تجمع كتابة الشاعر العراقي المبدع
أديب كمال الدين بين البحث عن الحضور
الشعري للصوت المبدع، وتعاليه الروحي
المتجاوز لمركزية التجسد الفيزيقي،
والاحتفاء بصيرورة الأثر الجمالي
للذات، وتعددية حضوره التمثيلي
الاستعاري في الخطاب الشعري؛ ومن ثم
فالتصوف يستشرف نقاء الصوت المتكلم،
وإمكانية استبداله بصوت الآخر/
الآخرين في الوقت نفسه؛ فالمناجاة –
في خطاب أديب كمال الدين الشعري –
تشير إلى دائرية الصوت، واستنزافه
لبنية الحضور التاريخي، والفيزيقي،
وتؤول الكينونة النسبية من خلال
تداخلها المحتمل مع الأثر الفني
الجمالي، أو الأصوات المحتملة للآخر؛
وهو ما يذكرنا بمدلول التصوف طبقا
لنيقوس كازنتزاكيس، فضلا عن استشراف
الصوت لموقف المناجاة، وما يحمله من
تكشف للإشارات، ومعاينة الخبرات
الرؤيوية السماوية مثلما هو في كتابات
النفري في المواقف والمخاطبات؛
فالتصوف – في خطاب أديب كمال الدين
الشعري– عالمي، ويحتفي بالاستبدال،
والحضور التشبيهي المتعدد للذات،
وبالتناقض النيتشوي، وبالنشوء الجمالي
الآخر في الفضاءات الجمالية المحتملة،
والمتداخلة، كما يحتفي بالتحول السردي
للكينونة، وتجاوزها للنهايات التي
تشير إلى بدايات تمثيلية، وطيفية
جديدة في النص، وتداعياته.
الكتابة هنا تحاكي بنى النهايات
محاكاة ساخرة ما بعد حداثية؛ إذ تفكك
الحضور الفيزيقي ابتداء، وتكشف عن
تحولاته الطيفية في المشهد الكوني،
والفضاء السيميائي الفني المحتمل.
وتبدو هذه التيمات، والتقنيات الفنية
واضحة في ديوان أديب كمال الدين
المعنون ب إشارات الألف؛ وقد
صدر ضمنالمجلد الرابع من
أعماله الكاملة، عن منشورات ضفاف
ببيروت، ط1، سنة 2018.
وتشير عتبة العنوان / إشارات الألف إلى
استمرار احتفاء خطاب الشاعر بجماليات
الحرف، ودلالاته الفنية، وتحولاته
الجمالية، وارتباطه بتأويل الذات،
وعلامات العالم، وتناقضاته الإبداعية
المحتملة، وأسئلته، وتوافقيته
التشكيلية، وتجانسه، وتفكك آثاره في
الوقت نفسه.
إن الحرف – في خطاب أديب كمال الدين
الشعري – يتصل بالمدلول الباطني
المحتمل للذات، وعلامات العالم من
جهة، ويشير إلى التجسدات السيميائية
الطيفية لكينونة المتكلم في صيرورة
النص، وتداعياته، ووظائفه الشعرية /
السردية من جهة أخرى.
لا ينفصل المدلول التأويلي العميق
للحرف هنا – إذا – عن قوى الاختلاف،
والتعددية التمثيلية للأثر في النص؛
فهو يوحي بنقاء لحظة الحضور الدائرية
في الوعي، واللاوعي، وبالوفرة
الجمالية للعلامات التفسيرية الفنية،
واستبدالاتها في النص.
ويرى رولان بارت – في كتابه هسهسة
اللغة – أن الجمع – في النص – لا
يكمن في غموض مضامينه، وإنما يستند
إلى ما يمكن تسميته بالتعددية
التجسيمية للدوال التي تنسجه؛
فالتعددية التي يعاينها القارئ تنبع
من السطح غير المتجانس، والأصوات،
والأشياء المنفصلة؛ إذ لا يستطيع النص
أن يكون هو إلا في اختلافه.
(راجع، رولان بارت، هسهسة اللغة،
ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الإنماء
الحضاري بحلب، ط1، سنة 1999، ص 90).
يشير بارت – إذا – إلى التعددية
السيميائية الكامنة في بنية النص
نفسها من جهة، وإلى امتدادها في فعل
القراءة، وارتكازه على قوى الاختلاف
نفسها من جهة أخرى.
وإن الصوت لينبعث فيما وراء بنيته
الأولى – في ديوان أديب كمال الدين –
وينفتح على جماليات الأثر، وامتزاجه
الممكن بالفراغ، أو الحضور الطيفي
الآخر المؤول للكينونة، والمؤجل
للنهايات في بنيتها؛ وكأن الحرف يوشك
أن يحتل الفضاء الجمالي؛ ليوحي بتعالي
الصوت، وبدايات كتابة جديدة، أو نشوء
تفسيري سيميائي آخر في المشهد.
* تفكيك بنية التجسد:
يشير الصوت المتكلم إلى خبرته
الرؤيوية السماوية بينما ينسج فضاء
تجريبيا يوحي بالأثر الجمالي التفسيري
للصوت، وعلاقته بالفراغ، والحياة
الجمالية للصورة فيما وراء التجلي
الفيزيقي للذات، وعلامات العالم.
يقول في نص إشارة من أنا:
"
إلهي،
حينَ مشيتُ وسطَ المقبرةِ الكبرى،
كانَ القمرُ يملأُ ظهرَ القبور
بفضّته القصوى.
وكنتُ أكلّمُ نفْسي،
حينَ تناثرَ بعضُ عظامِ الموتى
فوقَ الأرض،
كنتُ أكلّمُ نفْسي
بكلامٍ لا معنى له:
مَن أنا؟
ولماذا جئتُ
إلى هذي المقبرة الكبرى؟".
ص 294.
تبزغ الإشراقة الداخلية للذات في
تعارض تشكيلي سيميائي ما بعد حداثي مع
فضاء القبور الجمالي، وتناقضاته
الإبداعية بين استشراف النهايات،
والحياة التصويرية المحتملة للموتي في
علامة النور، وفيما وراء بنية التجسد
التي تشير إلى طاقة السؤال، واستنبات
أصوات الموتى فيما وراء السكون
الظاهر.
إن السؤال – في الخطاب – يوحي
بالتمرد، ومقاومة بنية الموت، وصخبه،
كما تبدو المقبرة الكبرى كعلامة
تفسيرية تتضمن تاريخ الصراع الأرضي،
ووفرة النهايات، وتأجيلها في حياتها
الأخرى الكامنة في إشراقة الصوت
الداخلية، ومعاينته للنور، وللعب
الأصوات الممكن في المشهد.
وقد يتعارض حضور المتكلم الدائري
المتعالي مع إشارات الرعب الأرضي،
وتاريخه في نص إشارة الشمعة، إذ ينقل
الصوت نفسه في علامة الشمعة بينما
يمارس إغواء النهايات المؤجلة؛ ومن ثم
تبدو الشمعة بديلة لبنية التجسد،
ومؤجلة لصخب النهايات.
يقول:
"فارتبكتُ
من منظرِ الدَّم
والحروب
والجُثث.
ارتبكتُ حدّ أنّني أشعلتُ قلبي
شمعةً
وسطَ هذا الظلام المخيف.
أشعلتُه ومضيتُ إلى حَتْفي
كالأعمى."
ص 263.
تشير عتبة عنوان القصيدة إلى تفكيك
بنية الرعب في استبدال التجسد بالنور
في الخطاب الشعري، أو بعلاقات القوى
المنتجة للحضارة في مقابل بنى الصراع
العبثي، وتواترها التاريخي؛ فعلامة
الشمعة تومئ بتشكل للضمير الذاتي
الكوني في فراغ مضاعف، أو في ظلمة
متواترة لصورة الدم في فضاء إنساني
عابر للأزمنة؛ الشمعة تخترق صخب الموت
في الماضي، وفي لحظة الحضور، وتؤجل
النهايات، والتجسد معا باتجاه عالم
جمالي يحمل أثر النهايات، ويستنزفها
في الآن نفسه.
ويسخر خطاب المتكلم من بنية الانتصار،
ومن بنية الحضور الفيزيقي في نص إشارة
نهاية الحرب؛ وكأنه يؤجل اكتمال بنية
الحرب نفسها في تشوه كل من علامتي
الذات، والآخر ضمن الفضاء الجمالي
الاستعاري للمتكلم نفسه؛ وهو ما
يذكرنا بتصور فرويد حول ارتباط الصراع
الداخلي بموت الفرد؛ فالنص يشير - في
نسقه العلاماتي - إلى تكثيف بنى
الصراع الكبرى، والجزئية في علامة
الذات التي تتصل – روحيا – بتأويل
التاريخ، والأسطورة.
يقول:
"إلهي،
خرجتُ من الحربِ منتصراً،
حرب الطغاةِ والأوغادِ والأعدقاء.
خرجتُ منتصراً
أجرُّ جثّتي بيدي في الطرقات
ليلَ نهار!"
ص 247.
ثمة سخرية ما بعد حداثية – في النص –
من بنية انتصار تاريخي كثيف، وزائف؛
فقد انتقل تاريخ الحروب إلى عالم
الأحلام، والصور في وعي، ولا وعي
المتكلم، ويبدو حضور المتكلم هنا
كتمثيل استعاري لعذاب برومثيوس
الأبدي؛ فكل من الأنا، والآخر يكمن
بداخله، وفي فضائه الذي يسخر من
النهايات، ومن مركزية التجسد معا في
الصورة الحلمية التي تستشرف ما وراء
الحروب، ونهاياتها العبثية.
وقد تتجلى الهوية التمثيلية
الاستعارية للذات كبديل عن مركزية
الموت في فعل الكتابة، واستبدالاته؛
إذ يشير خطاب المتكلم الشعري إلى
الوجود الفني الآخر للذات، وتعدديته
فيما يشبه الولادات النصية المتجددة،
والمؤجلة لبنية الموت.
يقول في نص إشارة الإشارة:
"إلهي،
الكلُّ مرعوبٌ من الموت
إلّاي!
فأنا فكّرتُ فيه حتّى احترقتُ
رماداً تذروهُ الرِّياح،
ثمَّ فكّرتُ فيه حتّى غرقتُ
وأكلَ سمكُ القرشِ جُثّتي،
ثمَّ فكّرتُ فيه حتّى جُننتُ
درويشاً أعمى يهذي بأسرار الحروف
ليلَ نهار.
وهكذا صارَ الموتُ خفيفاً عليّ
أخفّ من الحريقِ والغرقِ والجنون!"
ص 234.
يرتكز الخطاب الشعري على الوجود
التصويري المؤجل لبنية النص في وعي
المتكلم؛ فالذات تستبدل بعلامات
الرماد، والغرق، والجنون في أزمنة،
وفضاءات تعددية، تتجاوز التجسد
التاريخي، وتعيين الهوية؛ ومن ثم تفكك
بنية الموت من داخل غياب إبداعي مضاعف
في تحولات الصور الاستعارية،
والتشبيهات؛ وكأن الكينونة تنبعث في
الولادة المتجددة للحرف، ومدلوله
الباطني الجمالي، وتأويلاته المجازية
في المشهد الكوني الداخلي، وفي
تداعيات الكتابة، وتشكيلاتها.
ويشير تكرار الصوت الموازي لتكرار
بنية الموت إلى إغواء التجدد في بنية
إبداعية للفراغ أو الغياب الذي يتراوح
مع حضور تصويري يفكك مدلول كل من
الموت، والتجسد في النص.
وقد يستشرف خطاب المتكلم سيرا تخيلية
/ شعرية محتملة للذات، وكأنها تمتزج
بأصوات الآخر / الآخرين من الواقع،
وتاريخ الفن.
يقول في نص إشارة لما حدث:
"ولم ينصفني
أولئك الذين جاءوا
من بعد
وقتلوني
بسيوفهم الصدئة
وخناجرهم المسمومة،
ولا
أولئك الذين رأوني
في آخر العمر
شحّاذاً أبكي على بابِك،
فاستكثروا عليَّ ذلك
فَمَثَّلوا بجثّتي فرحين
وبحروفي مسرورين!" ص-ص 214، 215.
يحتفي الصوت بحضوره الاحتمالي
المستعاد من أصوات الماضي، والحكايات،
وعوالم الفن؛ وكأنه ينسج تاريخا آخر،
وسيرا تشبيهية محتملة تؤول الموت ضمن
صيرورة الحياة، وتحولات الأثر، وحياة
الأصوات الأخرى في وعي، ولا وعي الذات
المتكلمة.
ويومئ المتكلم إلى استبدال تشكيل
الحرف، وجمالياته للجسد؛ فالتمثيل
بالحرف يأتي كقتل معلق، أو مؤجل، كما
يقترن الحرف بالصوت المتكلم، وهويته
المتجاوزة لبنية الموت؛ فهو نواة
تشكيلية تشبيهية لعودة الصوت من
الماضي، أو التباسه بالآخر، أو حضوره
كأثر جمالي في فضاء سيميائي شعري في
المستقبل.
*تكرار النشوء، والتحول السردي للصوت:
لا ينفصل تشكيل الحرف عن الحضور
التصويري الطيفي البديل في كتابة أديب
كمال الدين؛ فالصوت ينبعث في تشكيلات
الحرف، وعلاماته التأويلية، وفي
انبعاث الأصوات، والأطياف في تحولات
السرد الشعري التفسيري للكينونة؛ يقول
في نص إشارة هل:
"ومن بئرِ الحرمانِ في قلبي،
أتقطّعُ شوقاً
أو حزناً
وأذوبُ، أذوبُ، أذوب
حتّى أتحوّل إلى حرفٍ
أو نقطة؟"
ص 300.
يشير الحرف إلى التناغم، أو التجانس
في لحظة النشوء الآخر للكينونة؛
فالتلاشي في وظائف السرد الشعري، يولد
وفرة لحظات النشوء في الأثر الجمالي
للحرف، وللنقطة التي يتنازعها المحو،
والوجود؛ مثلما هو في تصور دريدا حول
الأثر.
إن الذات هنا تشبه استبدالات العلامة
في الكتابة الأولي؛ فالنقطة تؤول حضور
الذات، وتستبدل نشوءها الأول باتجاه
النشوء الآخر الذي يوحي باستشراف
الإكمال في نص قيد التشكل دائما.
وقد يستعيد الخطاب، ولغته الشعرية
الاحتمالية ما بعد الحداثية أطياف
الماضي ضمن العالم الداخلي للمتكلم؛
وكأنها تجدد النشوء في تعاطف الصوت مع
إشراقات الصور، والأصوات المجردة
العابرة للزمكانية؛ يقول في نص إشارة
الحرب:
"إلهي،
هل أشبهُ هذا الملك المجنون؟
أم أشبهُ هذا الجنديّ المقتول؟
أم أشبهُ هذه الحرب التي لم تحدثْ
أبداً،
أعني هذه الحرب التي تحدثُ كلّ يوم؟"
ص 213.
يعيد المتكلم تأويل ذاته عبر مرح
أطياف الماضي في المشهد؛ مثل شبحي
نبوخذ نصر، وكاليجولا، ويستشرف وفرة
الحرب، وتشبيهاتها المحتملة، وغيابها
المضاعف الذي يذكرنا باستباق العالم
الافتراضي للحرب في تصور بودريار؛
فالصخب الطيفي للحرب، ولأطياف التاريخ
يمتزج بنشوء الصوت الآخر في فعل
الكتابة.
*التداخل بين الفن، والواقع:
يراوح المتكلم – في خطابه – بين
الواقع، والفضاء السيميائي التجريبي
الفني في النص، ويستعيد أصداء، وأطياف
الحكايات، والأعمال الفنية في عالمه
الداخلي، وفي قاعة عرض محتملة تفكك
مركزية الواقع؛ يقول في نص إشارة
القاعة:
"إلهي،
في القاعةِ المُطلّةِ على البحر
غنّيتُ أغنيةَ السَّفينةِ التائهة
ثُمَّ أغنيةَ السَّفينةِ المهجورة
ثُمَّ أغنيةَ السَّفينةِ الغارقة.
لم يكنْ في القاعةِ أحدٌ أبداً
لكنّي لم أستسلمْ،
صافحتُ الجمهورَ واحداً واحداً
وشكرتُه واحداً واحداً
ثُمَّ أغلقتُ البابَ مُرتبكاً
فتلقّفني الشَّارعُ
ومضيتُ إلى حيث لا أدري." ص 220
القاعة توحي بعرض للأصوات، والتشكيلات
الجمالية، والآثار التي توحي بتجدد
عوالم الفن، ونماذج الذاكرة الجمعية
في وجود شبحي يقع بين وعي المتكلم،
والفراغ الإبداعي للفضاء التجريبي
للقاعة.
وتذكرنا السفن المستعادة من أطياف
الفن، والتاريخ بعوالم شكسبير في
العاصفة، وعوالم يوجين أونيل، وأطياف
السفينة السحرية عند ماركيز؛ وكأن
العرض يستنزف فضاء القاعة باتجاه لعب
العلامات، والأصوات.
*الاختلاف، والتناقض الإبداعي في بنية
الحرف:
قد يمتزج كل من التناغم، أو
الهارموني، وبنية التلاشي، أو التفكك
في مدلول الحرف نفسه، وإيماءاته،
وتأويلاته؛ وهو ما يؤكد التناقض
النيتشوي ما بعد الحداثي في تشكيل
الحرف، وبنيته، وأصالة قوى الاختلاف
التصويرية، والدلالية في نص أديب كمال
الدين؛ يقول في نص إشارة السين:
"لكنّي من بعد سنين وسنين
أنامُ سعيداً وسطَ الشَّارع،
وسطَ كوابيس السِّين:
إذ أضعُ على الأرضِ جسدي
لكنْ مِن دونِ رأس،
وأضعُ على الأرضِ رأسي
لكنْ مِن دونِ عينين أو شفتين." ص 218
لقد اقترن الحرف بالغناء، وبالتمزق
الذي يشبه تمزق ديونسيوس في تصور
نيتشه؛ الحرف تشكيل، يعيد إنتاج
الكينونة، ويؤجلها في مساحة من
الفراغ، ويعيد التساؤل حول دورات
الوجود، وماهيته.