظيم!

 

- يدرك القارئ حينما يطّلع على أعمالك أنّك تحاول معرفة يقين الوجود من شتّى السّبل، وعلى جميع الأشكال منها ما هو فلسفيّ، ومنها ما هو نقليّ باستعماله العقل مبدأً، والقياس برهانًا، ومنها ما هو صوفيّ باستناده إلى المكابدة الرّوحيّة؛ لمعرفة الوجود في أنساقه الإنسانيّة والطّبيعيّة والمعرفيّة.

* أنا باحث مخلص عن الحقيقة: حقيقة الكون والإنسان. وخلال رحلة البحث المضنية الطويلة اهتديت عبر تجارب الحياة المرّة وكوارثها العجيبة إلى نور الذي يقول للشيء كن فيكون. ولم تكن رحلة الاهتداء سهلة أبداً. وبعد أن أيقن القلبُ سرَّ خالقه والعقلُ سرَّ عظمة خالقه بدأت السير في طريق الزاهدين المتأملين ولم أزل.  بدأت السير في طريق التصوف وفي كتابة شعر التصوف.

وهكذا بعد أن كتبتُ العديد من القصائد الصوفية مثل: إشارات التوحيدي، الرجل، أنين حرفي وتوسّل نقطتي، محاولة في البهجة، وغيرها، أكرمني الذي يقول للشيء كن فيكون بكتابة مجموعتي الصوفية الحروفية (مواقف الألِف) - منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت2011 - وهو ما تمنيتُ كتابته منذ زمن طويل. كتبتها ب 55 موقفاً صوفياً شعرياً تحاول كلها التقرّب الى البارئ عزّ وجل وتطلب رحمته، وترجو عفوه، وتتضرع إلى سرّه ونوره ومحبته، وتحلم بحنانه وكرمه ورزقه ولطفه، ولا عجب في هذا فهو الرحيم الكريم الغفور الرزاق البديع اللطيف. تبدأ هذه المواقف بموقف الألِف وتنتهي بموقف الجنّة. وما بين الموقفين تمرّ مروراً ليس عابراً بأسئلة الحياة والموت، واليقين والضياع، والخوف والطمأنينة، والمعنى واللامعنى، والظلام والنور، والشيء ونقيضه. هكذا تبدأ بموقف الخطأ والغربة والوحشة والحيرة والماء والنهر والغرق والمهد والرحيل والحرف والشوق والدائرة لتعرج إلى مواقف الأنبياء والأولياء: نوح وإبراهيم ويعقوب وعيسى والمصطفى (ص) وآله، وتصل إلى مواقف العزة والدمعة والكتابة والسجن والبيت والسجدة والسلام والحمد. وقد كان سروري بإنجاز هذه المجموعة عظيماً لا يشبه سروري المتحقق حين كتبتُ مجاميعي السابقات. فتلك المجاميع تنتمي الى عالم الشعر والإبداع، وهذه تنتمي الى عالم الشعر والإبداع والله. كان فرحي بها، دون مبالغة، كفرح صيّاد اصطادَ سمكةً  وجد في بطنِها ليرة ذهب!

ثمّ كتبتُ بعدها مجموعتي الصوفية (إشارات الألِف) التي صدرت عن منشورات ضفاف، بيروت 2014  واحتوت على مائة إشارة، بل مناجاة مع الحيّ القيوم، مثل: إشارة الفجر، إشارة الكلام، التفاحة، الحرب، الخيط، المرآة، رقصة الوحوش، البحر.  ولم أزل أواصل كتابة ما يشي به القلب من قصائد المناجاة وأبثّها في ما أنشر من مجاميع شعرية جديدة.

 

- تقول في إحدى قصائدك: الحرفُ هو الزّلزال/ وأنا أسكنُ الحرفَ يا زلزالي.

هل تجسّد حروف ظاهرة الضّياع، وإذا كان الأمر كذلك، فبأيّ نوع أشكال الضّياع، هل تقصد ضياع الذّات، أو ضياع الوطن، أو ضياع الهويّة، أو ضياع الرّؤيا؟

* لا ليس ضياعا بل هو الإقامة الدائمة في السؤال الصعب المحيّر المربك الذي هو الحرف الذي يشبه الزلزال لأن سرّ الوجود العظيم مقيم في أعماقه. وحين أردتُ أن أعبّر عن محنة الروح شعراً لم أجد إلّا الحرف ملاذاً. وكان ملاذاً رائعاً بكل معنى الكلمة. ولقد اخترته أو اختارني في لحظة إلهام إلهي فكان خير معين لإطلاق طيور الروح عالياً في سماء القصيدة، وتحقيق هوية فنية روحية متفرّدة بعيداً عن السير في قطيع الشعراء.

 

- نجد في إحدى قصائدك أنّك تبحث عن اسمك، حين قلت: ما اسمكَ أيّها الشّاعر؟ فأجبت: اسمي الطّائر، وتقرنه بالسّمكة، والنّقطة، فما الذي يجمع بين هذه الأسماء، خاصّة وأنّك تميل إلى التّركيز على النّقطة بوصفها مركزيّة هويّتك وأصل دائرة وجود الحضاريّ في نظرك، هل لك أن توضّح لنا ذلك؟

 * الطائر والسمكة يمثلان وجهي الحياة أعني الحرية:  لغز الحياة الأعظم. الطائرُ يمتلك فضاء السماء، والسمكة تمتلك فضاء البحر. وهذا ما كتبته في قصيدتي (ممتع، غريب، مدهش!). والقصيدة تعتمد الحوار المتخيَّل بناء لها. ففي السؤال التالي فيها أجيب على سؤالك هذا وعلى سؤال السائل، وإليك التفاصيل:

"وكيفَ تكتب؟

- أدخلُ في الحرف، أتمنطقُ  بسرِّ الحرف،

أبكي، أتأمّلُ، أغفو، أحلمُ، أهذي، أرقصُ، وأموت."

إنّ النقطة بلغة التصوّف هي الكينونة ومركز الكون والعالم الأكبر. هذه هي النقطة كرمز صوفي. لكنني انطلقتُ إلى استخدامات أخرى عديدة للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط، فبدت النقطة في الكثير من قصائدي مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد ومركزاً للرؤيا. إنّ ما يميز تجربتي الحروفية عن الاستخدام الصوفي الحروفي القديم هو أنّ  هذا الاستخدام كان ذهنياً على الأغلب، وأحيانا طلسمياً لا يفهمه إلّا خواص الخواص. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله شعرياً عبر الصورة المجسَّدة، ذلك أنّ الذهنية برأيي هي أشد أعداء الشعرية ضراوة. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب هذا الاشتغال مُشاعاً للكلّ دون أن أفقد الخواص ولا خواص الخواص. وفي ذلك يكمن التحدي الجمالي: الشعري الفلسفي لتجربتي الحروفية. أما الحرف فهو في شعري يظهر بصور شتّى وهيئات لا تُحصى فهو العاشق والمعشوق، والملك والصعلوك، والدليل والتائه، والحكيم والضائع، والزاهد والشهواني، والعارف والخاطئ، والوليّ والمُهَلْوِس، والذاكر والناسي، والمتأمّل والمعربد، والشيخ والطفل، والرجل والمرأة، والصوت والصدى، والروح والجسد، والسلام والحرب، والجلّاد والضحيّة، والبعيد والقريب، إلخ.

 

- كلّ مبدع يحاول أن يشكّل هويّته فكيف شكّل أديب كمال الدّين هويّته شعريّا؟

* تشكلت هويتي الشعرية من الحرف العربي وعُرفت بالحروفية. وتستمد حروفيتي أصلها من القرآن المجيد.  فالحرف  العربي حمل معجزة القرآن المجيد ولابدّ لحامل المعجزة من سرّ له،  كما أنّ الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في بداية العديد من السور الكريمة، وكان في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي يُضاف الى سرّ القرآن المجيد نفسه. وإذن، فمِن القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبّة والسلام واحترام الآخَر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم، لكنني حين تأمّلت في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت لخمسين عاما، ولم تزل متواصلة بحمد الله، وجدت أنّ للحرف العربي ما يمكن تسميته ب(المستويات). فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية.

لقد نشأت حروفيتي في بغداد نهاية السبعينيات وكانت مجموعتي الحروفية الأولى (جيم) ثم (نون) ثم (أخبار المعنى) ثم (النقطة) ثم (حاء). وحين وصلت إلى أستراليا واصلت مشواري الحروفي وعمّقته فأصدرت (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) ثم (شجرة الحروف) ثم (أربعون قصيدة عن الحرف) ف (أقول الحرف وأعني أصابعي) ف (مواقف الألِف) ف (الحرف والغراب) ثم (إشارات الألِف) ثم (رقصة الحرف الأخيرة) ثم (في مرآة الحرف). وتواصلت مجاميعي الحروفية بالصدور حتى أصدرت (طفولة حرف) هذا العام، لتصل إلى ثلاثين مجموعة، اكتملت ولله الحمد في أعمالي الشعرية الكاملة التي جاءت في  سبعة مجلدات.

ولعل من أفضل ما وُصفت به حروفيتي ما كتبه الناقد الكبير د. حسن ناظم في كتاب (الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة)، إعداد وتقديم: د. مقداد رحيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2007، حيث وصفها قائلا: "النصّ الشعري الذي بدأت به، وانتهت إليه، خبرة الشاعر أديب كمال الدين نصّ يقوم على ما عُرف بالحروفية. وقد كُتب عن هذه الخبرة الشيء الكثير، وأُضفيت دلالات جمّة على رمزيتها، وما هذا الاختلاف في تأويلها سوى علامة على غنى النصّ الشعري والخبرة التي تقوم دعامة لها. وضعت الحروفيةُ الشاعرَ خارج السرب، سرب جيله السبعيني المهموم بالحداثة الشعرية على الطريقة الأدونيسية، فسلك بذلك درباً خاصاً، غامر في استكشافه وحده، وانتهى إلى هذه الغابة المتشابكة من الرموز الحروفية، والسرد المشوّق، والبناء المحكم للنصّ. الحروف التي يطلقها أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي".

 

- وما الذي وجده الشّاعر أديب كمال الدّين في هذه هويّته المرتقبة؟

* استخدامي للحرف كان بحثاً تراجيدياً عن شمس الروح وسط الظلمة الكونية. كان بحثاً أسطورياً عن المعنى أو حتى ما يشبه المعنى وسط عالم الضياع واللامعنى، وكان لغة ابتهال ودعاء وتهجّد وسط الأبواق الضاجّة، ولغة حبّ وسط أنهار الحقد والكراهية، ولغة شوق عارمة في عالم لا يكاد يطيق الناس فيه بعضهم بعضاً. هكذا جاء هذا الاستخدام صادقاً وطيباً ومُحبّاً ومخلصاً. ليس هناك من ادعاء أوتأستذ أوتمظهر بل كان هناك بحث مخلص ودؤوب لا نهاية له، لأنّ أسرار الحرف العربي لا نهاية لها هي الأخرى. ولم يكن  وراء ذلك هدف للحصول على ملذات الدنيا الفانية من مالٍ أو شهرةٍ أو جاه أو مجد.

   الحرف هو أخي الإنساني، وشريكي في محنتي المليئة بالتأمّل والسؤال والاستفهام، المليئة بالدمع والانكسار والأسى، المليئة بالأمل رغم الخراب البشري العارم.  نعم، الحرف شريكي في الرحلة التي عبرتُ فيها السنين والبلدان والقارات، وهو درعي: أنا الأعزل الأبديّ الذي كُتِبَ عليه فرمان الحرمان، ومُنِحَ كأس أيوب سراً وعلناً، وسُرِقَ شبابه وحلمه وَصَبَواته في حروب صدام العبثية ثم في الحصار الذي فُرض على العراق في التسعينيات ثم في المنفى. ولأنّ علاقتي بالحرف قديمة، لذا لم تكن ثابتة البتة، وهذه واحدة من حَسَناتها الجميلة. كانتْ علاقة عشق وتأمّل، علاقة تصوّفٍ واتحاد، علاقة تأسطرٍ وحلول، علاقة فرح كفرح مَن يرقص مذبوحاً من الألم أو اللذة أوالشوق. هكذا اكتشفتُ الحرفَ فاكتشفني هو الآخر،  وخلال رحلة مجاميعي الشعرية، تغيّرت العلاقة وتعمّقتْ وتجددتْ، لكنها لم ترتبك ولم تتكلّس أو تصاب بداء الريبة ولا بدوار التكرار. فحيناً كان الحرف معشوقاً هائماً في أقصى درجات العشق والهيام كما في مجموعتي الشعرية: "نون"  أو طلسماً صوفيّاً كما في مجموعتي الشعرية: "جيم"  أو رمزاً باذخاً للكون ما دام الكون كلّه فيه كما في مجموعتي: "النقطة"، أو تأملاً روحياً وحوارياً وتشكيلياً كما في "حاء"  وفي "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة"،  أو قناعاً ضارباً جذره في عمق التاريخ والتراجيديا كما في "شجرة الحروف".  وهكذا.

 

- وهل الشّعر على وجه الخصوص من شأنه أن يحمي القيم، والمثل، وغايات الهويّة؟

* الشعر يحاول، بل يستميت في المحاولة! نعم، الشعر هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة، ومضة صعبة الوصف، لكنها مبثوثة في الجمال المدهش أو المعاناة العميقة حد الإدهاش أو الجنون. وعلى الشاعر أن يلتقطها بعينه الثاقبة، ونبضة قلبه العاشقة، وحرفه الذي يجيد الكشف وتسمية الأشياء.

 هكذا تبدأ القصيدة عندي استجابةً لدمعة حرّى أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو لمشهد مثير أو لأغنية عذبة أو لذكرى مؤلمة. وأستطيع غالبا أن أتلقّف هذه الشرارة المباركة أو الملعونة  أو الجريحة أو المعذَّبة في أيّ وقت لأشعل بها ذاكرتي التي تشبه حطباً جاهزاً للاشتعال، فتنثال عندي الصور والحروف والكلمات انثيالا. لكنْ مهما حاول الشاعر أن يركن إلى ذاته باعتبارها البئر الوحيدة التي يسقي من مائها حروفَ قصيدته فلن ينجح على الإطلاق. لن يستطيع في زمن العولمة أن يدير ظهره للمشاكل الكبرى التي تواجه الإنسان على هذا الكوكب المحاصر بالحروب العبثية والعنصرية والكراهية والتطرف. لن يستطيع ذلك، ولو أصرّ على أن يدير ظهره لكل هذه المعاناة الكبرى التي تعاني منها البشرية لتحوّل شعره، شاء أم أبى، إلى هذيان لا يحترم النبضة الإنسانية ولا يقيم لها وزناً.

إنّ الشعر يحتاج، بشكل لا يقبل النقاش، إلى إيمان حقيقي وعميق وراسخ به وبدوره الإنساني الكبير في التنبيه إلى المعاناة الكبرى التي تعاني منها البشرية. فإذا كان قد كُتِبَ ليكون أداةً غير أداة التنبيه الروحي والجمالي، أي كُتِبَ لمآرب أخرى مثل المال والجاه والنفوذ والمنصب فإنّ مصيره الزوال الأكيد والنسيان السريع. وبداهة فإن تناول المشكلات الكبرى للبشرية في الشعر ينبغي أن يتمّ من خلال التمسك المطلق بجمالياته، فما من عذر أبداً، وما من قبول البتة للقصيدة الرديئة جماليا ذات المضمون النبيل فكريا.

 

تقول في مقطع من قصيدة لك: حينَ نظرت إلى ساعتي/ لم أجدْ فيها أيّاماً ولا سنوات/ بل وجدت فيها أنهاراً من الحلمِ والموسيقى والكلمات، هل يعني هذا أنّك تنطلق من وعاء مفتوح لتاريخ هويتك؟

* القصيدة تتحدث عن رحلة الإيمان.  بدأت من الشك الأسود، والموت المحيط بكل شيء، والارتباك العنيف، والقلق الوحشي وصولا إلى اليقين والطمأنينة والمسرة. كانت الرحلة ملغومة بكل صنوف العذاب لكن النتيجة تستحق كلّ هذه المعاناة، المعاناة التي هي تأريخ  ومحتوى  وسرّ حياتي برمتها:

"نظرَ اللهُ إليَّ وقالَ: (انهضْ). فنهضتُ.

وقالَ: (اركعْ). فركعتُ.

فانشقَّ صدري

وطارَ منه طائرُ الموت

كغيمةِ حزنٍ زرقاء،

كغيمةِ حزنٍ كبرى".

 - هل نستطيع أن نقول إنّ أديب كمال الدّين يتماهى مع ضياع أبي حيان التّوحيدي حين قال: (وأين أنت عن غريب ليس له سبيل إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان)، وما الدّاعي إلى ذلك؟

* محنة التوحيدي محنة كبرى بكل المقاييس.  فهو "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومُكْنة" كما وصفه ياقوت الحموي في كتابه (إرشاد الأديب). وكان بحقٍّ واحداً من أولئك الكتّاب العظام الذين جالوا في النفس البشرية جولةً عميقةً وكشفوا عن طبقاتها الجوّانية بشجاعة نادرة وبطريقة العارف الخبير، المعذّب، المتفرّد. لقد حمل التوحيديّ خلال رحلة حياته همّ الأديب المكافح الأصيل الذي يحافظ بقوّة، على كلمته ما استطاع من السقوط  والابتذال. وقد دفع ثمن هذه الكلمة غالياً: عذاباً يوميّاً متصلاً وفقراً مدقعاً وشظفاً وتجاهلاً حتّى  اضطر أواخر حياته إلى إحراق كتبه بعد أن رأى أن لا طائل من ورائها. وقد قال عـن هذا الحدث: (إني جمعتُ أكثرها للناس ولطلب المثالة بينهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحرمتُ ذلك كله. ولقد اضطررتُ في أوقاتٍ كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصّة والعامة وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يُحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحُبّه الألم). هذا هو التوحيدي الذي قرأتُ، في منتصف العشرينيات من عمري، كتابه العظيم (الإشارات الإلهية)، فسحرني حقاً بعمق مناجاته مع الرحمن، وصدقها الحقيقي النادر المثال، وتفرّدها المذهل، فكتبتُ إثر انتهائي من قراءة إشاراته الإلهية قصيدتي الصوفية الطويلة (إشارات التوحيدي)، ونشرتها في مجموعتي (جيم). وبدأتُ منذ ذلك الوقت مسيرةَ التصوّف لأتبع من بعد  التوحيدي أثر النفري والحلّاج وابن الفارض وبقية كبار المتصوفة.

 وعودة إلى سؤالكِ، لقد تماهيتُ مع عذاب التوحيدي وغربته وموقفه العظيم في احترام الكلمة وعدم ابتذالها لأيّ سبب كان، وآمنت به بل اتخذته سبيلاً لا رجعة عنه. وحيث قُدّر لي أن أعيش في زمن كانت الكلمة في وطني مسخرة لخدمة الدكتاتورية وتفاهاتها وحروبها العبثية خدمة مطلقة، لذا صرتُ أعيش مهمّشاً مغترباً وأنا في بغداد، في وطني! حتى إذا غادرته  مكرهاً- بعد أن حولته الدكتاتورية إلى جحيم حقيقي- كانت الغربة تتسع لديّ لتكون عنوان كل شيء!

- حين تبحث عن متاهة الحرف وسؤال المعنى، نجد أديب كمال الدّين المتاهة تواجهه وكأنّها حالة من الذّهول الرّوحيّ، والشّرود الذّهنيّ المفضي إلى ألم الذّات غالبًا يعتقد القارئ أنّ الحرف يشهد لها على ذلك الذي صار دليل الشّاعر، وهو يبحث عن الخلاص، وهنا نتساءل: هل يمكن استنطاق السّر في الحرف عند أديب كمال الدّين؟

* الشاعر كائن قَلِق! خلقه الله قَلِقاً لكي يتأمّل في الرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثم صرخة الموت. هكذا توجّب عليه لكي يكون شاهداً حقيقياً أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أن الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. كما أُنيطَتْ به مهمة البوح بأسرار الحياة وأسرار الموت. وإزاء مهمات كبرى وخطيرة من هذا النوع صار على قلب الشاعر أن يستوطن القلق ويتخذ منه رفيقاً وخليلاً حتى لا تفسده الطمأنينة الزائفة عن مهمته الجليلة.

 لقد كتبتُ مجاميع عديدة تصف هذا تفاصيل سفر الحياة الكبير والعجيب لي وللإنسان في كل مكان. حاولتُ أن يكون خطابي الشعري مختلفاً عن السائد. هذه المحاولة كلفتني حياة كاملة. لكن الحرف الذي لبس عندي لبوس القصيدة وروحها وتميزها حاول ويحاول دون كلل أو ملل أن يكشف ما حدث وما سيحدث، وأنا أحاول أن أقول من خلاله وبه وفيه. فالكتابة اضطرار وتصوير لهذا الاضطرار. وحيث أن حياتي لم تكن نزهةً ولا ما يشبه النزهة في أيّ وقت من الأوقات، لذا لم تكن قصائدي نزهةً ولا ترفاً هي الأخرى بل كانت ولم تزل كتابةً بالسكّين في لحاء الزمن اليابس الأسود المُلغّز. وبدلاً من العويل والصراخ، صرتُ أفلسفُ هذه الرحلة حروفياً، وأعالج أو أحلم بمعالجة خيباتها التي لا تكفّ عن التناسل عن طريق الحرف المتأمل، المتصوّف، الباحث آناء الليل وأطراف النهار عن السرّ وخالق السرّ وعالِم السرّ.

- كيف ينظر أديب كمال الدّين إلى من كتب عنه؟

* أنظر بعين الشاكر الممتن. فلقد أنصفني النقد، ولله الحمد، والسبب هو أن النقاد والباحثين وجدوا في قصائدي تجربة شعرية مختلفة عمّا اعتادوا عليه، كما وجدوها بشكل عام ممكنة التلقّي بشكل سلس، وممكنة الـتأويل على نحو يثير الأسئلة النقدية ممتعة وخصبة، فأحبّوها وتناولوها في عدد كبير من  المقالات النقدية والدراسات والبحوث الأكاديمية، ولله الحمد، حتى صدر  عن تجربتي 16 كتاباً نقدياً لنقّاد عراقيين وعرب  كما ذكرت في بداية الحوار. كما منحوني ألقابا مشتقة من تجربتي الشعرية الصوفية الحروفية، مثل "الحروفي"، "ملك الحروف". "أمير الحروف"،" المنوّن"، "شاعر الحرف والنقطة". إنّ هذا العدد الكبير من المقالات والدراسات التي كتبها نقاد من مختلف البلدان والأجيال والاتجاهات الفنية ونشروها في الصحف والمجلات  المحكمة والمواقع عن تجربتي أمر يدعو للفرح دون شك. وبالطبع كان كل هذا الاحتفاء النقدي، من ناحية أخرى، خير معين لي للإستمرار في تعميق تجربة الحرف لديّ وتنويعها.

 ورغم هذه الصورة الجميلة فأنا أعاني بعض الأحيان، مثل أي شاعر آخر، من القراءة التي تحاول جاهدة "لي" عنق القصيدة باتجاه مقاصد لا وجود لها في جسد القصيدة التي أكتبها بل هي موجودة في ذهن الناقد فقط، وهذه القراءة القاصرة تدفع بالنص بعيداً عن معناه ومدلوله ومرماه. وفي قصائدي التي تعتمد الحرف، فإنّ إمكانية حدوث ذلك هي إمكانية لا يمكن إغفالها،  وربما بنسبة أكبر. لأنّ ما يمكن أن تسْميتها ب"ثقافة الحرف" لا تتوفر بسهولة عند جميع النقاد، فهي تحتاج إلى معرفة بأسرار الحرف القرآنية والصوفية والروحية والقناعية والخارقية والتراثية والتشكيلية والسحرية والدلالية. ومثل هذه الأسرار هي ما أسمّيه بمستويات الحرف التي أخاطبها في قصائدي.

 لكن من جانب آخر، هو الأهم بالتأكيد، وجدتُ الكثير من النقاد العراقيين والعرب، عبر تجربتي الشعرية الطويلة، مَن هو قادر على أن يغوص، بمهارة وتألق واقتدار، في بحر الحرف ويخرج  أنواره الظاهرة والمستترة كل حسب جهده وعمق تجربته.  ساعدني هؤلاء النقاد حقاً في تعميق علاقتي مع نصي الشعري من جهة ومع القارئ من جهة أخرى. وأنا مدين لهم ولجهودهم المبدعة التي لا تُقدّر بثمن، مدين  بعمق وبصدق. إنني أنحني أمام محبتهم ونبلهم وإبداعهم، وأقول لهم: شكراً يا مَن كنتم حرفي الناطق بالحق ومرآتي الناطقة بالجمال. شكراً وألف شكر.   لقد كانت كتابات هؤلاء النقاد بالنسبة لي عشبةً كلكامشية يكمن فيها سحر الحياة. أقول هذا دون مبالغة. نعم، كانت إشارة مضيئة على أنني لم أسفح سنوات حياتي عبثاً، ولم أتمسّك بصولجان الحرف خطأً.

- اطّلعت على كتاب النّاقد الجزائريّ عبد القادر فيدوح، (أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية) فوجدته إبداعا على إبداع، حين عزّز فيه قطب الرّؤيا الوجدانيّة، بما سوّغ له النّظر إلى الأفق الدّلاليّ المتوقّع باستمرار؛ للوصول إلى الأنا المثاليّة التي يطمح إليها الشّاعر، والتي تتساوق مع الفكر والرّوح والوجدان، فهل استطاع الوصول إلى مبتغى الشّاعر أديب كمال الدّين الذي يتيح له السّكينة في الأسمى؟

* نعم هو حقا  كما ذكرتِ: إبداع على إبداع.  فلقد كانت رحلة الناقد الفذ الدكتور عبد القادر فيدوح النقدية في قصائدي بحق رحلة الناقد العارف الخبير الذي أضاء بعمق أعماق النص الشعري  بمهارة نادرة وسلاسة بديعة. هو ناقد يقف في مقدمة النقاد الذين تعاملوا مع نصي الشعري وكشفوا عن أعماقه فألف شكر وتقدير له. وألف شكر وتقدير لأهلي في الجزائر الحبيبة الذين كتبوا عني بإبداع عميق وتألق نادر من أمثال: د. غزلان هاشمي، د. نعيمة سعدية، عبد الحفيظ بن جلولي،  د. نجلاء أحمد نجاحي، د. عبد الوهاب شعلان، د. خولة ميسي، عدنان لكناوي، د. انشراح سعدي، عطية راضية. وللدكاترة الفضلاء والطلبة الأعزاء الذين كتبوا الكثير من رسائل الماستر القيّمة عن تجربتي الشعرية في  جامعات: محمد خيضر بسكرة، وسوق أهراس، ومحمد الشريف مساعدية، وقاصدي مرباح ورقلة، والعربي التبسي.

ختامًا: نشكرك شاعر الحروفيّات أديب كمال الدّين على هذا الحوار الماتع، ونرجو كلمةً في حقّ الجزائر، وأخرى خاصّة في حقّ أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ.

* أما عن شعب الجزائر فإنّ القلم يعجز عن وصف شعب قدم من الشهداء  عددا عظيما من أجل حريته، وضرب للبشرية  كلها مثالا عظيما في الشجاعة والبطولة والإباء، ولم يزل ينير بمواقفه المبدئية كل ما هو إنساني وعادل.  كلّي تحية له مقرونة بالاعجاب والاحترام والتقدير. كذلك أشكر من الأعماق أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ بشخص مديرتها الأكاديمية الكبيرة الدكتورة سعاد بسناسي على هذا الحوار وعلى مداخلتها النقدية القيّمة التي كانت بعنوان: "حروفيات أديب كمال الدين ودلالاتها الصوفية" والتي شاركت فيها مؤخرا في الملتقى الوطني للتصوف، الذي نظّمته أكاديمية الوهراني بالتنسيق مع مخبر المعالجة الآلية للّغة العربية وبيت الشّعر الجزائري، بعنوان: “الأدب الصّوفي: التجليّات والأبعاد”.

 

 

أديب كمال الدين في مرآة النقد الجزائري

عالم الحرف في شعر أديب كمال الدين عالم متمرد على كلّ حدٍّ، غير أنه متطلع إلى كل مدٍّ في اتساع آفاقه، إنه عالم يتنامى فيه الاختلاف مقابل الائتلاف، يضمر فيه العقلاني مقابل اللاعقلاني، عالم يحاكي زمناً يتجسد فيه غياب المعنى؛ الأمر الذي حيّر معه دور الكلمة، وركنها إلى كلّ ما هو مبهر ومدهش، عالم فيه ضلّ الشاعر مع حروفه، وظلّ هائما حين صار كلّ حرف يحمل شحنة من الدلالة، هي في علاقة اضطراب مع واقع الشاعر الناتج من انفصام معناه عن مبناه.

أ. د. عبد القادر فيدوح

(أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين) تأليف: د. عبد القادر فيدوح، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016 ، ص 53.

***

الشاعر أديب كمال الدين حرف وصوت للواقع الذي يعيش فيه ويتنفس أحلامه وأحزانه وأفراحه، ويبلور فيه كل المعتقدات والاتجاهات المسيطرة عليه، في معركة حقيقية ضد الاستبداد والقهر. إنه شاعر عاش بالحرية، وعاش للحرية ولا تكتمل إنسانية الإنسان ما لم تكتمل حريته، وفق ما تقرّه الحروفية التي يؤمن الشاعر بها.

أ. د. نعيمة سعدية

(دلالات لفظ الحرف وسياقات استعماله في شعر أديب كمال الدين)، مجلة (حقول) المحكمة التي يصدرها النادي الأدبي بالرياض العدد 16 لسنة 2023.

***

تسري في شعر أديب كمال الدين روح وجودية قوية تتآلف مع نزعة صوفية لا تخطئها العين، ولعل ما يلفت الانتباه هو هذا التآلف نفسه بين رؤيتين متباعدتين، يصل التباعد بينهما حد التناقض في بعض الأحيان. فالوجودية في فكر روادها وباختلاف مشاربهم الفلسفية من كيرجارد إلى سارتر، مرورا بنيتشه وهايدغر وكارل ياسبرس، هي فلسفة الذات في مواجهة العالم، فيما تنزع الصوفية إلى الفناء في المطلق. قد يلتقيان في مفاهيم الغربة والعزلة والوحشة  والموت، ولكنهما لا يلتقيان في جوهر هذه المفاهيم وحقائقها. إنّ تراجيديا الوجود والتوق إلى المطلق كلاهما كان وراء هذا الهروب الميتافيزيقي نحو القصيدة، بوصفها محور الوجود وأصل الكائن ومبدأ الكينونة.

أ. د. عبد الوهاب شعلان

(فـي القصيـدة وضيافـة "الغـاوين": محاولـة اقتـراب من شعـر أديب كمـال الديـن)،  مجلة جيل العلمية المحكمة العدد 69 مايس 2021.

***

تحتفي نصوصية أديب كمال الدين بتقاطع الفكري مع الإنساني، فالحرف بما هو التزام يشكل كينونة ووجوداً وتموضعاً في هيولى العدم ليتحول إلى هوية وانبثاق وبعث ورؤية، والقصيدة عنده ترتكز على مفاهيم المغايرة والاختلاف، إذ الهوية معها تعدد واختلاق ولا نهائية والمعنى فيها بوح محذوف ينتظر قارئاً نوعياً مغامراً يحاول استبطانه وكشف أسراره. إن تجربة كمال الدين انعتاق من أسر التطابق والتماثل وتأسيس لزمن الدهشة، وبحث عن الإنسان في غياب المعنى، وتموضع في مسافات الصمت من أجل تحويل المحذوف إلى هويات متعددة واختلاقات لغوية ملفوفة بالأسرار.

 أ. د. غزلان هاشمي

(في حضرة المعنى من الاجتثاث إلى التفكيك)، جريدة الحوار الجزائرية 20 أيلول- سبتمبر 2020.

***

الشاعر أديب كمال الدين من الشعراء الأفذاذ الذي جمع شعره إشارات عدّة متباينة وخلّاقة. فعلا صيته وعلا ذكره خلال سبعينات القرن العشرين. والقارئ لشعره يقف على مخزون من التجارب الشعورية والخبرات البشرية التي خاضها الشاعر طوال حياته عاين فيها آلام الإنسان الفردية والجماعية المصرّح بها والمضمرة، مما ولّد في نفسه طاقةً لدرء الألم بالألم. فاختار لنفسه أن يرمز لهذه الآلام  بتعابير فنية مخصوصة كالتناصّات والتكرار والألوان.

د. خولة  ميسي

(تفاعل الكتابة مع الألم في شعر أديب كمال الدين)، مجلة أبوليوس المجلد 9 العدد 1 جانفي - كانون الثاني 2022.

***

استطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يعوّض ما يخيّل إلينا أنّ القصيدة النثريّة قد فقدته أي الوزن، من خلال ثراء المفردات، والجمل، والتعابير، والتراكيب التي اتّسمت به نصوصه، فضلا عن التوازيات، والمقابلات، والطباق التي تشكل جميعها إيقاعا داخليّا للقصائد.

أ. د. نجلاء أحمد نجاحي

(التناص مع القصص القرآني في شعر أديب كمال الدين)، تأليف: أ. د. فاضل عبود التميمي وأ. د. نجلاء أحمد نجاحي، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق 2021، ص 107.

***

إنَّ الخطاب الحروفيّ في تجربة الشاعر أديب كمال الدين، لا يُستبْصَر بقراءةٍ واحدةٍ، ولا تأويلٍ واحدٍ؛ لأنّ رهانه الشّعريّ على طاقة الحرف لم يكن رهاناً ظاهريّاً، وإنّما كان رهاناً على روح الحرف، وطاقته، وأطيافه، وإشاراته، وعرفانيّته، لتكون تجربته الحروفيّة، على هذا النحو، تجربة في الوجود، هدفها البحث عن الأعماق في الذّات الإنسانيّة.

عدنان لكناوي

(الحرف والنقطة في شعر أديب كمال الدين)، تأليف: عدنان لكناوي، دار الدراويش، المانيا 2022، ص 200.

إصدارات أديب كمال الدين

   صدرت له المجاميع الشعرية الآتية:

- تفاصيل، مطبعة الغري الحديثة ، النجف، العراق 1976 .

- ديوان عربيّ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1981 .

- جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1989.

- نون، دار الجاحظ ، بغداد، العراق 1993.

- أخبار المعنى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1996.

- النقطة (الطبعة الأولى)، مكتب د. أحمد الشيخ ، باب المعظّم، بغداد، العراق 1999.

- النقطة (الطبعة الثانية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2001.

- حاء ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2002.

- ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006.

- شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007.

- أبوّة Fatherhood ، (بالإنكليزية) دار سيفيو، أديلايد، أستراليا 2009.

- أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009.

- أربعون قصيدة عن الحرف، Quaranta poesie sulla lettera (بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)، منشورات نووفا إيبسا إيديتوره ، إيطاليا 2011.

- أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2011.

- مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2012.

- ثمّة خطأ Something Wrong ، (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat ، أديلايد، أستراليا 2012.

- الحرف والغراب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013.

- تناص مع الموت: متن در متن موت (بالأورديّة: ترجمة: اقتدار جاويد)، دار كلاسيك، لاهور، باكستان 2013.

- إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2014.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الأوّل، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2015

- رقصة الحرف الأخيرة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2015.

- في مرآة الحرف، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثاني، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016.

- الحرف وقطرات الحب  La Lettre et les gouttes de l'amour  (بالفرنسية: ترجمة وتقديم: د. ناجح جغام) دار جناح، فرنسا 2017.

- حرف من ماء، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.

- دموع كلكامش وقصائد أخرى  Lagrimas de Gilgamesh Y  Otros Poemas

(بالإسبانية: ترجمة: جوزيب غريغوري، مراجعة وتقديم د. عبد الهادي سعدون)، دار لاستورا، مدريد، إسبانيا 2017.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثالث، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الرابع، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الخامس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2019.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020.

- حياتي، حياتي    My life, my life!(بالإنكليزية)، دار ومطبعة فيوجي فلم، أديلايد، أستراليا 2021.

- مواقف الألف: مواضع ألف (بالفارسية: ترجمة: د. نعيم عموري)، منشورات قهوة، الأهواز، إيران 2022.

- الحرف والغراب: حرف وكلاغ (بالفارسية: ترجمة: د. نعيم عموري)، منشورات قهوة، الأهواز، إيران 2022.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السابع، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، لبنان 2024.

- الأعمال الشعرية الكاملة: مختارات حروفيّة، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، لبنان 2024.

موقعه الشخصي:     www.adeebk.com

 

 

نُشر الحوار في جريدة الامة - الجزائر في 11 و12 ماي - آيار 2024

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home