إنها مهمة صعبة، أن تكتب عن الحرف
وأنت من أهل الحرف، أن تقف على
عتباته قبل الدخول إلى ملكوته،
والحرف حتف كما تقول العرب، لكن
أهل العرفان فتحوا آفاقاً جديدة
لفلسفة الحرف في ظواهره وبواطنه،
وصار المتصوفة يتوغلون في ماهياته
ومدياته مجتازين عتبات العقول
والمعارف، ثم صار الحرف صرحا
ًيتسلقه المغامرون وأصحاب التجارب
الجديدة في الشعر واللغة
والعرفان، ثم أخذ يتوهج لمعانه
أمام الفنون الأخرى وخصوصاً الفن
التشكيلي المعاصر وتحول الحرف إلى
أشجار وبساتين وكائنات تبحث عن
مقامات ومعاني ومكرمات.
وهنا لابد من القول إن القرآن
الكريم، كان ومازال هو المعين
والنبع الصافي لماهية الحرف
العربي في رسمه وجسمه وباطنه، أخذ
منه المفسرون الشيء الكثير وسار
على منوالهم المتصوفة وأهل
العرفان فتحول إلى غيمة هاطلة بلا
توقف تمطرهم حروفاً من ذهب ورخام
وبساتين "نيلوفر"، أما الشعراء
فصاروا بطبيعة الحال يتشممون عطره
من خلال توغل بعضهم في رياضه
الغنّاء، وهنا وجد الشاعر العراقي
المغترب أديب كمال الدين ذاته في
أغوار الحرف ومدياته التي لا
تنتهي وجد نفسه ناسكاً حافي
القدمين في ممالك الحرف العربي
المقيم في الفكر والروح والجسد.
في البداية رسم تفاصيل حروفه، كما
لو كان يرسم تفاصيل جسد حبيبته
منطلقاً منذ منتصف سبعينيات القرن
المنصرم ليلحقه (بديوان عربي) وهو
كتابه الثاني، ثم وبعد ان وجد في
نفسه الهمة العالية، حين كوّن
زوادة وذخيرة تؤهله للدخول في تلك
الممالك المجهولة كتب تفاصيل
جديدة في ديوانه الآخر (جيم)
الصادر العام
1989 ، وهكذا قاده الجيم
الى النون ليشكل فكرة الجن أو
الجنون حين أصابه مس من جن وجنون
الحرف ليؤسس في روحه حروق الجمرة
الأولى في مسيرته الحروفية
الطويلة.
وتوالت الدواوين كمطر الحرف على
روحه العطشى التواقة إلى غيث حميم
وصارت لديه (أخبار المعنى) التي
قادته إلى (النقطة) والنقطة
أوصلته إلى (حاء)، حين ذاك صار
الطريق سالكاً أمامه وتفتحت له
المغاليق في عروجاته التالية حين
وصل الى (ما قبل الحرف.. ما بعد
النقطة) متسلقاً (شجرة الحروف)
قاطفاً منها ثمار شاعريته
واجتهاده وبحثه الدؤوب عن نقاط
التقاء وتنافر.
لقد أخذ من النفّري وقوفاته، لكنه
هنا أقصد شاعرنا ظل يحفر في
المعنى باحثاً عن حرفه الخاص في
لهبة عرفانية خالصة لا تشبه غيره
في معظم التجارب الشعرية العربية
أو التشكيلية، وصار المنتج الشعري
الحروفي لديه متساوقاً مع مدياته
التي قطعها واضعاً أسّ الروح
المتوهجة المنتجة والباحثة هي
الأخرى عن معنى الوجود والموت
والنور والظلام والنون والسفينة
والأنبياء والأوصياء.
أما إلهياته وتجلياته العرفانية،
فقد تحققت في ديوانه (إشارات
الألف) حيث تحققت بها نبرة خالصة
مستخلصة من رحيق عذاباته
وترحالاته وتوهجاته وسفر روحه
منطلقاً عبر أسئلة الوجود التي قد
لا يجد لها جواباً أبداً (إلهي ..
لماذا صُنعت حاءُ الحبّ من حاء
الحرمان..) ( ولم تُصنع من حاء
الأحلام ؟) (ولماذا صُنعت باءُ
الحب شاحبةً تائهةً صاخبةً وبلا
نقطة؟)
هذا هو الشاعر الحروفي أديب كمال
الدين الذي ظل يرفد مملكة الحرف
بمداد جديد ورؤى تكاد تكون متفردة
في بحثها المضني عن عذابات جنة
الحرف وفراديسه المفقودة إلا عند
الذين نهلوا من حليب نوق الترحال
والتجلّي ما يمنحهم لذة الموت
والكشف والهروب إلى عوالم لم
تصلها أقدام مغامر بعد
....
***************************
نُشرت في
جريدة الصباح ، بغداد ، العراق
بتاريخ 14 أيلول -
سبتمبر 2014
|