بسم الله الرحمن الرحيم
الأعمال الشِّعريّة الكاملة
أديب كمال الدّين
The Complete Poems of
Adeeb Kamal Ad-Deen
المجلّد السّادس
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020
الأعمال الشِّعريّة الكاملة
أديب كمال الدّين
The Complete Poems of
Adeeb Kamal Ad-Deen
المجلّد السّادس
أديب كمال الدّين
Adeeb Kamal Ad-Deen
أديب كمال الدّين (1953
-
بابل) شاعر ومترجم وصحفي من العراق
مقيم حالياً في أستراليا. تخرّج من
كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد
1976،
كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من
كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى
دبلوم التّرجمة الفوريّة من المعهد
التّقني لولاية جنوب أستراليا 2005.
أصدر 24 مجموعة شعريّة بالعربيّة
والإنكليزيّة، كما أصدر المجلّدات
السّتة من أعماله الشّعريّة الكاملة.
تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات
كالإيطاليّة والإنكليزيّة والأورديّة
والإسبانيّة والفرنسيّة والفارسيّة
والكرديّة. نال جائزة الإبداع عام
1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده
ضمن أفضل القصائد الأستراليّة
المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007
و2012 على التّوالي.
صدر أحد عشر كتاباً نقديّاً عن تجربته
الشّعريّة، مع عدد كبير من الدّراسات
النقديّة والمقالات، كما نُوقشت
الكثير من رسائل الماجستير
والدّكتوراه التي تناولت أعماله
الشّعريّة وأسلوبيته الحروفيّة
الصّوفيّة في العراق والجزائر والمغرب
وإيران وتونس.
موقعه الشّخصي
www.adeebk.com
بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)
سورة يوسف. الآية 86
المحتويات
شخصيّات حروفيّة
***********
الآخَرُ الذي هو أنا
قصيدة عن الحديقة
لم تكن
ملك الحروف غير السّعيد
دموع كلكامش
آلن ديلون
التّعساء
شهريار وشهرزاد
هاملت مُنتحراً
زها حديد
فيسبوك
شوبان والبحر
الطّلقة الأولى
المُمثّل الكبير
حفلة الأقنعة
صديقي صاحب الكأس
حينَ قُتِلَ الملكُ الشّاب
محمد القبّانجي
قِرَدة
صانعُ الكراسي الذّهبيّة
محمد علي كلاي
في المطعم الفخم
صوت مبصر
ملك المنفى
وصيّة الحلّاج
المطربة العارية
تسونامي
مراراً وتكراراً
كتاب الموتى
إلى الأعلى
شارع الذّاكرة، شارع القهقهات
أصابع
الحفلة الكبرى
صاحب الشّاهر
عيون القطط
أمام
تمثال جان دمّو
غرفة فان كوخ
ديمس روسس
الفلّاح
مقارنة كلكامشية
شاعر
الفراتُ يطلُّ على دارِ السّينما
سين السّعد وميم الموت
مُفسّر الأحلام
أنجلينا جولي
شمعتي
ذرّة من تُراب
خالد جابر يوسف
بقايا
الملكة المجنونة
صانع الوهم
مازوشي
البحر والحرف
حرف من شمس
***********
قوس قزح أسود
جناحان
لكثرة ما كتبتُ عن الحُبّ
اختلاف
أتكيت
ومضات عند الفجر
قُبْلَة الحياة
يدي على كتفك
حوار في الوقت الضّائع
سعادة الوهم
اللغز
إهداء
شكراً أيّها البحر
أيّ سحر هذا؟
المحطّة الأخيرة
خرافة حروفيّة
حيث تبدأ الحرّيّة
اسمها الغيمة
أغنية لا تكفّ عن الرّقص
لستُ مُتيقّناً
أغنية جهنميّة
مصنوع من الحجر
رائحة الأزهار
شمس من الرّماد
نبضات
اللغات السّبع
نُكْتَة قديمة
ترقصُ عاريةً على شاطئ البحر
طَرْق متبادل
حلمي الخرافيّ
ربّما
رقصة بعمر فراشة
فتنة الحرف
********
لقطات من فلم رعب طويل
حياتي حياتي!
القهقهة
مراجعة طبيّة
الاحتراف لا يليق بالشعراء
رحلة سرياليّة
الأشجار لا تمشي ولا تبكي ولا تضحك
مثلي
هل
ألم
السّؤال الأزليّ
كفّي اليمنى
البحث عن بوصلة
قصيدة عن الذّاكرة
باب المنفى
عولمة من حجر
دور السّكران
احتجاج
ولادة
قطعة شمس
في مقبرة القصائد
ارجعْ لي روحَ حرفي
سينما
فقط
بالأبيض والأسود
بنك الأحلام
مَن القائل؟
نهاية سعيدة
كنتُ سعيداً حدّ اللعنة
أين الذّئب؟ أعني أين الليل؟
سفينة
الحربُ لا تنتهي أبداً
الطّائر
المجنون
باب النقطة
في الأخير
ثقوب
مسرح سحريّ
ابتزاز
قمر السّعادة
نهر الحروف
دعاء
تناص أم تلاص؟
رقصة الدّرويش
قال لي حرفي
*********
كم بلغَ حُبّكَ
له؟
اثنان
أيُّ نوعٍ مِن الطّيور أنا؟
جَمال
إلامَ تشيرُ الدائرة؟
هل تبحث أنتَ عن نقطتكَ أيضاً؟
قطار التيه
قشّة الحلم
حين عبرنا البحر
هل في حقيبتِكَ شمس؟
لا تخبر أحداً
الوهم الأعظم
هذا ما لا يحتمله بشر
لا ندَّ لأناي سوى أناي
الواحد بعد الآخر
حسناً، ومَن أنت؟
السّؤال العجيب
القصيدة المعجزة
أهذا لغزٌ أم حقيقةٌ أم أكذوبة؟
الهُنَا والهُنَاك
السّؤال الذي لم يقله أحد
متى تتوقّف دمعتك؟
قلب من نور
دموع يعقوب
هل جرّبتَ المشي على الجمر؟
تناص مع الجواهري
مشهدُ الرّماد
ماذا صنعتَ بآلامكَ الهائلة؟
روايات
أيّة قصيدة؟
وكان له حرف
*********
حرف على قيد الحياة
حرف الحلم
حرف حياتي
حرف ثقب الإبرة
حرف الطّين
حرف الحافّة
حرف الطّفولة
حرف السّنّارة
حرف
الشِّعر
حرف السّيرك
حرف دَلْو السّعد
حرف المنفى
حرف الوسام
حرف البياض
حرف السّكين
حرف النّاس
حرف القُبْلَة
حرف الرّغيف
حرف الرّسّام
حرف المطر
حرف القصيدة
حرف الكينونة
حرف الأم
حرف المستحيل
حرف اللاعودة
حرف الرّائي
حرف القول
حرف المعجزة
حرف الحرب
حرف الكابوس
حرف السّؤال
حرف جلال الدّين الروميّ
حرف اللاأين
حرف مُعَلَّق
حرف القشّة
حرف الضّحك
حرف البحر
حرف الرّوح
حرف الفجر
حرف الشّحّاذ
شخصيّات حروفيّة
الآخَرُ الذي هو أنا
لم أكنْ مُحتاجاً إلى ما تقول،
كنتُ مُحتاجاً إلى شفتيكَ.
ولم أكنْ مُحتاجاً إلى شفتيكَ بل إلى
لسانِك.
لا لم أكن مُحتاجاً إليه بل إلى
روحِك.
لا لا لم أكنْ مُحتاجاً إليها بل إلى
حائك،
أعني إلى بائك،
أعني إليك.
وأعرفُ أنّكَ لا تعرفُ نَفْسَكَ
مِثْلي
فقدْني إليك.
نعم،
جميلٌ أن ألتقي بأعمى مِثْلي،
تائهٍ مِثْلي
يبحث عنّي
ولا يتركني أهذي في الطّريق
إلى أن أموت.
قصيدة عن الحديقة
قامَ أبي من شَلَلِه النّصفيّ
ليسقي الوردَ في الحديقة.
تساقطتْ قطعٌ من الذّهبِ والحلوى
وزقزقتْ فوقَ رأسي سبعةُ طيور
بألوان بهيجةٍ جدّاً
وموسيقى بهيجةٍ جدّاً.
فرقصتُ قليلاً
وبدأتُ أجمعُ قطعَ الحلوى
فوجدتُها، وا حسرتاه، فاسدة،
وقطعَ الذّهب
فوجدتُها، وا خيبتاه، مُزيَّفَة.
ونظرتُ إلى أبي فوجدتُه
جُثّةً هامدةً على الأرض.
وكأيّ طفلٍ باغتهُ مشهدُ الموت
بدأتُ أبكي عندَ جُثّته.
بكيتُ طويلاً طويلاً
حتّى تحوّلتُ بعدَ سبعة طيور،
أي بعدَ سبعة دهور،
إلى شيخٍ كبير
يسقي الوردَ في الحديقة،
الحديقة التي لم يكنْ لها وجودٌ
أبداً.
لم تكن
لم تكنْ غلطتي
أنّني أضعتُ دراهمَ العيدِ السّبعة
قربَ بوّابةِ المتحفِ العراقيّ
واتّهمتُ كلكامش بما قد حدث.
إذ قالَ لي:
أنا مثلكَ، أيّها الطّفلُ،
أضعتُ صديقي، وعُشبةَ روحي.
أنا مثلكَ لا أستطيع
أنْ أنقذَ عينَ العيدِ من عينِ
الدّموع.
ثُمَّ إذ عبرتُ الجسر
وجدتُ الحلّاجَ مَصلوباً
فبكيتُ لما حلَّ بهِ مِن هوانٍ عظيم.
لكنّها لم تكنْ غلطتي.
- هكذا قالَ لي-
هذه فتنةُ العشقِ أيّها العاشقُ،
أيّها المُندهشُ بما جَرى لي أو
سيجري.
إنّها فتنة أن ترى ما لا يرى الآخرون
وتعرف مِن اللهِ ما لا يعرفون.
فكفكفْ دموعَك
لأنّي سأُحْرَقُ غداً
وسَيُنثَرُ رمادي بعدَ غد
عندَ ناصية الجسر.
فكفكفْ دموعَك
ربّما ستبكي بصمتٍ أكثر ممّا بكيتُ
وتُصلَبُ سرِّاً على جسرِ منفى
الحروف.
لكنّها لم تكنْ غلطتي
حينَ وجدتُ السيّابَ في البابِ
الشّرقيّ
يتوكّأُ على عصاه وحيداً
وبالكاد يمشي.
قلتُ له
وقد اقتربنا من المسجدِ
وتركنا خلفنا نصبَ الحُرّيّة:
كيفَ الحال يا أبا غيلان؟
فقالَ: أعطني سيجارةً أوّلاً.
وبعدَ أن نفثَ دخانَها
أضافَ، بصوتٍ خفيض:
حذارِ من هذا الزّمان
وأكاذيب هذا الزّمان.
إنّها لم تكنْ
غلطة قلبي الذي كانَ له
أن يكونَ دجلة حلمٍ
وفرات حرفٍ وحُبٍّ وشوق.
إنّها لم تكنْ
غلطة أنشودةِ المطر
أيّها الشّاعرُ الذي سيرى
مِن الهولِ ما يكفي لقتلِ بلادٍ
لا يكفُّ ليلُها عن الهَلْوَسَة
ولا فجرُها عن التمتمة.
ملك الحروف غير السّعيد
اجتمعَ ملوكُ الأرضِ السّعداءُ في
احتفالٍ عظيم.
جاءوا من الشّرقِ والغرب،
من الشّمالِ والجنوب،
مُتوّجين بتيجانِ الذّهبِ والفضّة
أو بتيجانِ الفواكهِ والرّيش
أو بتيجانِ الجماجم والعِظام.
كانوا بِيضاً وسُوْداً،
حُمْراً وصُفْراً،
شيباً وشبّاناً.
وبعدَ أن ألقوا خطاباتهم السّقيمة
صعدتُ المنصّةَ لألقي خطابي،
أعني قصيدتي الحروفيّة التي تحتجُّ
على الرّؤوس
إذ تتدحرجُ عبثاً في الحروب،
وعلى الحروبِ التي أجّجتْ براكينَ
الحقدِ والدّم،
وعلى الدّمِ الذي يفيضُ في شوارعِ
الفقراءِ والمُعْدَمِين،
لكنَّ ملوكَ الأرضِ السّعداء
منعوني من إلقاءِ خطابي
أعني قصيدتي الحروفيّة
لأنّي لستُ ملكاً مثلهم كما يَزعُمون
ولستُ سعيداً كما يَدّعون.
دموع كلكامش
أنا شاعرٌ محظوظ
لأنّي لا أتوقّفُ عن الكتابةِ أبداً.
والسّببُ بسيطٌ جدّاً
فقد مسحتُ بيديّ المُرتبكتين
دموعَ كلكامش المتدفّقةَ ليلَ نهار
وهو يبكي؛
مرّةً على أنكيدو الذي اغتالهُ الموت،
ومرّةً ثانيةً وثالثة
على عُشبةِ الخلودِ التي سرقتها
الأفعى
من قلبه
ذاتَ حياة.
آلن ديلون
أمِن العدلِ يا صديقي آلن
أن تُعِيرني عينيكَ في مشهدِ شَنْقٍ
مُخيف،
عينين عجيبتين،
غامضتين،
مُذهِلتين،
ذاهِلتين،
وأنتَ تمشي بقدمين مَرعوبتين إلى
المقصلة؟
أمن العدلِ أن تفعلَ بي هذا في مشهدٍ
سينمائيّ
- وأنا المُمثّل المُطارَد المنفيّ-
لينتهي المشهدُ سريعاً
بعدَ أربع دقائق أو أقلّ
وينتهي الأمرُ بأن يمنحكَ المُخرج
حقيبةً ملأى بالذهب
مع حشد من الشّقراواتِ يلتهمن
كلَّ قطعةٍ منك
ويأكلن شفتيكَ أكْلَ العسل؟
وأنا ينتهي الأمرُ بي
بأن أمُثّل المشهدَ كلّ يومٍ
لسبعين عاماً
فأمشي بقدمين مَرعوبتين إلى المقصلة
وبعينين عجيبتين،
غامضتين،
مُذهِلتين،
ذاهِلتين
ثُمَّ يمنحني المخرجُ حقيبةً صدئةً
ملأى بالتراب
مع حشد من القرود
يتقافزون مِن حولي ويتضاحكون؟
أمِن العدلِ هذا يا صديقي آلن؟
أمِن العدلِ هذا يا صديقي الجميل؟
التّعساء
في ذلك العام الذي لا عام بعده،
خرجتُ إلى الشّارع
في دورِ المُشرّدِ الحقيقيّ
والهاربِ الضّائع.
فَتَحتّمَ عليَّ
أنا الصّبيّ الباحث عن رغيفِ الخبز
أن أطرقَ البابَ الأربعين
بل أن أكسرَ البابَ الأربعين
لأُفَاجَأ بأنكيدو يصارعني،
وكلكامش يقرأ عليَّ سرَّ أفعاه،
والحلّاج يشير إلى صليبه،
والتّوحيديّ يعرض عليَّ بعينين
دامعتين
رمادَ كتبه،
وهاملت يهذي عن حبيبته،
والسيّاب يرثي ارتباكه العظيم.
يا لها مِن مفاجأة!
لم أكنْ سوى هاربٍ ضائع،
سوى صبيّ يبحثُ عن رغيفِ خبز
فلماذا تَحتّمَ عليَّ
أن ألتقي بكلِّ هؤلاء التّعساء
وأرث كلَّ خيباتهم الكبرى؟
شهريار وشهرزاد
مثلما أضاعَ شهريار ذاكرته
في ألفِ ليلةٍ وليلة
حتّى تحوّلَ إلى مُستمعٍ أليفٍ
مُدجَّن،
صرتُ في حياةٍ من ألفِ حرفٍ وحرف
وألفِ نقطةٍ ونقطة،
أتقاسمُ معَ قصائدي
ما تبقّى من رمادِ ذاكرةِ شهريار
وأوزّعهُ سرّاً وعلانيةً،
على شينِ شهرزاد
وزاي شهرزاد
ودالِ شهرزاد.
وأضحكُ حدّ البكاء
من حياةٍ كنتُ فيها معاً
شهريار وشهرزاد؛
السَّيف والعنق،
الجمرة والدّمعة،
البحر والسّندباد.
هاملت منتحراً
حينَ عرفَ هاملت أنَّ النّاس
في كلِّ مكان
قد ملّوا حدّ اللعنة
من حيرته السّوداء
وتردّده الأسْوَد،
قرّرَ أن يختفي من المسرحِ إلى الأبد.
في اليومِ التّالي
عرضتْ مسارحُ الأرض،
في مشارقِ الأرضِ ومغاربها،
ما لا يُحصى من مسرحياتِ أميرِ
الدّنمارك
مثّلَهَا مجانين وأنصافُ مجانين
وأرباعُ مجانين بالطبع.
وكانتْ أكثرها إدهاشاً للجمهور؛
هاملت وكلكامش والأفعى.
هاملت في بابل يتعرّى.
هاملت والسّندباد البحريّ.
هاملت الفرعونيّ.
هاملت النّفطيّ يتكلّمُ
السّنسكريتيّة.
هاملت يلعبُ الرّوليت في الخيمةِ
الصّحراويّة.
هاملت بالقُبّعةِ المكسيكيّةِ
والسّيجارِ الكوبيّ.
هاملت بعيونِ القطِّ وشواربِ هتلر.
هاملت يفتتحُ متحفاً سرّيّاً في
مدغشقر.
هاملت في اليوتيوب
يبكي اللاجئين الغرقى وسطَ البحر.
هاملت يطلبُ العفوَ من الطّغاة.
هاملت يشربُ العرقَ المغشوشَ ليلَ
نهار.
هاملت يلقي خطابَ الفيسبوك
بدلاً من خطابِ العرش.
هاملت من دونِ هاء أو تاء.
هاملت برأسين وعينٍ واحدة.
هاملت المُتحوّلُ جنسيّاً.
هاملت مُنتَحِلاً.
هاملت مُنتَحِراً.
زها حديد
بعينين أوسع من عيني زرقاء اليمامة
وأجمل من عيني زرقاء اليمامة،
ستكتبين شِعْراً عجيباً
على هَيئةِ عماراتٍ وناطحاتِ سحاب
وتهبينه، في كرمٍ حاتميّ، مدنَ
العالم.
وسيبتهجُ العالمُ كلّه
ويرقصُ أمامَكِ مثل طفلٍ صغير.
يرقصُ لابنةِ دجلة الحالمة
تلكَ التي كانتْ عماراتُها المُذهلة
وزقّوراتُها الهائلة
صورةً ناطقةً من حكاياتِ شهرزاد،
صورةً راقصةً من حكاياتِ ألف ليلةٍ
وليلة.
*
لنْ أقولَ وداعاً لجوهرةِ دجلة،
أعني ملكة دجلة
تلكَ التي لم يُرَ مثلُها في النّساء.
لكنّي سأعتذرُ لكِ مَرّةً،
بل ألف مَرّة،
لأنَّ دجلة لم تغسلكِ بمائها
السِّحْريّ
وأنتِ تموتين - وا حسرتاه - بعيداً
بعيداً،
ولأنَّ الفراتَ - وا أسفاه - لم يقبّل
الأرضَ بين يديكِ
وأنتِ تقولين للأرضِ وداعاً
بعدَ أن تركتِ عليها ألفَ بابٍ مُضيء
بالسِّحْرِ والمُستحيل.
فيسبوك
فجأةً ماتَ زيد
فارتبكَ أصدقاءُ زيد.
وفي المقبرة،
بعدَ أن وُضِعَت الجثّةُ في الحفرةِ
الأخيرة،
قالَ أوّلهم: سأكتبُ عنكَ روايةً
خطيرة.
وفي الليلِ صمّمَ على الانتحار
لكنّه لم يكنْ شجاعاً بما يكفي
لينتحر.
وكادت الدّموعُ أن تهبطَ مِن عينيّ
الثاني،
وقال: سأكتبُ عنكَ كتاباً كبيراً.
وفي الليلِ قرّرَ الصّلاة
لكنّه تذكّر
أنّه لم يعدْ يتذكّر سورةَ الفاتحة
فنسي أمرَ الصّلاة.
ونظرَ الثالثُ نظرةً لا معنى لها.
وفي الليلِ أصابهُ الأرق
فلم ينمْ إلّا قليلا.
*
بعدَ سنين كثيرة
اجتمعَ أصدقاءُ زيد في الحانةِ
القريبةِ من المقبرة،
وقرّروا أن يزوروا قبرَه المُغطّى
بالثلجِ والعُشب
والتقطوا صوراً كثيرة.
*
التقطَ الأوّلُ صورةً للأصدقاء
يرفعون نخبَ الصّديقِ الرّاحل.
والتقطَ الثاني صورةً للقبر،
والقبر فيها دونَ شاهدةٍ أو علامة.
والتقطَ الثالثُ صورةً لامرأةٍ مُثيرة
مرّتْ صدفةً قربَ بابِ المقبرة.
*
بالطبعِ،
لم يفِ أصدقاءُ زيد بوعودهم.
فلم يكتب الأوّلُ روايتَه الخطيرة
ولا الثاني كتابَه الكبير.
ولم يفعل الثالثُ شيئاً مُهمّاً
سوى أنّه نشرَ في الفيسبوك
صورةَ المرأةِ المُثيرة!
شوبان والبحر
عزيزي شوبان
سآخُذُ معي رقصاتِ أصابعكَ على
البيانو
وأذهبُ الى البحر
وسأشربُها معَ رقصات الموج.
علَّ هذا النّبيذ العجيب يشفي جراحَ
القصيدة.
*
رقصاتُ أصابعكَ على البيانو
تُضِيءُ شمعةَ الرّوح
بشلّالِ وردٍ وعطرِ سلام.
ربّما ترسمُ الأمل؟
نعم،
ترسمُ الأملَ غيمةً من مطر
وسطَ صحراءِ هذا الزّمان.
*
لغتُكَ ترقص؟
نعم، ترقصُ، ترقصُ، ترقصُ.
إنّها رقصة الحرفِ إذا طارَ شوقاً
إلى حلمٍ فرَّ بعيداً بعيداً
خارجَ كلّ معنى ووصفٍ وصورة.
*
ها أنذا أنامُ على شاطئ البحرِ وحيداً
إلّا مِن فيضِ روحِكَ.
أصابعُكَ على البيانو ترقصُ قربَ
أذنيّ
فتشربُها لوعةُ قلبي على مهلٍ
رشفةً رشفةً
حتّى يحين وقتُ شروقِ القصيدة
ووقتُ اكتمالِ الزّمان.
الطّلقة الأولى
قالَ العارفُ لآلافِ المُصلّين
الفقراء:
لو أنّ كلَّ النّاسِ صلّوا معنا
الجمعة
لانهارتْ منارةُ الجوعِ في العالم.
بكى المُصلّون بدموعِ الجوعِ والألمِ
والحرمان
حتّى غطّتْ دموعُهم الحرّى وجوهَهم
وقلوبَهم
فرفرفتْ أجنحةُ الملائكةِ في السّماء
وتردّدَ صوتٌ ذهبيٌّ بين الغيمات:
صدقَ العارف.
صدقَ العارف.
صدقَ العارف.
*
تحرّكتْ بنادقُ جندِ الطّاغية
وطوّقت المُصلّين الباكين من كلِّ جهة
وبدأتْ تحصدهم حصداً.
........................................
........................................
........................................
كانت الطّلقةُ الأولى من نصيبِ
العارفِ بالطبع!
المُمثّل الكبير
لا أعرفُ لماذا فقأَ المُمثّلُ
الكبيرُ عينيه،
في تلك الليلة العجيبة،
وهو يملأُ المسرحَ بالصراخِ والعَويل،
ولماذا أحاطَ المُمثّلون
بي وبالمشاهدين
مِن كلِّ جهةٍ وهم يُغمغمون.
ربّما كانوا يهذون خلفَ لحاهم
الطّويلة
أو يُهَلْوِسون؟
لا أعرف
فقد كنتُ طفلاً صغيراً.
لا أعرف
بل لا أعرفُ متى كانتْ تلك الليلة
العجيبة،
قبلَ عام؟
قبلَ مائة عامٍ أم ألف عام؟
لكنَّني أعرفُ أنَّني لم أنمْ ليلتها
وأنَّني لن أنام
إلى يومِ يُبعَثون!
حفلة الأقنعة
حينَ دخلتُ الحفلةَ في آخر لحظة،
وجدتُ القومَ يلبسونَ مُبتهجين
أقنعةً للقِرَدَة
وأقنعةً للفِيَلَة
وأقنعةً للكلابِ وأخرى للفئران.
سألتُ عن سرِّ الحفلةِ أو مَغزاها،
فضحكَ القردُ،
أعني مَن يضعُ قناعَ القردِ على وجهه،
وقال: الفلوسُ يا مَنحوس!
وسخرَ الكلبُ وقالَ بصوتٍ مبحوح:
النّسوان.
وغمزَ لامرأةٍ عاريةٍ مَرّتْ
وهي تضعُ قناعَ غزال.
وسألتُ الثعلب
فتبسّمَ وظلَّ يلتهمُ اللحمَ المشويّ
بشهيّةِ ثعلب.
حتّى قادتني قدماي إلى أسدِ الحفلة
فصاحَ بوجهي مُبتهجاً:
مُبارك لكَ جائزة الحفلة!
انتبهت الأقنعةُ جميعاً
وأجابتْ بالتصفيق،
بعاصفةٍ مِن تصفيقٍ وصُراخٍ وصَفِير.
قلتُ له:
أنا لم أضعْ قناعاً.
هذا هو وجهي!
ضحكَ وقال:
كيف؟
ممنوعٌ أن تدخلَ للحفلةِ من دونِ
قناع!
قلتُ بصوتٍ مُرتبكٍ:
هذا هو وجهي من دونِ قناع.
فضحكَ ثانيةً
وصاحَ بصوتٍ عالٍ:
مُبارك لكَ جائزة الحفلة.
فأنا منذ دهورٍ ودهور
لم أرَ وجهَ الإنسان!
صديقي صاحب الكأس
التقيتُكَ
في اللحظةِ التي تعرّتْ فيها العاصفةُ
تماماً.
وكانَ لقاءً مُخيفاً حذفته العاصفة
دون سببٍ أو مناسبة،
دون ذكرى.
*
عادةً تتركُ العاصفةُ ذكرى حينَ تمرّ
لكنّها معكَ ومعي
لم تتركْ سوى موتكَ الواضح
وقصيدتي الغامضة.
*
الحذفُ مطلوبٌ أولاً وأخيراً.
أنتَ اخترتَ من العاصفة
كأسَ خمرتها المُرّة
وأنا اخترتُ من العاصفة
كأسَ قصيدتها المُرّة.
هكذا حذفتْ كأسُ العاصفةِ حياتَكَ
سريعاً
لكنّ كأس القصيدةِ تحذفُ شاعرَها
ببطء شديد؛
كلمةً كلمة،
حرفاً فحرفاً،
نقطةً نقطة.
*
وداعاً
سألتقيكَ في الضّفَّةِ الثانية
حينما يتمّ حذف قصيدتي كلّها
يا صديقي.
حينَ قُتِلَ الملكُ الشّاب
حينَ قُتِلَ الملكُ الشّاب
هجمَ النّاسُ على بيته
ونهبوا سيّارتَه وملابسَه وحصانَه،
ونهبوا صورتَه الشّخصيّة.
يا ليتهم ما فعلوا ذلك
إذ جاءَ من بعده طاغيةٌ
هجمَ على بيوتِهم بيتاً بيتاً
ونهبَ أعمارهم عمراً عمراً.
محمّد القبّانجيّ
كانَ صوتُكَ العجيبُ يُزهِرُ بغداد؛
بغداد الملوكِ والطّمأنينةِ والسَّلام
قبلَ أن يفترسها العسكرُ وتدهسها
دبّابةُ الموت.
كانَ صوتُكَ يمتدُّ قوسَ قزحٍ ليعلنَ
للناس:
بغداد مملكة الشِّعرِ والسّرِّ
وانبثاقِ الحروف،
بغداد صانعة الحُبِّ والسّحرِ
والجمالِ العجيب.
الآن لا أحد يذكرُكَ
بخيرٍ أو بشرّ
أنتَ الذي كانَ صوتُكَ
ما بين دجلة الحلم ودجلة الرّوح
طائراً من سماء لا حدَّ لأحلامِها أو
لأسرارِها،
بل الآن
حينَ أذكر اسمَكَ يضحكُ صاحبي الشّاب
ويقول لي هازئاً:
مَن هو القبّانجيّ؟
ثُمَّ ما معنى المَقام؟
ولماذا يئنُّ المُغنّي كلَّ هذا
الأنين؟
قِرَدة
ضاعت المدنُ في جحيمِ الرّايات
وصارت القِرَدةُ تخطبُ على المنابرِ
والمسارحِ والملاعب،
قِرَدةٌ من كلِّ الأنواع؛
قِرَدةٌ عُراة،
قِرَدةٌ خرجتْ من بطونِ التّاريخ،
قِرَدةٌ بشعرٍ أصفر
أو بلحى بِيض
أو بسراويل حُمْر،
قِرَدةٌ
ترطنُ بكلِّ الأكاذيبِ التي حينَ
يسمعها الشّيطانُ يضحك
لأنّه لا يعرفُ منها إلّا حرفاً أو
حرفين.
صانعُ الكراسيّ الذّهبيّة
صانعُ الكراسيّ الذّهبيّة
للملوكِ والطّغاةِ والأباطرة
لا يملكُ في بيته أيَّ كرسيّ كان،
حتّى من الهواء.
وحينَ سألتُهُ عن السّببِ، قال:
أكرهُ الكراسيّ ومَن يجلسُ عليها
وأكرهُ حدّ الجنون
أولئك الذين يمتدحون بريقَها المُخيف.
محمد علي كلاي
في صِقِلِّية
رأيتُ كفَّ الفارسِ الذي طردَ
القادمين عبرَ البحر
بحجمِ أكذوبةٍ ماثلة،
مثلما كانتْ كفُّ طاغيةِ العراق
أكذوبةً هائلة
صاغها الفنُّ الأجير
ذاتَ ليلٍ طويل.
كلتا الكفّين آتتْ من البهتانِ بحراً
وبحراً.
لكنَّ كفّكَ كانتْ أسطورة،
أسطورة أصابعها القوّة والرّقص.
وحروفها رسالة حُبٍّ ضدَ أزيز
الكراهية
ودموع التّماسيح.
قلبُكَ كانَ مستودعاً لطيورِ السّلام
لا لطبولِ الحرب،
ورأسكَ شمساً للذي يقولُ للشيء كن
فيكون.
هكذا اكتملتْ لغةُ السّحْرِ عندكَ
بيضاء بيضاء
فكانَ عجيباً موتُكَ بكفٍّ تهتزُّ مثل
سعفةٍ في الرّيح!
في المطعم الفخم
في المطعمِ الفخم
جلسَ إلى مائدةٍ واحدة
كلبٌ وذئبٌ وقرد
فملأوا المطعمَ نباحاً وعواءً
وصُراخاً
لكنَّ صاحب المطعمِ لم يفعلْ شيئاً
أبداً
رغمَ احتجاج النّاسِ، كلّ النّاس.
لأنَّ قائمة مَن نبحَ وعوى وصرخ
كانتْ مدفوعة مُقدّماً مع البَقْشيش.
صوت مُبصِر
الطّفلُ الأعمى
يغنّي في الشّارعِ بصوتٍ مُبصِر.
كانَ النّاسُ مُندهشين، مَذهولين
بالصوتِ العذبِ الآتي من أعماقِ
الطّفل.
أمّا أنا فقد كنتُ أغنّي مع الطّفل
بقلبٍ أعمى
وأذنين مُبصِرتين.
ملك المنفى
اليوم التقيتُ، صدفةً، بملكِ المنفى.
كانَ رثّاً، بائساً، مفلساً
لكنّه لا يكفُّ عن إطلاقِ النّكاتِ
والترّهات
لأتباعه الذين يطلقون القهقهاتِ
الكاذبة.
وصيّة الحلّاج
في الليلةِ التي صُلِبَ فيها الحلّاج
طلبَ منّي أن أكتبَ مرثيّةً عن حمامةِ
نوح،
حمامة نوح دونَ سواها،
وأن أقرأها على رماده حينما يُنثَرُ
في دجلة
عندَ بزوغ الفجر.
لكنْ
حينَ قرأتُ المرثيّةَ عندَ بزوغ الفجر
جاءتْ حمامةٌ مذهلةُ الجمال
بجناحين من نور
ودارتْ حولَ خشبةِ الحلّاج
سبع دورات.
فارتبكَ الجلّادون
وبكى النّاسُ بكاءً مرّاً
حتّى غربتْ شمسُ الله.
المطربة العارية
نزلتْ من المسرحِ العجيب
بعدَ أن غنّتْ أغنيتَها الهائلة.
صَفّقَ الحاضرون بحماسٍ عجيب
لجسدِها الشّيطانيّ العاري تماماً،
جسدها الذي تفوّقَ،
وا أسفاه،
على صوتِها الملائكيّ الذي حَفّتْ به
آلافُ الكواكبِ والنّجوم.
تسونامي
مدحَ البحر،
بالغَ في مدحه حدّ الرّثاثة.
لم يخطرْ بباله أنَّ البحرَ يخفي
مفاجأةَ الموت؛
اسمها تسونامي.
وإذ أهلكَ البحرُ- دونما موعدٍ - كلَّ
شيء،
نعم كلَّ شي،
بكى المادحُ السّاذجُ الغرّ
فهجا البحر
وهجا زرقةَ البحر
وشاطئ البحر
والعُراةَ الذين استطابوا رفقةَ البحر
واللسانَ الذي امتدَّ في داخلِ البحر.
لكنّه نسي أن يهجو لسانَه هو،
هو الذي امتدحَ البحرَ دونَ أن يقرأ
تأريخَ الطّغاة.
مراراً وتكراراً
يقول ت. س.
إليوت:
هل أورقت الجثّةُ التي زرعناها في
الحديقة؟
أخافُ أن يكونَ الكلبُ قد أكلها
بعدَ أن ذابَ الثلج!
هو يقولُ كلاماً مخيفاً كهذا
فأرتبكُ
لأنّني الوحيد الذي يعرفُ أنَّ الكلب
حاولَ أن يخرجَ الجثّةَ من الأرض
مراراً وتكراراً.
ولأنّني الوحيد الذي يخفي
إجابتَه في قصائده،
قصائده التي يدفنُها في الأرض
مراراً وتكراراً.
كتاب الموتى
البارحة
كنتُ أقرأ في كتابِ الموتى؛
الكتاب الصّغير، الأسْوَد، السّحريّ.
فعجبتُ
حينَ رأيتُ
أنّ أسماءَ الموتى
التي تنتهي
بحرفِ الشّين
قد سقطتْ نقاطُها وأسنانُها،
وأنّ أسماءَ الموتى التي تنتهي باللام
قد توقّفتْ منذُ زمنٍ طويلٍ عن
الطّيران.
إلى الأعلى
كانَ دوري أن تُرمى عليَّ السّكاكين
في المأساة،
أعني في المسرحيةِ المأساة.
ولم يكنْ مَن يرمي عليَّ السّكاكين
هو السّاحر أو المُهرّج
بل كانَ قرد سيركٍ يرتدي قناعَ
السّاحرِ
المُهرّج.
في العرضِ الذي استمرَّ حدّ الملل
رماني القردُ بالسكّينِ حتّى أصابني
ففرحَ لمنظرِ الدّمِ يتدفّقُ من جسدي،
وانسلَّ راقصاً من البوّابةِ الخلفيّة
لكنّني رفعتُ كفيّ
إلى
الأعلى،
إلى
الأعلى،
إلى
الأعلى.
شارع الذّاكرة، شارع القهقهات
يحاصرني ذلك الشّارعُ الذي يمتدُّ من
أسفل القلب
إلى وسطِ الخاصرة،
ومن نقطةِ الحرفِ إلى وجعِ القصيدة
ثُمَّ يتشظّى طيوراً وأشجاراً دونما
اسم
وجسوراً عذبةَ الوهم.
شارعٌ يجمعُ الذّاكرة
ثُمَّ يُشتّتُها سريعاً بهدوء مُريب،
يجمعُ الدّمَ والطّلقاتِ السّريعة
والصّرخات.
هل ينبغي أن أذكرَ تفاصيله لأنجو
بنفسي؟
لا أظنّ.
ولذا لن أتحدثَ عن جوامعه أو باراته
أو مطاعمه أو فنادقه.
سأقولُ فقط :
إنّه شارعٌ يمتدُّ مثل أفعى
لكنّها أفعى لا تليقُ بكلكامش
ولا يليقُ بها.
إنّهُ شارع القهقهات.
أصابع
في الحلم
رأيتُ صديقي الذي مات
ناسياً أصابعه الخمسةَ على المائدة،
رأيتهُ يشربُ بهدوء القهوةَ المُرّة
جالساً في القطارِ الطّويل.
فعجبتُ؛
كيفَ لصاحبي أن يشربَ القهوةَ المُرّة
من دونِ أصابع؟
في الصّباح
نظرتُ إلى المائدة
فوجدتُ أصابعَ صديقي على المائدة.
لَمَستُها واحداً واحداً؛
كانَ الإصبعُ الأوّلُ يهذي
والثاني يهذي ويغنّي
والثالثُ يهذي ويغنّي ويدمدم
والرّابعُ يهذي ويغنّي ويدمدمُ ويبكي
والخامسُ يهذي ويغنّي ويدمدمُ ويبكي
ويُصلّي.
الحفلة الكبرى
في الحفلةِ التي شربَ فيها الجميع
كلَّ أنواعِ الخمور
خرجتُ ثملاً تماماً
رغمَ أنّني لم أشربْ أيَّ شيء
بل إنّني لم أحضر الحفلةَ على
الإطلاق!
صاحب الشّاهر
بعينين حالمتين
رأيتُكَ طفلاً وديعاً يرسمُ الحروف
أو ملاكاً يتعلّمُ فنَّ الكتابة.
وإذا اغتالت الحربُ
بالسيفِ والرّمحِ والقنبلة
شبابَكَ الغضّ،
صرتُ أراكَ بعينين دامعتين
طفلاً اختطفه اللصوصُ في زحمةِ السّوق
أو ملاكاً كسرتْ جناحَه الأبيضَ
شظيّةٌ عابثة.
الآن،
بعدَ أربعين عاماً من الموتِ
والجَلْجَلَة،
أراكَ بعينين ساخرتين من عبثِ الزّمان
طفلاً نسي اسمَه وعنوانَ بيته
مَذهولاً بالملاكِ الذي يتوكّأُ ليلَ
نهار
على جناحه المكسور.
********************
صاحب الشّاهر (1953-1982) شاعر عراقي
متميز في حضورة الإنساني وموهبته
الشّعرية. غيّبه الموت أثناء الحرب
العراقية الإيرانية وهو
في ريعان شبابه.
عيون القطط
انتهى الشّاعرُ المنفيُّ من قراءةِ
قصيدته الحروفيّة
ولم أفهمْ- للأسفِ- ممّا قالَ شيئاً
لكنّني صفّقتُ له بقوّة
حينَ رأيتُ عيونَ
الموتِ تلمعُ بقوّة
في المقطعِ الأخيرِ من قصيدته
الحروفيّة.
نعم، رأيتُها تلمعُ تلمعُ
مثل عيونِ القططِ في الظلام.
أمام تمثال جان دمّو
في أخبارِ الأوّل من نيسان
أنّ جمعيّةَ الكحوليين في سدني
أقامتْ تمثالاً لجان دمّو
أمامَ الأوبرا هاوس.
كانتْ جموعُ الأستراليين والصّينيين
والهنود
تمرُّ من أمامه
وتسألُ عن هذا الشّاعر
الذي لا يملكُ في فمه سوى سِنّ واحدة
وابتسامة ساخرة وسعت السّماواتِ
والأرض،
وبيده قنينة خمرةٍ هائلة.
ولذا اضطررتُ أن أقفَ بجانبِ تمثاله
وأقرأ لهم كلّ يوم
قصيدةً جديدةً له.
رغمَ أنّ جان دمّو العظيم
لم يكتبْ سوى قصيدة واحدة،
قصيدة عنوانها؛ السُّكْرُ والشَّتْم
ومضمونها؛ السُّكْرُ والشَّتْمُ
والعربدة!
غرفة فان كوخ
في هولندا
صَمَّموا للسوّاحِ غرفةً تشبهُ غرفةَ
فان كوخ
بسريرِها البائس
ونافذتِها المُطّلةِ على الجحيم
وألوانِها الصُّفْر
ومائدتِها الفارغة
لكنّهم نسوا أن يضعوا
أذنَ فان كوخ على المائدة،
أذنه التي قطعها كدليلِ حُبٍّ
لحبيبته الهازئة.
ديمس روسس
غَنّى أغنيةً من وميضِ الذّهب،
أغنية تقول:
Goodbye my love goodbye
فصارت الأغنيةُ تنتقلُ لسبعين عاماً
من قلبٍ إلى قلب
ومن نهرٍ إلى نهر
ومن بحرٍ إلى بحر
ومن غيمةٍ إلى غيمة
حتّى ماتَ المغنّي في سِنّ السَّبعين
وقد أصبحتْ أغنيتُهُ في السَّماء
ملاكاً عظيماً بسبعين جناحاً.
الفلّاح
الفلّاحُ الذي دلَّ البشريّة
على شجرةِ الحياة،
الشّجرة التي ترمي ثمارها على
البشريّة
ليلَ نهار،
قُطِّعَتْ له ثيابٌ من الأكاذيب
ثُمَّ ثيابٌ من الحجارة
ثُمَّ ثيابٌ من المعارك
ثُمَّ ثيابٌ من السُّم
ثُمَّ هجاهُ الشَّاعرُ الدّعيّ،
والغبيّ،
والمُتكسّب،
والوضيع،
والشَّاعرُ الأحمر،
والأزرق،
والمخمور،
والتّافه،
والرّقيع.
مع أنَّ الفلّاحَ لم يفعلْ شيئاً
سوى أن دلَّ البشريّة
على شجرةِ الحياة.
مقارنة كلكامشيّة
محظوظٌ أنتَ يا كلكامش
فصاحبُكَ أنكيدو ماتَ في حياتِك،
أما أنا فصاحبي أنكيدو
حيٌّ لا يموت!
وصراعي معه حيٌّ لا يموت!
ومحظوظٌ أنتَ
لأنَّ أفعاكَ ابتلعتْ عُشبةَ الخلود
وتركتكَ، على الأقلِّ، طليقاً.
أما أنا فأفعاي تراقبني ليلَ نهار
لتبتلعني.
نعم لتبتلعني،
بعد أن وجدتْ أن لا عُشبة خلودٍ عندي
ولا هم يحزنون!
شاعر
جسدُ قصيدة
وقلبُ طفلٍ
ولسانُ يقطرُ عسلاً
لا يمتدحُ سوى الخمرة والحلم.
لكنّ الحلم كانَ غافلاً أو كسولاً
فتركهُ وحيداً أمامَ كأسِ الخمرة.
في حين ركلت الخمرةُ رأسَه حتّى الموت
أمامَ بابها الوحشيّ.
الفراتُ يطلُّ على دارِ السّينما
الفراتُ يطلُّ على دارِ السّينما.
والسّينما تطلُّ على الطّفولةِ
الحافية
والطّفولة الحافية
تنظرُ باشتهاء إلى "لفّاتِ العمبّة"
والبيضِ المسلوقِ والطّرشي وأفلامِ
فريد الأطرش.
وفريد الأطرش يغنّي قليلاً
ويبكي كثيراً.
معَ أنّ المرأةَ التي ترقصُ أمامه
وتتلوّى باشتهاء أمامه
كانتْ عارية
كَعُري السّينما التي لم يكنْ فيها
أحد
سوى ألف من المهرّجين!
سين السّعد وميم الموت
إلى: سعد محمد رحيم
كلّما لمعتْ سينُ سعدِكَ
فأبدعتْ روايةً باذخة
خطفتْ ميمُ الموت
من قلبِكَ الطّيّبِ شريانَ حُبّ.
*
كانتْ لعبة سوداء كجهنّم.
فسينُ سعدِكَ
من سينِ قلبِكَ
وسين قلبِكَ فراشة غضّة
لا تعرفُ إلّا نقطةَ العسل.
وميم موتِكَ
وحشٌ بشع
لا يعرفُ إلّا نقطةَ السُّم.
*
حينَ خسرتَ الجولةَ الأخيرة
صعدتُ بعينين دامعتين إلى جبلِ
القصيدة
وأضفتُ إلى أبجديتي التي اختطفها
الموت،
أضفتُ سينَ سعدِكَ
لكنَّ سينَ سعدِكَ طارتْ مِن بين
أصابعي
وحلّقتْ بعيداً
أبعد ممّا ترآهُ العين
وأبعد ممّا ترآهُ الغيمة.
*******************
سعد محمد رحيم (1957- 2018) روائي
وكاتب عراقي
مميّز
وإنسان نادر المثال غيّبه الموت وهو
في قمّة عطائه الإبداعي.
مُفسّر الأحلام
مثل حلمٍ مُتهرِّئٍ كانتْ حياتي.
وحينَ حاولتُ أن أرتّقَ ثقوبَه
أو أخفّفَ من غلواءِ رماده المُتوحّش
أو أزرقه الملآن بالشموسِ الغرقى،
لم أستطعْ.
حتّى مُفسّر الأحلام الذي لجأتُ إليه
لم يفهمْ هُدهُدَ سرّي
ولم ينتبهْ إلى بابِ حائي
ولا شبّاكِ بائي
فصارَ يدمدمُ في وجهي طويلاً:
أنتَ ستكتبُ عن الوهمِ والحلمِ كتاباً
كبيراً
يحلّقُ عالياً
فيما سيبقى جسدُكَ الموشومُ بالحاءِ
والباء
مَرسوماً على الطّين
دونما عينين أو جناحين.
أنجلينا جولي
حينَ أرادَ مَلَكُ الموتِ أن ينتزعَ
روحَكِ المُعجزة،
ارتبك
وهو الذي لم يعرف الارتباكَ مِن قبل
بأيّ شكلٍ ولونٍ وصورة.
إذ مدَّ يدَه إليك
فمنعتهُ دمعةُ الشّيخِ الأفغانيّ الذي
أعطيته
ذاتَ يومٍ جُرعةً من دواء،
ثُمَّ منعتهُ صرخةُ الجائعِ الأفريقيّ
الذي حملتِ إليه
رغيفَ خبزٍ وجرعةَ ماء،
ثُمَّ منعته لوعةُ الطّفلِ السّوريّ
الذي صرتِ لهُ أمّاً
وقلبَ أمّ
ثُمَّ ثُمَّ ثُمَّ ...
فارتبكَ مَلَكُ الموتِ حَدّ الذّهول
فهو لم يدرِ أنّكِ قدّيسة
أنبتها اللهُ في غابةٍ من وحوش،
قدّيسة تنثرُ ملايينها للفقراء
ومحبّتها للمُعذَّبين والمحرومين
وهي ترتدي أجنحةً من دموع.
شمعتي
لم أشعلْ شمعتي في مسجدٍ أو كنيسةٍ أو
معبد
بل أشعلتُها في قلبي.
فقالَ الذي يقولُ للشيء كن فيكون:
شمعتي أنتَ يا عبدي.
ذرّة من تُراب
قابَ قوسين من العاصفة،
صرختْ ذرّةٌ من تُراب:
ربّي ارحمني.
فقالَ لها:
كيفَ تقولينَ هذا
وقد وَسِعتْ رحْمَتي كلَّ شيء؟
كنتُ أسمعُ هذا الحوار
وأذوبُ خجلاً
ففي صرخةِ هذه الذّرّة
يكمنُ بعْثي وموتي.
خالد جابر يوسف
كانَ دورُكَ جُنونيّاً؛
أن تعلّقَ قلبَكَ على حبلِ الغسيل
في أوّلِ النّهار
وترجعهُ إلى صدرِكَ عندَ الغروب.
في آخرِ مَرّة،
قيلَ لي إنّكَ قد ذهبتَ إلى حبلِ
الغسيل
فلم تجدْ حبلَ الغسيل!
هل سرقهُ الجيران؟
بل قيلَ لي إنّكَ لم تجدْ قلبَكَ فوقَ
الحبل.
فهل سرقهُ ملكُ الموت؟
ليسَ مُهمّاً أن أعرف الإجابة،
يا صديقي الذي سبقني إلى واوِ الوداع،
فأنا خبيرٌ بأدوارِ الجنون
حدّ الجنون.
*************
خالد جابر يوسف: شاعر عراقي غيّبه
الموت إثر نوبة قلبيّة. من أهم أعماله
(بحثاً عن المهبَ).
بقايا
في زمنِ الأساطير التي لا تُعدُّ ولا
تُحصى
ما مِن أسطورةٍ لديّ سوى أسطورة
النُّقطة.
*
قلتُ لمُفسّرِ الأحلامِ والكوابيس:
ماذا أفعلُ لحرفٍ يَحنُّ حنيناً
هائلاً
إلى سوطِ نقطةٍ جديدة؟
*
قفزَ رجلٌ في بُرْكةِ الموت.
لم يلحظْ أحدٌ معنى القفزة
ولا توقيتَها ولا مغزاها
فقد كانَ الجميعُ يحلمون كالمجانين.
*
الكائنُ البشعُ الذي مزجَ بأعضائهِ
السُّفليّة
لونَ الدمِ معَ لون اللذّة،
كانَ مُهْتاجاً حدّ اللعنة،
وهو يرى الطلقاتِ النّاريّة
تُطلقُ لتمزّقَ رجلاً يُعْدَمُ في
احتفالٍ عام.
*
حتّى بعدَ أن شُنِقَ الطّاغية
ظلّتْ أناشيدُهُ وأكاذيبُهُ وترّهاتُه
محلَّ تبجيلٍ مِن قبلِ العبيدِ
وأشباهِ العبيد.
*
قبلَ أن ينتقلَ إلى بيتهِ الجديد،
بدأ يتمرّنُ على البكاءِ بصوتٍ مرتفع.
نعم، ففي بيتهِ الجديد
سيكتبُ مسرحيّةَ غُربةٍ جديدة،
مسرحيّة ذات سبعة أنياب.
*
الحرفُ يحومُ الليلة على الورقة
مثلَ أعمى أضاعَ طريقه وأضاعَ عصاه.
*
قالت السّماءُ للغيمة:
رغمَ أنّكِ تعرفين الكثيرَ من أسراري
فأنا أكرهُك،
أكرهُ مراهقتكِ الأبديّة
وأكاذيبكِ المُمطرة.
*
حينَ يأتي الماضي إلى البيت،
لا أحد يريدُ أن يستقبله
حتّى باب البيتِ يتظاهر بالصمم.
*
حينَ تشبُّ النّار
فلا توقظني من نومي، أرجوك.
إذ بعدَ أن تُطفَأ
النّار
كيفَ لي أنْ أروّضَ أَرَقي من جديد؟
*
في زمنِ العولمة
نسيت القصيدةُ موسيقاها ومواعيدها
وقُبُلاتِها
وتمسّكتْ بحيرتِها الكونيّة
وارتباكِها الأسطوريّ.
الملكة المجنونة
الملكةُ المجنونة
هجتني وتوعّدتني دونما سبب
فخفتُ على أحلامي وحروفي من أظافرها
الطّوال.
وحينَ كرّرتْ وعيدَها كثيراً
ودونما سببٍ أيضاً،
ضحكتُ كثيراً،
ضحكتُ،
حتّى خفتُ على نَفْسي
أن أموت من كثرةِ الضّحك.
صانع الوهم
الخيّاطُ الذي خدعَ الإمبراطور
وألبسَهُ ثيابَ الوهم
حتّى أخرجَهُ إلى النّاسِ عارياً
تماماً.
هذا الخيّاطُ تحوّل
- بعد أن شُنِقَ الإمبراطورُ في
احتفالٍ بهيج-
إلى مذيعٍ تلفزيونيّ يقرأُ الأخبارَ
بطريقةٍ عجيبة؛
كانَ يحرّكُ شفتيه فقط
وكانَ النّاسُ يتوهّمون أنّهم يسمعون!
مازوشي
كلّ يومٍ يذهبُ ماشياً إلى البار
من خلال الطّريق الوحيد إلى البار،
الطّريق الذي يمرُّ وسطَ المقبرةِ
الهائلة.
كانَ
يرتعدُ خائفاً حينَ يذهبُ عصراً
وحينَ يرجعُ في الليلِ ثملاً
يرتعدُ كطائرٍ مذبوح.
البحر والحرف
استعضتُ عن البحرِ بالحرف.
فرسمتُ البحرَ بحجمِ حرفٍ واحد
وسرِّ نقطةٍ واحدة.
*
لم يتفقْ معي سوى القلّة؛
أولئك الذين يعرفون أنَّ البحر
بدأَ بنقطةٍ واحدة.
أمّا الأغلبيّة فوصفتني بالجنون
وبعضُهم رماني ساخراً ضاحكاً
بالحجارة.
*
كنتُ أجمعُ بصبرٍ أيّوبيّ هذه الأحجار
وأرصفُ بها شاطئ البحر.
كانَ المنظرُ خَلّاباً للقلوبِ
وللعيون
رغمَ أنَّ هذه الأحجار
هي أحجار حقدٍ دفين.
حرف من شمس
قوس قزح أسْوَد
لا تفرحْ كثيراً حينَ يُفتح لكَ بابُ
الحُبّ،
فثمّةَ أبواب
مَن يدخلها
لن يخرج إلّا ضائعاً أو مذهولاً.
*
تُفّاحتاكِ ناضجتان!
إذن، أينَ هي المشكلة:
في المطرِ أم في الرّيحِ أم في
البستان؟
*
العاشقُ شاعر.
(مجنونٌ طبعاً).
والمعشوقةُ امرأةٌ
(هي الجنونُ طبعاً)!
*
بدلاً مِن أن ألعنَ الظلام
سأكتبُ قصيدةً واحدةً بحرفٍ واحد
لكنَّ اللغةَ متوقّفةٌ عن العملِ منذُ
ألف سنة
والحروف في إضرابٍ أبديّ.
*
الغرفُ نصفُ المُضاءة
ينتظرُها، كلّ ليلةٍ، ظلامٌ كامل
أو صاعقةٌ تحرقُ كلَّ شيء.
*
سأستلقي أنا وجسدي المُنهَك
على فراشِ المنفى الوثير.
وقبلَ أن أغفو
سأطرقُ بابَ الحلمِ سبعَ مَرّات
علّهُ يرتّب حياتي التي نسفَها الدّهر
سبعين مَرّة
بنجاحٍ أسطوريّ.
*
حينَ يتبدّلُ مِزاجُ القصيدة
في أقلّ من دقيقة
فيكفهرُّ
بعدَ أن كانَ صافياً كالمرآة،
لا يعرفُ الشّاعرُ ماذا يفعل:
هل يبكي أم يضحكُ أم يكسرُ المرآة؟
*
الحُبُّ نكتةٌ قديمةٌ جدّاً
يجبُ أن تضحكَ أو تتظاهرَ بالضحكِ
كلّما سمعتَها
حتّى لا يغضب منكَ الدّهر
ويلقي على قصيدتِكَ المزيدَ من
الرّماد
أو حروفِ الرّماد.
*
شكراً لكِ
يا مَن لا أعرفُ اسمَكِ ولن أعرف
فقد جعلتِ منّي شاعراً
بقلبكِ الذي يشبهُ قوسَ قزحٍ أسْوَد،
وعُريكِ المُزلزِل،
وقبلاتكِ الجهنميّة.
*
انفتحَ البابُ الآن فجأةً
فخرجَ الحرفُ من القصيدةِ مَذهولاً
يُهَلْوِسُ
ويُدمدمُ
ويضحكُ بعينين دامعتين.
جناحان
حينَ قرّرَ الحرفُ أن يكونَ شاعراً
قبَّلَكِ.
وحينَ قرّرَ الطّائرُ أن يكونَ عاشقاً
رسمَكِ عشّاً له.
حينَ قرّرت المرأةُ أن تضيع
كتبتْ عنوانَكِ.
وحينَ قرّرت المرآةُ أن تتشظّى
استخدمتْ أحمرَ شَفايفكِ.
حينَ قرّرَ النّهرُ أن ينتحر
اتّخذكِ مركباً.
وحينَ قرّرَ الغرابُ أن يتعلّم الضّحك
لعبَ مع حمامتكِ.
وأخيراً
حينَ قرّرَ الشَّاعرُ أن يطير
كتبَ اسمَكِ السِّحريّ في ذاكرته
فنبتَ لهُ، على الفورِ، جناحان.
لكثرةِ ما كتبتُ عن الحُبّ
الحرّيّةُ وهمٌ
والحياةُ قضبان.
*
كلّما كتبتُ قصيدةً عن السَّماء
صادرتها الأرض.
*
لكثرةِ ما كتبتُ عن الحُبّ
تحوّلتُ إلى نقطة،
نعم، تحوّلتُ إلى نقطةِ الباء.
*
في اللحظةِ التي باحَ بها الشّاعرُ
العارف
بِسرِّ حرفِه الأكبر
احترقتْ خرقتُهُ الصُّوفيّة.
*
الحياةُ فاصلةٌ طويلة
بينَ حلمين.
*
في زمنِ العولمة
اختصروا القصيدةَ بسطرين
والسّطرين بكلمتين
والكلمتين بحرفين
والحرفين بنقطة،
نقطة واحدة فقط.
*
أساتذتي الكبارُ الذين سبقوني إلى
كتابةِ الشِّعر
خرجوا من جرحه الأسْوَد مذهولين.
*
حينَ يتوقّف الشِّعرُ عن النّبض،
فهل يتوقّف القلبُ معه؟
*
أن تبحرَ في بحرِ الخساراتِ ليلَ
نهار.
ذلك عنوان أعمالي الشِّعريّة الكاملة.
*
كانَ الشِّعرُ فيما مضى
يُكَفكِفُ دموعي.
الآن صرتُ أكفكِفُ دموعَه
ودموعَ طفولتي معاً.
*
في مطارِ الحرف
ثمّة قصيدة لا تستطيعُ الطّيَرَان.
*
للشِّعرِ غربتهُ أيضاً؛
غربةٌ تشبهُ الموت.
*
لا تجزعْ من جرحِكَ
فثمّة حرفٌ سيبزغُ لا ريبَ فيه.
*
كلمةٌ تَجرحُني
وكلمةٌ تُحْييني.
مَن أنا إذن؟
هل أنا ريشةٌ سقطتْ من جناحِ طائر؟
*
لشدّةِ وضوحي
تحوّلتُ إلى شبح!
*
الأغنيةُ دمعة
لكنّ الدّمعةَ مَلاك.
*
كلّما انتهيتُ من كتابةِ كتابٍ شِعريّ
دهشتُ كيفَ أنّني لم أزلْ على قيدِ
الحرف،
أعني على قيدِ الحياة.
*
ليسَ مطلوباً منكَ أن تكتبَ الشّعرَ
العميق
لتكونَ شاعراً حقيقيّاً
بل ينبغي أن تتعلّمَ كيفَ تمشي على
الماء
دونَ أن تغرق
ودونَ أن تلامسَ الماءَ بالطبع!
اختلاف
حياتي سطران؛
سطرٌ عن البحر
وسطرٌ عن الدّهر.
حينَ اختلفا أغرقَني البحر
وابتلعَ الدّهرُ حياتي.
*
حياتي سطران؛
سطرٌ عن الحُلْم
وسطرٌ عن الحُبّ.
حينَ اختلفا جنّني الحُلْم
وَدَرْوَشَني الحُبّ.
*
حياتي سطران؛
سطرٌ عن الحرف
وسطرٌ عن النُّقطة.
حينَ اختلفا مزّقَ الحرفُ جسدي
وأكلت النُّقطةُ كبدي.
أتكيت
الجلوسُ في الحديقةِ العامّة
يتطلّبُ الكثيرَ من فنِ الأتكيت.
إذ ينبغي أن أشمَّ الوردةَ التي
أشرقتْ هذا الصّباح،
وأن أرفعَ يدي لأحيّي الطّائرَ في
عشّهِ العالي،
وأن أردَّ على أسئلةِ العشبِ وثرثرته
اللطيفة،
وأن أغضَّ البصرَ عن العُشّاق
وهم يتبادلون القُبَل،
وأن أتماسكَ وأنا أرى التماعةَ
الشّمسِ السّاحرة
على صفحةِ البحيرة.
ومضات عند الفجر
المرأةُ المُتلفّعةُ بالسَّواد
تفترشُ العُشْبَ في الحديقةِ العامّة
فيما كانَ أولادُها الأيتام
يتقافزون حولها كالفراشات.
*
في أوّل قطارٍ ذاهبٍ إلى الجحيم
ركبتُ
لكنّني جلستُ
- ولا أدري لماذا-
في المقعدِ الأخير.
*
في سيركِ العولمة
يتصارعُ الدّبُّ الأزرقُ مع الدّبّ
الأحمر ليلَ نهار.
كنّا نسمعُ شخيرَهما فنضحك
ونتنفّسُ رائحتَهما فَنُصَابُ
بالغثيان.
*
المُهرّجُ القزم
بقي قزماً طوال المسرحية
معَ أنّه لم يتوقّفْ لحظةً واحدة
عن إطلاقِ الشّتائم الطّويلة.
*
حتّى وهو يموتُ ظَلَّ مُبتسماً
رغم أنّ روحه كانتْ تتكسّرُ كالزجاج.
أهوَ حرفي أم هو شبحُ حرفي؟
*
أن تكتبَ قصيدةً في الفجر
فذلكَ يعني أن تخطّها بحروفٍ من شمس
لا من صخرٍ أو رملٍ أو رماد.
قُبْلَة الحياة
لنرقص قليلاً.
ربّما ستشربينَ معي كأساً من الحاءِ
والباء،
أعني أن تمنحي حُلمي قُبْلَةَ الحياة،
فأنتِ الحياة.
*
لقد أفسدوا حياتنا بالحروبِ
والحصاراتِ والترّهات.
دعينا نحلم أن نرقص
أو نغنّي
أو نسبح
أو حتّى نطير.
أعرفُ أنّ ما قلتُهُ هواء في شَبَك.
لكنْ دعينا نجرّب أن نرقص...
- رقصُنا مُضحكٌ!
أن نغنّي...
- أصواتنا لا تُطاق!
أن نسبح...
- سنغرقُ عندَ السّاحل!
أن نطير...
- كيفَ نطيرُ؟ نحن لسنا طيوراً!
*
لنجرّب معاً أن نروّضَ خساراتنا التي
لا تنتهي،
لنجرّب ولو مرّةً واحدة.
أنا لا أريدُ أن أقول إنّهم روّضونا.
فأنا صعبٌ على الترويضِ حدّ الجنون!
يدي فوق كتفكِ
هل كنتُ غرّاً غريراً
حين وضعتُ يدي، فجأةً، فوقَ كتفك؟
هل كنتُ على وشكِ أن أطيرَ كقُبْلةِ
عاشق
أم كنتُ على وشكِ أن أعشقَ كطائرٍ
يتعلّم الآن فنَّ القُبْلة؟
مَن أنتِ يا هذه التي تشعُّ بهجةً
ولذّة؟
لماذا استسلمتِ، فجأةً، هكذا؟
هل كنتِ على وشكِ أن تطيري، مثلي،
إلى مملكةِ القُبْلة؟
أم كنتِ على وشكِ أن تكوني جناحي
إلى قارّتي الملأى بشفاهِ السّحرِ
والنّار؟
حوار في الوقت الضّائع
سألتني صحفيّةٌ ذات شفتين عذبتين
وعطرٍ لاذع:
صِفْ نفْسَكَ في كلمةٍ واحدة!
قلتُ: طائر.
قالتْ: طائر؟ أين؟
ثُمَّ ضحكت.
قلتُ: ما بين السّماء والأرض.
قالتْ: جميل.
ثمَّ أشعلتْ سيكارةً ونفثتْ دخانَها
بلطفٍ شديد.
قالتْ: إذن، فأنتَ شاعر؟
قلتُ: نعم، في الوقتِ الضّائع.
قالتْ: لم أفهمْ. ما شكلُ الوقت
الضّائع؟
قلتُ: الوقتُ الضّائعُ طائرٌ هو الآخر
لكنّه أكبر مني.
جناحاهُ أكبرُ من جناحيّ حَرْفي.
وحينَ يطيرُ أنسى الطّيران
فأركضُ خلفَهُ مثلَ طفلٍ ضائع.
سعادة الوهم
البحرُ سعيدٌ
البحرُ أزرق،
ملآن بالهدوءِ المُذهل
وملآن بالسفنِ الكبيرةِ والصّغيرة
الحُمْرِ والبِيضِ والصُّفْر،
وملآن بالنساءِ العاريات
يسبحن أو يلعبن أو يرقصن.
ثمّة كائن يُشبهني تماماً
يمشي سعيداً وسطَ هذا كلّه
لكنّه لا يستطيع دخولَ السّفن
ولا يستطيع أن يلمسَ النّساءَ
العاريات
ولا يستطيع أن يسبحَ في البحر.
ومعَ ذلك، كانَ يمشي سعيداً
أو خُيّلَ إليه أنّهُ كانَ يمشي
سعيداً!
اللغز
أيمكنني أن أقول:
إنّني حينَ جلستُ تحتَ ظلِّ الشّجرة
من الشّروقِ إلى الغروب،
كنتُ أكتبُ حرفاً
يقبّلُ امرأةً فاتنة
أو يحلّقُ عالياً كأيّ نسرٍ عظيم
أو يلعبُ بليراتِ الذّهبِ في صندوقٍ
عتيق
أو يسجدُ مُبتهلاً بعينين مليئتين
بالدموع
أو يصرخُ طالباً النّجدةَ من رمحٍ
أسْوَد بطيء؟
أيمكنني أن أقول:
إنّني كنتُ أمارسُ فعلَ الكتابةِ
نائماً
فلمّا جاءَ وقتُ اكتمالِ الغروب
انتبهتُ مِن رَقْدَتي
لأجدَ أنّ حرفي قد طار
وطارتْ معه المرأةُ والنّسرُ وليراتُ
الذّهب
والدّموعُ والرّمحُ الأسْوَدُ البطيء
حتّى أنّه لم يعدْ لي أيّ سببٍ
لأجلسَ تحتَ ظلِّ الشّجرةِ من جديد؟
إهداء
أهديتُها قبلَ عشرين عاماً
كتابي عن العشقِ، كتابي عن النّون.
فقرأتْهُ بقلبٍ لا يعرفُ النّسيان
وعينين مُشرقتين بشينِ الشّوقِ وحاءِ
الحرمان،
تلك امرأةٌ أو ورقةٌ سقطتْ من شجرةِ
السِّرّ
فتقاذفتْها الرّيحُ والعواصفُ
والشّموسُ والبلدان
حتّى انتهتْ إلى البحرِ الذي لا يرجعُ
منه أحد
فأعطتهُ باكيةً كتابي
فقرأهُ بعينين قاسيتين
كأنّهما من حَجَر.
*
كم أردتُ أن أقولَ لها:
كتابي، كتابي.
لكنَّ خجلي الفسيح
أحاطَ بي وأربكَ الصّيحة.
*
لم يكنْ خجلي وحده
هو الذي قد أربكَ اللوحة
بل الحرفُ الذي حلّقَ فوقَ صدري
طائراً
سبعين عاماً
دونَ أن يعرفَ عشّاً
أو يرى نهايةَ اللعبة.
شكراً أيّها البحر
فتحَ لي البحرُ، ذاتَ حياة، محفظتَه
السِّرّيّة
فرأيتُ السُّفنَ الغرقى،
والسُّفنَ الهلكى،
والسُّفنَ التي أكلَ الدّهرُ عليها
وشرب،
والسُّفنَ التي لم يزلْ يتقاذفها
الموج
وهي تحملُ عظامَ اللاجئين ودموعهم
وصرخاتهم.
*
لم أكنْ سعيداً أبداً
برؤيةِ هذه المحفظة السِّرّيّة
فقد أبكتني طويلاً
حتّى ورمتْ عيناي.
*
كفكفتُ دموعي وهمستُ لقلبي:
أنا لا أحبُّ أسرارَ البحر
وسُفنَه الغرقى والهلكى
والملآنة بعظامِ الموتى.
أنا أحبُّ مباهجَ البحرِ على السّاحل.
*
لكنّني اكتشفتُ أو كُشِفَ لي ذاتَ
نهار
أنّ مباهج البحرِ على السّاحل
هي محض هراء؛
النّساء وأشكالهنّ العجيبة،
النّساء ورقصاتهنّ الغريبة،
النّساء وأكاذيبهنّ التي لا تنتهي
عندَ ساحلِ البحر.
*
هكذا سقطت المباهجُ والأسرار
في ضربةِ حظٍّ واحدة.
هكذا أصبحَ البحرُ جميلاً
من دونِ أسرارٍ وسُفنٍ غرقى،
من دونِ نساء ورقصاتٍ وأكاذيب.
*
نعم
أصبحَ البحرُ وحيداً
أزرقَ كقلبي الوحيد.
*
كفكفتُ دموعَ حروفي وهمستُ لقلبي:
شكراً أيّها البحر
شكراً لأنّكَ تشبهني تماماً.
أيّ سحر هذا؟
لم أكنْ مُحتاجاً
إلى أن أسمعَ حوارَكِ من الذّاكرة،
الذّاكرة التي مزّقتْها السّنين.
إذ كنتُ أضعُ الحوارَ كما أشاء
فيظهرُ كما أشتهي.
قلتُ في الذّاكرة
لكنني أعني القصيدة.
فأنتِ مثل أيّ قصيدة غامضة
كُتِبتْ بحرفٍ غريب.
لم أكنْ مُحتاجاً
إلى أن أترجمَ ما أقرأه
بل كنتُ أتخيّلُ معناه كما أشاء
فيظهرُ مُدهشاً وعجيباً كما أريد.
أيّ سحر هذا؟
المحطّة الأخيرة
من محطّةِ قطارٍ إلى أُخرى،
ومن قطارٍ إلى آخر،
ومن عربةٍ إلى أُخرى،
كنتُ أسحبُكِ من يدكِ
مجنوناً بجمالكِ أو عطرِكِ أو شفتيكِ.
كانتْ أسماؤكِ تتغيّر
في كلِّ محطّةٍ أو قطارٍ أو عربة
لكنّكِ تبقين كما أنتِ
ساحرةً أو ضائعةً أو تائهةً
أو عابثةً أو مجنونة،
وأنا أعبرُ بكِ الأسرّةَ العارية
والأسرّةَ المُظلمة
والأسرّةَ المُضاءةَ بضوء الشّموع
والأسرّةَ الطّائرةَ فوقَ بحرِ
الدّموع.
أعبرُ بكِ محطّاتِ الشّمسِ المُنهارةِ
وفجرها المذهول
ومحطّاتِ الخبزِ المُبلّلِ بالأسى
والليلِ والسّكاكين.
في آخر مرّة
عبرتُ معكِ شيئاً لم أعرفه من قبل.
لكنّكِ لم تعبري معي
تاركةً أصابعكِ في كفّي،
فأمسكتُ بها كما يمسكُ البخيلُ بليرةِ
ذهب،
أمسكتُ بها كدليلٍ أخير
على أنّني عبرتُ المحطّةَ الأخيرة،
المحطّةَ الأخيرةَ التي لا يُسْمَحُ
لأحدٍ بعبورِها أبداً
إلّا لمَن نسي كلَّ شيء حتّى
النّسيان.
خرافة حروفيّة
على وسادةِ طفولتي وجدتُ نقطةً.
حاولتُ أن أمسحها أو أخفيها،
لم أستطعْ.
حينَ استيقظتُ صباحاً
وجدتُ النّقطةَ قد أصبحتْ حرفاً.
أظنّهُ كانَ الألف.
حاولتُ أن أستبدله بحرفٍ آخر لسببٍ
مجهول،
لم أفلحْ.
فنمتُ في اليومِ التّالي من دونِ
وسادة
لأجدَ فراشي في الصّباح
قد امتلأَ بالحروف
من السّرّةِ حتّى العيون.
فقرّرتُ أن أرمي الفراشَ من النّافذة
وأنام على الأرض
كأيّ مجنونٍ سعيد!
حيث تبدأ الحرّيّة
الحرّيّةُ تبدأُ من البحرِ الصّاخبِ
حدّ الجنون.
الحرّيّةُ تبدأُ من الجنون.
الحرّيّةُ تبدأُ ولا تنتهي.
*
للحرّيّةِ موسيقى؛
نعم، موسيقى العناقِ الحار
والدّمعِ الحقيقيّ
والأزرقِ اللانهائيّ.
ولذا سأصرخُ حتّى الموت،
سأصرخُ في كلِّ مكان:
أيّتها الحرّيّة،
أنا طفلكِ اللانهائيّ،
أنا طفلكِ المجنون.
اسمها الغيمة
من شُبّاكِ الطّفولةِ رأيتُكِ أيّتها
الغيمة
حتّى أبهرتني ألوانُكِ الغامضة
فسمَّيتُكِ العيد.
ولمّا رأيتُ العيدَ لا يأتي أبداً
سمَّيتُكِ الحلم.
ولمّا رأيتُ الحلمَ غامضاً
سمَّيتُكِ الحبّ.
ولمّا رأيتُ الحبَّ طائراً تائهاً
بلا شجرةٍ أو عشّ
سمَّيتُكِ القُبْلَة.
ولمّا اكتشفتُ القُبْلَةَ أغنيةً
سمَّيتُكِ القصيدة.
ولمّا اكتشفتُ القصيدةَ حرفاً
سمَّيتُكِ النّقطة.
لكنْ لمّا صرتُ من الموت
قابَ قوسين أو أدنى
نظرتُ من شُبّاكِ الطّفولةِ ثانيةً
وضحكتُ، ضحكتُ حدّ البكاء،
وقلتُ: شكراً أيّتها الغيمة.
أغنية لا تكفُّ عن الرّقص
إذا كنتَ في الغابة
وأحاطتْ بكَ الكلابُ والذّئاب
من كلِّ جهة
فاحذرْ أن تنبحَ أو تعوي معها
بل انطلقْ خفيفاً كسهمٍ،
انطلقْ كأغنيةٍ لا تكفُّ عن الرّقص.
لستُ مُتيقّناً
في منتصفِ حياتي
كتبتُ قصيدةً ثُمَّ مزّقتُها.
أظنّها عن امرأةٍ علّمتني فنَّ
القُبْلَة
أو فنَّ الموت
أو فنَّ الحرف.
لستُ مُتيقّناً
لأنَّ المرأةَ كانتْ
قُبْلَة حرفٍ لا يجيدُ سوى الموت
أو قُبْلَة موتٍ لا يجيدُ سوى الحرف
أو قُبْلَة حرفٍ لا يجيدُ سوى
النُّقطة.
نعم، لستُ مُتيقّناً
فلقد مزّقتُ قصيدتي،
أعني حياتي،
دونَ أن أتيقّنَ - وا أسفاه - مِن أيّ
شيءٍ كان.
أغنية جهنميّة
ما بينَ أن أمدَّ أصابعي إليكَ أو
أقطعها
أغنية جَهنميّة.
لا طاقةَ لحنجرتي على ترديدِها
ولا لحروفي على إعلانِها.
رائحة الأزهار
سقطَ مقطعٌ من قصيدتي
فبحثتُ عنهُ طويلاً.
لم أجدهُ في قلبي ولا ذاكرتي
بل وجدتُهُ في المطرِ الذي دخلَ عليَّ
من النّافذة،
مثلما دخلَ على قلبي وذاكرتي،
مُحمّلاً برائحةِ الأزهار.
شمس من الرّماد
أيّها الحُبّ
لا أريدُ أن أكتشفَ سرَّ أسطورتِكَ
بعدَ الآن
فلقد كتبتُها سبعَ مَرّات
وترجمتُها سبعَ مَرّات
وعشتُها سبعَ مَرّات
دونَ أن أنالَ أيّ شيء
أو أصلَ إلى أيّ شيء،
لكنْ حينَ أطلقتُ عليها النّارَ سبعَ
مَرّات
اكتشفتُ سبعةً من حروفِها المُطَلسَمة
فتحوّلتْ حياتي إلى شمسٍ من الرّماد.
نبضات
هل رأيتَ أسرابَ الطّيورِ البِيض
وهي تملأُ السّماء؟
تلكَ هي نبضات قلبي
تصعدُ
وتنزلُ
وتحلّقُ عاليا
لتتوحّدَ في خطٍّ مُستقيم
ثُمَّ في خطٍّ مُنعرجٍ أو مُستدير
ثُمَّ في خطٍّ عجيبٍ، ليسَ بخطٍّ
أبدا.
قد يكون صوت موسيقى مُهيبة
أو صوت هلالٍ يبزغُ الآن
أو صوت دمعةِ طفلٍ يتيم
أو صوت نبعٍ جميل
أو صوت الدّهورِ يدفعُ بعضها بعضا
أو صوت الذي كانَ من العرش
قابَ قوسين أو أدنى.
اللغات السّبع
كلُّ شموسِ حياتي تحطّمتْ
إلّا شمسك
بقيتْ كما هي،
لأنّها كانتْ شمس حرفي.
*
نهرُ الحياةِ لا
يتوقّف
ونهرُ الشِّعرِ لا يتوقّف.
وأنا في كِلا النّهرين غريق.
*
لم يعلّمني الفراتُ شيئاً
سوى حَرْق الحروف
وذرّها كلّ يومٍ
في مجراه المُوحش.
*
اللغات السّبع التي أجيدُها؛
لغة الحاء
ولهجة الباء
ودندنة النُّون
وشيطنة الشّين
وهسهسة السّين
وتأتأة الرّاء
ودموع النُّقطة!
نُكْتَة قديمة
قالَ لي : ما الحياة؟
قلتُ له : نُكْتَةٌ قديمة!
فضحكنا وضحكنا وضحكنا حدّ البكاء.
ترقصُ عاريةً على شاطئ البحر
كانتْ ترقصُ عاريةً بعيداً على شاطئ
البحر.
كانتْ تحاولُ من خلالِ عُريها
الأُسطوريّ
ورقصها الخرافيّ
أن تتماهى مع البحر.
والبحر لا يقولُ لها لا ولا يقولُ
نعم.
البحر سرّ لا يكشفُ نَفْسَه
إلّا للحُروفيّ الذي يخبِّئُ قصائدَه
في نقطةِ الروح،
إلّا للمجنونِ الذي يخبِّئُ سكاكينَه
وكوابيسَه باحترازٍ شديد،
إلّا للغريقِ الذي يصعدُ جسده نازلاً
إلى الأعماق.
طَرْقٌ متبادل
ليلَ نهار
كانَ الحرفُ يطرقُ الباب،
بابَ النّقطة.
وفي يومٍ منفيّ أعمى
سمعَ الحرفُ النّقطةَ تطرقُ الباب
من الجهةِ الأخرى،
وبدلاً من أن يرقصَ أو يبتهج
ولّى مُرتبكاً مَذعوراً كالفأر.
حلمي الخرافيّ
البارحة
حلمتُ أنّني فتحت
شبّاكَ عمري على مِصْراعَيه
فكانَ النّهارُ مُدهشاً
فأخذتُ أشربُهُ بلطفٍ وهدوء.
ثُمَّ عدتُ إلى النّوم
لأستيقظَ عندَ المساء،
لم يزل الشّبّاكُ مفتوحاً كما هو
والنّجومُ تضيءُ تضيءُ تضيءُ السّماء
فمددتُ ملعقتي الصّغيرةَ السّحريّة
وبدأتُ آكلها نجمةً نجمةً.
وحينَ شبعتُ
عدتُ إلى حلمي الخرافيّ ببطءٍ عظيم.
ربّما
في الليلةِ التي وجدتُكِ فيها
تبيعينَ للسَحَرَة
حرفي بدراهم معدودة،
هل قامَ الموتى من القبور؟
- ربّما.
هل طعنَ بعضُهم بعضاً بالسكاكين؟
- ربّما.
وحينَ نمتُ مُجهَداً كجبلٍ مُنهار
وأفقتُ فلم أجدكِ بجنبي أبدا،
هل تساقطتْ أذرعُ السّاعاتِ على رأسي؟
- ربّما.
هل فاضَ الفراتُ حتّى غرقتُ
وطافَ جسدي؟
- ربّما.
وأخيراً: هل أنا حيٌّ حتّى الآن؟
- نعم، أعني....................
ربّما!
رقصة بعمر فراشة
ارقصي فرقصتُكِ التي أشعلتْ
نارَ الحرفِ إلى الأبد؛
رقصةٌ بعُمرِ فَرَاشة.
*
ارقصي فرقصتُكِ إعلانٌ قصيرٌ للسعادةِ
الهائلة
وسطَ مسرحيّةٍ لا نهاية لها
ولا حديث لها
إلّا عن الحروبِ والحصاراتِ
والترّهات.
*
لا أحد يحتجُّ على دورهِ التّافه
فالكلُّ يولدُ ويفنى في جَوقةِ
الكومبارس.
وممثّلُ الكومبارسِ سعيدٌ بأيِّ دور
كان؛
الأبله أو المسطول أو الأخرس
أو الذي صارَ في خبرِ كان.
*
اللعنةُ مُخصَّصةٌ لدورِ البطل
وأحياناً تكونُ بحجمِ أحلامه أو
أساطيره بالضبط
أو تزيد عليها ألف مرّة
ولا فرق.
*
من الجنونِ
أن تؤدّي دورَ البطل
في مسرحيّة لا تقبلُ إلّا بدورِ
البهلوان؛
البهلوان المُهرّج
أو البهلوان النّذل
أو البهلوان قنّاص الفرصِ والرّؤوس
أو البهلوان المُهان.
*
مَن هو المُخرجُ لكلِّ هذه المأساة؟
*
ارقصي فلا معنى لأيّ شيء
سوى رقصكِ الأسطوريّ.
*
ارقصي ولو في الوهم؛
في حرفِ الوهمِ أو نقطةِ الوهم.
*
ارقصي أيّتها الغجريّة
أيّتها الفراشة
أيّتها الدّمعة.
نعم،
ارقصي أيّتها اللعنة
في وهمِ هذا الزّمان!
فتنة الحرف
لقطات من فلم رعب طويل
حينَ رفضتُ دورَ العينِ العمياء
في فلمِ الرّعبِ الطّويل،
أُعْطِيتُ
دور الرّأسِ الذي يتدحرجُ طويلاً من
المقصلة.
*
كنتُ ذكيّاً بما يكفي لأتوقّعَ دوراً
كهذا
فالفلمُ شهيّ،
فيه نساءٌ وطلقاتٌ وأفاعٍ وطغاة
وسجونٌ من كلِّ نوع.
وكلُّ شيء فيهِ مُبهجٌ
حتّى السّياط التي أدمنت الظهور
هي وموسيقاها التّصويريّة.
*
بعينين مليئتين بالدمع
تهتُ طويلاً في شارعه المُغبّر.
كانَ دوري هو التّائه الأبديّ
برأسٍ مُتدحرجٍ من البدءِ إلى
المنتهى.
لكنّني عدتُ بعدَ سبعين أسطورة
كلكامشيّة
طفلاً بعينين سَمَكيّتين
إلى دوري القديمِ في الفلم.
*
في الفلمِ فراشة،
فراشةُ حبٍّ مُزيّفةٌ للأسف.
والصّيّادون رائعون
رغمَ أنّهم من جنسِ السّفهاء.
*
أصابعي المُرتبكة
أمسكتْ جناحي الفراشة.
حاولتُ أن أقبّلَها
فتساقطتْ أصابعي الواحد بعد الآخر.
*
معَ أنَّ صوت صفّاراتِ الإنذارِ لا
ينقطعُ أبداً
في هذا الفلم،
فقد كنتُ محظوظاً
لأنّي مُنِحْتُ فرصة أن أوقفَ الفلمَ
قليلاً
لأبكي أو أشقَّ ثيابي
أو لأكتبَ قصيدةَ حُبٍّ
عن جُثّةِ امرأةٍ جميلة
أو لأكتبَ قصيدةَ هجاءٍ
عن طاغيةٍ أرعبني بوجهين،
وجه لا يكفُّ عن اشعالِ الحروب
ووجه لا يكفُّ عن تهديدي
كي أغيّرَ عنوانَ كتابي
أو صورةَ الغلاف.
*
أحياناً كنتُ أرفعُ صوتَ الفلم
أو أجعلهُ صامتاً تماماً
أو حتّى أعيده
لأستمتع بلحظاتِ الرّعبِ الباذخة
بعيداً عن كلِّ شيء.
*
الفلمُ الطّويلُ مُستمر.
ما مِن شيء يستطيعُ تغييرَ السّيناريو
أو منعَ المُمثّلين من الكذبِ أو
القهقهةِ أو الصّراخ
أو طعنِ بعضهم بعضاً بالسكاكين.
*
الفلمُ مُستمر
لكنْ بدأتْ صفاراتُ الإنذار
تنادي عليَّ نداءً غيرَ مفهوم:
اخرج الآن!
ارفعْ يديكَ إلى الأعلى، إلى الأعلى،
إلى الأعلى!
ارفعْ رأسَك!
نحنُ نصوّرُك؛
انظرْ إلى الأمامِ ثُمّ ابتسمْ!
حياتي حياتي!
سقطتْ ورقةٌ من الشّجرة،
تلكَ كانتْ حياتي.
هبطَ الطّائرُ والتقطَ بمنقاره تلكَ
الورقة
وعادَ ثانيةً إلى أعلى الشّجرة.
كانت الشّجرةُ عاليةً جدّاً
وملساءَ السّاقِ حدّ اللعنة.
الطّائرُ لا يفتحُ فمَه لأحيا أو
لأموت،
الطّائرُ لا يكفُّ عن رَفْرَفةِ
جناحيه،
الطّائرُ لا يأبهُ لي أبداً
وأنا أبكي أو أضحكُ أو أصرخ: حياتي
حياتي!
القَهْقَهة
ما بينَ البكاء الأوّل والبكاء
الأخير؛
قَهْقَهةٌ ساخرة.
*
أحياناً أشكُّ في ما قلتُه
فأقفُ أمامَ المرآة
وأكتبُ عليها بحروفٍ من ضَحِك:
قاه قاه قاه!
وأضحكُ ممّا أفعل حدّ البكاء!
*
أعترفُ بأنّني قد وصلتُ
بعدَ سبعين عاماً
من ماراثونِ المنافي
والوطنِ المُهشّمِ والوطنِ الذّبيح.
وصلتُ فاغرورقتْ عيناي بالدمع.
ولكنْ وصلتُ إلى ماذا؟
أإلى نقطةِ الباء
أم إلى نقطةِ الفاء
أم إلى نقطةِ الماء
أم إلى نقطةِ المستحيل؟
*
كلّما حاصرني الليلُ بأنيابه،
أضطررتُ أن أكتبَ قصيدتي
دونَ شين الغواية
أو راء الاعتراف
أو سين السّرير.
*
بابُ الاضطرارِ واسع.
نعم،
لكنَّ الدّخول إليه
- وا أسفاه -
لا يتمُّ إلّا من ثقبِ المفتاح!
*
ما أكثر ما حاصرني الليل
حتّى أنّني نسيتُ أو تناسيتُ
عنوانَ البيت
ورائحةَ النّهر
وبهجةَ القُبْلَة
ومطلعَ الأغنية
ورقصةَ الموت.
*
بابُ النّسيانِ واسع.
نعم،
لكنْ لا يتمّ الدّخول إليه
إلّا من بابِ الموت
كما يقولُ الفيلسوف
أو من بابِ الكأس
كما يقولُ المُهرّج
أو من بابِ الآه
كما يقولُ المُغنّي
أو من بابِ القُبلات
كما يقولُ صائدُ اللذّات
أو من بابِ الدّمعة
كما يقولُ الصُّوفيّ
أو من بابِ الضّياع
كما يقولُ المُشتاق.
*
بابُ الاضطرارِ واسع
وبابُ النّسيانِ واسع.
وما بين البابين
قَهْقَهةٌ لا تُطاق!
مراجعة طبّية
أخذتُ البحرَ ومضيتُ إلى الطّبيب.
قلتُ له:
ها هو البحرُ معي ويسمعُ قولي،
البحرُ الذي تعبَ من شكواي كلّ يوم
وأنيني الذي جاوزَ الموجَ طُولاً
وعرضاً.
ضحكَ الطّبيبُ وقال:
أنا أعشقُ البحر
وأملكُ قبالته قصراً كبيراً
وأملكُ يختاً أسافرُ فيه أنّى أشاء.
عرفتُ أنَّ طبيبي لا يفقهُ من البحرِ
شيئاً
ولا يفقهُ من القلبِ شيئاً،
فقمتُ
وقامَ البحرُ خلفي ضاحكاً
مثل طفلٍ صغير.
الاحتراف لا يليق بالشعراء
في هذه الأبجديةِ التي لا أوّلَ لها
ولا آخِر،
أنا مجرّدُ حرفٍ هاوٍ.
نعم، فالاحترافُ لا يليقُ بنقطتي.
*
أنا حرفٌ أضاعَ نقطتَه
في هذا الليل الذي لا أوّلَ له ولا
آخِر،
فاحتجَّ على نَفْسهِ وعلى نقطته
ثُمَّ احتجَّ على الليل
ثُمَّ احتجَّ على الاحتجاج.
*
بينَ الهلْوَسَةِ والشِّعر
خيطٌ رفيعٌ من البكاء.
*
في المقبرةِ
رأيتُ الموتى ينامون هادئين جميلين
مثل مجانين فقدوا ذاكرتَهم وعناوينهم.
*
على شاطئ البحر،
كلّما ازدادَ عُري النّساء
طالتْ لحيةُ البحر.
*
جلسَ الملكُ المجنونُ على شاطئ البحر
ومدَّ قدميه في الماء
فشعرَ ببرودةٍ مُنعشة.
التفتَ إلى وزيره
وأمره بتكريمِ البحر!
*
الحرفُ رسالةٌ هائلة
عادتْ إلى مرسلِها لعدمِ الاستلام
بعدَ أن بقيتْ في صندوقِ بريدِ الكون
عمراً تجاوزَ عمرَ نوح.
*
وحشتي اتّسعتْ حدّ الألم
فاضطررتُ إلى اختصارِ صحرائي الشّاسعة
إلى حبّةِ رملٍ واحدة.
*
هكذا فأنا مجرّدُ هاوٍ في هذه الحياةِ
العجيبة.
نعم، الاحترافُ لا يليقُ بالشعراء.
رحلة سرياليّة
حينَ عدتُ من البلدِ البعيد
لم أجدْ أحفادي ولا أولادي بانتظاري
بل وجدتُ قصيدتي الأخيرةَ التي لم
أكملها
بانتظاري،
مُتْرَعةً بانتظاري.
فسارعتُ إلى تقبيلِها ما بين عينيها
فهبطتْ من عينيها الحالمتين
دمعةُ طفلٍ يتيم.
*
في كلِّ بلدٍ من بلدانِ العالم
أودعتُ نجمةً من نجماتي.
كنتُ مهووساً بسرِّ الحياة
ولم أعرف أنّ الحياة
داءٌ لا تشفيه النُّجوم.
*
كثيراً ما أذكرُ أسماءَ البحارِ التي
عبرتُها؛
بحر الحرف،
بحر النّقطة،
بحر الرّعب،
بحر اللعنة،
بحر الطّغاة،
بحر الكلابِ والثَّعالبِ والعناكب،
بحر الكناغر،
بحر الأجساد،
بحر الضَّحكِ الأسْوَد.
لكنّي أنسى أن أذكرَ بحراً
محاه الجغرافيون من الخارطة،
أظنّهُ بحر حياتي.
*
أنتظرُ بشوقٍ أن أدخلَ نقطتي
لأصافحَ وحشتي
وأقبّلَ وحدتي.
*
الشِّعْرُ جنونٌ جميل
أو جنونٌ مُطلَق
أو جنونٌ سرياليّ
أو جنونٌ حروفيّ
أو جنونٌ نقطويّ.
هذه أنواع الجنون التي أوصيتُ بها
قصيدتي
وهي على حافّةِ الجنونِ الأخير،
أي الجنون السَّعيد!
الأشجار لا تمشي ولا تبكي ولا تضحك
مثلي
البارحة
مَشَت الأشجارُ بجانبي في الليل.
كانَ المطرُ شديداً
فخفتُ من مشهدِ الأشجار
وهي تمشي بجانبي في الليل.
لماذا كانت الأشجارُ تمشي؟
هل كانتْ منفيّة مثلي؟
أم مجنونة مثلي؟
أم حطَّمَها المَلَلُ مثلي؟
أم تخافُ من البَلَلِ مثلي؟
لا أدري.
ولذا قرّرتُ أن أخفي
هذه الصّورة المضحكة عن ذاكرتي،
وعن قصيدتي،
وأضع لها
عنواناً مُخاتِلاً هو:
الأشجارُ لا تمشي ولا تبكي ولا تضحكُ
مثلي.
هل
لِمَن وُلِدَ مَصلوباً على خشبةِ
الحرف،
هل تنفعهُ صَيحةُ الحلّاج وسطَ
جلّاديه:
الله الله في دمي؟
لِمَن أبصرَ كلكامش مَقتولاً برصاصةِ
قَنّاص
وأنكيدو مَطعوناً بخنجرِ غدرٍ أسْوَد،
هل تنفعهُ وصايا سيدوري؟
لِمَن كُتِبَتْ حياتُهُ برمادِ كُتبِ
التّوحيديّ،
هل ينفعهُ أن يحرقَ جسدَه بالنار؟
ولِمَن التقى سرّاً بديكِ الجِنّ
وقرأ عليه مَرثيتَه الكبرى،
هل تنفعهُ كتبُ الجِنّ
وعظامُ الهدهد
ومرايا بلقيس؟
ألم
الألمُ شاعرُ قصيدتي
أنا حرفهُ العاطلُ عن النّقطة.
الألمُ مُطربُ قصيدتي
أنا حرفهُ المُصابُ بالصَمم.
الألمُ طبيبُ قصيدتي
أنا حرفهُ المُصابُ بانفصامِ المعنى.
الألمُ قائدُ قصيدتي
أنا حرفهُ الذي عَوّقتهُ الحرب.
الألمُ مَلِكُ قصيدتي
أنا حرفهُ المَهووسُ بالتمرّدِ
والعصيان.
الألمُ ساحرُ قصيدتي
أنا حرفهُ المُحترقُ مع البخور وعظام
الموتى.
الألمُ جلّادُ قصيدتي
أنا حرفهُ الذي يسوطُ بهِ ظهري العاري
ليلَ نهار.
السّؤال الأزليّ
حرفي ضاع؟
ليسَ مُهمّاً،
فقد رقصَ رقصتَه الأخيرةَ كما ينبغي.
*
حرفي غرق؟
لا بأس،
فقد صارعَ حتّى النَّفَس الأخير
الأمواجَ الهائلةَ وسمكَ القرشِ
والعطشَ الأسود.
*
حرفي فُقِدَ؟
ربّما،
لكنّهُ باحَ بِاسمِ المحبّةِ والنُّور
ليلَ نهار
حتّى امتلأَ قلبُهُ بالنُّور.
*
حرفي احترق؟
قد يكون،
لكنّهُ اقتربَ حدّ الذّهول
بسؤالٍ إبراهيميّ
ودمعٍ يعقوبيّ
وجمالٍ يُوسفيّ
مِن الذي يقولُ للشيء كن فيكون.
*
آ...
حرفي، إذنْ، لم يضعْ
ولم يغرقْ ولم يُفقَدْ ولم يحترقْ.
حرفي تحوّلَ إلى نون
بل تحوّلَ إلى نقطةِ النُّون.
كفّي اليمنى
حينَ قطعَ الدّهرُ كفّي اليمنى
دفعتها العاصفةُ بعيداً إلى الماء
حتّى صارتْ تنتقلُ من نهرٍ إلى آخر
ومن بحرٍ إلى آخر.
وفي المحيطِ العظيم
رآها البحّارةُ وهي تستغيث
فحاولوا إنقاذها
لكنّهم ضحكوا بل قهقهوا
حينَ اكتشفوا أنّها مُجرّد كفّ،
ولم يعرفوا أنّها كفّي اليمنى
التي ما أن قطعها الدّهر
حتّى تحوّلتْ حياتي اليتيمة
إلى جحيمٍ بحجمِ المحيط.
البحث عن بوصلة
حينَ شارفتُ على السّبعين
تحوّلَ حرفي إلى غيمةٍ
ترحلُ من الجنوبِ إلى الشّمال
ومن الشّرقِ إلى الغرب.
ثُمَّ تحوّلَ حرفي إلى عينٍ حَجَريّة
تَرى ولا تُرى
ثُمَّ تحوّلَ أخيراً إلى ريحٍ
تطيرُ بسريري الليل كلّه.
كنتُ أنتظرُ الفجرَ مُرتبكاً
لأترجّلَ من السّريرِ إلى الأرض
فأرى العينَ الحَجَريّةَ وقد امتلأتْ
بالدمع،
وأرى الغيمة
تبحثُ في محلِّ الأدواتِ المُستعملة،
أعني تبحثُ في ذاكرتي،
عن بوصلةٍ حتّى لو كانتْ مُزيَّفة
تعينُها على معرفةِ الشّمالِ من
الجنوب
أو الشّرقِ من الغرب.
قصيدة عن الذّاكرة
حينَ حذفوا قصيدتَكَ التي كتبتَها عن
الحرفِ القتيل
ووضعوا في مكانِها إعلاناً لإزالةِ
الذّاكرة،
لم يحتجّ القرّاء
ولا مُحرّرُ الصّفحة
ولا حتّى أنت.
أنتَ الذي تألّمتَ قليلاً
ثُمَّ ذهبتَ لتمشي،
كما تفعلُ كلّ يوم،
في شارعِ المدينةِ الوحيد،
الشّارع الذي ينتهي بحفرتين كبيرتين
في الذّاكرة.
باب المنفى
البارحة كنتُ سعيداً
إذ وجدتُ بابَ المنفى.
كانَ كبيراً بل كانَ عظيماً.
فسارعتُ لأكتبَ قصيدتي الحروفيّة
عليه،
فاكتشفتُ أنّه بابٌ سِحْريّ
كلّما فتحته قادني إلى بابٍ آخر
والباب الآخر إلى بابٍ آخر
إلى بابٍ آخر
إلى بابٍ آخر،
حتّى وصلتُ إلى قعرِ الجحيم سعيداً.
عولمة مِن حجر
لم يعد العابرون يمشون
وهم يُحدّقون في أقدامِهم
ويغمغمون بكلماتٍ لا معنى لها
بل صاروا يمشون برؤوسٍ مرفوعة
تُحدّقُ في بعضها بعضاً
إنّما بعيونٍ مِن حجر،
وتنطقُ
إنّما بكلماتٍ مِن حجر.
دور السّكران
حينَ هبطتْ شمسُ الفجر،
سألتُ أحدَهم:
أينَ الطّريق إلى البيت؟
لم يضحكْ
ولم يرتبكْ
ولم يقلْ شيئاً.
فقط أشارَ إلى نهايةِ الزُّقَاق.
كانت الشّمسُ قد هبطتْ
حتّى سدّتْ نهايةَ الزُّقَاق.
فتعجّبتُ:
كيفَ لي أن أزيح الشّمسَ قليلاً لأمرّ
ولا تحرقني الشّمسُ بضوئها الهائل؟
كيفَ لي وأنا في ذاك الفجر
أترنّحُ كالسكران
من التّعبِ والوحشةِ والخُذلان؟
كيفَ لي وأنا في ذاك الفجر
أمارسُ دورَ السّكران؟
احتجاج
تعبت الأرضُ من الحروب
ولم تعدْ تستطيع الوقوف على قدميها،
الحروب التي انتشرتْ على جسدِها
الجميل
وجعلت النّار
تشتعلُ فيه ليلَ نهار.
ولذا قدّمت الأرضُ احتجاجاً شديدَ
اللهجة
إلى جمعيّةِ الكواكبِ والنّجوم.
حينَ قرأَ القمرُ الاحتجاج
بكى لما حدثَ لشقيقته الكبرى،
وغضبَ المرّيخُ وزحلُ وعطاردُ
والزّهرة،
أمّا الشّمسُ فقد قرّرت التوقّفَ عن
الضّياء
إلى أجلٍ غير مَعلوم!
ولادة
وُلِدَ الحرفُ من النُّقطة
وَوُلِدَت النُّقطةُ من الصّرخة
وَوُلِدَت الصّرخةُ من الدّمعة
وَوُلِدَت الدّمعةُ من الشُّبّاك
وَوُلِدَ الشُّبّاكُ من الحرمان
وَوُلِدَ الحرمانُ من الهذيان
وَوُلِدَ الهذيانُ من العُري
وَوُلِدَ العُري من الليل
وَوُلِدَ الليلُ من القمر
وَوُلِدَ القمرُ من الموت!
قطعة شمس
قربَ حافّةِ النّهر
قرأتُ قصائدي بعينين دامعتين
لفتيةٍ يحترفون هرطقةَ الشِّعْر
أو يحترفون، ربّما، هرطقةَ التّأويل.
كانَ لساني، فقط، يقرأُ حرفي بهدوء
مُمَنهَج
وهم يُصفّقون أو يبتسمون في هدوء
غريب.
أمّا قلبي فقد قفزَ إلى النّهر
يبحثُ عن قطعةِ شمسٍ
سقطتْ ذاتَ حياة
وسطَ أمواجه العجيبة،
يبحثُ ويبحثُ ويبحثُ
وهو يعرفُ أنّه لن يجدها
ولن يجدَ سرَّها: سرَّ صباه البعيد
ولو أنفقَ في بحثه عمرَ نوح.
في مقبرة القصائد
هذه مقبرةٌ لقصائدي التي مَزّقتُها.
لا أستطيعُ أن أقول كم عددها
لأنّها لم تكنْ مَيّتَة تماماً.
كانتْ تتحرّكُ في نومِها الطّويل
لتغنّي أغنياتٍ لا معنى لها عن الفرات
أو ترقص رقصةَ الغرقى
أو تطلق النّارَ على نَفْسِها
بعدَ أن يُشظّيها الصّراخ.
وهناكَ زائرٌ يتجوّلُ في ميدانِها
تائهاً بالطبع.
أشكُّ كثيراً بأنَّ هذا الزّائر هو
أنا
رغمَ أنّه يشبهني كثيراً
وأنَّ اسمَه مثل اسمي تماماً!
*
بعضُ القصائدِ يصفُ قِرداً
يرقصُ على الأشجار
ليلَ نهار.
وبعضُها يصفُ ثعلباً
يصرخُ في الأسواق
ويبيعُ الشّتائمَ المُجَفَّفة
على أنّها فواكه مُجَفَّفة.
بعضُها يُومضُ كالسمك
وينزلقُ بين يديّ كالسمك.
ربّما ليهذي في الشّوارع
مثل مجنونٍ يشربُ الخمرة
النّهار كلّه
ويصلّي الليل كلّه.
بعضُها مُزهرٌ
بزهورٍ حُمرٍ رائعة
رسمتها الطّبيعةُ السّاحرة
أو المرأةُ الجُلَّنَار.
وبعضُها يصفُ القُبْلَةَ بعُمقٍ
ويُلِحُّ بقوّةٍ على مشاهد الحُبّ
مُكرّراً دونَ جدوى:
أحبّكِ، أحبّكِ، أحبّك.
بعضها ، وهو الأهمّ،
يستحقُّ أن أحرقهُ بالنار.
وقد بدأتُ بذلكَ فعلاً.
فالحرقُ أكثرُ شاعريّة مِن الدّفن
كما يُشاعُ كثيراً هذه الأيّام.
ارجعْ لي روحَ حرفي
حينَ استلَّ ملاكُ الموتِ روحَ الحرف،
سَمِعَ صراخَ شاعرِه:
يا ملاكَ الموتِ،
ارجعْ لي روحَ حرفي
أو أرجعْ لي أحلامَه التي سرقها
الدّهر.
ليسَ عدلاً أن تأخذ روحَ حرفي
ويأخذ الدّهرُ أحلامَه.
ماذا سأكتبُ هذا المساء؟
يا ملاكَ الموتِ، يا ملاكَ السّماء.
*
ارتبكَ ملاكُ الموتِ وهو يلملمُ شظايا
الحرف،
ارتبكَ وهو الذي لم يعرف الارتباكَ من
قبل،
ارتبكَ فقد آذاهُ صراخُ الشّاعرِ حدّ
الذّهول،
حدّ أنّه تركَ شظايا الحرفِ مُلقاةً
في العراء
وتركَ صيحةَ شاعره وهي تنتقلُ
من سماءٍ إلى سماء.
سينما
في الفلمِ الملآنِ بالعرباتِ والخيول
وحاملي المسدسات الأسرع من ومضةِ
العين،
كنّا نجلسُ لنشاهدَ الفلمَ ونضحك،
كنّا جَمْعاً من صبيان وشبابٍ سُذّجٍ
وقرويين فقراء.
وكانَ الظلامُ قويّاً
فلا ترى فيه سوى دخان القرويين
وصراخ وضحكات الشّبابِ والصّبيان.
لكنَّ المسدسات الأسرع من ومضةِ
العين،
قرّرتْ، لسببٍ مجهولٍ أو معلوم،
أن توقفَ هذا العالَم
من السّذاجةِ والدّخانِ والضّحكات.
وبدأتْ تخرجُ من شاشةِ السّينما
لترمينا برصاصٍ حيّ،
وكنّا نضحكُ والدّمُ يخرجُ من رؤوسِنا
وصدورِنا
مُمتلئاً بالدخانِ.
فقط
حينَ تكتب قصيدتَك الجديدة
لا تقلْ: إنَّني حزين
بل قُلْ: إنَّني حاء،
وسأفهمُكَ تماماً.
ولا تقُلْ: إنَّني سعيد
(رغمَ أنَّني أشكُّ بأنّكَ تعرفُ معنى
السّعادة)
بل قُلْ: إنَّني سين،
وسأعرفُ ذلك بسرعةِ البرق.
قلتُ له: وماذا عن الآخَر؟
كيفَ سَيفكُّ هذه الشّفرة العجيبة؟
قال: مَن الآخَر؟
هل تقصدُ السّاذجَ أم المجنون؟
أم الدّعيّ؟
أم الحاقد؟
أم الواهمَ والموهوم؟
مَن؟
تذكّرْ حاء وسيناً فقط.
تذكّرْ أنّكَ تكتبُ بدمِ نقطتِكَ
لحرفِكَ فقط،
تكتبُ لي فقط.
بالأبيض والأسود
كتبَ لي من كهفه البعيد؛
اعملْ بحياتِكَ شيئاً!
لا تنفق العمرَ وأنتَ تتأمّلها فقط!
مَن كتبَ هذا؟
أظنّه ناقد السّذاجةِ والطّيبةِ
المُفرطة؛
ذاك الذي يقرأُ الحرف
فلا يتأمّله لحظةً واحدة.
لم يكنْ يعرف ذلك السّاذج
أنّ حياتي تشبهُ مُلاكماً
خرجَ للتوّ من الحلبة
مُثخناً بمئاتِ اللكماتِ والكدمات،
خرجَ لينهارَ في الممر
فيما يعبرُ الجمهور
جسدَه المُلقى على الأرض
دونَ أن يلقي عليه نظرةً واحدة!
بنك الأحلام
حينما أسَّستُ بنكاً للأحلام
نشرتُ إعلاناً في الصّحفِ كلّها
بطلبِ الأحلامِ من الحالمين
والمُشرّدين والمجانين.
لم يتقدّمْ أحدٌ بأيّ حلمٍ كان
سوى رجل واحد
كانَ يقدّم لي بكرمٍ حاتميّ
مائةَ حلمٍ وحلمٍ كلّ يوم.
وحينَ قابلتُ الرّجلَ فرحتُ
إذ كانَ يشبهني كثيراً
ويرتدي بدلةً مثل بدلتي
ونظّارةً مثل نظّارتي
وربطةَ عنقٍ مثل ربطة عنقي.
وحينَ مددتُ يدي لأصافحه
اكتشفتُ أنّه .......................
أنا!
مَن القائل؟
لا أتذكّرُ؛ أأنا الذي قالَ للحرف
أم الحرف قد قالَ لي؟
لكنّي أتذكّرُ الصّوتَ جليّاً يدمدم:
إن أنكرتني مَرّةً فلنْ تعرفني
ثانيةً.
إن أنكرتَ أنّي رأيتُكَ
تتقلّبُ على الجمرِ حتّى مَطْلعِ
الفجر،
تتقلّبُ في غرفِ الدّخانِ والأرقِ
حتّى صياحِ الدّيك،
تضيعُ في شوارعِ الظلمةِ والظلامِ
حتّى وميضِ السّكين،
تغرقُ في ثقوبِ الجسدِ حتّى احتراقِ
الذّاكرة،
ترتبكُ في غرفةِ الكلامِ حتّى بابِ
المَلام،
ترتجفُ في مَوقفِ العُري حتّى سريرِ
الموت.
إن أنكرتَ هذا كلّه أو بعضه
فلنْ تعرفني.
*
آهٍ أنا لم أنكرْ شيئاً، أيَّ شيء.
لكنْ؛ أأنا الذي قالَ للحرفِ هذا
أم الحرف قد قالَ لي كلَّ
هذا الكلام؟
نهاية سعيدة
سقطتْ ورقةٌ من أعلى الشّجرة
لتستقرَّ تحتَ صخرةٍ سوداء هائلة.
استمرَّ سقوطُها زمناً طويلاً.
*
هي الآن سعيدة
لأنّها توقّفتْ عن الاخضرارِ ثُمَّ
الاصفرار،
ولأنّها لم تعدْ تستمع
إلى لغو رفيقاتها اللواتي لا يتوقّفن
عن الأكاذيبِ والثرثرة،
ولأنّها، قبلَ ذلك،
نسيتْ اسمَ الرّيح.
*
هي الآن سعيدةٌ تماماً
فالصخرةُ التي استقرّتْ تحتها هائلة؛
ما من ريحٍ تزعزعُها
وما من بشرٍ يستطيعُ تحريكَها.
كنتُ سعيداً حدّ اللعنة
ماتَ صديقي السِّكِّيرُ في تقاطعِ
الكأس.
كانَ سعيداً لأنّه لم يرَ أصابع الموت
فقد كانَ يشخرُ مُمَدَّداً على
الرّصيف
وبيده قنّينة الخمرة.
وماتَ صديقي المؤرّخُ في تقاطعِ
بغداد.
كانَ سعيداً لأنّه لم يستمع إلى نحيبِ
بغداد
وإلى صراخِها في آخر الليل
على ملوكها القتلى الواحد بعد الآخر
وعلى فقرائها السّابحين في بحيرة
الدّم.
أما أنا فمتُّ في تقاطعِ القصيدة.
كنتُ سعيداً حَدّ اللعنة
لأنّ تقاطع القصيدة
لا يعرفهُ سوى حرفي الذي احترق
حتّى صارَ رماداً
وسوى نقطتي التي تحوّلتْ، ذاتَ فجرٍ،
إلى دمعةٍ كبيرة.
أين الذّئب؟ أعني أين الليل؟
قالَ الليلُ: خذ النّاي واعزفْ.
قلتُ له: ماذا أعزف؟
قال: روحك!
*
هذا حلمٌ أو كابوسٌ تكرّرَ لثلاث
ليال.
في الحلمِ أو الكابوسِ الأوّل،
قلتُ للّيل: لا أعرفُ أن أعزف.
وفي الثاني قلتُ له:
لا أعرفُ أن أعزفَ أبداً.
وفي الثالثِ صحتُ:
أغربْ عن وجهي.
فعضّني الليلُ من رقبتي
تماماً كما يفعلُ الذّئب
وجرَّ جسدي وخيط الدّمِ النّازف منه
مسافة أوطانٍ من رعبٍ ودخان وشظايا
حتّى ألقاه مسروراً في البحر.
*
حينَ غرقتُ وطافَ جسدي فوقَ البحر،
عجبتُ كيفَ ظهرتْ كلُّ حروفِ الأرض
راقصةً في كلِّ بقعةٍ من جسدي،
نعم، بزغتْ وهي تغنّي أغنيةَ النّاي.
*
صرتُ أنتظرُ الليلَ لأعزفَ له
كلّ ليلةٍ كالمجنون
أغنيةَ النّاي، أعني أغنيةَ الرّوح.
وألحّنها بلحنٍ جديد،
لحنٍ دمعِيّ أزرق
أو مهووسٍ أحمر
أو لاهٍ أصفر.
وأضيفُ إليها أزهاراً من أقفالٍ
أو أقفالاً من أزهارٍ.
وحينَ يتأخرُ قليلاً أسألُ الشّمس:
أينَ الذّئب؟
أعني أينَ الليل؟
ولماذا تأخّرَ عن موعده هذا اليوم؟
سفينة
اشترى إطاراً رائعاً
وعلّقهُ على جدارِ حياته.
وضعَ في الإطارِ صورةَ بحر
ثُمَّ وضعَ صورةَ سفينةٍ وسطَ البحر.
لكنَّ السّفينة تحرّكتْ ذاتَ يوم!
نعم تحرّكتْ!
ليسَ مهمّاً كيفَ أو لماذا تحرّكت
السّفينة.
المهمّ أنّها تحرّكتْ، وثقبت الجدار
فتدفّقَ ماءُ البحرِ بعنفٍ
حتّى سقطَ كلُّ شيء.
الحربُ لا تنتهي أبداً
"الحربُ لا تنتهي أبداً".
هذا هو عنوانُ الفلمِ الجديدِ الذي
يُعْرَض
على كوكبنا المنكوبِ بنجاحٍ ساحق.
فلمٌ يموتُ فيه الفقراءُ مراراً
وتكراراً
ويغرقُ فيه الأطفالُ في بحيراتِ الدّم
حدّ أن يبكي عليهم القَتَلَةُ
والجلّادون.
الطّائر المجنون
حينَ رأيتُ الفجرَ هذا اليوم
خرجتُ إلى الشّرفة
وصرختُ ببراءةِ طفل
ولوعةِ عاشق
ودهشةِ مجنون:
مرحباً أيّها الفجر،
مرحباً أيّها
الطّائر
المجنون.
ونظرتُ،
ونظرتُ طويلاً،
ونظرتُ حتّى ...................
متُّ.
فلم أجد الفجرَ ولا الطّائرَ المجنون.
باب النّقطة
في زنزانةِ ذاكرتي
ثمّة نافذة
سمّيتُها نافذةَ الحرف.
أطلُّ منها على العالم
بقصائد ورؤى وطلاسم.
وثمّة باب
سمّيتُهُ بابَ النّقطة.
أفتحُهُ فيدخلُ عَليَّ البحرُ سريعاً.
أهوَ بحرُ الظلمات؟
أم بحرُ السُّفنِ الغرقى؟
أم بحرُ الضّحكِ الأسْوَد؟
لا أعرف.
لكنّي أعرفهُ بحراً
يدخلُ عَليَّ سريعاً وعنيفاً
كالطلقة!
في الأخير
في الأخير
أعتذرُ عن الحوارِ مع كلّ شيء.
وبخاصّةٍ معَ القمر والذّئب،
ومعَ الفرات
وجسر الفراتِ الذي حاولتُ، ذاتَ حياة،
أن أنقذَ جثّتي السّعيدةَ الطّافية
التي مرّتْ مُسرعةً من تحته
إلى مقرِّها الأخير.
ثقوب
سيشعلونَ المزيدَ من الحروب
ليزدادوا ثراءً ووحشيّة.
ولذا لا يهمّ إذا فقدتَ عينَكَ
أو يدَكَ
أو طفلَكَ
أو وطنَكَ
أو حياتَك.
لا يهمّ،
المهم أن تكبرَ ثقوبُ شهواتِهم
السّود،
ثقوبُ شهواتِهم التي تؤرّقهم أبداً.
مسرح سِحْريّ
على المسرحِ السِّحْريّ
تظهرُ المرأةُ طفلةً وشابّةً وعجوزاً
ترقصُ ثُمَّ تغنّي ثُمَّ تبكي.
أمّا السَّاحرُ فلا يظهرُ منهُ شيء
سوى صوته الملآن بالبرقِ والرّعد
وأصابعه التي يتساقطُ منها التّفّاح.
*
مللتُ من المشهدِ السِّحْريّ
فهو يُذكّرني بهشاشتي وارتباكي وعماي.
فحلمتُ أنّني رميتُ السَّاحرَ
بالحجارة.
ومعَ أنَّ الأمرَ لم يكنْ سوى حلمٍ
- حلم يقظةٍ على الأكثر-
فإنّ السَّاحرَ استشاطَ غضباً
وأحرقَ قصائدي جميعاً
حتّى صارتْ رماداً.
فلم يعدْ يفهم حروفَها أحدٌ
سوى الدّراويش والمجانين.
ابتزاز
تاجرُ الحربِ يبتزُّ الملوكَ
والأُمراء،
الفقراءَ والمُشرّدين واللاجئين،
الجياعَ وآكلي القمامة،
المرضى والمجانين،
العميان والمُقْعَدِين .
يا إلهي،
تاجرُ الحربِ يبتزُّ الجميع
حتّى الموتى!
قمر السَّعادة
حينَ وُزِّعَتْ أقمارُ السَّعادةِ على
البشر
وجدتُ أنَّ قمرَ سعادتي مُظلمٌ
تماماً.
وحينَ صرختُ...
قيلَ لي: هذا هو حظّك!
لكنّي بكيتُ، بكيتُ كثيراً
- وكنتُ طفلاً بريئاً-
فقيلَ لي:
يمكنكَ أن تستبدلَ قمرَكَ المُظلم
بحفنةٍ من الأحلامِ المستَعمَلةِ أو
المتهرّئة،
ويمكنكَ - إن كنتَ ذكياً -
أن تحوّلها إلى قصائد لتصبحَ شاعراً
أو مجنوناً
ولا فرق!
نهر الحروف
كي أوازنَ حياةً تأرجحتْ
مثل
حبل المشنقة
ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشّمال،
صارَ عليَّ أن أحفرَ نهراً
أسمّيه نهرَ الحروف
يوازي نهرَ حياتي،
يفيضُ عليه حينَ يجفّ
ويسعفُهُ إذا ما اختنق.
*
ملأتُ نهرَ الحروف
بالنوناتِ وبالسّينات
وبجمعٍ غريبٍ من النّقاط
وبأبجديةٍ تشبهُ المشي
على حافةِ السّكين.
*
وا أسفاه،
لم ينسجمْ
أبداً
نهرُ حياتي معَ نهر الحروف
لأنّي أقدّسُ السّرّ
ثُمَّ أرميه بالحجارة
حينَ يكشفُ عن زرقةِ العري لا زرقة
الموج.
ولأنّي أقدّسُ الموت
وألبسُ ثوبَه الأبيض
ثُمَّ أفتحُ بابَ بيتي
فتمرُّ أمامي حافلةُ الموتِ ملأى
بالأولياءِ وبالسّفهاءِ معاً
خاطفةً للبصر.
ولأنّي أقدّسُ الجسد
وأقودُهُ كالطفلِ على حافةِ الماء
فيأتي مَن يأتي
ليخطفهُ مِن يدي في ثوانٍ
ثُمَّ يرميه في جحيمِ الحُمَم
أو أنينِ الألم.
*
ليتني لم أخلق نهرَ الحروف
واكتفيتُ بنهرِ حياتي الذي يشبهُ حبلَ
المشنقة!
دعاء
حينَ سقطتْ عليَّ سهامُ حقدكَ
الأسْوَد
ارتفعتْ كفّاي شيئاً فشيئاً
ضارعتين باكيتين
حتّى لامستا السّماء.
فصرتَ بقدرةِ الكافِ والنّون
تشربُ من كأسِ المنون
قطرةً كلّ يوم
وتلعقُ ملعقةَ سمٍّ صغيرةً كلّ يوم.
وإلى أن يكتملَ موتُكَ الأسْوَد،
بعد عامٍ أو مائة عام،
حينها،
حينها فقط،
ستعودُ كفّاي إليَّ من السّماء.
تناص أم تلاص؟
حينما قرّرت النُّقطةُ سرقةَ الحرف
أكلتْ قلبَه أولاً.
*
ببلاهةٍ شديدة
كانت النُّقطةُ تسرقُ قصائدَ الحرف.
وكلّما سرقتْ قصيدةً
نزعتْ ثوباً مِن ثيابها.
في اليومِ السّابع
كانتْ ترتدي العُري المخيفَ تماماً.
*
في سوقِ الشِّعر
كانت القصائدُ المَسروقة
تثيرُ سخريةَ القرّاءِ وضحكاتهم.
لكنْ لم يشأ أحدٌ أن يخبرَ النُّقطةَ
بسرقاتِها.
حتّى الهدهد تركَ عشّه وحلّقَ بعيداً.
*
ما معنى أن تسرقي قصائدي في وَضَحِ
النّهار؟
لم يكنْ هذا سؤال هاملت إلى أوفيليا
بل كانَ سؤالُ الحرفِ إلى النّقطة.
*
في سماءِ الحلمِ السّابعة
جلسَ الحرفُ سنوات طويلة
مُنتظراً،
دونَ جدوى،
أن تفيقَ النّقطةُ مِن لصوصيّتِها.
رقصة الدّرويش
أتعبني الدّرويشُ الذي يسكنُ أعماقي
فهو لا يكفُّ عن الرّقص
آناءَ الليلِ وأطرافَ النّهار.
*
هو يرقصُ حيث النّاس بوجوهٍ كالحةٍ
يبيعون ويشترون أشلاءَ حياتهم.
وهو يرقصُ حينَ يرفعون،
بأيدي الكراهيةِ والحقد،
سكاكينهم ليمارسوا لعبةَ الدّم
بشغفٍ جنونيّ
أو حينَ يشتمون بعضهم بعضاً بألسنةِ
البغال
أو حينَ يسكرون أو يهذون أو يبكون
أو حينَ يضيعون أو يغرقون.
*
لا القَتَلَة يفهمون رقصَه العجيب
ولا السّكارى
ولا الذين يهذون أو يبكون
أو يضيعون أو يغرقون.
*
لا السّكاكين تفهمُ رقصَه الغريب
ولا أيدي الكراهية والحقد
ولا ألسنة البغال
ولا كؤوس السّكارى
ولا طرقات الضّياع
ولا مراكب الغرقى.
*
أشفقُ عليه من سوءِ الفهمِ الذي لا
ينتهي
وأشفقُ عليه وهو في رقصته يدورُ
ويدورُ ويدور.
وحينَ أتعبُ من شَفَقَتي البائسةِ
العاجزة
حدّ أن أنهارَ أو أجنّ
أتعرّى تماماً
وأرقص معه رقصةَ الدّرويش.
قال لي حرفي
كم بلغَ حُبّكَ
له؟
قالَ لي حرفي:
كم بلغَ حُبّكَ له؟
قلتُ: كيفَ أصفُ ما لا يُوصَف
وكيفَ أضربُ مثلاً
لحُبِّ مَن ليسَ كمِثْلِهِ شيء؟
قالَ: أرجوك!
قلتُ: أظنُّ أنَّ قلبي
لا ينبضُ إلّا حينَ يذكرُ اسمَه،
وأنَّ دمعتي الحرّى فاضتْ
حتّى بلّلتْ لحيةَ يعقوب
وهو يبكي يوسفَ ليلَ نهار.
اثنان
قالَ لي حرفي:
مَن هلكَ في حُبِّ القائلِ للشيء كن
فيكون؟
قلتُ: هلكَ اثنان
رجلٌ لم تكنْ في يدهِ أصابع
فلم يطرق الباب
ولم يعرفْ أنّ بإمكانه أن يؤشّرَ من
بعيد
لتنفتحَ لهُ الباب.
ورجلٌ أخذتهُ العزّة بالاستعارة
فتصوّرها قصيدةً يكتبُها كما يشاء
لا كما يشاءُ الذي يقولُ للشيء كن
فيكون.
أيُّ نوعٍ مِن الطّيور أنا؟
قالَ لي حرفي:
أيُّ نوعٍ مِن الطّيور أنا؟ أأنا
غراب؟
قلتُ: لا.
- حمامة؟
قلتُ: لا.
- عصفور؟
قلتُ: لا.
- بلبل؟
قلتُ: لا.
قالَ: إذنْ، كيفَ لي أن أعرف؟
قلتُ: ولماذا ينبغي لكَ أن تعرف؟
ابْقَ طائراً لا اسمَ له.
وإذا عرفتَ، بالصدفةِ، اسمَك
فاحتفظْ بلونِ ريشته في قلبِك
كما يحتفظُ البخيلُ بليرةِ الذهب.
جَمال
قالَ لي حرفي:
ماذا أحتاجُ لأكتشفَ سرَّ جمالِ
المرأة؟
قلتُ: الأصابع.
قالَ: والبحر؟
قلتُ: العينين.
قالَ: والليل؟
قلتُ: القمر.
قالَ: والسّرير؟
قلتُ: لتكتشفَ سرَّ جمالِ السّرير
تحتاج إلى القمر
والعينين
والأصابع.
إلامَ تشيرُ الدائرة؟
قالَ لي حرفي: إلامَ تشيرُ الدائرة؟
قلتُ: أن ترجعَ جاهلاً بكلِّ شيء
بعدَ أن عرفتَ كلَّ شيء.
قالَ: والمُثلّث؟
قلتُ: أن ترغبَ حدّ أن ينقطعَ نَفَسُك
وتضمحلَّ نَفْسُك.
قالَ: والمستطيل؟
قلتُ: أن تنامَ في القبرِ بهدوء.
هل تبحث أنتَ عن نقطتكَ أيضاً؟
قالَ لي حرفي:
أصحيحٌ أنّكَ كلّما ضعتَ وجدتْكَ
القصيدة؟
قلتُ: نعم.
قالَ: فإنْ لم تجدكَ القصيدةُ فمَن
يجدك؟
قلتُ: أنتَ! نعم أنتَ!
قالَ الحرفُ: لا
فأنا أبحثُ عن روحي،
روحي التي سَمّيتُها نقطتي.
فهل تبحثُ أنتَ عن نقطتِكَ أيضاً؟
قطار التيه
قالَ لي حرفي:
لماذا تركبُ أبداً القطارَ الذي لا
يصل؟
قلتُ: لا أدري. ولا أدري أنّهُ لا
يصل.
قالَ: كيفَ لا تدري وقد أنفقتَ سبعين
عاماً
في قطارٍ مرَّ بمحطّةِ الطّفولةِ
تائهاً
وبمحطّةِ الشّبابِ تائهاً
والكهولةِ تائهاً
حتّى وصلَ أخيراً إلى محطّةِ الضّياع؟
قشّة الحلم
قالَ لي حرفي:
مَن دَلّكَ عَليَّ؟ مَن عَرّفكَ بي؟
قلتُ: كنتُ غريقاً
فأبصرتُكَ قشّةً تمسّكتُ بها.
قال: فهل نفعتك؟
قلتُ: حينَ أبصرتُكَ كنتُ نائماً أحلم
ولم أفقْ مِن حلمي بعد
لأعرفَ ماذا حدث
وماذا لم يحدث
وماذا بقي مِن الحكاية!
حين عبرنا البحر
قالَ لي حرفي:
ماذا حدثَ بعدَ أن عبرنا البحر؟
قلتُ: أردتُ أن أرقصَ رقصةَ الطّوطم
وأركبَ غيمةَ السّرير.
قالَ: وهل فعلت؟
قلتُ: نعم ولا.
نعم لأنّني رقصت،
ولا لأنّني سقطتُ من غيمةِ السّرير
حتّى كدتُ أكون من الهالكين
فتداركتْني مثل قبلة النّجاة
رحمةُ مَن وسعتْ رحمته العالمين.
هل في حقيبتِكَ شمس؟
قالَ لي حرفي:
هل في حقيبتِكَ شمس؟
قلتُ: نعم.
قالَ: ستحرقُك!
قلتُ: بل أحرقتْني
حتّى تحوّلتُ يوماً إلى قصيدةٍ لا
تنتهي
ويوماً إلى دمعةٍ لا تنتهي
ويوماً إلى رماد،
أعني تحوّلتُ إلى تمثالٍ من الرّماد.
لا تخبرْ أحداً
قالَ لي حرفي:
هل فهمتَ كلماتِ الأغنية؟
قلتُ: سمعتُ مطراً عذباً ينزلُ فيها
ويتراقصُ فوقَ زجاجِ شُبّاكي المفتوح.
قالَ: وماذا بعد؟
قلتُ: سمعتُ فيها أيضاً
طبلاً هائلاً يقرعُ قربَ طفولةِ أذني.
قالَ: هذا الطّبل الهائل هو أغنيتك!
قلتُ: لا فهذا الطّبلُ عنيفٌ
كالسكّين،
عنيفٌ كالدم.
ضحكَ حرفي وقال:
اغسلْ سكّينَكَ مِن دمِها بماءِ
الأمطار
ولا تخبرْ بهذا أحداً
لا تخبرْ حتّى الشُّبّاك.
الوهم الأعظم
قالَ لي حرفي:
أتذكرُ تلكَ المرأة التي سمّيتَها
الملكة،
الأميرةَ، الجوهرةَ، اللؤلؤةَ،
المعشوقةَ، المجنونة،
السّاحرةَ، القُبْلةَ، والنُّقطة؟
أتذكرُ أنّكَ أعطيتَها ألفَ اسم؟
قلتُ: نعم.
قالَ: أصدقني القول:
ما الذي تبقّى مِن أسمائِها الألف؟
قلتُ: تبقّى اسمُها الأعظم،
أعني وهمها الأعظم!
هذا ما لا يحتمله بشر
قالَ لي حرفي:
قلبُكَ يشبهُ شمعةً مُضاءةً من
الطرفين.
هذا ما لا يحتملهُ بشرٌ. فأطفِئْ
طرفَها الأسفل.
قلتُ: لا أستطيع.
قالَ: أطفِئْ طرفَها الأعلى.
قلتُ: لا أستطيع.
قالَ: أطفِئ الطرفين.
قلتُ: لا أستطيع.
فتركني حرفي مَذهولاً
وهو يدمدمُ بكلامٍ عجيب.
لا ندّ لأناي سوى أناي
قالَ لي حرفي:
أرأيتَ مَن اتّخذَ أناه هواه،
أتكون لهُ ندّا؟
قلتُ: لا.
قالَ: فإنْ اتّخذَ أناه
رايتَه الحمراءَ أو الزرقاءَ أو
الصّفراء؟
قلتُ: لا.
قالَ: فمَن هو ندّكَ؟
قلتُ: لا ندّ لأناي سوى أناي.
الواحد بعد الآخر
قالَ لي حرفي:
أعداؤك يتساقطون الواحد بعدَ الآخر.
بحرُ الموتِ يبتلعُهم أو بحرُ الظلام،
بحرُ الجنون أو بحرُ الهوان.
فهل أنتَ سعيدٌ بهذا؟
قلتُ: لا.
قالَ: كيف؟
قلتُ: لأنّهم- دونَ أن يعلموا-
كانوا ينيرون لي الطريقَ بكراهيتهم
المفرطة.
ويدفعون- دونَ أن يعلموا- مركبي
الصغير
بأحقادهم الهائلة.
حسناً، ومَن أنت؟
قالَ لي حرفي: مَن أنا؟
قلتُ: أنتَ حرفي.
قالَ حرفي: حسناً، ومَن أنت؟
قلتُ: لا أعرفُ مَن أنا!
حقّاً مَن أنا؟
مَن أنا؟
ولو أنّني أعرفُ
لما اتّخذتُكَ خليلاً ولا صاحباً،
لا عاشقاً ولا مُرشداً.
فالذين يعرفونَ أنفسَهم
لا يعرفونَ حرفَ السّؤالِ ولا نقطتَه،
لا آلامَه ولا دمعتَه،
ولا كوابيسه التي تتناسلُ ليلَ نهار.
السّؤال العجيب
قالَ لي حرفي:
أريدكَ أن تجيبَ على سؤالٍ
لنْ أذكرَ مضمونَه أو تفاصيله!
قلتُ: كثيراً ما سُئلتُ
مثل هذا السّؤال العجيب.
فكنتُ أفتحُ في الفجرِ كتابَ الحياة
وأهبطُ سطراً
وأقرأُ صفحةً
وأطلقُ طائراً.
قال: وماذا وجدتَ جواباً؟
قلتُ: وجدتُ أن أستغفرَ ذنباً
وأمسحَ من الوهمِ حلماً
وأذرفَ دمعاً.
القصيدة المعجزة
قالَ لي حرفي:
أنتَ الرّيحُ وأنا الشّراع.
قلتُ: الرّيحُ هي الرّيحُ لا شأنَ لي
بها
لكنّكَ أنتَ الشّراع،
أحياناً تشيرُ إلى عذاباتِ قلبي
أو خيباتِ روحي
وأحياناً تعجزُ عن أن تشيرَ إلى أيّ
شيء
حتّى إلى نَفْسِك.
حينئذ تولدُ القصيدة.
قالَ حرفي: أيّةُ قصيدةٍ هذه؟
قلتُ: ربّما هي القصيدة البكماء
أو ربّما هي القصيدة المُعجزة.
أهذا لغزٌ أم حقيقةٌ أم أكذوبة؟
قالَ لي حرفي:
ما أصعب الأدوار التي مثّلتَها في
مسرحيّتك؟
قلتُ: دور الجلّادِ وأنا الضَّحية
ودور الضَّحيةِ وأنا الجلّاد!
قالَ: أهذا لغزٌ أم حقيقةٌ أم أكذوبة؟
قلتُ: هو لغزٌ وحقيقةٌ وأكذوبة!
فاغرورقتْ عينا الحرفِ بالدهشة
مثلما اغرورقتْ عيناي بالمأساة
وهبطَ خيطٌ من الدمعِ ليختمَ
المسرحيّة
من الألفِ إلى الياء.
الهُنَا والهُنَاك
قالَ لي حرفي:
مثل طفلٍ بريءٍ سأسألُك:
ما الفرقُ بينَ
الهُنَا والهُنَاك؟
قلتُ: مثل شيخٍ عذّبتهُ المنافي
سأجيبُك:
هُنَاكَ ينفقُ القلبُ عمرَه حالماً
بالهُنَا.
وهُنَا يجدُ القلبُ أنّ الحلمَ موجودٌ
دونَ شكّ
لكنّهُ مِن دونِ حاء
ومِن دونِ لام
ومِن دونِ ميم!
السّؤال الذي لم يقله أحد
قالَ لي حرفي:
ما أعظم الأسئلة؟
قلتُ : السّؤال الذي لم يقلْهُ أحد.
قالَ: فهل عرفته؟
قلتُ: نعم،
لكنّني قبلَ أن أعلنهُ للناس
عشقتُ
ثُمَّ جننتُ
ثُمَّ احترقتُ
ثُمَّ
ذُرَّ رمادي في دجلة
من الصّباحِ حتّى المساء.
فنسيتُ كلَّ شيء،
نسيتُ حينَ رأيتُ رمادي
يكلّمُ الماءَ والسّمك.
متى تتوقّفُ دمعتُك؟
قالَ لي حرفي:
متى تتوقّفُ دمعتُك؟
قلتُ: لا أدري.
فالدمعةُ رافقتني كما يرافقُ المرءُ
ظلَّه
حتّى صرتُ أدمدمُ ليلَ نهار:
خلقَ اللهُ النّاسَ من الطّين
وخلقني
من دمعٍ وحنين.
قلب من نور
قالَ لي حرفي:
حينَ أُلقِي إبراهيم في النّار
فهل عرفَ لغتَها؟
قلتُ: لا.
قالَ: فكيفَ نجا؟
قلتُ: أنجاهُ الذي يقولُ للشيء كن
فيكون.
قالَ حرفي: ربّما عرفَ الكاف
بعدَ أن خرجَ من اللهيبِ سليماً؟
قلتُ: بل ربّما عرفَ النّون
إذ لم يعدْ مُحتاجاً للقمرِ ولا
للشمس،
لم يعدْ مُحتاجاً للاطمئنان
بعدَ أن منحتهُ النّارُ قلباً من نور.
دموع يعقوب
قالَ لي حرفي:
أنتَ تتحدّثُ عن يوسف
دونَ أن تذكرَ البئر
ولا السّيّارةَ ولا دَلْوهم،
بل أنتَ تتحدّثُ عن يوسف
دونَ أن تمنحَ البراءةَ للذئب
وللرؤيا التي أشعلتْ بشمسِها وقمرِها
وكواكبها
نارَ الحسدِ في عيونِ إخوةِ يوسف
وجمرَ الحقدِ في قلوبِ إخوةِ يوسف!
قلتُ: نعم،
لقد اكتفيتُ بدموعِ يعقوب التي لا
مثيلَ لها،
دموع يعقوب التي بلّلتْ
وجهي وقلبي وقصيدتي.
اكتفيتُ بها
حتّى صارتْ هي حياتي كلّها
من البدءِ إلى المُنتهى.
هل جرّبتَ المشي على الجمر؟
قالَ لي حرفي:
هل جرّبتَ المشي على الجمر؟
قلتُ: طوالَ حياتي لم أمشِ إلّا على
الجمر
حتّى تركتْ قدماي على الأرض
حروفَ رمادٍ ورمادَ حروف.
قال: أهذا قَدَرُكَ أم عَبَثك؟
قلتُ: بل هو قَدَري العابث.
تناص مع الجواهري
قالَ لي حرفي:
إذ قاربتَ على السّبعين،
فهل أسِفتَ على شيءٍ ما؟
فضَحِكتُ طويلاً حتّى دمعتْ عيناي
وقلتُ بصوتٍ مَبحوح:
يا حرفي،
أنا جبلٌ من أَسَفٍ مُتنقِّل!
مشهدُ الرّماد
قالَ لي حرفي:
لماذا تكتبُ الشِّعر؟
قلتُ: حتّى لا أُصاب بالجنون.
فقالَ: لكنّكَ جُننتَ ثُمَّ صُلِبت
ثُمَّ أُحرِقتَ وذُرَّ رمادُكَ في
الماء!
فلماذا الكتابةُ إذن؟
قلتُ: أنا أكتبُ الآن فقط
كي أمسكَ مشهدَ رمادي
وهو يغرقُ في الماءِ أمامي
شيئاً فشيئاً.
ماذا صنعتَ بآلامكَ الهائلة؟
قالَ لي حرفي:
ماذا صنعتَ بآلامِكَ الهائلة؟
قلتُ: صنعتُ بها
حبّاتِ
دمعٍ مُتحجّرة
زرعتُها في قلبِ قصائدي
فأثمرتْ أشجاراً من حجر
وطيوراً من حجر.
روايات
قالَ لي حرفي:
أينَ وُلِدتَ؟
قلتُ: وُلِدتُ في أرضٍ تحوّلتْ إلى
مدرسة.
وفي روايةٍ أُخرى
تحوّلتْ إلى مستشفى للمجانين.
وفي روايةٍ ثالثة
تحوّلتْ إلى أرضٍ للندمِ والبكاء.
فقالَ: وماذا فعلتَ؟
قلتُ: جمعتُ كلَّ هذه الروايات
وذهبتُ إلى تلك الأرض المزعُومة
فوجدتُها قد تحوّلتْ إلى ذكرى.
أيّة قصيدة؟
قالَ لي حرفي:
لنكتبَ اليومَ قصيدةً جديدة!
قلتُ: أيّة قصيدة؟
لقد كتبنا أنا وأنتَ قصيدةً واحدة،
كرّرنا صراخَها الطّويلَ ألفَ مَرّةٍ
ومَرّة،
حينَ أُزِيحَ عَنّا العمى مَرّةً
واحدة
فاكتشفنا عُرينا المُخيفَ وخديعتَنا
السّوداء.
فألقينا جسدينا في نهرِ الفرات.
أتذكر؟
فقالَ حرفي:
نعم، لكنّنا لم نمتْ!
رغمَ أنّ خيطَ الدّمِ الذي هبطَ من
جسدينا
كانَ أطول ممّا تصورناه،
كانَ أطول من نهرِ الفرات.
وكان له حرف
إلى : علي جبار عطيّة
حرف على قيد الحياة
منذُ أن افترقنا
اندلعتْ أكثرُ من حربٍ
واجتاحتنا أكثرُ من زلزلةٍ وكارثة.
ومطرت السّماءُ علينا أكثرَ مِن
مَرّة؛
مطراً أسْوَد،
مطراً أحْمَر،
مطراً مليئاً بالشظايا.
منذُ أن افترقنا
أكلنا أكثرَ من نوعٍ من الأرغفة؛
الرّغيف الملآن بالرّعب،
الرّغيف الملآن بالرملِ والحصى،
الرّغيف الملآن بالجوع.
ونُفينا أكثرَ من مَرّة؛
إلى أرضِ الواق واق،
إلى أرضِ المجانين والحشّاشين
والسُّكارى،
إلى أرضِ البِيضِ والسُّودِ والحُمْرِ
والصُّفْر.
لا يهمّ.
المهمّ أنّني لم أزلْ أتصوّركِ على
قيدِ الحياة
معَ أنّني متأكّد أنّكِ قد فارقت
الحياة
في حربٍ من تلكِ الحروب
أو في مطرٍ من تلكِ الأمطار
أو في رغيفٍ من تلكِ الأرغفة
أو في منفى من تلكِ المنافي السّعيدة.
حرف الحلم
في حلمي العجيب،
رأيتُ نقطتي سمكةً
وحرفي قمراً.
لم أصدّقْ بالطبع
فلستُ محظوظاً بما يكفي
لحلمٍ سعيدٍ كهذا.
ثُمَّ رأيتُ نقطتي مَلِكةً
وحرفي مَلِكاً على العرش.
فلم أصدّقْ أيضاً
إذ لم أكنْ أسطوريّاً بما يكفي
لحلمِ الملوكِ والذّهب.
لكنّي البارحة
رأيتُ نقطتي رصاصةً
وحرفي قنّاصاً.
فاستيقظتُ مرعوباً من النّوم
لأجدَ جسدي وقد غطّاهُ الدّم
من السُّرةِ حتّى العنق.
حرف حياتي
كلّما تساقطتْ قطراتُ حياتي
مثل قطرات الماءِ ما بين أصابعي
شغلتُ نَفْسي بكتابةِ قصيدةٍ جديدة.
*
هكذا صارتْ قصيدتي قطرةً للنسيان
وقطرةً للهذيان.
معَ أنَّ الهذيان هو نسيان مُركّز
أو نسيان عُلّبَ ونُزِعتْ منهُ نواتهُ
وقشرته.
*
يا لها من حياة
تتساقطُ مثل قطرات المطرِ المُنهمرة
من غيمةٍ حامضيّة
لا يعرفُها إلّا أولئكَ الذين ضيّعوا
شبابَهم الغضّ
في ملاجئ الحروبِ العبثيّة.
*
يا لها من حياة
تشبهُ قصيدةً دونَ عنوان
ودونَ كلمات على الإطلاق
لكنّ لها نهاية مُدوّية
يصفّقُ لها بحماسٍ
جمهورٌ جُمِعَ على عجلٍ
وحُشِرَ على عجلٍ
في قاعةٍ ضيّقة.
*
حياتي الآن عاصفةٌ حروفيّة
حرفُها الضّحكُ الأسْوَد
ونقطتُها البكاءُ الأبْيَض.
*
حياتي تضيعُ كلّ يوم
بل كلّ ساعة
وأنا مُنشَغِلٌ عنها
بكتابةِ قصيدةٍ جديدة!
حرف ثقب الإبرة
في ثقبِ الإبرة
وُلِدتُ، وعشتُ، وتغرّبت،
وكتبتُ قصائدَ لا تُحصى
عن الحُبِّ والحرمان
وعن الموتِ والهذيان.
هكذا خلقتُ حروفي حرفاً حرفاً
فأعطيتُ لكلِّ حرفٍ كوناً
ولكلِّ نقطةٍ نجمة.
في ثقبِ الإبرة
وُلِدتُ، وبكيتُ، وصلّيت،
وعشقتُ، وتَطَلْسَمتُ، وتهت.
في ثقبِ الإبرةِ عشتُ
حتّى............ مُتّ.
حرف الطّين
اخترتُ حرفاً أحمر.
وبسرعةِ البرقِ تخلّيتُ عنه.
قيلَ لي:
لو أبقيتَ عليه لطيّرتكَ العاصفة.
ثُمَّ اخترتُ حرفاً أزرق
وتخلّيتُ عنهُ لكنْ ببطء.
قيلَ لي:
لو أبقيتَ عليه لاحترقتَ حدّ الجنون.
ثُمَّ اخترتُ حرفاً أسْوَد
وتخلّيتُ عنهُ أيضاً
شيئاً فشيئاً.
قيلَ لي:
لو لم تتركْه
لتحوّلتَ إلى نقطةٍ تقفزُ من موتٍ
لموت.
ولذا اخترتُ حرفاً
لا أستطيعُ أن أذكرَ لونَه أو أسمّيه،
حرفاً أخرجهُ من قلبي
كلّ ليلةٍ سِرّاً وسطَ الظلام،
وأضعهُ أمامي وأبكي
بدموعٍ سُودٍ وزرقٍ وحُمر،
وأحياناً بدموعٍ من طين.
حرف الحافّة
كُتِبَ عليكَ أن تمشي على الحافّة؛
حافّة النّهر
أو الوادي
أو البركان.
ولنْ يُسْمحَ لكَ أبداً أن تمشي في
الشّارع.
(الشّارعٌ مُلْكٌ للمُهرّجين
والطّبّالين والأدعياء!)
إذنْ، تعلّمْ ألّا تغرق
إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ النّهر.
أعرفُ أنّكَ لم تتعلمْ فنَّ العوم.
تمسَّكْ، إذن، بشجرةٍ أو بعشبةٍ أو
بقشّة.
وتعلّمْ ألّا تسقط
إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ الوادي.
أعرفُ أنّكَ لا تستطيع الطّيران.
تمسَّكْ، إذن، بصرخةٍ أو بحرفٍ أو
بدمعة.
وتعلّمْ ألّا تحترق
إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ البركان.
أعرفُ أنّكَ لا تستطيع أيّ شيء.
تمسَّكْ، إذن، بصخرةٍ أو بجمرةٍ
أو بأصابع عزرائيل.
حرف الطّفولة
بعدَ أن مشى ألف عام،
فرحَ الحروفيُّ إذ وجدَ سرَّه مكتوباً
على صخرة،
سرّه الذي يقول:
افرحْ يا مَن كنتَ وهماً فصرتَ طائراً
افرحْ فعمرُكَ اليوم يوم واحد.
*
جاءَ شابٌ يافعٌ وقال:
أريدُ أن أكتبَ الشِّعر
فَعلّمْني عشرةَ حروف
أكتب بها قصيدتي الكبرى.
فقلتُ له:
النّهر،
العيد،
الدّمعة،
القُبْلَة،
النّون،
السّين
السّكين،
النّقطة،
المنفى،
الموت.
*
بعدَ أن ضاعَ سبعين دهراً
وهو يعبرُ ليلَ نهار سبعةَ أبحر،
اتصلوا بهِ مِن هناك
قالوا: وجدنا طفولتَكَ الحافيةَ في
السّوق
أسرعْ واشترِ لها حذاء جديداً
وإلّا ستبقى حافيةً حتّى الموت.
حرف السّنّارة
في براءةِ سنيني
اصطادتْ سنّارةُ الدّهرِ قلبي
ثُمَّ جئتِ أنتِ لتكملي مشهدَ
الاصطياد.
هكذا صرتُ مثل سمكة
دخلتْ في فمِها المفتوح
سنّارتان.
*
هل كنتُ محظوظاً بهذي الفجيعة،
بكلِّ هذا الخسران؟
ربّما.
فذاكرةُ الموتِ توجعُ نبضَ الحروف
وتجعلُها تنزف ليلَ نهار.
ربّما.
فأنا لا أتوقّفُ عن إلقاءِ جُثّتي
المُتعبة
في كلّ وادٍ أراه.
حرف الشِّعر
شكراً أيّها الشِّعر
فأنتَ الوحيدُ الذي ينقذُني
حينَ أُصابُ بالاختناقِ العظيم
فأسارعُ لأتناولكَ؛ أكتبكَ على شكلِ
قصيدة
أو مقطعٍ
أو ومضةٍ خاطفة.
شكراً أيّها الشِّعر،
شكراً جزيلاً،
رغمَ أنّ الطّبيب
قد أوصاني أن أتناولكَ بحذرٍ شديد
خوفاً من أعراضِكَ الجانبيّةِ
المُؤلمة.
حرف السّيرك
دوري أن أمشي على الحبل
حاملاً عصا التّوازن الطّويلة.
طبعاً الموسيقى الصّاخبةُ لا تتوقفُ
أبداً
فيما الجمهورُ يضحكُ مُحدّقاً إلى
الأعلى
حيثُ أنا وعصا التّوازن نرقصُ رقصةَ
الموت.
وحينَ أتعبُ من هذا الدّور المُرعب
أذهبُ لأنامَ بعينين مفتوحتين
في غرفةِ لاعبي السّيرك،
حيث أسد السّيرك
ينام معي في الغرفةِ نَفْسها!
حرف دَلْو السّعد
أردتُ لحرفي أن يكون
مثل ريش الببغاء الأخضر الأحمر
لكنَّ اللهَ أرادَ لحرفي أن يكون
لي ولأيامي السُّود
مثل دَلْو السّعدِ التي تدلّتْ في
البئر
لتنقذَ يوسف من محنته الكبرى.
حرف المنفى
حياتي ضحكة قصيرة
أسمعُها كلّ يوم
خلفَ بابٍ مسدود.
*
يُقال: إنّ الموتى يتبادلون التهاني
في ما بينهم عندَ المناسبات.
ويُقالُ أيضاً:
إنّهم يستخدمون لغةَ الصُّمّ
والبُكْم.
*
العاشقةُ
التي عملت المستحيلَ مِن أجلِ الحاء
تحولّتْ - وا أسفاه - إلى
باء لا نقطة فيها.
*
المنفى باقٍ ويتمدّد.
هذا هو عنوانُ آخر أسطورة
كتبتُها وألقيتُها في بحرِ الظلمات.
*
البارحة تهتُ في السّوق.
كانَ شيئاً مُضحكاً حقّاً
لأنّي مَررتُ بها آلاف المرّات.
لكنّي رأيتُ طفلاً حافياً ضائعاً يبكي
فتذكّرتُ كلَّ شيء بسرعةِ البرق.
*
في المنفى
أو في ما يسمّونهُ المنفى
ما مِن امرأةٍ تشبُهكِ.
ولذا فنسيانكِ مستحيلٌ حدّ اللعنة.
*
مَرّةً كتبتُ قصيدةً عن النِّسيان
فاحتجَّ القلبُ على حرفِ السّين.
*
كلُّ أرضِ اللهِ منفى.
الوطنُ سجّادةُ صلاتي الصّغيرة فقط!
حرف الوسام
حينَ حاولتُ أن أستعيدَ طفولتي
المنهوبة
طرتُ نحو الشّمس.
وكانَ الطّيرانُ مؤلماً حدّ اللعنة
لأنّني كنتُ بلا جناحين
وربما بلا يدين.
*
أُعْجِبَ القدرُ بهذا الطّيران
الجنونيّ
فمنحَني، خلسةً، وسامَ الحروف.
*
وقفتُ أمامَ المرآةِ العتيقة،
وبعينين دامعتين وشفتين باسمتين،
علّقتُ الوسامَ على دشداشتي اليتيمة.
علّقتُهُ بيدي أنا الطّفل البريء
وكانتْ يدي يد فلّاحٍ
خشنة، مليئة بالشقوق.
*
لم تكنْ في الوسامِ العجيب
سوى كلمة واحدة.
لكنّها - وا حسرتاه -
مكتوبة
بالخطأ
رغمَ أنّ حروفَها مضيئة بحلمِ
الطّفولة.
*
حاولتُ أن أصحّحَ هذا الخطأ الفادح،
فاستلزمَ الأمرُ سبعين عاماً
من الطّيرانِ الكابوسيّ
حتّى اكتشفتُ أنّ الكلمةَ لم تكنْ خطأ
بل أنا نَفْسي خطأ
وخطأ فادح أيضاً!
حرف البياض
حلّقَ الحرفُ طويلاً فوقَ ذاكرتي
وقال: أنتَ المأساة في الأبجديّة.
ولكي لا أبكي أعطاني ثلاثَ أوراق.
قال: اقرأْ ورقةً كلّ ليلة.
كنتُ سعيداً (لا أدري لماذا!)
ففي الليلةِ الأولى
قرأتُ الورقةَ الأولى فكانتْ بيضاء
كالطفولة.
وفي الليلةِ الثانيةِ قرأتُ الورقةَ
الثانية
فكانتْ بيضاء كالحُبّ.
وفي الثالثةِ قرأتُ الورقةَ الثالثة
فكانتْ بيضاء كالموت،
نعم كالموت.
هل كنتُ سعيداً كالموت؟
حرف السّكين
كلّ حرفٍ منكِ
يشبهُ سكّيناً لامعة
وجدَها شحّاذٌ مجنون
فطارَ بها فرحاً
وأخفاها تحتَ كومةِ أسماله الهائلة.
حرف النّاس
يا ألِفي،
بدلاً من أن تحلمَ أن يعشقكَ كلّ
النّاس
كنْ أنتَ كلّ النّاس!
حرف القُبْلَة
قُبْلةٌ منكِ
كلّفتني حياةً بأكملها!
حرف الرّغيف
وا أسفاه،
صرتُ أجمعُ الحروفَ حرفاً حرفاً
والكلمات كلمةً كلمة
لأكتبَ عنكِ قصيدةً واحدة،
تماماً كالشحّاذ
يشحذُ الدّراهمَ من النّاس
صباحاً ومساء
علّها تكفي لشراءِ رغيفٍ واحد!
حرف الرّسّام
على امتدادِ سبعين عاماً
كنتُ أرسمُ صُوَرَكِ بدمي وحروفي
وصرخاتي
وأعلّقُها فوقَ الجدار
حتّى رسمتُ مائةً أو مائتين. لا أدري!
لكنّي أدري أنَّ صُوَرَكِ كانتْ
تتساقطُ فوقَ الأرض.
وما مِن أحدٍ يَجْرؤ على إعادتِها إلى
الجدار
حتّى أنا!
حرف المطر
كلّما رأيتُكِ مطرتْ قصيدتي كغيمةٍ
كبيرة
لكنّي لم أركِ منذُ زمنٍ موغلٍ في
الوحشة،
موغلٍ في البُعدِ والمتاهة،
موغلٍ في الحرمانِ والهذيان.
لذا وجبَ على قصيدتي كي تمطرَ ثانيةً
ليسَ فقط أن تبتكرَ سماءً جديدة
وحياةً جديدة
وسريراً جديداً
بل أن تبتكرَ سبباً جديداً للمطر.
حرف القصيدة
أيّتها القصيدةُ التي تملكُ أجنحةَ
ملاك
وصوتَ فجرٍ يخرجُ حيّاً
من بين جثث ساعات الظلام،
كيفَ للحرفِ أن يُبدعكِ
بل كيفَ لهُ أن يراكِ
وهو يصرخُ ليلَ نهار:
"أينَ أنتِ"؟
حرف الكينونة
حرفُكَ الحاءُ، حرفُكَ الباء.
وأنتَ أين أنتَ؟
أظنُّكَ في نقطةِ الباء.
نعم،
إنّ بعضَ الظنّ شِعْر.
حرف الأم
مثل أمٍّ تتفقّدُ أطفالَها النّائمين
آخر الليل
لتتأكّدَ أنّ أحلامهم لم يغادرها
الدّفء
عندَ الشّتاء،
أتفقّدُ قصائدي واحدةً بعدَ أخرى
وأضيفُ كلمةً هنا
وحرفاً هناك
ثُمَّ أذهبُ إلى النّوم،
أذهبُ إلى آخر العمر
ممتلئاً بنَفْسي وحرفي،
ممتلئاً بأحلامِ وهمي.
حرف المستحيل
ليسَ للفرحِ معنى.
ففي اللحظةِ التي ينبغي للقلب
أن يرقصَ فرحاً
يأتي مَن يجبرُ الدّموع
لتتدفقَ نهراً من أنين.
ليسَ للحرفِ معنى.
ففي اللحظةِ التي يريدُ الحرف
أن يعلنَ عن سرّه
يأتي مَن يجبرُ النّقطة
لتتركَ الحرفَ دونَ شمسٍ
ودونَ روح.
ولذا
سأطلبُ من قلبي الذي شيّبتهُ المنافي
والحروب
أن يتخذَ الثلجَ رمزاً
والصّمتَ أيقونةً
والجمرَ طريقاً إلى المستحيل.
حرف اللاعودة
لكي أنجو من فخِّ الشِّعْرِ الذي لا
يُبْقي ولا يَذَر،
صرتُ أكتبُ عن النّافذةِ وأنا أعني
الباب
وأكتبُ عن الرّقصةِ وأنا أقصدُ
الجَلْجَلة
وأكتبُ عن الهذيانِ وأنا أقصدُ
النّسيان.
*
الآن بعدَ أن كشفتُ عن سرِّ قصيدتي
أقول:
أنا أدخلُ من النّافذة
وأخرجُ منها سعيداً
كلّ يومٍ كنمرٍ جريح.
*
وأقول:
كتبتُ كتاباً هائلاً عن النّسيان،
سَمّيتُه:
باب النّسيانِ في مديحِ النّسوان
أو
باب النّسوانِ في مديحِ العشقِ حدّ
العمى
أو
باب العمى في انتظارِ دواء
مَن لا يعرفُ مأوى ولا وطنا.
وحينَ بلغتُ من العمرِ ما بلغت
عدتُ فَسمّيتُه:
كتاب كلّ مَن خرجَ مِن حرفهِ ولم يعدْ
أبدا.
حرف الرّائي
حينَ رسمتُ روحي حرفاً
في كتابِ شِعْرٍ كبير،
رأى مَن رأى سرَّ حرفي فصاح:
يا إلهي، هذهِ روحٌ حقيقيّة!
*
كلّ يوم،
صارَ هذا الرّائي يتأمّلُ روحي،
أعني سرَّ حرفي،
ليصيح
أو ليبكي
أو ليضحك
أو ليحلم طويلاً طويلاً
حتّى تحوّلَ في آخر المطاف
إلى روحٍ حروفيّة!
حرف القول
سألني عندَ شاطئ البحر:
ماذا يكمنُ في الحرف؟
قلتُ: سرّ الأبديّة.
قال: إذن، ماذا يكمنُ في النّقطة؟
قلتُ: سرّ الكون.
فدمعتْ عيناه
وهو ينظرُ إلى الغيمةِ التي حلّقتْ
فوقَ البحر.
حرف المعجزة
وُلِدتُ منذ زمنٍ طويل،
طويلٍ في الظّلامِ والنّور.
وكنتُ أشرقُ حدّ الاشتعال
بل أتحوّل إلى رماد
لكنّي - وهذهِ معجزتي -
كنتُ أجمعُ رمادي
وأذرّهُ بهدوءٍ فوقَ قصائدي
فتشتعلُ بسرِّ حروفِها
كقلبِ طفلٍ يتيمٍ طُرِدَ من الملجأ
في ليلةٍ ماطِرة.
حرف الحرب
حاء،
راء،
باء؛
ثلاثةُ حروف،
ثلاثُ حروب،
ثلاثُ طعناتٍ في الرّوحِ والجسد،
ثلاثُ مِيتَاتٍ لا تُبقي ولا تَذَر
ولم يرها، مِن قبلُ، بشر.
*
شكراً لكَ يا طاغيةَ الوطن،
شكراً على هذا الكرمِ الجهنّميّ،
شكراً لكَ من أبناءِ الوطن
ومن أعداءِ الوطن
ومن الوطن!
حرف الكابوس
شابٌ يافعٌ يضعُ على وجهه قناعَ ثعلب.
كانَ مخموراً قليلاً أو كثيراً.
فالضحكةُ تنتابهُ مثل الحيرة، مثل
الدّمعة.
حينَ طرقَ البابَ في الليل
فتحوهُ له مُرتبكين خائفين.
قالَ كلاماً غريباً.
لكنّهم عرفوا، على الفورِ، معناه.
فجاءوا إليهِ بقدحٍ من ماء
وبطفلةٍ عمرها سبعة شهور.
شربَ الماءَ. وقبّلَ الطّفلةَ وبكى.
وتمدَّدَ على الأرض.
لم يفهموا بكاءه أبداً
لكنّهم فرحوا إذ قبّلَ الطّفلة.
(هل كانت الليلةُ ليلته
أم ليلةُ لعنته؟)
قال: دعوها تسمع أغنيةَ حلمي.
قالوا: حتماً سيسرقُها هذا الملعون.
فهجموا عليهِ بسرعةِ البرق
- كانوا ثعالب من دمٍ ولحم -
وقتلوه بسبعِ طعنات،
سبع طعنات تلقّاها بهدوء
قلبُهُ الملآنُ بالدمعِ والكحول.
حرف السّؤال
قالَ لي: أيّ سؤال تكونُ الإجابةُ
عليه
ب(نعم) هي الصّحيحة
وب(لا) هي الصّحيحة أيضاً؟
قلتُ: هذا سؤال الموت.
قال: فأيّ سؤال تكونُ الإجابةُ عليه
ب(نعم) هي الخطأ
وب(لا) هي الخطأ أيضاً؟
قلتُ: هذا سؤال الموتِ أيضا!
*
حينَ تتحوّلُ الوردةُ إلى ذُبابةٍ أو
زنبور
دونَ سببٍ واضحٍ أو مفهوم
كيفَ يمكنُ للحرفِ أن لا يرتبك
وللنقطةِ أن لا تتشظّى؟
*
في زمنٍ صارَ الجميع
يسألُ علناً ليلَ نهار
آثرتُ أن أعودَ إلى الأعماق
لأحيا وسطَ سؤالِ الأعماق.
حرف جلال الدّين الروميّ
حينَ أصغي إلى قلبي
أسمعُ العالمَ كلّه يبكي.
وحينَ أصغي إلى حرفي
أسمعُ صدى هذا البكاء
يتدفّقُ ليلَ نهار
أنهاراً من حاء
وأمطاراً من باء.
حرف اللاأين
حرفُ اللاأين حرفٌ لا يملكُ هلالَ
النّون
ولا نقاطَ الشّين
ولا صفيرَ
الصّاد
ولا وحشةَ الألف.
حرفٌ لا ينقذُكَ وأنتَ تغرقُ في
البحر،
ولا يفيدُكَ بشيء
وأنتَ تتلقّى الطعنات
الواحدة بعدَ الأخرى،
وقد لا يسعفُكَ حينَ ترفعُ يديك
لتلامسَ الغيمَ صارخاً صرخةَ الكون:
أغثني إلهي أغثني.
رغمَ ذلكَ كلّه،
بل ربّما بسببِ ذلكَ كلّه،
يبقى حرفُ اللاأين حرفَكَ الوحيد
ومَلاذَكَ الأسطوريّ الأخير.
فتمسّكْ بهِ كما يتمسّكُ الأعمى
بعصاه.
حرف مُعَلَّق
بعدَ أن ضاعَ كلُّ شيء
أصبحتُ حرفاً مُعَلَّقَاً في سقفِ
الضّياع،
وصارَ همّي فقط
أن أنزلَ من سقفِ الضّياع
وأمشي على أرضهِ أو أطير في شقّتهِ
الضّيّقة.
حرف القشّة
القشّةُ التي تطفو على البحرِ قلبي.
قلبي القشّةُ التي تطفو على البحر.
هكذا أردّدُ مع نَفْسي
وأنا أبدّدُ سبعين عاماً
في مصارعةِ التّيار.
هكذا أردّدُ مع الماء
وأنا أصارعُ سبعين عاماً من الغرق.
حرف الضّحك
في الليل
حينَ عبرت الطائرةُ البحرَ
كانَ الرّكابُ ينامون ويشخرون.
وحدي كنتُ أذهبُ جيئةً وذهاباً في
الممر
مُتطلّعاً في ملامحهم المُضحكة
وهم يحلمون أو يشخرون.
قلتُ لنَفْسي:
لا يهمّ فالطيّارُ يقظٌ دونَ شَكّ
لكنّي صُدِمتُ
بل صُعِقتُ حينَ رأيتُه
يشخرُ ورأسه إلى الخلف.
ولذا عدتُ سريعاً إلى مكاني،
عدتُ لأكملَ الرحلة
وأنا أضحكُ طوالَ الوقت،
أضحكُ كي أخفي دموعي،
أضحكُ كي أخفي هَلَعي وجنوني.
حرف البحر
البحرُ يختفي في حرفِكَ ثُمَّ يظهرُ
ثانيةً.
وأنتَ، أين أنتَ مِن كلّ هذا؟
ستقولُ: أنا المنفيّ.
وأقولُ لكَ: نعم.
وتقولُ: أنا المنسيّ.
وأقولُ لكَ: نعم.
وتقولُ: أنا وأنا...
وأقولُ: نعم ونعم.
ثُمَّ تقولُ وتقولُ وتقول
حتّى يأتي وقتُ أن يختفي البحر في
حرفِك
ثُمَّ لا يظهرُ ثانيةً أبداً
فتختفي أنتَ أيضاً
ولا تظهرُ ثانيةً أبداً.
حرف الرّوح
يا لها من روح؛
في كلِّ يومٍ
ينمو حرفٌ غريبٌ
في إصبعٍ مِن أصابعها العشرة.
*
يا لها من روح؛
أنفقتْ كلَّ ما تملك
على الحُبِّ والمطرِ والجنون
حتّى جنَّ بها الجنون
وأغرقها المطرُ قطعةً قطعة
وخنقها الحُبُّ بأصابعه الحريريّة
وهو يحاولُ أن يقبّلها قُبْلةَ
الحياة.
*
على شاطئ الأبديّة،
التقى الموتُ بالشّاعرِ الطّفل
والشّاعرِ المُهرّج
والشّاعرِ الوغد
وقرأ عليهم أنشودتَه المُرعبةَ
الكُبرى.
فرقصَ الشّاعرُ الطّفل
وتقيَّأَ الشّاعرُ المُهرّج
وانتحرَ الشّاعرُ الوغد.
*
في مهرجانِ الأرواح
طُلِبَ من الجميعِ أن يقوموا بدورِ
الطّغاة
والقتلةِ واللصوصِ والمُهرّجين
والمُغفّلين.
وحينَ احتجَّ مَن احتجَّ على سخفِ
المطلوب
وتفاهةِ الأدوار
طُرِدَ شرَّ طردةٍ
من المهرجان.
وقيلَ: بل أُلقِيَتْ جُثّته من خلفِ
الأسوار.
حرف الفجر
في
حرفِ
الفجر
أرى أطفالاً يغرقون في البحر،
وطغاةً يخططون لشنِّ حربٍ جديدة،
وسُكارى يبحثون عن حبيباتِهم في شوارع
الوهم،
وراقصات مُرهَقات
عُدن من الملهى للتوّ،
وموسيقيين عميان
يقودون بعضهم بعضاً
وهم يقهقهون،
وشعراء يكتبون قصائدَهم الجديدة
في سُفنٍ مَهجورةٍ تُدعى سُفن
الذاكرة.
في حرفِ الفجر
أرى شمساً تصرُّ على المجيء إلى الأرض
لترسمَ على شُبّاكي المُظلمَ
قُبْلتَها الخاطفة
وتعلنَ أن كلّ شيءٍ على ما يُرام!
حرف الشّحّاذ
لا تلقِ القبضَ على حرفي
ولا تودعه بئرَ العبثِ
أو مائدةَ الحمقى
أو سجنَ الموتى.
*
أرجوك
أنا شحّاذٌ يجلسُ أمامَ بابِ الله
وهذا حرفي يجلسُ قُربي كالطفل.
يقودني حينَ أتيهُ كالأعمى
ويربّتُ على كتفي
حينَ ينهمرُ الدّمعُ من عينيّ
ويهمسُ لي
بل ويهيّئُ لي حلماً
من طينٍ أو صخرٍ أو ماء
- لا فرق! -
حينَ تتمزّقُ أحلامي أو تتلاشى أو
تنهار.
*
أرجوك
هذا حرفي عاشَ طليقاً
وسيموتُ طليقاً.
فاتركْه لي كي أتنفّس.
*
يا هذا
أنا شحّاذٌ يجلسُ ليلَ نهار
أمامَ بابِ الله.
وهذا حرفي يجلسُ قُربي كالطفل
يصرخُ : يا الله يا الله.
Adeeb Kamal Ad-Deen
Adeeb Kamal Ad-Deen
(Babylon,
1953(
is a poet, journalist and translator
who has degrees in Economics 1976
and English Literature from the
University of Baghdad 1999 plus a
Diploma of Interpreting
(Arabic-English) from Adelaide
Institute of TAFE, South Australia
2005.
He has published 24 poetry
collections in English and Arabic
and won the major prize of Iraqi
poetry in 1999. His poetry has been
translated into many languages such
as: Italian, French, Spanish and
Urdu. A huge number of articles and
books have been written about his
poetry style, and many researchers
have
earned doctorates and masters
degrees in the Universities of Iraq,
Algeria, Morocco, Iran and Tunisia
by writing critiques
of
his works.
As a translator, he has
translated into Arabic short stories
and poems from Australia, Japan, New
Zealand, China and the USA.
Adeeb Kamal Ad-Deen now lives in
Australia as an Australian citizen.
His poetry has been published in The
Best Australian Poems 2007 (edited
by Peter Rose) and The Best
Australian Poems 2012 (edited by
John Tranter), on many Australian
websites and in magazines and books,
such as Southerly, Meanjin and
Friendly Street Poets.
www.adeebk.com