وظهر نصّ
(الطوفان) ثالثة في
(التوراة):
الإصحاحات: السادس،
والسابع، والثامن،
والتاسع مقرونا
بـشخصيّة (نوح)،
و(سفينته) التي اتسعت
له ولبنيه، ونسائهم،
ولعدد من البهائم،
فبعد أربعين يوما من
(الطوفان) أرسل نوح
(الغراب فخرج متردّدا
حتى نشفت المياه من
الأرض)، ثم
أرسل(الحمامة) فلم
تجد مقرّا لرجلها
فرجعت الى الفلك).
وحضر
نصّ (الطوفان) في
القرآن الكريم
موزّعاً على عدّة من
(السور) التي تتكامل
في ما بينها سرديّة
الواقعة لتصير
(ظاهرة) بشخصيّاتها،
وحواراتها من دون أن
تشير-السور- إلى حضور
(الغراب)،
أو(الحمامة)، لكنّ
النصوص
القرآنية تتفنن
في تقديم الصراع بين
الحق، والباطل من
خلال القصص التي
تعتمد
الإشارات
الدقيقة إلى شخصيّة
(نوح)، وصراعة مع
مجموعة القوى التي
تنتمي إلى علم آخر
مغاير.
في قصيدة (الغراب
والحمامة) التي وضعها
الشاعر أديب كمال
الدين
مفتتحاً لمجموعته
الشعريّة :(الحرف
والغراب) الصادرة عن
الدار العربيّة
للعلوم ناشرون
2013 يحضر
(نصّ) الطوفان بوساطة
النسج الشعري الذي
يتجه نحو (السرد)،
وهويحتفي بالظاهرة
المغلّفة
بالميثولوجيا،
والأسطرة بحثا عن
حقيقة مضيّعة عبر
العصور، وهو لا يبغي
من وراء تكرارها
(الغناء) بحشرجات صوت
منفرد، إنّما هدفه
الاتجاه بقوة (السرد)
نحوالحضور الدرامي
الذي يبيحلهأ ن يقول
مايريد بصوت ذي طبيعة
حواريّة تتماس مع
الكتب المقدّسة،
والرموز العابرة
للقرون، والنصوص التي
يبتكر الشاعر (اللعب)
في أصولها، ومضامينها
ليجدّد قراءتها،
ويؤول أنساقها، وهو
يدخل خارطة التحديث
الأسلوبي في الشعر.
والتشكيل
الدرامي على ما يرى
(د. عز الدين
إسماعيل) أعلى صورة
من صور التعبير
الأدبي؛ لأنه ببساطة
يتضمن شكلا تاما من
أشكال (الصراع)، فضلا
عن أنه تعبير يعنى
بالصور المفارقة
لماهو وهميّ غارق في
الإستحالة، بمعنى
أنّه تعبير معنيّ
بالدقّة التي تستكمل
شروط تشكلها ضمن
أجواء يمكن تصوّرها،
أو النفاذ منها.
تتّجه
القصيدة سرديّا نحو
نصّ يستفزّ الدلالات
الميثولوجيّة الراكسة
في اللاوعي الجمعي
للإنسان الشرقي مؤكدا
علو صوت الشعر، وحضور
الأنساق التضاديّة
التي تتقدّم واجهة
التعبير الدرامي، وهي
تتشكّل من صورة
(الغراب) الذي كانت
العربُ ولمّا تزل
تتشاءم منه بوصفه
طيرا جالبا للنحس،
فهو كما يخبرنا
(الدميري) في كتابه:
(حياة الحيوان) فأنّ
العرب اشتقّت من
لفظه: الغربة،
والاغتراب، والغريب،
وكلّها ألفاظ ترتد
إليها صور التشاؤم
والنحس، فضلا عن أنّ
قصّة (قابيل)،
و(هابيل) تجري
حوادثها مقرونة بخبرة
(الغراب) الذي ضُرب
المثل في شؤمه،
فهو:غراب نوح،وغراب
البين معاً.
صورة الغراب
بشؤمها الطاغي تتضاد
في القصيدة مع صورة
الحمامة بوداعتها
الرائقة، وطقسيّتها
البريئة، ورمزيّتها
الداعية إلى السلام
والمحبّة، والصورتان
تشيران في مضمونهما
السردي إلى جوهر
الإشكاليّة التي
يعاني منها الوجود:
الصراع بين شكلين من
أشكال الإنتماء.
ويحضر النسق
المتضاد في صراخ
الناس في القصيدة ذلك
الذي يأخذ بعدا
تقابليّا يحيل على
صورتين مختلفتين
تتّسمان بالتماسك
المبني على حضور
الصورة ونقيضها:
(صرخَ الناسُ وسط
السفينة مرعوبين) ص9،
و(صرخَ الناسُ وسط
السفينة فرحين) ص10،
فبين صورتي (الرعب)،
و(الفرح) ترتفع لغة
القصيدة مؤكدة شكل
الصراع في النص الذي
يستمد أصوله من
فجائعيّة الحياة .
والقصيدة على الرغم
من قصرها الظاهر الذي
يفارق عادة الرؤية
التقليديّة للدراميّة
في الشعر؛ فإنها تقوم
على تكثيف الصراع
الذي يسهم في تقرير
روح التشكّل الدرامي،
ولهذا فهي تستكمل
شكلها
التضادي مثلا
في أكثر من
سياق، فالشاعر في
القصيدة مثلا وحده
الذي رأى سواد الغراب
ص9، (ولم يره الناس)
ص10 في إشارة واضحة
تحيل على الاختلاف،
وبروز النزعة
التقابليّة في المشهد
الشعري، فضلا عن أنّ
الغراب في القصيدة ظل
ينقر جمجمة الشاعر
فينبثق الدمُ عنيفا
كالشلال ص11، بينما
الحمامة وضعتْ فوق
جمجمة الشاعر حفنةَ
رماد ص11، الصورتان
السابقتان تحيلان
كنائيّا على ثنائية:
الشر: الخير في بعدها
الدرامي الدامي، فضلا
عن أنّ القصيدة
بلغتها المنفتحة على
عناصر السرد المعروفة
كانت قد أكّدت النمو
الدرامي ممثلا في:
1-الحدث:
يعد الحدث
عنصرا رئيسا في
البناء السردي،
والدرامي وظيفته
الأساس تجسيد الرؤية
السردية ،أو
الدراميّة ضمن مشاهد
متعددة مقرونة بزمان
محدّد، ومكان لتستجيب
للرؤية الشعريّة التي
تحافظ عادة على نوع
القصيدة ،وشكل بنائها
الثابت.
والحدث في
القصيدة يبدأ من
نهاية (الطوفان) أي
أنّه يتجاوز الكثير
من الاحداث ،والوقائع
التي تستقر عادة في
الذاكرة الجمعيّة
ليصوغ مشهده المفترض
من لحظة رسوّ
السفينة، فهو حدث
مفتوح على نهاية
القصّة:(المثال) يبدأ
بحركة طيران الغراب
نحو اليابسة، ثم ينمو
مع جملة الأحداث
الأخرى: صراخ الناس،
ورؤية الشاعر لجناح
الغراب، ورميه
بالحجر، وعودة
الحمامة بغصن
الزيتون، وضرب الغراب
لعيني الشاعر، وظهور
الحروف على جبينه،
وانبثاق الدم، وصولا
إلى نزول الناس من
ظهر السفينة، ثم
ينتهي الحدث بفعل
متوتر يمكن اخضاعه
للتأويل:
هكذا أنا على
هذا الحال
منذ ألف ألف
عام:
الغرابُ
ينقرُ جمجمتي
فينبثقُ
الدمُ عنيفاً كشلال
والحمامةُ
تضعُ فوق جمجمتي،
دون جدوى،
حفنةَ رماد!
فهو مشهد دم
خُتِمتْ به القصيدة
يشير تأويله الأولي
إلى حال الإنسان في
صوره المتعاقبة
القائمة على ثنائيّة:
(الشرّ: الخير)،
وصولا إلى حالته
المعاصرة التي يُراق
فيها دمه
ليباع
بأبخس
الاثمان.
2-الشخصيّة:
تشكّل
الشخصيّة محور نصوص
السرد:دراما التي
توظّف عادة لبناء
نصّذي رؤية تعتمد
الافصاح عن إشكال
معيّن، والشخصيّة في
القصيدة بل الشخصيّات
تم احضارها بوساطة
راو عليم يتماهى وصوت
الشاعرالذي يهيمن على
مجريات الاحداث،
ويبيح لنفسه التحكم
في بعض تفوهاتها
لتكون وظيفته
الرئيسة استعارتها من
خارج النص، أي من
نصوص دينيّة، أو
أسطورية معروفة: نوح،
والغراب، والحمامة
التي جميعها تستسلم
للرؤية المركزية
للراوي العليم.
أي أنّ
شخصيّات القصيدة
بعلاماتها الفارقة
ليست من نتاج التخيّل
الشعري، أو السردي،
إنما هي شخصيات لها
حضورها التاريخي،
والاسطوري على الرغم
من أنها في القصيدة
كائنات ورقيّة
تخيّلية بحسب عبارة
(رولان بارت) الشهيرة
اجتلبها الراوي من
خارج المخيّلة ليعيد
صياغة أفكارها بما
تمليه المخيلة
الشعريّة وهي تلعب
لعبة الانتظار،
والإختباء وراء أصوات
الاخرين.
والشخصيّات
على الرغم من عمقها
التاريخي تتعرض للفعل
التخيّلي الذي يتيح
لها الانتقال من
الدلالة التاريخيّة
الثابتة إلى الدلالة
المتحركة الداخلة في
فضاء الأدب بمرجعياته
المختلفة التي تعمل
على تسويغ المسموع،
أو المقروء لغرض
الاحتكام إلى
دلالاته، وجماليّاته
العابرة لما هو شائع،
واعتيادي.
3-الزمن
والمكان:
يرتبط الزمن
في الأدب
بجملة
الأحداث التي يتشكّل
منها النص الأدبي
ليعطي فكرة عن حضور
فيزيقي
في الأنساق
الأدبيّة، مؤداه أنّ
النص لا بد أن يشير
إلى زمن معيّن يغلف
إطاره العام، وجوهره
الخاص ليكشف عن فحوى
الأحداث ،وارتباطها
بالعصور، ليتحدّد
فيما بعد موقف واضح
من الزمن.
تنتمي قصيدة
(الغراب والحمامة)
حدثا ورؤية إلى زمن
ماض سحيق تختلط فيه
الوقائع بالأساطير،
والميثولوجيا ولكنّه
زمن مستعاد في
القصيدة استحضره
الشاعر ليكون في
متناول القراءة
المعاصرة التي تقرأ
الماضي بعيون ناقدة
نافذة تتجه صوب
الحاضر.
أمّا المكان
في القصيدة فهو يحيل
على أنساق لها حضورها
الفعلي في الذاكرة
أولا ،وفي الحقائق
المجردة ثانيا،وهو في
القصيدة غائم غير
محدّد؛ لأنّ القصيدة
سكتت تماما عن
تحديده، لكنّ
الأساطير:
والميثولوجيا اقترحته
حيّزا ممسرحا للطوفان
شمال العراق، أو جنوب
تركيا الملاصق للشمال
العراقي، وهو ما لم
تعنَ به القصيدة
لرغبة واضحة في
اطلاقه من عنان
التقييد، فهو مكان
مستعاد ينام تحت
طبقات كثيفة من الوعي
المنقّع بالمتضادات.
4-الحوار:
يشكّل الحوار
الجزء المكمّل لعناصر
السرد الدرامي
السابقة، وهو بسبب
طبيعته الجامعة لأكثر
من رأي يدفع بالحدث
إلى الظهور، والوضوح
بمعنى آخر: إنه يسهم
في نهوض فكرة الصراع
داخل النص السردي
بلغة تحتمل المباشرة،
أو التأويل، فضلا عن
أثره في تقديم
الشخصيّة وهي تتفوّه
بأيديولوجيتها
الخاصّة.
في قصيدة
(الغراب والحمامة)
ينهض الحوار الأوّل
بصوت الشاعر :الراوي
للأحداث منلوجيّا:
فرميتُ
الغرابَ بحجر.
هل أصبته؟
لا أدري.
لماذا كنتُ
وحدي الذي رأى
سوادَ الغراب
ولم يره
الناس؟
لا أدري.
ص
9،10.
استهلّ نص
الحوار بأداة
الاستفهام:(هل) وهي
أداة مختصّة بطلب
التصديق يُستفهم بها
عن مضمون دلالة
الجملة، وهو هنا
يتعلق باسناد اصابة
الغراب بالحجر، ويكون
الجواب عنها عادة
بـ(نعم)، أو(لا)،
لكنّ الشاعر خالف
المعهود حين أجاب
بـ(لا أدري)، التي هي
ليست(لا)، أو(نعم)،
إنّما هي جواب ينفي
الحالتين، ثم تساءل
بـ(لماذا) التي تسأل
عن خصوصيّة الذي رأى
الغراب لوحده، وهي
باستفهامها التركيبي
أباحت دلالة التساؤل
للأسطر كلّها، فكان
الجواب: محيّرا
أيضا:(لا أدري).
تكرار الحيرة
في المشهد الحواري
يرتدّ إلى حيرة
الشاعر في ظل طوفان
عظيم لم تنته فصوله
بعد، وحوار الشاعر مع
نفسه يكشف عن ذهنيّة
الخوف التي تلبسته
إزاء طائر كلّ ما
يقال فيه: نحس، وبؤس
يظهر جليّا بقدراته
الهائلة-اليوم- فوق
الرؤوس.
أمّا الحوار
الثاني فيمكن أن
أسميه بالحوار
الناقص،أو المبتور؛
لأنّ صيغة التساؤل
فيه
وردت على
لسان الغراب، وكان
هدفها الشاعر لكنّها
بقيت بلا جواب:
أيّهذا
الشقيّ لِمَ رميتني
بالحجر؟ ص10.
بين حضور
السؤال، وغياب الجواب
يتلاشى الحوار كليّا
ليحيل المشهد على
جوهر الصراع الذي لم
ينته بعد في ظل
(طوفانات) آتية يهمّ
الشاعر أن ينوه إلى
إشكالاتها تلميحا؛
لأنه معني بالربط بين
كل الصراعات
وإن اختلفت
أزمانها.
وتضاد
الحوارين في القصيدة
يعطي فكرة أخرى عن
دراميّة الحدث الدائر
في ظل حوار مختلف
محمّل برؤى مستلّة من
قيعان غائرة بالقدم
لا تريد أن تبتعد عن
فحوى حواراتنا
المعاصرة.
وبعد: فإنّ
قصيدة ((الغراب
والحمامة)) صياغة
شعريّة جديدة ابتعدت
عن صيغ الإقتراب من
النصوص المقدّسة،
والأدب الرافديني
المعروفة تلك التي
تقوم على أساليب
الإقتباس، أو
التضمين، أوالتصوير،
أو الترميز، أو
استعمال القناع، أو
المحاكاة؛ لأنها
ببساطة صياغة ارتضت
لنفسها أن تتشكّل
دراميّا وسط حضور
قويّ لبناء
متماسك
أعلن منذ
البدء انفتاحه على
فضاء صراع منظّم.
**************************************
* الحرف
والغراب: شعر: أديب
كمال الدين، منشورات
الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، لبنان
2013