بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

    الحُروفيّ

 

33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية

 

 

إعداد وتقديم

 الدكتور مقداد رحيم

 

 المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007

 

368 صفحة من القطع الكبير

 تصميم الغلاف: الشاعر والفنان زهير أبو شا

 تصميم الغلاف: الشاعر والفنان زهير أبو شايب

 

 ق 1

 

 

 

 

محتويات الكتاب

 

المقدمة: د. مقداد رحيم -  ص 2 - 9

الفصل الأول: التجربة الحروفية – ص 23

- ترميز الحرف الشعري: اشتقاق معنى الحرف من مفردة يكون جزءاً منها: د. ناظم عودة-

ص 25 - 36

- ما بين (نون) و(النقطة) لأديب كمال الدين: كتابة النص الشعري المختلف: د. مصطفى الكيلاني  - ص 37 - 40

- قراءة في منجز أديب كمال الدين: استخدام الحرف في القصيدة والبنية الرمزية: علي الفوّاز - ص  41 - 45

- عارٍ كالتفاحةِ قلبي ولذيذ كالتابوت: جدلية الجيم والحاء في شعر أديب كمال الدين: وديع العبيدي – ص 47- 60

الفصل الثاني: ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة - 61

-  أديب كمال الدين ومشاغله العتيدة: أ. د. عبد الإله الصائغ- ص 63 - 71

- حوار النقطة والحرف: د.حاتم الصكر - ص 73- 76

- (ما قبل الحرف.. ما قبل النقطة) لأديب كمال الدين: حروفية الشعر من التجريب إلى حادث التجربة: د.مصطفى الكيلاني - ص 77- 97

- (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة): تحولات الزمن وعذابات المنفى: عيسى حسن الياسري-

ص 99 - 103

- دلالات الألوان في مجموعة: (ما قبل الحرف..ما بعد النقطة): عبد الرزاق الربيعي-  ص 105- 114

- (ما قبل الحرف..ما بعد النقطة): تشاكل المعنى..تباين المضمون: خليل إبراهيم المشايخي-

 ص 115 - 120

- كشف دلالات المعنى الشعري: زهير الجبوري-  ص 121 - 125

- ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة وما بينهما: صباح الأنباري - ص 127 - 133

الفصل الثالث: حاء -   ص 135

- حلم الخسارات الجميلة واليأس النبيل: أ. د. عبد العزيز المقالح -ص 135

- أديب وكليوباترا: د. عدنان الظاهر- ص 143- 151

- أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (حاء): شعرية التعالقات النصية من الحرف

 إلى الكلمة: د. محمود جابر عباس -  ص 153- 161

الفصل الرابع: النقطة - ص 163

- (النقطة) دراسة في (معاني الحروف): د. حسن ناظم - ص 165 -176

- هاملت أديب كمال الدين: د. عدنان الظاهر -  ص 177 - 183

- ظاهرة التكرارالإيقاعي في (النقطة): أ. د. عبد الواحد محمد - ص 185 - 191

- الحرف في ضيافة القصيدة: صالح زامل حسين - ص 193 - 198

- موت النقطة: د. مقداد رحيم - ص 199 - 205

- (نقطة) البداية والنهاية: ماذا عن خصوصية الأفق الشعري؟ هادي الربيعي –

 ص 207 -209   

- ديوان (النقطة) للشاعر أديب كمال الدين: قصائد مخلصة لإيحاء الحرف: فيصل عبد الحسن - ص 211 - 215

- قراءة ظاهراتية في (نقطة) أديب كمال الدين: د. إسماعيل نوري الربيعي –

 ص 217 - 224

-  قراءة في (النقطة) لأديب كمال الدين: مفاجأة المتلقي بجمالية القسوة: نجاة العدواني –

ص 225 - 236

 - (نقطة) الشاعر أديب كمال الدين: نقطة ذهب على جبين الشعر! د. حسين سرمك حسن - ص 237 - 244

 - (النقطة): تشكيل لغوي ومعادل ترميزي لأزمة الذات: عيسى حسن الياسري –

ص 245 - 249

 - (النقطة): مثول الذات في صميم الوجود المطلق: رياض عبد الواحد - ص 251 - 253

الفصل الخامس: أخبار المعنى -   ص 255

- فلسفة (المعنى) بين النظم والتنظير: دراسة في مجموعة (أخبار المعنى) لأديب كمال الدين:

 واثق الدايني - ص 257 - 276

- (أخبار المعنى): أخبار الحرف واللون والرأس المقطوع: ريسان الخزعلي –

 ص 277 -280

- انفتاح القصد وتأويل المعنى: د. محمد صابرعبيد -  ص 281 - 284

- قراءة في (أخبار المعنى): يرتكس المعنى، يرتكزالشكل: معين جعفر محمد  -

 ص 285 - 289

- قراءة في قصيدة (أخطاء المعنى) لأديب كمال الدين: هل هو تلاعب بإيقاعات اللغة؟

 د. مصطفى الكيلاني - ص 291 - 298

الفصل السادس: نون - ص 299 

- خطوط الحرف السرّية: قراءة نقدية في شعر أديب كمال الدين: د . بشرى موسى صالح - ص  301- 312

- النون: أيّ سرّ ينطوي تحت هلالك ونقطتك؟ وديع العبيدي - ص 313 - 321

- فنارات الحروف المتوقّدة: عيسى الصباغ   -  ص 323- 328

- أديب كمال الدين في (نون): تجلّيات النقطة في غموض الهلال: عدنان الصائغ –

ص 329 - 331

- أديب كمال الدين، نون وكتابة الأغواء: علي الفوّاز - ص 333 - 336

 الفصل السابع: جيم -  ص 337

- قراءة في قصائد (جيم): يوسف الحيدري - ص 339 - 345

- قراءة في قصيدة (إشارات التوحيدي النص الغائب/الحاضر): ركن الدين يونس –

 ص 347 - 358

الفصل الثامن: آراء – ص 359 - 367

د. جلال الخياط. إلياس لحود. عبد الجبار البصري. أحمد الشيخ. مهدي شاكر العبيدي. محمد الجزائري. حسن النواب. عادل كامل. د. قيس كاظم الجنابي. مالكة عسال. عبد اللطيف الحرز. هادي الزيادي. عبد الأمير خليل مراد. جمال جاسم أمين. فائز ناصر الكنعاني. أمير الحلاّج. حمزة مصطفى. هشام العيسى. خضير ميري. تيسير النجار. علي جبار عطية. ماجد محمد لعيبي. عبد العال مأمون. نزار جاف.

     

 

مقدمة الكتاب

  ص 2 - 9

 

    هذه باقة من الجهود النقدية المهمة التي تضافرتْ لتشكل خلاصة نقدية مثمرة طيبة الأُكُل، ولتكون أنموذجاً نقدياً يُمكن أنْ يُحتذى، فيُصار إلى افتراع اتجاهات نقدية جديدة تأخذ على عاتقها بلورة الرؤى حول التجارب الإبداعية المائزة، ليس في مجال الشعر وحده، بل يمكن أن تُعمَّمَ لتشمل الفنون الإبداعية كلها، كتابةً ورسماً ونَحتاً وسَماعاً.

    أما هذه التجربة فهي تجربة الشاعر أديب كمال الدين الذي اختطَّ لنفسه طريقاً عسيرةً تتماشى عُسرتها وما في هذه الحياة من تعقيدات وإشكاليات تتجلى عبرها أصناف لا عدَّ لها من المحن والكوارث التي ليس للبشر قِبَلٌ بتحملها، وقد رأى الشاعر أنَّ النظر إليها بالطرق المعهودة لا نفع فيه وهو يَنشُدُ الطرافة وابتداع الوسائل الكفيلة بالتغيير الذي هو سمة الحياة في كل زمان وفي كل مكان، فلفتَ إلى تجربته أنظار النقّاد فضلاً عن القرّاء ومحبي الشعر.

  تتجلى هذه التجربة فريدةً ذات خصوصية تدلُّ على الشاعر وحده، وتختص به دون سواه، وقد بدا وكأنه يعمل من أجلها بإخلاص وحب شديدين، منذ زمنٍ ليس باليسير، فأخذ يُغذِّيها بكل ما استطاع مِن قوةٍ استجمعها خلال حياته كلها من مفردات التعلم والثقافة والتجارب، ولم يبخل عليها بالسهر والتجريب، حتّى شَكَّلتْ ظاهرةً في الشعر العربي الحديث، كما شكَّلتْ الظاهرةَ الكبرى في شعرهِ هو، حتّى ليكادُ المتتبعُ يُشفق عليه لظنه أن لهذه الطريق نهاية، وأن لليل أحاديث سيقطعها بزوغ الصباح، حتّى يكتشف أنْ لا صباحَ وراء ليله، ولا انقطاع لأسماره!

   إنَّ خصوصية تجربة الشاعر وَلَّدتْ ما اصطلح عليه النقاد والمهتمون بأمور الشعر العربي الحديث، وشعره خاصةً، بـ(التجربة الحروفية)، حتّى أصبح لصفة (الحروفي) وقعها الخاص الذي يدلُّ على الشاعر أديب كمال الدين وحده، وحتّى صار مناسباً أن تكون هذه الصفة عنواناً لهذا الكتاب!.

   تناول ثلاثة وثلاثون ناقداً تجربة الشاعر وشعره في تسع وثلاثين مقالةً تضمنها الكِتاب وتوزعت على ثمانية فصول، تناول الفصل الأول التجربة الحروفية بشكل عام، بينما توزعت الفصول الستة التالية له على مجاميع الشاعر الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) و(حاء) و(النقطة) و(أخبار المعنى) و(نون) و(جيم)، بينما اشتمل الفصل الثامن الأخير على آراء متفرقة لبعض النقاد حول الشاعر وشعره.

    ففي إطار التجربة الحروفية يرى الدكتور ناظم عودة "أنّ النقطة بوصفها رمزاً تختلف ما بين الحلاج وأديب كمال الدين، لأنّ الحلاج يمتلك تجربة صوفية تتمثل في سلوكه الروحي بخاصة، وفي كلامه بعامة، في حين أن أديب كمال الدين لا يمتلك تجربة صوفية شعرية، فهو يستعير من التجربة رموزها حسب. ثمة فرق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند كل من الحلاج وأديب كمال الدين، الأول يدخلها في حيّزه اللساني والحدسيّ، لتكون علامة وموضوعاً في آنٍ، والثاني يدخلها في حيّزه اللساني حسب، لكنه لا يستطيع أن يموضعها في مجاله الحدسيّ، فهي تتشتت بين نوازع وجدانية مختلفة"، بينما يرى الدكتور مصطفى الكيلاني أنّ رجوع الشاعر "إلى أصل اللغة محاولة جريئة لا تخلو من أخطار لاستقراء جينالوجيا المعنى في تاريخه الأول الكامن في راهن الكلمة وسعي إلى إنشاء مستقبل لماضٍ أنتج قيمة لكائن استطاع أن يحوّل الأشياء إلى رموز دالّة بذاتها في حضور التكلّم وفي الغياب، وفرار من رعب اللحظة حيث فراغ الامتلاء الكاذب وفوضى النظام المستبد وتخبّط الفرد في الفراغ"، بينما يعد علي الفواز هذه التجربة هاجساً من طراز خاص للمغامرة ورغبة كامنة في كشف خطابه الشعري على نوع من الإباحة في التصريح والمفارقة الشاقة بين محموله اللغوي ولعبته الرمزية التي عمد فيها إلى تداول الحرف كمجسّ لحركة الرؤيا بحثاً عن أصل اللذة وتمثلها في المجال الرمزي من خلال تعدد صور الخلق في البنية النصية للغة والجسد والدين والأسطورة. فهو حريص على تشكيل علاقة بنائية في هذا المجال، يستحضر فيها الكثير من الثنائيات التي تجعل لعبته الشعرية مجذوبة إلى الاستغراق في عملية تقابل وترميز متوالية  ولعبة  توليد لا يجفّ فيها المعنى عن إنتاج صوره ودلالاته. وهذا التمثل الشعري يجد له نسقاً بشكل ووظيفة هما فضاؤه الاستعاري الذي يشكّل فيه هاجسه في المغامرة مثلما هو مجاله (الكنائي) الذي يعيد فيه استعادة لاشعوره وبواطنه الداخلية ليس بمواجهة المجال الاستعاري لجملته الشعرية، بقدر ما هو محاولة لتشكيل  نصوص موازية في نثريتها تحيل دائماً إلى الإشارة والتأويل وطقس اللذة وروح الجسد المتمظهر بقوة الخصب. وبهذا فإنّ الشاعر يتعامل بحساسية فائقة مع دلالات الحرف وشفرته اللغوية باعتبارها المادة الحية التي تحيل الشاعر إلى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى أو الصورة. وإزاء هذا يجد الشاعر نفسه دائماً في فضاء من الدلالات التي تمارس لعبتها في تفكيك بنية الجملة الشعرية الصورية إلى بنيات ثانوية يمتزج فيها الهاجس الصوتي مع التشكيل الصوري لينسجا تشكيلاً أشبه بتشكيلات الحروفيين في الرسم، إذ يكتسب الحرف الأيقوني والحرف الموصول مع اللون والكتلة صفات حسية وذهنية مثلما يحيل نفسه إلى بنية صوتية هي في جوهرها النداء الخفي الذي يلامس المعنى والروح.

   أما وديع العبيدي فيرى أن هذه التجربة هي تعبير عن العجز عن تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشرّ، وقد  دفع هذا العجز إلى إيمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم (مجموعة أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة (نون) [ حبّكِ ناطحةُ سحاب/ حلمتُ بها/ وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة/ وحين أكتمل البناءُ العظيم/ نسفتُها من الأعماق.] أو الخروج من الراهن للدخول في متاهات المطلق والمغيوب التي مثلت المستوى الآخر (اللذيذ) في معالجات الشاعر للأحداث والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]، كما كانت مجموعة (حاء) تمثل، من وجهة نظر العبيدي، تجاوزاً لمرحلة الخوف والحرمان والحرب والحصار، لتضمنها رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة من ظلمات الجحيم، فهي أكثر نزوعاً بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها وأكثر انفتاحاً للحبّ.

ويتناول الفصل الثاني من هذا الكتاب آراء النقّاد في تجربة الشاعر في مجموعته الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، ويستهله الدكتور عبد الإله الصائغ بدراسة معمقة، يشير فيها إلى قدرة الشاعر أديب كمال الدين على خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة! وصار الحرف لا يُقرأ حرفاً خالصاً كما يراه الآخرون، وإنما يُقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى يعسر وضع حدود بين المحدودات! ويفترع الصائغ مصطلح (الحرفنقطة) لعالم الشاعر الشعري الذي يُخلِّق منه كل مفردات القصيدة، بل كل مفردات التجربة الشعرية لديه.

وقد رأى الدكتور حاتم الصكر في تجربة الشاعر الحروفية مُراجعةًً  تدرجت وتطورت من البدايات حيث الانبهار بفكرة استضافة القيم الحروفية وإنشاء ما يشبه الميتانص الأبجدي الذي يراقب فيه الشاعر وجود الحروف وهيآتها التركيبية في الكلمات والجمل منشغلاً بذلك عن معانيها ودلالاتها وما يمكن أن توصله أو تحمله من صور وأخيلة، ليستطيع من بَعد تفجير طاقاتها الجمالية الصورية والتعبيرية، مع اقتراض فرضيات صوفية ـ إشراقية غالباً ـ حول وجود الحرف في القصيدة والروحانية التي نظر بها الصوفيون للحرف والنقطة، لاسيما في المفاهيم الحلولية حيث يشبّه الصوفيون المخلوقات بالنقط الممتدة من ـ أو المنبثقة عن ـ النقطة الأولى أي الخالق الذي فاضت عنه وامتدت في خط الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة نقاط، إذا فصلت أياً منها فلا يعني ذلك انقطاعها عن النقطة الأولى، بل هي لا تمتلك وجوداً منفصلاً خارج هذا الوجود الخطي الذي تظل تهفو للعودة إليه والاتحاد به كما تحن القطرة لبحرها الذي تبخرت من مائه.

   كما وجد فيها مظاهر تشكيلية نمت في الرسم العراقي وانتباهاً للبعد الفلسفي المعمّق الذي توحي إليه هذه المظاهر، فضلاً عن المؤثرات الصوفية ولاسيما تجربة التوحيدي الإشراقية والحفرياته الجمالية والفلسفية في دلالات الحروف ووجودها الجفري والروحي، وأشار إلى انغماس الشاعر في حروفياته الشعرية دون أن يبدو ذلك مُقحماً أو غير مستساغ.

وقد حاول الناقد الدكتور مصطفى الكيلاني أن يقدم عملاً نقدياً جادّاً، من خلال تحليل مستفيض لتجربة الشاعر في هذه المجموعة، وأدار عمله حول عدة محاور تراوحت بين المشترك بين طفولة الحرف وطفولة الاسم بين الصوت والصمت، وسرد الحال وشاعرية الحدث، وموضوع الرثاء المتقرر قبل الولادة، وتخوم القصيدة لوعي الموت، وشهوة التجريب والرغبة في البوح، وتصادم الألفاظ وتداخل الحروف، والوعي بين الراهن والاستذكار، والموت بوصفه اسماً لمسميات شتى، والكسر العميق في تجربة الكتابة الشعرية، والانعتاق المؤقت من سجن الوضعية بالكتابة والسفر، والموت بوصفه يأساً قادراً على إنجاب أمل، وأخيراً: ما تحقق بالفعل من حروفية الشعر.

ثم يتحدث عيسى حسن الياسري عن تجربة الشاعر في هذه المجموعة فيؤكد إخلاصه لتجربته وملازمته لها كأيّ قدّيس لا يقدر أن يبارح صومعته تحت أكثر الفصول  شراسة، فهو الذي بنى هذا التقارب الروحي بينه وبينها إلى الحد الذي جعل مغادرة مكانها أو زمنها عملية عسيرة  تشبه انفصال الروح عن الجسد، ومن هنا تحوّلت حروف الشاعر إلى كنز من الأساطير والرؤى والأحلام لمواجهة فيالق الزمن وقراصنته البارعين في القتل وتدمير أغنية الحياة التي يحاول الشاعر أن يمسك بها حيث تعيد للإنسان ثقته بالحياة وبالعالم الذي يعيش.

أما عبد الرزاق الربيعي فيعمِّق النظر في تجربة الشاعر في هذه المجموعة فيتناولها من زاوية استخدامه للون ويرى أن للشاعر صلة قربى بالفنان التشكيلي من هذه الناحية، غير أن هذه القربى عمّقتْ نصوصه وأغنتها، وجعلت اللون فيها ملمحاً جمالياً من ملامحها، ويرى أن لكل لون من الألوان خصوصيته في الدلالة، وأن لكلّ حالة لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة الشاعر للعالم والوجود، فتستحيل ألوانه إلى مرايا عاكسة لذاته وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن، ومن العشق والوله إلى اللامبالاة، ومن الوطن إلى المنفى، وهكذا.

وبينما يقف خليل إبراهيم المشايخي على قدرة الشاعر على الترميز من خلال الحرف العربي لاستكناه سرّ الحرف العربي وسحريته ومدياته الدلالية، وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس، يرى زهير الجبوري أن الحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل  يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصيته لتكون مهمته وظيفية، ولذلك قد تتلاقح أدوات اللغة وحروفها تناظراً لخلق الرؤيا الشعرية، وليس الحرف جزءاً لا يتجزأ من منظومة اللغة، الحرف صفة رمزية، شكل لسحب  المعنى، ويختتم صباح الأنباري الحديث عن هذه المجموعة فيؤكد أنَّ الحروف والنقاط هي امتياز أديب كمال الدين وتفرّده وواسطته للارتقاء إلى عالمية الشعر، والغور في ملكوته المقدس، فعلى الرغم من حروفية قصائده، فإنها تهتم بالمعنى وتستقري قيم الحياة الإنسانية ونفاذها إلى جوهر الوجود.

    أما الفصل الثالث فقد انصبَّ الحديث فيه حول مجموعة الشاعر (حاء)، واستهله الدكتور عبد العزيز المقالح بمقالة أكَّد فيها أنَّ في جوهر قصيدة أديب كمال الدين هامشاً واسعاً من التفاؤل يكاد القارئ العادي لا يشعر به. فهو، أي الشاعر، لا يسرف مثل الآخرين في سرد مواجع الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك الواقع الذي يصعب الفرار من انعكاساته، فإنّ روح الأمل تظل نابضة حيّة ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس بالتمسك بالحياة وحسب، وإنما للوعي بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة ودائماً تكون الكلمة الضوء والدليل، بينما يرى الدكتور عدنان الظاهر في أديب كمال الدين مهندساً معمارياً بارعاً من حيث سيطرته على الفضاءين النفسي الشعري ثم المكاني الجغرافي، من خلال العلاقة التي تتبدى بين الشاعر وملكة مصر الفرعونية كليوبترا في قصيدته "بانتظار أن تهبط حبيبتي"، مُعرِّجاً على مسرحية (أنطونيو وكليوباترا) لشكسبير، وقصيدة (الأرض الخراب) لتوماس إليوت.

   أما الدكتور محمود جابر عباس فيميط اللثام عن قدرة الشاعر على بناء قصيدته على ما يؤثثه لها من تواتر الوحدات الحرفية التي تشترك في التنسيقات الأساسية والتنويعات الصوتية التي تجعل منها ظاهرة لافتة للنظر في الشعر العربي الحديث يجب الاحتفاء بها، خاصة مع استمرار انشغال الشاعر بتكويناتها وتجانساتها الصورية المكثفة لإيصال فكرة النص التي تشكل البيئة الأساسية التي تستقطب الكلام الذي ترد فيه الحروف وتجذب دلالات الحروف لتدور حولها لأنّ الامتداد الحرفي وغواية الحروف التي استطاع الشاعر استغلال إمكاناتها صوتياً ودلالياً في خلق إيقاع يؤازر الدلالة الكلية للنص، ويحتضن الانفعالات الذاتية التي تشكل مفارقات نصية وملفوظية للأساس المنطقي الذي يكمن تحتها، حيث إن دلالة الحرف والنقطة هنا تعوض عن دلالات الكلمة والجملة والمقطع عبر التركيز الحرفي الذي يخترق من خلاله صوتية الحرف وبعده الإيقاعي للوصول إلى طريقة كتابية جديدة وخاصة به، وخلق عالم رمزي وكون تخييلي وتشكيل مغاير عبر اختراق سكونية اللغة ووظيفتها التقليدية والمعجمية إلى الحد الذي تتناص فيه خاصيات الحروف لتصل  إلى الشعر الصافي، وصنع صوفيته الشعرية التي تستحيل إلى طاقة شعرية متجاوزة للزمان والمكان.

  وقد نالت مجموعته الشعرية (النقطة) حظاً واسعاً من اهتمام النقّاد والكُتّاب، فقد كتب الدكتور حسن ناظم عن معاني الحروف، محاولاً وضع علاقة توحُّدية بين أنا الشاعر كذات، والحروف كذوات أخرى، فهي محاولة في أنا الشاعر، ونرجسيته الطاغية، وعلى أن هذا لا يتقاطع مع اللجوء إلى الحروف كخيار لتلغيز الوجدان والفكر لتبدو بعد ذلك الحروفية كتوجّه شعري يؤمّن هرباً من بطش الحياة، ولكنها لعبة خطرة، كما يرى الناقد، إذ تحتاج إلى إمكانية كبيرة لتحوّل التمثيلات الرمزية إلى عوالم مغلقة، فقد تفصل الواقع المعيش عن تجربة التمثيل الرمزي؛ وبذلك تعلو الرموز على الواقع، وتنفصل عن ما يجب إدراجه فيها. بينما يتحدث الدكتور عدنان الظاهر عن قدرة الشاعر على توظيف غنى الشخصيات في مسرحية شكسبير (هاملت) في شعره، ويجدُ أنه امتاز عن كل من الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والشاعر السوري نزار قبّاني اللذين سبقاه إلى توظيف هذه الشخصيات، حيث جمع بين هاملت الذي مازال حياً، وأوفيليا التي غادرت الحياة، وبذلك كان قد رسمَ لوحة جديدة لم يكن شكسبير نفسه فكَّرَ بها، إذ جمع فيها الكثير من العِبر ورصيداً ضخماً من التفكير الذي ربما هبط على الشاعر في لحظ إلهام نادرة. فضلاً عن إيجاد علاقة بين اسم الشاعر "أديب" والبطل المسرحي الملك "أوديب" من الناحية النفسية.

   أما الدكتور عبد الواحد محمد فقد تناول في مقالته الجانب اللغوي الأسلوبي في هذه المجموعة، فتركَّز كلامه على التكرار في قصائد الشاعر، وأمكنَ له تصنيفه أصنافاً عدةً منها (التكرار بالمفردات المستقلة وبالعبارات وبالجمل) و(تكرار الكلمات والعبارات الأولى في أبيات متعاقبة) و(تكرار الكلمات والعبارات الأخيرة نفسها في نهاية الأبيات) و(تكرار الكلمات والعبارات نفسها في بداية ونهاية الأبيات) و(ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها الواردة في نهاية الأبيات)، فضلاً عن التكرار النحوي، ويرى أنّ استخدام هذه التراكيب  بشكل متكرر يؤلف حالة من التوازي الذي ينطوي  على الإيقاع وتوكيد  التنوع  وتضاد الآراء. لكن نظام الألفاظ في هذه التراكيب النحوية معرض للتغير، حتّى يصير من الممكن أن تبدل هذه الوحدات اللغوية مواقعها لاسيما في الشعر، لغرض معالجة نقطة التركيز أو لكسر رتابة  نموذج معين.

   وينظر صالح زامل حسين في الجناس الذي يطلب التأمل في رسم الكلمة، فيرى أن قصيدة أديب خرجت من سلطة  الحركة المقترحة للعين في حركة صوتية مرئية وبمرجعية  تبحث عن تفرّد، وإن كانت تعود للتكثيف الصوتي من خلال مجاورة الحرف للكلمة، ولكن ليس بغير اقتران مع التأمل في تشكيل الحرف وهي القراءة  التي يقترحها  للحرف، وهي منهمكة في بحث الصلة بين النقطة والحرف فتتأمل في الحرف محتضناً في خانته العلوية النقطة، أو مرتكزاً عليها خانة سفلية، فتضفي للحرف المجرد بالرغم من تجريدها هي الأخرى معنى، كما ينظر في عنوان القصيدة لدى الشاعر فيرى أن لبنيته وظائف عديدة، فهو الثريا في فضاء النص، والعتبة لمساربه ورحلته، ومسيج لجغرافيته، والضلع المقترح لارتكاز النص، حيث يكف عن أن يكون حلية، بل هو التسوير الذي اعتمدت عليه عنوانات قصائد هذه المجموعة على الرغم من سيادة نسق تكراري مركب اسمي تقدم كل عنوانات القصائد هو(محاولة في ....) التي كانت بؤرة للعنوانات كافة، تتشظى عنها حالات إلى النصوص المختلفة.

    ولكاتب هذه السطور نصيب من النظر في هذه المجموعة حيث رآها مرتكزةً على دلالتين هما نقطة الحروف ونقطة الدم، وكلتا الدلالتين تتسعان أحياناً وتتحدان أحياناً أخرى لِتشكِّلا معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه، فهو النقطة في حروفه، وهو النقطة في دمه، وهو النازف دائماً، المقتول دائماً،  وبين النقاط والحروف تدور ثلاثة أشياء دوراناً جليَّاً في جملته الشعرية في هذه المجموعة، هي الموت والدم والطفولة الضائعة، وهو بذلك يتخذ من نصوص الشاعر مُختبَراً لدراسة نفسيته وما يعتمل فيها، والكشف عن خباياها، ليستحيل الشعر، بعد ذلك، إلى سجلّ صادق لما دار وما يزال يدور في أعماقه. ثم يتوصلُ إلى أنّ أديب كمال الدين شاعر ذو منهج خاص به، وقد أثبتَ خلال مدة طويلة من التجريب والتعميق أنه مخلص لمنهجه هذا غايةَ الإخلاص، ذاهباً معه إلى أقصى حدّ، مستفيداً من اكتشافاته الجديدة، ويبدو أنه يقف منه على جديدٍ في كل مرّة، على الرغم مما يعتور هذا المنهج من غموض وتعميات لا يستطيع القارئ العادي ملامستها، وإدراك مجاهيلها أحياناً.

    وبينما نجد هادي الربيعي مهتماً باقتناص دلالات العالم الروحاني في (النقطة)، هذا العالم الذي ينسحق تحت وطأة المعطيات الحضارية الجديدة تحت شتى الذرائع والمسميات لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تؤكد أنّ كلّ إنجازات الحضارة في شتى ميادين الحياة لم تستطع أن تتوصل إلى إسعاد البشر، فيختل التوازن بين ما هو مادي وما هو روحي، إذ يتضخّم الجانب المادي على حساب الجانب الروحي لينحسر هذا الأخير إلى الدرجة التي بدأ يفقد فاعليته في مجرى الأحداث الإنسانية، وتسعى (النقطة) إلى خلق لحظات الوجد الأسمى، حيث انهمار الحروف وتوحّدها لتكون كائناً واحداً، هو جوهر الوجود في ذروة سمّوه، والأسرار المتجمعة داخل بؤرة  متوهجة واحدة، هي وضوح الوضوح وسرّ الأسرار.

أما فيصل عبد الحسن فقد بدا وكأنه يؤرخ لتجربة الشاعر من الناحية الفنية والشكلية من خلال مقدمة ضافية لحديثه عن (النقطة)، فيُحيل إلى تاريخ كتابته لقصيدة النثر وتحوله إليها، كما يتحدث بكفاية عن تاريخه الشخصي من حيث التعليم والتثقيف، ومصادر المعرفة، فيتيح لنا بذلك الكلام على أهمية أن يعرف الناقدُ الشاعرَ، وأن يكون قريباً منه، ليتوصل إلى نتائج صحيحة ونافعة في دراساته النقدية، وهكذا أفاد فيصل عبد الحسن من علاقته الخاصة بالشاعر فأضاء حديثه عن النقطة بها وأغناه، ولاسيما فيما يتعلق بإتقان الشاعر اللغة الإنجليزية والقرآن الكريم.

ويؤكد الدكتور إسماعيل نوري الربيعي، كما فعل بعض النقاد على نحو ما رأينا وكما سنرى، مسألة التشخيص التي دار عمل الشاعر حولها، أو تبناها في تعامله مع النقاط والحروف، فرآه ضخاً لجرعات الأنسنة داخل النقطة، ذلك  الشيء الإتمامي الذي لا يلتصق بجنس الحروف ولا بجنس الكلمات، من خلال علاقة الربط بين (أنا) و(النقطة) التي يسعى الشاعر أديب كمال الدين إليها، حيث ربط العلاقة بالماهيات، بحثا عن تعميق التجربة الحية في الشعور، من خلال دمج النقطة في الذات الإنسانية، فيما تتشكّل رؤاه الزمانية على ملامح العلاقات المكانية، فهو يعمد إلى فرز الأبعاد الزمانية للشعور من خلال فرز عناصر (التوتر) التي يحشدها الشاعر في تفاصيل شديدة الوضوح ممثلة بالتاريخي والأيديولوجي والوجودي. 

          وفي إطار آخر تحاول نجاة العدواني الإبحار في عوالم الشاعر وتحاول تفسير مضامينها على الصعد المختلفة بشكل دقيق وعميق، من بُعدين أساسيين هما (الشاعر والحلم) و(الحلم والموت)، ومثلها الدكتور حسين سرمك حسن في انشغاله بتفسير مضامين النص، بينما يتجه عيسى حسن الياسري إلى تحليل ذات الشاعر ويرى أنه لم يأخذ من المدرسة الصوفية سوى تشكيلاتها الخارجية، إيماناً منه بأنه يعيش عصراً يبتعد كثيراً في إشكالاته وتعقيداته  وأزماته النفسية والروحية عن العصر الذي عاشه الصوفي القديم على الرغم من تشابه النهايات التدميرية التي يشترك فيها العصران، فلم يتوقف عند الحدود الرؤيوية الصوفية المتقدمة التي اتخذت من الحرف (طلسماً) لا يتعدى كونه مفتتحاً لتعويذة سحرية أو مقابلة (رقمية) كما هو الحال في (الأبجدية الحروفية) والتي أعطت لكل حرف رقماً، وأنَّ (أنا) الشاعر ترتفع معلنة عن نفسها في أكثر من قصيدة  إلا أنها تخرج من حدودها الذاتية الضيقة لتدخل في شرطها الموضوعي المتسع، بينما يرى رياض عبد الواحد أن الشاعر أراد أن تكون له لغة منظورة، أي ذات بعد فني لذلك حاول الاعتماد على المختزلات (النقطة والحرف) ليؤلف بين ما هو داخلي وما هو خارجي، ويمازج بين ما هو زماني وما هو مكاني في ما يخصّ حقيقة الوجود الإنساني الذي لا يقرّ له قرار.

   وقد تضمن الفصل الخامس خمس مقالات عن مجموعة الشاعر (أخبار المعنى)، أولها لواثق الدايني الذي سعى إلى معالجة نصوصها انطلاقاً من منظور المعنى ومعنى المعنى ومدلول اللامعنى في إطار نظري تاريخي، وتحليل متعدد الأنواع على منهجي الاستقراء والاستدلال الفلسفيين مع الاستعانة بشيء من الرياضيات البيانية لتأكد بعض المدلولات أو الاستنتاجات،  ثم التوصل إلى حالة استنباط رآها لتعطي أحكاماً لا مجال إلى نقضها بحدود فضائها، ولا تسمح بإغفال أهميتها في العلاقة بين النظم الحديث، والتنظير الموثق بصدد (المعنى) و(معنى المعنى) ومدلول (اللامعنى).

   وثانيها دراسة ريسان الخزعلي الذي يرى أنّ القيمة التي تقوم عليها (دالة الحروف) في (أخبار المعنى) تتأسس على تلك الإشارات مضافاً إليها الاشتغال بالجهد الإبداعي الابتكاري للشاعر ذاته، حيث تستنطق محاولات الشاعر الحرفَ (قرائياً وتشكيلياً ولونياً) بتنويعات جمالية تقوم على الرنة الإيقاعية التي يشكّلها توالي الحروف، ويتوصل الدكتور محمد صابر عبيد إلى أن القصيدة لدى الشاعر تراهن على البساطة لا التعقيد، فالذي يتسامى به الحرف شعرياً هو الطفولة واليسر والسهولة والعفوية، لا التقعّر واجتلاب الغريب والناشز، في المقالة الثالثة.

   أما المقالة الرابعة فقد كانت لمعين جعفر محمد، وقد انصبت على تحري عنصر الخيال في نصوص هذه المجموعة، إذ تتبلور سمة فنطازية تنشأ من حيث يتم خرق المنطق العقلي وخلق منطق بديل يعزى إلى إطلاق العنان لملكة الخيال لتفعل فعلها في خلق علاقات إسنادية بين عناصر لا تمتّ إلى اللغة إلاّ بصلات شكلية، ومن ثمَّ يحقق الشاعر استفادة واضحة من الخصائص السيميائية للحرف العربي بصفته وحدة تبين (علاماتية) دون أن يتخلّى عن ستراتيجه الثابت، حيث يبقى المعنى مغيباً عنده وراء نسيج من لعبة شكلية لكنها تدع للكلمات حرية أن تتخذ أنساقاً خاصة تنسجم مع المدلول الخاص المراد الإيحاء به.

  ويختتم الدكتور مصطفى الكيلاني هذا الفصل فيؤكّد أن قصيدة أديب كمال الدين هنا تلتف حول لغتها لتؤسس لعبتها وتتفرد جمالياً بما يجعلها قادرةً على الخروج من طوق التاريخ المكشوف لتعلن زمنيتها الخاصة، وقد استطاع الشاعر في حدود المسبق أن يشدّها إلى ألوان متميزة من التناغم الخفي مروراً بإضافات إيقاعية حسية تظهر بالخصوص في تركيب الجملة الفعلية المتكرر، والتداخل بين الجمل الفعلية والجمل الاسمية الذي جعل القصيد مشدوداً إلى الحركة والسكون يتجاذبه النسيان الفاعل والذاكرة معاً.

   ويختص الفصل السادس بمجموعته (نون)، ويتضمن خمس مقالات كذلك، تستهلها الدكتورة بشرى موسى صالح فتتحدث عما تسمّيه بالمحفّزات التي يحاول الشاعر أن يبوح بها ودعته إلى اقتحام نصه تحت (شروط الحرف أو طائلته) والدوران معه في دورة لامتناهية، وتنص على أن أول المحفّزات لديه يبدأ بالقرآن الكريم، والحرف  جزء من أسراره، ثم بما أحسه في الحرف من قدرة على استكناه أزمنته الماضية والحاضرة وكشف المستقبلية منها وقدرته على خلق أسطورته الشخصية، ويعلن عما منحته التجربة الصوفية ومواجد المتصوفة له من مقترح حرفي وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لا تحد. كما تؤكِّد أن الحرف لديه وسيلة لاستكناه أبعاد لاتحد في طاقتها على التجدد: أبعاد شكلية ودلالية تتخذ أقنعة مختلفة وأشكالاً متغايرة، بحيث يصعب رصد شذرات من تجربته الحرفية، لأنّ التجريب الحرفي قد أخذ عنده حيزاً مفتوحاً ولانهائياً، ثم جعلت الحرف لدى الشاعر على خمسة مستويات هي المستوى الهيئي (الشكلي) والمستوى الدلالي والمستوى التحويري والمستوى الطلسمي والمستوى القناعي الذي يتفرع إلى ثلاثة أشكال رئيسة هي الصوفي والأسطوري والتراثي.

   أما وديع العبيدي فقد أشار إلى تلك العلاقة الوطيدة القائمة بين الشعر والتاريخ لسعيهما جميعاً إلى تحقيق الواقع، وإضاءة الحقيقة، وإتاحة إمكانية الاستدلال والتأويل والخلاف، حيث الذاتية والموضوعية، ومن هنا ينطلق ليربط بين شعر الشاعر أديب كمال الدين وحياته الخاصة، حيث يرى أن الشاعر يلجأ إلى تقسيم مسيرته الذاتية وتجربته الأدبية إلى مراحل، ويعبر عن كلّ مرحلة بكتاب أو قصيدة، كما يفعل المؤرخ ضمن منهج معيار معينين، على أن الشعراء ليسوا جميعاً على الدرجة نفسها في فهم الحسّ التاريخي أو الانشغال به. وربما كان منهم من يلغي التاريخ ويعتمد أساليب فنية وذهنية معينة للإجهاز عليه. ومن هنا يستمد الناقد قدرته الواسعة في تحليل نصوص الشاعر من خلال معرفته بظروف الشاعر وتاريخ حياته في مراحلها جميعاً، وقد أشرنا من قبلُ إلى أهمية أن يكون الناقد عارفاً بظروف الشاعر المنقود أو قريباً منه، ليعطي نقده أحسن النتائج وأدقها، وهكذا فعل وديع العبيدي، حتّى توصل إلى أن النون هي الدالة الأكثر خصوبة في حروفية أديب كمال الدين لقدرتها على التشتت والتشظي والانفجار وتكوين مجرات جديدة، لذلك تكتسب هذه المجموعة مستويات غير منتهية من معاني ودلالات تتوزع بين الذاتي في تجربته الحسية اليومية، والعام والموضوعي في العلاقات العامة والعموم أو المجرد في التجربة الذهنية والوجودية.

   ويذهبُ عيسى الصباغ إلى أن الشاعر ينهل من تراث المتصوفة المسلمين، فالنون على مايبدو في ذلك التراث هي النفس الكلية التي استعيض عنها بأول حروفها (نون) والتي تنتقش عليها جميع صور الموجودات وأحوالها وصفاتها النفس الكلية في حركتها الدائبة في سيرورتها الوجودية وفي تمخضاتها ولاداتها، بدءاً من العنوان عنوان مجموعته (نون) ثم الاقتباس – الآية – فالإهداء، ومثله في ذلك عدنان الصائغ الذي يتابع تجربة الشاعر منذ دواوينه السابقة (تفاصيل) و(جيم) وصولاً إلى ديوانه (نون) ويجد أنه يسعى إلى استلهام الحرف العربي، وتوظيفه في القصيدة  توظيفاً جديداً، يأخذ من التراث جذوره الصوفية ومحاولات المتصوفة في التأكيد على بواطن الحرف وما ورائياته، كما عند ابن عربي والنفريّ والحلاج و السهروردي، ولكنه يضيف أن الشاعر يأخذ من الحداثة  شكلها الجديد في رسم القصيدة صورياً، بالاعتماد على طاقة الحرف في التوصيل والإيحاء والصيرورة.

   يختتم علي الفواز هذا الفصل بمقالته عن (نون)، فلا يبتعد كثيراً عما قيل في هذا المجال فيرى أن الشاعر يمارس الشعور بالوجود لتقريب اللذة والاستغراق بمكاشفة الوجد بكل ما تعنيه من انتشاء وبرهان ومبادلات كفائية بين حروف هي إشارات إلى معان و شهوات وإشراقات نجد آثارها في  النص الصوفي خاصة في شطحات البسطامي الذي يقول في الإشراقات (كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى)، فإن وطأة هذا الكشف تجعل الاستعارة الشعرية هنا في موقع الاستعادة التي تحوزها  ذات الشاعر  وتكشف عن لذتها وأنويتها وتوحدها.

    ويختص الفصل السابع بمجموعة الشاعر (جيم) وفيه مقالتان، كان أولها مقالة يوسف الحيدري الذي يرى الشاعر يعيش في عالم رهيب من الانفعالات والعذابات التي تذهلنا بصورها النادرة التي تتحدى الحدود القصوى لميتافيزيقا اللون والعلاقات اللامعقولة بين الأشياء، فكل ما تحت رؤية الشاعر من ظواهر كونية يمتزج بأحاسيسه ورؤاه الخالقة المذهلة، فهو مع الحاضر والمستقبل، وهو مع التاريخ حتّى في تراجعاته الحلمية الغريبة التي لا تتخلى عن المنطقي والواقعي وفي أقصى تلك الهيمنات الروحية العذبة.

   أما ركن الدين يونس فيرى أنّ كلّ نص هو امتصاص وتحويل لكثرة من نصوص أخرى، إذ لابدّ من مقولة يتم اتخاذها مدخلاً لتحديد هدف القراءة واتجاهها، ثم لا بد من للتفريق بين قراءتين، الأولى: تراثية تعمل على رصد التضمين والاقتباس  والسرقات الشعرية والتأثير والتأثر، والثانية: حديثة تستند إلى تأشير مستوى (التناص) المصطلح حديث الاستخدام نسبياً في الدراسات النقدية العربية.

      وهكذا وقفنا على مجموعة كبيرة من الأعمال النقدية بمختلف اتجاهاتها وميولها، واطلعنا على جهود مجموعة من النقاد الذين تباينوا في التقاط زواياهم، واختلفوا في وجهات نظرهم وآرائهم، مع اتفاقهم جميعاً على تفرد تجربة الحروفي الشعرية، فكان هذا الكتاب أشبه بسلة من الفواكه والثمار المتنوعة، تثرى فيها الأنواع والأشكال والألوان والطعوم، وبذلك استطاع الشاعر أديب كمال الدين بإبداعه المتفرد، الذي يُعَـدُّ إضافة مثرية للشعر العربي الحديث، أن يحثَّ الخطى، ويحفز الهمم إلى تنشيط النقد الأدبي الحديث، وإثرائه كذلك.

  الدكتور مقداد رحيم

                                                                 ا

 

 

 

    

الفصل الأول: التجربة الحروفية

 ص 23

 

 

د. ناظم عودة

د. مصطفى الكيلاني

علي الفوّاز

وديع العبيدي

 

 

   

ترميزالحرف الشعري:

اشتقاق معنى الحرف من مفردة يكون جزءاً منها

 

د. ناظم عودة

 ص 25 - 36

    

في مستهل مجموعته الشعرية (نون) يشعر أديب كمال الدين بحيرة القارئ أمام استغلاق رمزه الذي يأخذ شكلاً واحداً هو (الحرف) بأشكاله المختلفة، فيصوغ ذلك شعراً، يقول:

 لكلِّ من لا يفهمُ في الحرفِ أقول:

 النون شيء عظيم

 والنون شيء صعبُ المنال

 إنه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

 ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

 في حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة

 ومقلوب، حقاً، عن لبّ الحقيقة

 وهكذا اتضحَ لكم كلُّ شيء

 فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة

 عن معنى النون.

)     أديب كمال الدين - نون – ص4)

على الرغم من أنّ التعالي على القارئ من مجلوبات الحداثة التي أقحمت عنوة في الشعر العربي، إلاّ أن أديب كمال الدين، الذي يروي سيرته من خلال رواية لسيرة الحروف، يطيب له أن لا نسأل (في بلاهةٍ عظيمةٍ عن معنى النون) كما يقول في خاتمة نصّه المقبوس أعلاه. ومن الجدير بالملاحظة أنّ علماء التفسير عندنا قد أسالوا كثيراً من تأويلاتهم على تلك الحروف لمعرفة الدلالة التي تحوط بها، واحتار بعضهم في تحديد الدلالة النهائية. فابن عباس وحده دون غيره من المفسرين يؤول (كهيعص) ستة تأويلات تختلف في كلّ مرّة عن سابقتها، لكنّ ذلك يجعلنا نزداد شغفاً لممارسة تأويل معنى الحروف مرّة أخرى دونما كلل. ويعني ذلك أنّ (البلاهة) وضعية من وضعيات الحيرة المؤدية إلى إماطة اللثام عن المعنى الكامن بطريقة رمزية في حروف أديب كمال الدين  ولا يمكن أنْ يكتسب الإقدام على ترميز الحروف قيمة جمالية دون تلك البلاهة، لأنّ الانكشاف اليسير للرمز يعني فقدان قيمته الإشارية. وعلى عكس الحلاج الذي كان يجد غبطة في فضح بعض رموزه وتفسيرها، كما يشير إلى ذلك (لوي ماسينيون) مما أثار حفيظة المتصوفين عليه، فنبذ خرقة الصوفية حتّى يتكلم بحرية مع أبناء الدنيا، وبخاصة مع الكتّاب ورجال الأعمال، وهم جمهور مثقف غير أنه كليل الحدّ ميال للشكوك، فإنّ أديب كمال الدين يطلب منا أن لا نسأل في بلاهة عن معنى النون، ربما لرغبة منه في لفّ رموزه بحجاب كثيف.  ولكن كيف لا نسأل ونحن نعدّ العدة لرحلة تأخذنا إلى التعرف على السيرة الدلالية لتلك الحروف؟، فالنون، في نصّ واحد لدى أديب كمال الدين، يتحول إلى أكثر من مسمّى فهو امرأة وعلاقة خاسرة، وهو ذاكرة مصابة بالعطب، وهو حادث نوني، وهو إيقاع . ستمر التحولات في نصوص أخرى، ولا تلتزم بخاصية التوحد الرمزية، فكل مرّة نتواجه مع الحرف نفسه ولكن بدلالة أخرى، مما يجعل (البلاهة) صفة مشروعة أمام هذا الزوغان الدلالي. إنّ القانون الذي غالباً ما يتحكم في استعمال أديب كمال الدين للحروف يتمثل في اشتقاق معنى الحرف من كلمة يكون جزءاً منها ذلك الحرف، يقول:

  في حاءِ حبّكِ التي وسعتْ كلّ شيء

 ولدت الباءُ بريئةً كدمعة.

  وهو هنا يضيف الحرف إلى معناه، وهذه هي الطريقة التقليدية التي فسّر بها ابن عباس(كهيعص). ولكن ليس ذلك هو القاعدة الثابتة، فمرّة يطلسم الحروف فتكون طاء اللام ولام السين وسين الميم، ومرة يجعل من الحرف صفة (سحقاً لنونك ــ ولأجل أن أنال نونك فأنا مستعدّ أن أكون الملك أو الأمير أو الشاعر أو العاشق أو الجلاّد أو الخادم أو الشحّاذ أو الصعلوك أو المهرّج أو البوّاب)، ومرّة ينزع عنها الصفة فيجعلها ذاتاً (يا كافي ألقي بين يديك ألفي).

 على عكس ما يعتقده معظم الذين درسوا أو تأملوا شعر أديب كمال الدين وجزموا بصوفيته، أعتقد أنّ نصّه نصّ رمزي وليس نصّاً صوفياً، فالذين اعتقدوا بذلك سوّغوا اعتقادهم باستعماله الحروف رموزاً لدلالات على غرار ما كان يفعله المتصوفة، وباستعماله لأشكال التعبير القرآني، كما في مجموعة (جيم). والحقيقة أنّ النصّ الصوفي يمتاز بجملة من المحددات النوعية، فهو نصّ مكاشفات، يؤمن بقدسية الحرف إلى الحدّ الذي يجعله متحداً بالذات الإلهية، وعلى هذا الأساس فسّر ماسينيون قصة شغف الحلاج بالحروف وإعطائها دلالة حدسية، يقول ماسينيون: توسّم الحلاج منذ وقت مبكر أنّ التوحيد لا يكون حقاً إلا إذا كانت صيغته هي تلك التي نطق بها الله نفسه. ومن هنا أراد أن يشعر بالنبض القدسي للحرف. والنصّ الصوفي أيضاً نصّ ملهَم في بعض التجارب الصوفية كتجربة ابن عربي الذي يدعي أنه مؤلف ملهم وأنه يصدر فيما يكتب عن إملاء إلهي لا عن تقليد للغير أو تفكير شخصي. والنصّ الصوفي سرد لنمط من العلاقة المفارقة للواقع، فالمتصوفة يعتقدون أنّ الحقيقة محجّبة عن الواقع، وهم وحدهم القادرون على نزع ذلك التحجب عن الحقيقة، ومن ثمّ عن المعنى. النصّ الصوفي نصّ شوقيّ لعلاقة وجدٍ بين الأرض والسماء، بين الإنسان والإله. النصّ الصوفي نصّ القلق النفسي المتأزم بالمفهوم السيكولوجي، فهو يبحث عن وسيلة لتطهير النفس القلقة، يقول الحلاج: يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس (أي الله) يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقهولكن نصّ أديب كمال الدين صوفيته صوفية شعرية، أي أنها تمتلك ذلك الإنصات المرهف لأحاسيس الأشياء والحروف، وترغب في أن تجعلهما يكتسبان خصائص الكائنات الحية، لخلق عالم رمزي متخيل له القدرة علي خلق الإيهام الذي افترضه أرسطو في قانون المحاكاة.

 إنّ الحرف الذي يرمّزه أديب كمال الدين يريد من وراء ذلك أن يتقي أشياء كثيرة، فحيثما وجدت المراقبة سوف يكون ثمة ترميز للخطاب. وقد وجد أديب كمال الدين في الحرف قدرة على التخفي أو ممارسة (التقية) الشعرية خوفاً من الحاكم والنفس . وبسبب ذلك كانت اللغة ميداناً لنشاطين : نشاط ترميز الحروف وجعلها المعنى وليس عنصراً في تكوينه، ونشاط الفهم الذي يقوم به القارئ ليكتشف طابع الترميز ودوافع. إن النشاطين يحركهما غرض واحد: هو الحفاظ على النوع، نوع السلطة التي تراقب ونوع الخطاب الذي يريد الانفلات من المراقبة. وسوف تكون العملية موسومة بطابع اللعب، كلاهما يحتال على الآخر، كلاهما يراقب الآخر، كلاهما يختفي، ويحترز، وسوف يترك اللعب هذا ركاماً من الكلمات.
يدّعي، دائماً، كثير من الذين يتأملون الظواهر والأشياء تأملاً روحانياً، أو فلسفياً، أو جمالياً، أنّ (الحقيقة) تكمن هناك، وهذه الـ(هناك) تتحقق بطرائق مختلفة، وبذرائع خاصة. وبمقتضى هذا الإدّعاء غدت تلك الظواهر والأشياء تتشكل من خلال التمركز حول الذات الحادسة. وبسبب هذا التمركز لم تكن الأمور تتكشف على نحو بيّن. صار الالتباس جزءاً من نصّ الادّعاء ذاك، وليس الالتباس، هنا، غير تأليف فنيّ ووجدانيّ لذلك التأمل المشار إليه في أول الكلام. إنّ النقطة - المجموعة الشعرية السادسة لأديب كمال الدين - لم تكن بمنأى عن ذلك الالتباس، فما بين نقطة الحسين بن منصور الحلاج، ونقطة الهندسيين، والنقطة في علم الكتابة، ونقطة الحرف المعجم، والنقطة الوهمية، ونقطة أديب كمال الدين، ثمة اختلافات في توجيه النيات الدلالية. وإذا ما قرنت تلك النقطة بنشاط من الأنشطة الروحية، أو الفلسفية، أو الجمالية، فإنّ معضلة سوف تنشأ بمزاولة فهم الغايات الدانية أو القاصية، المشروطة بالسياق أو المشروطة بالترميز، إنها معضلة القراءة التي تريد أن تبحث، دائماً، عن مجال ملبسٍ يحقق ذات القراءة - أو القارئ إنْ شئت - مثلما يحقق النصّ المتخيّل ذات المؤلف. وحتّى يفهم القارئ ما أكتبه أنا، بوصفي قارئاً أيضاً، عن التباسات النقطة، ويفهم ما نظم من جملٍ وتراكيب وألفاظ فيها، فإنني سوف أتحدث عن قضية الولع الصوفي بالنقطة والحروف، وعن مغزى تحجّب الذات بالرمز، وعن النقطة والحقيقة.

  لم تكن نقطة أديب كمال الدين بعيدة عن تقليد أسلوبي في الكتابات الصوفية يخيّل الحروف ويرمّزها، غير مبالٍ بعملية تداول النصّ على وفق الأعراف المتعارف عليها في إرسال الكلام وعملية تلقيه. ولم تتكشف شفرة الكتابة الصوفية تلك إلاّ بوساطة المتصوفة أنفسهم، إذ وضعوا تفاسير لطرائقهم البيانية والاصطلاحية ليسهموا، مع القراء الآخرين،  في قراءة ذواتهم المعبّر عنها بالكلام المشفّر. ربما يكشف الولع الصوفي بتخييل الحروف عن رغبة في جعل الكلام يتكلم أيضاً عن طريق منحه قدرة الانضواء تحت جنس الكائنات.  وإذا ما أردنا أن نربط السابق باللاحق فإنّ مارتن هيدجر يسبغ صفة التكلم على الكلام أيضاً، يقول: الكلام متكلّم(1). ويقول أيضاً: أنْ نفكر، إذن، في استقصائنا للكلام،  يعني: أن نصل إلى التكلم الذي هو الكلام بحيث ينبثق كما هو ويحدث بما يمنح الإقامة لوجود الكائنات الفانية(2). ويبدو أنّ المتصوفة أرادوا إظهار صفة التكلم في الكلام على نحو أكثر جلَبَةً، ليكون تعويضاً عن صفة اللاتكلم في الكلام نفسه في وجودٍ يسلب الكلام تلك الصفة التي أشار إليها هيدجر، ولذا فإنّ المتصوفة يعوّلون كثيراً على مسألتي: التخييل والترميز، بوصفهما حجابين تتحجب بهما الذات، ظنّاً منهم أنّ التحجب يرتبط أبداً بالحقيقة، ألم تكن الذات الإلهية متحجبة عن المخلوقات، وعن العالم؟ ألم تكن الذات الإلهية ملبسة بطبيعتها؟ بين الحضور الأبدي (لا تأخذه سنة ولا نوم)(3)، وطبيعة الذات الإلهية التي لا تدركها قوانين المعرفة المنطقية والعلمية (لم يلد ولم يولد)(4)، والبعد اللانهائي (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(5)، والقرب المحاذي (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)(6). ومن جهة أخرى، فإنّ مسألة تخييل الكلام وترميزه حتّى يمتلك صفة التكلم ليست ولعاً بهما لا طائل من ورائه، فالأمر أبعد من ذلك بكثير، تكمن هناك رغبة في إدماج صفة التكلم بالمتكلم نفسه، فهذا الإمام جعفر الصادق (الذي ينسب إليه كتاب في التصوف: الهفت والأظلّة) يقول: إنّ كلامنا صعب مستصعب، لا يدركه إلاّ ملك مقرب. فعليك، إذن، أنْ تمتلك خاصية التبتل حتّى تدرك غايات الكلام. وبمقتضى ذلك الشرط الذي يسنّه الصادق، فإنّ (الحقيقة المحجّبة) لا تتكشف إلا بعد عملية ترويض الذات على تعلّم نزع الحجاب للوصول إلى الحقيقة المزعومة. ولكن علينا أن نضع في الحسبان أنّ النقطة بوصفها رمزاً تختلف ما بين الحلاج وأديب كمال الدين، لأنّ الحلاج يمتلك تجربة صوفية تتمثل في سلوكه الروحي بخاصة، وفي كلامه بعامة، في حين أن أديب كمال الدين لا يمتلك تجربة صوفية شعرية، فهو يستعير من التجربة رموزها حسب. ثمة فرق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند كل من الحلاج وأديب كمال الدين، الأول يدخلها في حيّزه اللساني والحدسيّ، لتكون علامة وموضوعاً في آنٍ، والثاني يدخلها في حيّزه اللساني حسب، لكنه لا يستطيع أن يموضعها في مجاله الحدسيّ، فهي تتشتت بين نوازع وجدانية مختلفة:

  كانت النقطةُ دمَ الجمال

 دمَ المراهقة

 دمَ اللذة

 دمَ السكاكين

 دمَ الدموع

 دمَ الخرافة

 دمَ الطائر المذبوح

 كانت النقطةُ دمي

 أنا تمثال الشمع.

  والأول يجعلها جزءاً من نظام الكلام الصوفي المفارق لنظام الكلام العام والخاص، الكلام المؤسس على خاصية الاختلاف الذي بمقتضاه تمّ: أولاً- إقصاء الكلام نفسه، أي كلام المتصوفة (إذ عدّه ابن خلدون ضرباً من الكلام المتشابه أو الألفاظ الموهمة)(7 )، يقول: وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه(8 ). وبقول أيضاً إنّ لغتهم: لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثرها من المحسوسات فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فَهْمَ شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة.(9)  ثانياً: إقصاء المتكلِّم لإقصاء كلامه. فقد" أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله"(10 ). وإن هذا الكلام خارج على أعراف الكلام الصوفي السابق، ولهذا يقول ابن خلدون إنّ" سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة... لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا (أي أن الحلاج خارج حتّى على الكلام الصوفي نفسه) ومن عرض له شيء من ذلك عرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من ادراكات النفس مخلوق حادث وان الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها، وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد(11 ). والثاني يجعلها رمزاً لفظياً يشير إلى أحوال مختلفة، فهي تمتاز بخواص (التحول) الأسطوري الذي شاع في التراث الميثولوجي: خرجت النقطةُ من الباب / كانت عسلاً أسود/ كانت النقطةُ جوهرة/ كانت النقطة حلماً مليئاً بالدفء الباذخ/ كانت النقطةُ طفلة، امرأة/ كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء/ كانت النقطة نقطتي/ تحوّلت النقطةُ إلى خرافة، ثم إلى هزأة، ثم إلى مهرّج، وحين عضّها الزمنُ بنابه تحوّلتْ إلى سيرك عظيم/ كانت النقطةُ كريمةً حد الجنون/ قررتْ حرقَ نفسها إن تركتها دون حروف/ كانت النقطة تمسك الشمس بيد، وتمسك الحلم بيد أخرى.

 والأول يمتلك ريادة تأسيس النموذج اللساني والوجداني، يذكر ابن خلدون، نقلاً عن غيره، أن الحلاج (ومن كان على شاكلته من المتصوفة) كان يقول كلاماً لا سابق له، على النحو الذي أشرنا إليه في نصّ ابن خلدون السابق. والثاني يقتفي أثر التأسيس، وبسبب ذلك فإنّ أديب كمال الدين لم يستطع أن يخلق إيقاعاً شبيهاً بإيقاع الكلام الصوفي، ذلك الإيقاع السريع، المتولد بعضه من بعض. فهو على العكس من ذلك، يلجأ إلى تنميط نصوصه (محاولة في... + محاولة في... + محاولة في... +...)، علاوة على تكرار الصياغة اللسانية التي تحافظ على نظام الرتبة النحوية، وهذا ما يعمل على رتابة الموسيقي الشعرية، كقوله مثلاً: الذي يظهر التراب صورته/ص8 أو كقوله: لم يكن الحلم ليأبه لصيحاتي وحشرجتي/ص8.

 إنّ النقطة عند الحلاج هي رمز من رموز الحقيقة، ولذا تراه يقول: الدائرة لا باب لها، والنقطة التي في وسط الدائرة هي الحقيقة(12 ). وترتبط النقطة عنده دائماً بالدائرة وذلك لأنّ قضية النقطة أصلاً هي قضية الفهم. ولكن أيّ نوعٍ من الفهم ذاك الذي يتحدث عنه الحلاج؟ إنه الفهم الخارج عن أيّ قياس، الفهم الباطني التقشفي، الفهم الذي يعقب الرياضة الروحية. وعلى هذا الأساس فإنه على درجات مختلفة، قال: هيهات من يدخل الدائرة والطريق مسدود، والطالب مردود، ونقطة الفوقاني همته، ونقطة التحتاني رجوعه إلى أصله، ونقطة الوسطاني تحيره(13 ). فالمعرفة، هنا، ليست عقلية محضة، وإنما الحواس تتعرف أيضاً، وتلك قضية ليست بشعرية أصلاًإنّ الحلاج يريد أنْ يكشف عن وجهٍ آخر من وجوه الحقيقة، وذلك دأبه أبداً، لأنها متحجبة بحجاب غامق، ومغلق أيضاً، ومن هنا جاء تشبيهه إياها بالنقطة والدائرة. ولذا فإنّ التشبيه ينطوي على بلاغة تأملية وروحانية. وهنا تجدر الإشارة إلى هيدجر مرّة أخرى ، فهو يعتقد أنّ الحقيقة ليست التطابق بين الفكر والواقع، وإنما هي نزع الحجاب عن الخفي وغير الظاهر. إنّ القضية الأساسية التي تكون دائماً برفقة نصٍ يخيّل أو يرمّز النقطة هي قضية الفهم المزدوج، النقطة العارفة، والآخر أو الأشياء غير العارفة، والنقطة العارفة، والقارئ غير العارف. يقول أديب:

  أنا النقطة

 عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي

 قبلَ أنْ يصلَ الإنسان إلى الكلمة. ص 15 (ديوان النقطة)

 ويقول في موضع آخر من الديوان:

الأسئلة تلدُ الأسئلة

 تلك حقيقة الأسئلة

 لكنني لا أبحث عن حقيقة الأسئلة

أنا أبحث عن حقيقة النقطة.

ومن خلال هذا الضياع بين إدماج الذات بالنقطة وعرفان الحقيقة (لنتأمل التماهي بالعرفان من خلال الفعل والعجن والمعرفة المبكرة للحقيقة قبل معرفة الإنسان لقائمة طويلة من الحقائق)، والجهل والبحث عن حقيقة النقطة، يتبادر سؤال لماذا تتحجّب الذات أصلاً بالنقطة أو بسواها من الأقنعة والرموز؟ لكي تتولى النقطة مهمة تشويش الرؤية على عيون المعرفة ووسائلها للوصول إلى حقيقة الخطاب، ومايرمي اليه، فإنها في هذا النص لاتكون على حالة واحدة، أو جنس واحد، تتعدد وتتلّون، وتخلق نوعاً من الوهم لأنها في بريق السيف، وفي الدم، وفي بقية الشيء، وفي الفرات ودجلة، وفي الجريح:

أنا النقطة

أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين

أنا خرافة ُالثوراتِ وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ و دبّ.

 وإذا كانت تلك اللعبة هي لعبة بين المؤلف والقارئ معا، فالمؤلف في نظر التحليل النفسي مصاب برهاب أبديّ، يخشى كلّ شيء، لذلك فهو يرمّز كلّ شيء، وإن القارئ مصاب هو الآخر بعقدة أخرى هي عقدة حب الاستطلاع، فهو يريد أن يعرف كلّ شيء ليلذّ بكلّ شيء، وطبقاً لمعايير اللعب هذه فإنّ النص سيكون ميداناً مكتظاً بنيّات شتى، نيّات المؤلف والقارئ والعملية الفنية. ووفقا لهذه المعايير فإن أديب كمال الدين يرغب في أن تتولى النقطة مهمة الكلام نيابة عنه. وطبقاً لذلك فإن النقطة ستكون، هذه المرّة، ذات إيحاءات أيروسية لا تتحقق، لأنها مستباحة من الآخرين الذين يذكرون بتسميات مختلفة:

كانت النقطةُ طفلة / امرأة

خرجتْ إليّ بثديين غامضين

وعينين مفتونتين

وشفتين ذاهلتين

فتبعها كلّ وحوش المعمورةص 18- ديوان النقطة

ومن خلال تلك الصور والأشكال المختلفة التي تظهر بها النقطة، يتبيّن أنها لم تكن صوتاً واحداً، وإنما طائفة من الأصوات المختلفة، وكلّ صوت يتقنّع بالنقطة، فكأنها مستقر الدلالة أو الحقيقة. بيد أن الأمر لا يعدو كونه لعباً بالكلمات فالصوت –وإنْ تعدد– يتقمّص تلك الذات التي تختفي وتروي عن لسان النقطة كلّ تلك الصفات أو الأفعال. فالراوي لا يريد أن يكون موضوع السرد الظاهر، لكنه يرغب في التحجّب، فالراوي، هنا، لا يريد أن يقول: أنا ألف جريح، لكنه يروي عن النقطة قولها: أنا ألف جريح، لكي يتمتع أو يتألم برؤية هذه المسافة الجمالية التي خلقها بنفسه، وهاهي تتكلم نيابة عنه. إنّ هذا اللعب في الفن (وأسميه لعباً لأنّ فيه تمويهاً على العقل الصارم الذي يدرك الأشياء والظواهر باليقين المحدد الذي لا لبس فيه) يختزل السيرة الداخلية المقموعة للجنس البشري:

كانت النقطةُ كريمة ًحد الجنون

(أذكرُ أنها قررتْ حرقَ نفسها

إنْ تركتها دون حرف)

لكني تركتها كأيّ مجنون

لم يستطع أن يسيطرعلى ضربات قلبه

وهو يتلمّس صندوق الليرات العظيم.

وحين تحوّل ندمي إلى أسطورة

لم أجد ما أحرق به نفسي

سوى حروفي الباردة.

والآن ما معنى النقطة؟ وأية دلالات تلمح إليها؟ من الناحية المفهومية، تعني النقطة في علم الكتابة: نهاية الخط الذي هو تصوير اللفظ بحروف هجائية. ويقول الحكماء: إنّ النقطة عرض غير مستقل الوجود، لأنها نهايات وأطراف للمقادير، وهي نهاية الخط وهو نهاية السطح. وفي اصطلاح علماء الهندسة أن النقطة هي قلب الدائرة، وكلّ الخطوط المستقيمة الخارجة منها اليها متساوية. وبإزاء ذلك فإنّ النقطة، أعني نقطة أديب كمال الدين، لا يمكن أن تكون مستقلة الوجود عن طائفة من العلاقات:

1 – المؤلف بوصفه إنساناً ذا تجربة روحية تحدث في زمان ومكان معينين، فهو يريد أن ينقل هذه التجربة إلى حيز آخر، هو حيز التأليف، ويعني ذلك أن الحيز الحقيقي يتحول إلى  الحيز الرمزي، ويتحول المؤلف من حيز الإنسان التلقائي إلى حيز الفنان المعقد، والرهابي معاً. وعلى هذا فنقطة أديب كمال الدين هي تجربة ذات امتداد في التاريخ، لأنها وعاء لتجربة روحية وواقعية، وذات امتداد في لعب الفن تارة أخرى.

2- القارئ بوصفه طالب متعة في الكلمات والجمل والعبارات، فهو يريد أن يوهم نفسه بتجربة التأليف الأصلية، لأنه يريد أن يتقمّص، وأن يمارس الكذب المرح. لكنه من جهة أخرى يريد أن يفكك سنن الرسالة الجمالية في الأعمال الفنية. إنّ لبّ العملية الترميزية هو خلق مجالات غير مملؤة الدلالة تنشىء تواتراً إدراكياً، فالرمز لا يريد أن يبوح بالمعنى، لأنه لا يهدف إلى إغلاق الدلالة وتفسيراتها. وفي ضوء ذلك يريد القارئ أن يدرك الرسالة المشفّرة القابعة في أعماق النص، وربما أراد أديب كمال الدين أن يجعل من النقطة والحرف رسالة جمالية مضمّنة في نصه الشعري، حتّى يضمن الحضور الأبدي للفحوى الشعري، لا من خلال الصورة الصوتية لمستويات اللغة وتحولاتها، ومستويات الموسيقى الشعرية كذلك، وإنما من خلال خلق مجال وهمي لتشكيل الحروف، لكي تكون الصورة البصرية أكثر حضوراً وأكثر قدرة على رسم المعنى.

3 – النص بوصفه مكان اللقيا، لقيا المؤلف والقارئ في مكان زائف ، متخيّل ، مشيد باللغة حسب، إذ لا إمارات سوى الكلمات وحدها. وعلى هذا الأساس فإنّ النقطة التي هي نهاية كلّ شيء، تريد أن تكون بداية كلّ شيء، وأن تكون معنى مستقلاً مكتفياً بإشاراته، وربما كانت تلك رغبة النقطة نفسها، النقطة المنسية والمهمّشة، فالمعنى يغري الأشياء في أن تكون موجودة، ويعني ذلك أن النقطة ترغب في تحقيق ذلك الوجود، ولكي تتم تلك الرغبة كان أديب كمال الدين يخيّل النقطة حتّى يجعل لها خصائص الكائن المتحرك الحيّ في الزمان والمكان.

**********************************

( 1 ) مارتن هيدجر– إنشاد المنادى، قراءة في شعر هولدرن وتراكل– تلخيص وترجمة بسام حجار:  ص 10 – المركز الثقافي العربي – ط1 – 1994- بيروت.

( 2 ) المصدر نفسه: ص9.

( 3 ) البقرة: 255.

( 4 ) الإخلاص: 3.

( 5) الأنعام: 103.

( 6 ) الواقعة: 85.

(7 ) القنوحي- أبجد العلوم: ج2 ص 163- تحقيق عبد الجبار رزكار– دار الكتب العلمية – بيروت– 1978.

( 8 ) المصدر نفسه: ص 163.

( 9 ) المصدر نفسه: ص 163.

(10 ) المصدر نفسه: ص 164.

(11 ) المصدر نفسه: ص 164.

( 12) الحلاج – الطواسين: ص 32  – منشورات دار الأمد – بغداد 1991.

(13 ) المصدر نفسه: ص 32.

 

 

 

 

ما بين (نون) و(النقطة) لأديب كمال الدين:

كتابة النص الشعري المختلف

 

د. مصطفى الكيلاني

 ص 37 - 40

 

 

 

   اللغة ووعي الموت حدان يلتقيان، يداخلان في شعر أديب كمال الدين، إذ يفكك الشاعرُ اللغةََ بالقصد كي يصل بها إلى تخوم العدم، كي يخترق صوتية الحرف محاولاً بذلك استعادة بهجة الكلمة ووهج الصوت المعبّر عن التواصل الحميم بين ظل الفكرة وظواهر الأشياء. ولأنّ الحياة تراكم صور، بها يثبت التكرار فالموت هو السكين القادر على اختراق كثافة الوجود لإحداث الانقطاع وتفكيك المتصل. إذ ترغب الذات في مغامرة الخروج عن السبل المسطورة بالاندفاع إلى أقاصي تجربة الحياة والكتابة معا، وتؤثر مقاربة نقيض الحياة على الانحباس داخل دوامة الزمن المستعاد وأحكام القبيلة:

 (أريد كأساً من الموتِ لا يحتجّ عليه أحد

 ولا يمنعه عليَّ أحد

ولا يرى أحد جدوى من تحريمه

على قلبي الطيّب حدّ الموت) (1)

فيلوذ الشاعر بأصل اللغة المنفتح على البدء الأول وبنقيض العقل، أي الجنون تبعاً للتسمية الشائعة، وباللامعنى، بأعتباره الفراغ أو السلب المنشىء للمعنى، أيّ معنى، وبالتحرّر من مسبق إيقاع التفعيلة سعياً إلى مقاربة (الشعري) لا الشعر في تكرار نمو القصيدة، وبالعشق الواصل بين لذة الكتابة وعذاب الوجود، وبالسؤال المتردد بين بداية الحياة وحالاتها القصوى عند الاصطدام بسلطة العدم:

 (ما جدوى أن أحبّك

إذا ما اقترنتِ بالموت؟) (2)

 إنّ رجوع أديب كمال الدين إلى أصل اللغة محاولة جريئة لا تخلو من أخطار لاستقراء جينالوجيا المعنى في تاريخه الأول الكامن في راهن الكلمة وسعي إلى إنشاء مستقبل لماضٍ أنتج قيمة لكائن استطاع أن يحوّل الأشياء إلى رموز دالّة بذاتها في حضور التكلّم وفي الغياب، وفرار من رعب اللحظة حيث فراغ الامتلاء الكاذب وفوضى النظام المستبد وتخبّط الفرد في الفراغ:

(أسقطُ في الفراغ

وأصعدُ

أصعدُ

أصعدُ

فلا أجد إلاّ الفراغ يُقبّل نفسه.) (3)

وإذا الراهن سجن رهيب، لفقدان قيمة البدء. ولا منقذ من السقوط الكامل سوىالرجوع إلى (الأصل المنفتح) بدلالة (مستقبل الماضي) استناداً إلى ثالوث ممكن للمعنى، هو الشعر والحب والموت. فقد يتحقق بالشعر إمكان الحوار مع الذات كي ينجو الفرد الشاعر من الطلقة الأخيرة:

(أيها الشعر 

تعال

اركض

أنقذني

من الطلقةِ الأخيرةِ القادمةِ باتجاه رأسي

......

الميّت!) (4)

وقد يتحقق بالحبّ انفتاح الذات على الآخر ونجاة أيضاً من واحدية الصوت والمعنى:

(من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ

لأنّي أحبّكِ

كما يحبّ الربيعُ أولَ نحلةٍ تقول له:

صباح الخير أيّها الرجل المُشمس) (5)

 ويستطيع الكائن بوعي الموت تحويل وجهة العادة من الوجود السائد إلى إمكان الوجود المختلف:

(الموت لذيذ

لأنّ المعنى كامن فيه.) (6)

وإذا ثالوث الشعر والحبّ والموت يتناظم ليصف كارثة استبداد (الأصل) الساكن المنغلق بالأصل المنفتح و(العشيرة) بـ(الفرد) ويميط اللثام عن خيانة اللغة للكائن، كما تتواصل دوالّه لنشدان قيمة ما، لعلها محصّل الصفات الضمنية الكامنة في دلالات لغة الشعر وهوية الحبّ وتخوم الحياة القصيّة المفضية إلى الموت. وقد يتأكد الموت معنى مرجعياً لكل المعادلة الحادثة أو الممكنة بعد أن ثبت انهيار كل القيود الموروثة والناشئة. إذ تتكثف دوالّه وتتعدد دلالاته في ديوان (النقطة) سعياً إلى بيان (اللاجدوى) و(اللامعنى) و(اللامستقر)(7) فيمتلك السوادُ والخواءُ والبترُ والانقطاعُ واجهة المشهد الموصوف، ولكن الإشارة ماثلة في الأثناء إلى مُنتظر قد لا يتحقق، ذلك القادر الوحيد، افتراضاً، على إنهاء الفاجعة واستعادة الأمل:

(الصباح قطعة كفن

فتعالي يا نقطة الطفولة

قبّلي خرابي كلّ سنةٍ مرّة

وضعي على رأسي الذي شيبّته الحروب

حرفَ أمل وغصن حياة)(8)

كذا يبدو ديوان (نون) تفكيكاً بَدئياً لصوت الكلمة بالانزياح عن المركز الواحد إلى تعدّد النبرات، واختراقاً عنيفاً صادماً لعالم اللغة الداخلي، وتدشيناً لطور جديد في كتابة النص الشعري المختلف الذي تواصل لاحقا بديـوان (النقطة)(9) وقد لا ينقطع.

  ********************************

(1) أديب كمال الدين (نون) ، بغداد - مطبعة الجاحظ ، 1993،  ص 28

(2) السابق: ص 32.

(3) نفسه: ص 40.

(4) نفسه: ص 42.

(5) السابق: ص 55.

(6) السابق: ص58 .

(7) انظر (محاولة في الانتظار): ص 44 - (النقطة)

(8) السابق: ص76

(9) النقطة - بيروت – عمان -  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية،  2001

وسبق أن نُشرت ببغداد عام 1999.

 

 

  

 

قراءة في منجز أديب كمال الدين

استخدام الحرف في القصيدة والبنية الرمزية

 

علي الفوّاز

 

 ص  41 - 45

 

 

 

يملك الشاعر أديب كمال الدين هاجساً من طراز خاص للمغامرة ورغبة كامنة في كشف خطابه الشعري على نوع من الإباحة في التصريح والمفارقة الشاقة بين محموله اللغوي ولعبته الرمزية التي عمد فيها إلى تداول الحرف كمجسّ لحركة الرؤيا بحثاً عن أصل اللذة وتمثلها في المجال الرمزي من خلال تعدد صور الخلق في البنية النصية للغة والجسد والدين والأسطورة. فهو حريص على تشكيل علاقة بنائية في هذا المجال، يستحضر فيها الكثير من الثنائيات التي تجعل لعبته الشعرية مجذوبة إلى الاستغراق في عملية تقابل وترميز متوالية  ولعبة  توليد لا يجفّ فيها المعنى عن إنتاج صوره ودلالاته. وهذا التمثل الشعري يجد له نسقاً بشكل ووظيفة هما فضاؤه الإستعاري الذي يشكّل فيه هاجسه في المغامرة مثلما هو مجاله (الكنائي) الذي يعيد فيه استعادة لاشعوره وباطنته الداخلية ليس بمواجهة المجال الإستعاري لجملته الشعرية، بقدر ما هو محاولة لتشكيل  نصوص موازية في نثريتها تحيل دائماً إلى الإشارة والتأويل وطقس اللذة وروح الجسد المتمظهر بقوة الخصب. وبهذا فإنّ الشاعر يتعامل بحساسية فائقة مع دلالات الحرف وشفرته اللغوية باعتبارها المادة الحية التي تحيل الشاعر إلى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى أو الصورة.

 إنّ تجربة الشاعر أديب كمال الدين قد وضعت نفسها في فضاء نصوصي تتشكّل فيه تجلّيات المعنى كرؤيا الكشف عن جوهر غائب أو لذة غائبة هي جزء من مكونه العقائدي  ورسالته التي يستحضرها كلذّة للتعويض أو رقية للإنقاذ أو خطاب للتعلية أو خطاب في التقيّة. وهذا كلّه يتجسّد عبر اشتغالات لغوية وعلاماتية تتمثل جملته فيها كنوع من الاستعارة المكتفية بذاتها رغم انتمائها لبيان النسق العام، فضلاً عن ما تحمله من ترجيعات صورية تنسج مرجعياتها من التاريخ النصوصي للمعنى الوارد في الفقه الإمامي والاجتهاد الصوفي والعرفاني الذي يجعل الحرف والنقطة في إطار دلالي ورمزي وصوفي هو أقرب إلى حساسية الشاعر في تهيئة  لذته الخالصة للذوبان في طقوس الجسد العرفاني رغم توريته البلاغية في الجسد الايروسي، وهذا ما عمد اليه الكثير من شعراء المتصوفة. وإزاء هذا يجد الشاعر نفسه دائماً في فضاء من الدلالات التي تمارس لعبتها في تفكيك بنية الجملة الشعرية الصورية إلى بنيات ثانوية يمتزج فيها الهاجس الصوتي مع التشكيل الصوري لينسجا تشكيلاً أشبه بتشكيلات الحروفيين في الرسم، إذ يكتسب الحرف الأيقوني والحرف الموصول مع اللون والكتلة صفات حسية وذهنية مثلما يحيل نفسه إلى بنية صوتية هي في جوهرها النداء الخفي الذي يلامس المعنى والروح:

  عجبَ الحروفيّ من هذه الحاء

 فلقد رآها مرّةً راقصةً أسطورية

 ومرّةً رآها توابيت عارية

 ومرّةً رآها ذهباً وجمراً ودموعاً وسكاكين                        

 فاحتار.

    (قصيدة حاء - مجموعة حاء - ص56)

 إنّ هذه الحيرة هي المقابل لرؤيته القلقة التي تبحث عن مناجم الخارج وما لا يراه الغائب في لذّته السرية والتي يمنحها صفات الكائن الصانع للمتعة، فهي الراقصة والتوابيت العارية وهي الذهب والجمر والدموع والسكاكين، وهذه الصفات هي أيضاً طقس تعبّدي، لأنّ حيرته مرهونة إلى ما يمكن أن تمنحه (الحاء) من لذة وإبداع وحكمة وبرهان. إنّ تسارع الشاعر نحو رمزية الحرف وتوظيفه كمجسّ سحريّ في الوصول إلى اللذة والذروة والخصب يمثل استحضاراً للتماهي مع طقس أنثوي يضفي عليه سمات وعلامات ومحاسن هي في الأغلب جزء من لعبته في تأنيث الخارج ومراوداته إغواءً وانشداداً:

   هذا الذي في داخلي مجنون

  يتوسّلُ بالكلماتِ ليسحرك

  وبالنقاطِ ليفتنك

  وبالحروف،

  فاخبريه انّ زمننا أميّ

  لا يحسن القراءة والتهجّي

  لا يحسن شيئاً سوى التعرّي.

     (زلزال - مجموعة حاء - ص92)

 لقد عمد الشاعر أديب كمال الدين عبر هذه التجربة الشعرية التي امتدت من مجموعته الشعرية الأولى (تفاصيل) عام 1976 إلى مغامرة شعرية لا ينقطع فيها النزوع إلى استكناه ما يحمله المورث الصوفي من تشيكيلات بصرية وتفاصيل تدفع هذه اللعبة البصرية إلى واجهة المعنى وتوهّماته والتي جعلته عند لعبة الصانع الذي يمارس رؤية المكوّنات والمسافات ويعيد صناعتها تحت هاجس لذة اللامتناهي الذي هو جوهر لعبة الشعر أو الحيرة إزاء الوجود ودخوله في تواليات الموت والولادة والخصب والكمون. ولعل استغراقه في النزعة الحروفية وتمثله لتشكيلاتها الصورية والبنائية يعكس استغراق رؤيته في البحث عن سرّية اللذة العرفانية ولذة الخصب وسحرها الكيميائي وهذا ما جعله قريباً من استكناه المكون الحروفي باعتباره الطاقة والقوة الرمزية والذي هو أيضاً الشفرة التي تهجس بسرّية المعنى وتكشف عن الالتباس، وبهذا يكون الشاعر أقرب إلى كتابة (اللغة الجسدية) التي تعيش فتنة الإغواء وترسم التكوين الحروفي الذي يجعل الشاعر في حالة من الحساسية الدائمة إزاء الجسد الحروفي. وكأن الحرف يتحول هنا إلى أيقونة (فتشية) كما يقول فرويد في استحضار لعبة اللذة ولعبة الإشباع الموهوم، وهو مايجعل الشاعر يمارس لعبة الهذيان الحروفي الذي يستجلب معه صيرورة الجسد المعلن والمخبوء ويشيء باكتماله وزواله في ضوء ما يستدعيه من إشارات هي دالة المحو/ غياب الجسد وفنائه أو هي المعنى المجرد الذي يجعله عند نص (النقطة) باعتبارها البدء والخاتمة أو النقيض للعجمة وهو كذلك الدافع للطقس التعبدي الذي يستحضر معه النزوع نحو تلمس المعنى النهائي/ السعادة في البكاء عند الوليّ السعيد كما يقول في قصيدته (محاولة في حقيقة النقطة):

  من حقّي أن أسأل

 أنا الذي ضاجعتُ النسيانَ على فراشٍ بارد

 كيف ظهرت الباءُ دامعة

 وسط الياء والسين؟

 كيف أبكي وأنا عند الوليّ السعيد؟

 (محاولة في حقيقة النقطة - مجموعة النقطة - ص71)

 إنّ تماهي الشاعر وذوبانه في شخصية الوليّ السعيد تعكس استعادته لصفات أناسية تجعله منفرداً عن غيره في التعاطي مع المعنى عبر سيولة الرمز الدائمة في الذات والشهود، وكأنه هو مقابل للرؤيا الوحيدة التي تجعله أمام علامية شعرية يختلط فيها الحرف بالمرأة وطقوس العبادة والصحو بتجلّيات الكائن الذى يبحث عن مباهجه الكبرى. وأجد أن الشاعر في لعبته تلك لم يسعَ إلى حروفية مجرّدة كما هي عند بعض السرياليين العرب وإنما مارس نوعاً من الانغماس في عتمة الحرف محاولة منه في التماس أنوثة اللغة وما يمكن أن تفصح عنه من تنويعات في الخبرة وفي تجليات الرؤيا المفتوحة على العالم مثلما هي مفتوحة على العرفان. وهذا ما يجعل الشاعر أمام لعبة لا يمكن أن تكون إلاّ  شعراً، لأنها تستشرف ما هو جوهري وروحاني والتي تجعله في نزوع دائب للقبض على اللذة الغائبة، لذة التوسّل والتعبّد ولذة الانكشاف على البرهان، وهذا على الأغلب  يجعل السطوح، اللغة والجسد والحرف برزخه الذي يؤدى إلى حدسية ترى الأشياء وهي قيد التشكّل أو متورّطة  في  الغواية أو الخطيئة!:

  أيتها النون

 عذّبني جسدك

  قادتني عيناكِ من صحراء إلى صحراء

  ومن غيمةٍ خضراء إلى غيمة حروف.

  (تبّاً لكِ – مجموعة: حاء - ص64)

 إنّ البناء النثري للكيمياء الشعرية عند أديب كمال الدين  يجد مستوياته البنائية أمام كثافة التصوير والعناية الفائقة  في صنعة هذه الصورة دون إشكالية اجناسية محددة بما يجعل الكتابة مفتوحة على احتمال دائم في القراءة والتأويل والتوهم، وهذا ما يمكن عدّه في مقدمات قراءة الشعر كجوهر الذي يكشف عن مستويات للحسي والذهني وتعويض النظام الصوتي للشعرية التقليدية بلعبة التكثيف التي هي ممارسة في الخرق الشعري!

ففي قصائد (النقطة) مثلاً ثمة حلول تعويضي داخل الجسد اللغوي في استعارة واضحة لخرق نسق الجملة ونسق المعنى من خلال شرط الكتابة التي تستبطن الصوت/النداء. وهذا الحلول ليس هو الفناء أو التدنيس أو حتّى حلّ عقدة (العجمة) في الحرف، بقدر ما هو السعي لاستحضار علاقة بصرية مغايرة تجعل الحرف مجسّاً في فضاء العتمة، وهو الذي يهجس بتجليات اللذة والألم مع المرأة والعالم والذات والذي يمكن عدّه مقابلاً للانهائي الذي يمتلك مزية الجريان باتجاه المعنى الواسع المنسوج بمعطيات ما يكشفه الحسي من إغواءات، لكنها تظل مأخوذة بنزوع التوحّد مع ذات الخلق الإلهية باعتبارها الذات النهائية:

 استمرّ صعود ُالنقطةِ عشرين عاماً

بالتمام والكمال

خلالها حلّقت الطائراتُ مرّتين

واحترقتْ مرّتين

فاستبدلتُ رائي بالألف

وعيني بالدال ودالي بالياء والباء

واكتشفتُ الخمرةَ الالهيةَ بدلاً من الخمرةِ المغشوشة.

 (محاولة في حقيقة النقطة - مجموعة النقطة - ص70)

 لقد اكتسبت قصيدة أديب كمال الدين نوعاً من الحصانة ازاء مغامرته الحسية الطاعنة بالتجلّي وأخذت كثافتها صفه التشبيه بالجسد العرفاني الذي يميل رغم حساسيته إلى الإفصاح عمّا في الداخل من لغة أخرى هي لغة الذات المتعالية التي تجد لذتها القصوى في كتابة تلك اللذة.

 

 

 

(عارٍ كالتفّاحةِ قلبي ولذيذ كالتابوت)

جدلية الجيم والحاء في شعر أديب كمال الدين

 

وديع العبيدي

 ص 47- 60

 

أن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش.  (هربرت ريد)

استغرقت ولادة مجموعة "جيم" -الصادرة عام 1989- مدة طويلة نسبياً في مسيرة الشاعر أديب كمال الدين بعد صدور مجموعته الثانية "ديوان عربي" عام 1981. وقد حملت آثار ظروف الحرب المفاجئة وغير المعقولة في نظر الرأي العام العراقي عموماً. غير معقولة لعدم وجود مظاهر عداء حقيقية بين الطرفين: العراق وإيران، وأن حجم الدعاية الاعلامية لتجييش المشاعر كانت أكثر من مفضوحة وغير منسجمة مع تقاليد التسامح في المجتمع العراقي والمشاعر الدينية لفئة غير محدودة من العراقيين. فعوامل غير الإقناع كانت تستند إلى عدم انسجام (الحرب) مع المعيار الاجتماعي، عدم الانسجام مع المعايير الدينية، عدم الانسجام مع المعايير والقناعات السياسية داخل البلاد والمنطقة. وجاء توقيت حرب الثمانين بعد عام من التغيير السياسي (الديني) في إيران وما لحق بالمصالح الاميركية النفطية ورهائن سفارتها في طهران، ليفضح هوية حرب بالنيابة، خاضعة لاملاءات خارجية على حساب مصالح الوطن الاستراتيجية. يقول أديب :

 كان غرابُ الليل

يقرأ أسماءَ الناس

في اليقظة

وغرابُ الفجر يداعبُ ألوانَ سماءٍ منقرضة

وإذ احتدّ غرابُ الليل

احتدّ غرابُ الفجر

حتّى سقط الريشُ الأسود والأبيض

فوق الناسْ.  

   – الطائر الأسود- "قصيدة طيور"- (مجموعة جيم)

  لم يكن العراقيون، وفي طليعتهم المثقفون، بعيدين عن هذه القناعة، وإن كانت أقل وضوحاً وتبلوراً. وعلى العموم، كان ولا يزال، ثمة نفور حقيقي من فكرة الحرب التي عاش العراق ويلاتها بين حروب فلسطين التمثيلية وحرب الكرد التي أودت بآلاف العراقيين، ولم تنته مجازرها حتّى أواخر السبعينيات. وكان من سماجة التفكير السياسي للقائمين على الدولة تجاوز هذه البدهية ودفع الشعب في محرقة حرب غير محسوبة. لذلك اعتمدت السلطة أساليب مفضوحة تراوحت بين الاغراءات المادية وبين أنواع الضغط والتهديد والإعدامات الكيفية:

 بهدوء أعمى

خرج الطائرُ من منفاه

إلى المبغى! 

- طائر الشؤم - "قصيدة طيور" (مجموعة جيم)

لم يستثنِ النظام فئة اجتماعية أو أكاديمية أو ثقافية من الانخراط في لعبة الموت المجاني. معظم الأدباء والأكادميين والفنانين المشمولة أعمارهم ضمن قوائم مواليد الحرب سيقوا اليها وتجرعوا مهاناتها ومات فيها كثيرون و لم يخطر بذهن المؤرخ العراقي أو الباحث الأدبي تحرّي بياناتهم. وبين أولئك كان الشاعر (دخل الحرب عام 1980 ضمن دفعة موليد 1953 المؤجلين، حسب مصطلحات التجنيد يومذاك ليبقى جنديا طيلة سنوات الحرب كلها).

 لم تكن وظيفة الجندي كتابة الشعر، ولا الحلم .الجندية حالة عبودية مطلقة لما يدعى الأوامر والقوانين العسكرية ممثلة بسلسلة المراتب والجنرالات. الجندية ليست بمعنى الحرب فقط، وإنما عبودية الأوامر، وأبسط أسباب العقوبات وأتفهها هو [عدم إطاعة الأوامر/ مخالفة الأوامر] والعقوبات تتراوح من قطع الراتب، إلى الحبس إلى الاحالة للمحاكم العسكرية:

 الجندي الذي لا يعرف سلاماً

الذي يقاتل من أجل كسرة خبز

الذي يموت بـ(نعم) أو (لا).. 

    – الشاعر الايطالي بريمو ليفي-

   التزام الجندي بالانضباط والقيافة والطاعة واللياقة البدنية الدائمة، كل تلك [تفاصيل] من حياة شيء اسمه الجندي. ولا يتورّع الضباط عن استخدامه أداة للتسلية والسخرية، فشخصية الجندي في الجيش العراقي ذات ملامح أقرب للامعقول والفنتازيا المريضة منها إلى الواقع. وقد استثارت ذهنية الشاعر وهو يجد نفسه في ملجأ ترابي لا يحميه من حرّ الصيف ولا مطر الشتاء، لا من عواصف الرمال ولا من شظايا القصف، أو محشوراً ضمن طائفة من الجنود في ظهر عجلة [الإيفا]، واستحقّت منه أن تكون بؤرة تأملاته وتوجعاته الإنسانية والشعرية. فاستخدم الرمز/ الحرف (ج) الشائع مصطلحاً في الحياة والوقوعات العسكرية اليومية. (ج م) بمعنى جندي مكلف. (ج م ح) بمعنى جندي مكلف احتياط، وهي التسمية التي تشمل مواليد الشاعر ممن سبق لهم الخدمة في الجيش. وتعرف صفيحة قيد المساق في خدمة الجيش، بأنه: الرقم/ كذا، الرتبة: ج م ح، ثم إسمه الثلاثي، إلخ. فالـ(ج) رمز عسكري تم توظيفه شعرياً لنقل تجربة إنسانية تتمثل في انتهاك معنى الإنسان وكيانه. ما دفع شاعراً عراقياً آخر ليضع جملة غنية بالدلالات في مستهل أحد دواوينه (الإنسان، بناء الله، ملعون من هدمه!) "علي الشلاه في مجموعته (ليت المعري كان أعمى)".  لم يكن الترميز(الكناية بحرف أو رمز) جديداً في الثقافة العراقية المعاصرة وانعدام الحريات، بل كان البحث جارياً عن صيغ وأساليب تعبيرية دون الوقوع تحت طائلة القصاص. فدلالة الجيم، إذن، هي ليست (جيش) الذي صبغ البلاد وأحال سوادها إلى التراب والرمل والغبار، ليست شخصية الجندي الذي كان بطل مرحلة الثمانينيات وضحيتها الأول، بكل اشتقاقاته ومترادفاته وتشظياته، فقط، وانما جثة (الجندي) ولذلك دلالة عميقة عن الموقف من حرب قهرية مفروضة عليه، إنه لا يشارك في تلك الحرب ولا يخدم أغراضها كما يبدو، وإنما هو فيها مجرد (جثة):

 كنّا في الدار ثلاثة

أنا وعذابي النائم كالجثّة

وسط الدار

و(كذلك شخص لا أعرفه)!   

 - قصيدة: "جيم" - مجموعة (جيم)

 فالمشاركة الفيزياوية/ الظاهرية تلغي المشاركة الوجدانية والفكرية عبر عملية إقفال ذاتي كامل تجاه الخارج، مما يمثل موقف احتجاج جذري واجه به الجندي/ الشاعر قرار الحرب التدميرية بكل المعايير. وعبارة انشطار شخصية/ كيان الشاعر إلى ثلاثة كما يؤكد في السطر الأول [كنا في الدار ثلاثة]، محاولة لإعادة تنظيم صفوفه/ وجوده بما يناسب حالة الخطر الخارجي المدمر، [أنا، وعذابي (النائم)، (وشخص لا أعرفه)]، فالأنا الشعرية لا تستسلم للطارئ ولا تستدرجها الهاوية، وإنما تنشطر وتنشطر مثل الأميبا ومثل اليوغلينا ومثل الأفعى للمحافظة على الحياة وتحدي ظاهرة الموت بكل معانيه ومستوياته. ولم تكن حصة الحرب غير (جثة)/ (عذاب نائم)، وحواليها يحرس ملاكان، (أنا)/ الشاعر، والشخص الآخر المبهم، الذي يمثل العمق الاستراتيجي الروحي للذات الشاعرة والذي سوف يتبدّى في أماكن أخرى في صورة الطفل أو التوحيدي أو العاشق:

أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ مسحور

أنّ الساحرَ يبكي كالطفل..

نظرَ الساحرُ لي قال : بأنّي الطفل

فتعجبتُ من القول!

 – قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-

 فالشخصيات هنا تتناسخ وتتناص لتحل الواحدة في الأخرى أو تتبادل الدور والهيئة، وهي صور أرواح هائمة متنقلة تكتنف اللحظة الشعرية لينظر عبرها الشاعر إلى عالم تبلّطه الكراهية والرذيلة فتنقذه من الدمار والانحراف. من خلال حرف (جثة) أنقذ الشاعرُ الإنسان من السقوط في مهاوي اللعبة ونزق الطواغيت، ليقول لنا أن ما أخذته الحرب أو تأخذه ليس سوى [جثث]. فدلالة الجيم، بناء على ذلك، (جثة، جندي، جيش، جحيم) الحرب، جحيم الحالة والحياة العراقية في كرنفال الموت المزوق بالتوابيت والأعلام والأعضاء المبتورة وجيش المعوّقين والمتهسترين في أسواق العراق ومستشفياته العسكرية.

في تناص حروفي جميل بين [ظالم/ظلمات] والمتناصة معنوياً ولونياً مع [الطائر الأسود/ غراب الليل/ الريش الأسود/ طائر الشؤم] في قصيدة طيور من مجموعة (جيم). ويذكر أن مترادفات اللون الأسود تتردد لدى الشاعر في غير موضع وبصور ومناسبات متباينة:

غير أنّ الله

رأى دمعتي في جوفِ الليل:

 ليلِ أرضِ السواد.   

    – قصيدة "دمعة مضيئة" (مجموعة حاء)-

هوّمتُ.. أنا روحُ العشب

عنقُ العصفورِ وذاكرةُ التفاحْ

وجعُ الطين الأسودْ

لأمنّي الروحَ بأرضٍ تؤوي جذري المنفيّ.   

   - قصيدة "إشارات التوحيدي" (مجموعة جيم)-

أختبئ اليومَ كطفلٍ أرنو للفجر

أقرّر أن أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم

يذهب سيف الظالم في الظلمات. 

   – قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-

ونبتَ لي معنى

معنى وحشيّ أسود

كرمح (وحشي) الذي اغتال به سيّد الشهداء.    

 - قصيدة "جيم شين" (مجموعة حاء)-

 وتستمر حالة المطاردة والمراوغة بين الشاعر والمعنى في قصيدة الجندي/الجثة (جيم) الآنفة:

 من بعد ليالٍ عامرةٍ

حضرت للدار الجثةُ قالتْ:

قالت أشجارُ الليل:

(أنا عارية دثّرْني

ودمي ينزفُ.. لا تلمسْني..

أنا برجُ الشاعر

هو ذا لا يبرح قلبي

وأنا المأوى في اللامأوى..

فتعالَ لموتي كالطعنات

وأقمْ من حولي سوراً للنسيانْ

سوراً من أحجارٍ هائلةٍ،

أسلاكٍ شائكةٍ وجماجم أطفال).

 فالليالي (عامرة) بالموت، الذي يجمع (الجثث) ويصفها الواحدة بجنب الأخرى مثل (أشجار الليل) ليقيم منها (سوراً  من أحجار هائلة/ أسلاك شائكة وجماجم أطفال)، وهنا نتوقف مرّة ثانية ضمن دورة التناص الوجودي أو تناسخ الطبيعة، جثث تتحول إلى أشجار، أشجار تتحول إلى أحجارهائلة، ثم تتحول إلى جثث مرّة أخرى أو ما يتبقى من الجثث بعد التفسخ والاستحالة إلى تراب (أحجار) وهو (جماجم) أطفال. وفي دورة ثانية: أشجار تتحوّل إلى ليل، ليل يتحول إلى سور، سور عبارة عن أسلاك (شائكة). وهنا يتم ربط ساحة الموت (المعركة) بالمدينة النائمة خلف أسوار الليل، هناك الجثث وهنا الجماجم التي تحيل إلى معانٍ عدة. أحدها ما سبق الإشارة إليه من تحلل جثة الكائن الحي بعد الموت إلى مكوناتها الأصلية [من التراب وإليه]، والمعنى الآخر الإحالة التاريخية الدينية على قصة الطف وحمل رؤوس الثوار إلى القصر الحاكم، وهنا تدخل (جيم) الجثة في تناص تاريخي يعيد صياغة سياق الحرب من صراع سياسي مفتعل بين بلدين لأغراض أمبريالية إلى صراع بين الإنسان (جندي) وسلطة الطغيان التي تسوقه إلى الموت لإشباع شهوات [الآلهة المزيّفة]، فالضحية في الطرفين هو الجندي الإنسان لا غير، وهي النتيجة التي اختتمت بها مسرحية حرب البلدين [لا غالب ولا مغلوب!] إلاّ الإنسان/ الجندي. أما المعنى الثالث والمرتبط بالاضافة إلى (أطفال)، وهو إحالة نفسية على الذات (الشاعرة) [أنا برج الشاعر] التي سبق لها أن انفصمت إلى ثلاثة [أنا وعذابي النائم وشخص لا أعرفه!]، أي العودة إلى بداية القصيدة في بناء دائري هرمي مرتفع من الداخل. ودالة الذات الشاعرة التي تتكرر في شعره تتمثل في (الطفل) وهي ظاهرة أكثر حضوراً لدى جيلي الثمانينيات وما بعدهم مما لدى السبعينيين:

 أنا برج الشاعر

هو ذا لا يبرح قلبي

وأنا المأوى في اللامأوى.

 ففي غير موضع يشير الشاعر إلى نفسه في صورة الطفل كما سبق في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) وفي غير قصيدة من مجموعة (حاء). أما إذا أردنا تجاوز ذلك كله للاستقرار على تفسير واحد، نتوقف مع نظرية التطور وفسلجة النمو المشيرة إلى أن عقل الإنسان يتوقف عند عمر السابعة بينما يستمر نمو بقية الجسد حتّى عمر العشرين، هذا الجسد هو الذي يتحلل بينما الجمجمة التي تتكون من مادة نخاعية رقيقة تقاوم درجات الحرارة والضغط:

فتعالَ لموتي كالطعنات

وأقمْ من حولي سوراً للنسيانْ.

حيث يتكشف مدى اليأس الذي يتلبّس الذات (المأوى في اللا مأوى) المطالبة بالبقاء خارج مديات الوعي (أقمْ من حولي سوراً للنسيان) في محاولة للانقلاب على كلّ شيء واستنكاره. وكما يتمثل في طريقة بناء الحوار (إدارة الخطاب داخل النص): [حضرت للدار الجثة قالت: قالت أشجار الليل.. الجثة قالت ذلك، لكن الجثة كانت نائمةً في الدار وما نطقتْ أبداً!]. وفي عبارة (الجثة كانت نائمةً في الدار) إحالة رجعية على عبارة (عذابي النائم كالجثة وسط الدار) في بداية القصيدة، أي نقض إثبات، وتأكيد لفكرة المراوغة والالتفاف على الرقيب التي سبق الاشارة إليها. ودلالة الجيم هي الـ(الجنة) التي وعد بها المتقون، أي أتقياء النظام وضرورته المنتهية، حسب سياسة الدعاية الحربية التي استخدمها كل من البلدين الاسلاميين، بربط الولاء والموت في الحرب بمكافأة (جنة عرضها السماوات والأرض). وبين دوامة الاعلام الرسمي والتأويل الديني البسيط، وقفت (جيم) الشاعر، بل وقف الجيم ميم حاء، متردداً، هازئاً، يواجه قدره بنفسه، ويتساءل، عن أية قيمة، تستحق أن تكون ثمن حياته، أو تجعله قاتلاً أو مقتولاً بينما يتناكح زعماء البلدين [حسب توصيف سليم مطر في القارورة]. ولذا، فهو لا يقاتل، لأنه لا توجد قضية، ولا أمل أو هدف. انه قتال مع الحشيش، حسب تعبير هربرت ريد. ففي بعض قواطع الحرب العراقية الايرانية التي كان الطرفان قريبين من بعضهما، تبادل الجنود البسطاء من البلدين نفس الأسئلة: لماذا تقاتلوننا، هل أنتم مسلمون، هل تحبون علي والعباس؟! في الحقيقة، كان كثير منهم انما يقاتل الحشيش، أن تكون جندياً، يعني بالدرجة الأولى أن تقاتل بالنيابة، وتفعل كل شيء بالنيابة. والنيابة، تعني بفعل الأمر القسري وليس محض الرغبة والقناعة والإرادة:

عارٍ كالتفاحةِ قلبي وعميق كالتابوت

*  

في الفجرِ رأيتُ التفّاحة

تتعرّى في بطنِ التابوت

في الليلِ رأيتُ التفّاحة

تقضمُ رأسَ التابوت.

*   

عارٍ كالتفّاحةِ قلبي ولذيذ كالتابوت.       

طائر الموت -" قصيدة طيور"- (مجموعة جيم)

بكلمة أخرى، جاءت مجموعة (جيم) المحيلة على دلالاتها [الجنون موته أحمر/ كحرف الجيم/ كحرف الجثة والجلجلة والجمجمة] (قصيدة: جيم شين).. والمكتوبة -أي مجموعة (جيم)- خلال حرب الثمانينيات والصادرة مع نهايتها عام 1989 ترجمة هيرودوتية تضمنت قاموساً وافياً مزوداً بالشروح والهوامش، استطاعت قول ما لم يقل في كرنفالات العطايا الدموية:

 آه.. يكفي

فأنا رجل أدبّتُ لساني

حتّى استخفى في الصمتِ

بقناع نبيّ !  

  - قصيدة "إشارات التوحيدي" (مجموعة جيم)-

  مجموعة(جيم) ليست صورة من أدب المعركة، لا بالمعنى السلبي ولا بالمعنى الموجب، ولم تعنَ بوقائع الحرب وتواريخ المعارك. معارك (جيم) كانت تلك (الملحمة) التي جرت داخل الذات بكل ما تضمنته من أسئلة مستعصية نقلت إشكالية الحياة والإنسان العراقي من مشكلة تأمين الخبز والسقف إلى أزمة الذات الإنسانية في مواجهة أضراس العالم الجهنمية، الوجه الآخر لسؤال جلجامش بين الموت والبحر والطوفان والأفعى، عين المفردات والأجواء التي ترددت في قصائد الشاعر.

 إنّ العجز عن تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشرّ دفع إلى إيمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم (مجموعة أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة (نون) [ حبّكِ ناطحةُ سحاب/ حلمتُ بها / وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة/ وحين أكتمل البناءُ العظيم / نسفتُها من الأعماق.] أو الخروج من الراهن للدخول في متاهات المطلق والمغيوب التي مثلت المستوى الآخر (اللذيذ) في معالجات الشاعر للأحداث والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]:

علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل

 والطفل كذلك، والسيف قويّ. والمعنى مكتنز في الرقص

 فارقصْ!

 أخبرتُ الساحرَ أني أعمى لا أعرف إلاّ خيطاً من ذاكرةِ الفجرِ

 وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.

 صرخ الساحرُ في وجهي أرقصْ. قلتُ بأني أعمى.

 هذه الحركة الداخلية العنيفة المترجمة عبر الحوار، هي صورة الصراعات الأرضية العبثية في المستويات الجوانية المترادفة للذات الإنسانية وهي تتعرض لأشرس عملية استلاب ومسخ تضطلع به قوى جبروتية داخلية وخارجية تخلخل موازين الصراع وسياقات الملحمة. إنّ أبطال الملاحم التقليديين كانوا من الآلهة ذات القوى الخارقة، بينما الملحمة العراقية العصرية أبطالها جنود مستلبون في وسط طوفان من الغول وقدرات التكنولوجيا القاهرة، فكيف يوجه الشاعر سيرورة الصراع؟ كما يستنجد جلجامش بالجد الأعلى: أوتونبشتيم ليحضر رمز الأب لانقاذ (الطفل)/ الشاعر في قصيدة مبنية على تناصات دينية جاذبة:

صرخ الساحرُ في وجهي أرقصْ. قلتُ بأني أعمى.

ضحك الساحرُ، قهقه، ثم ارتجف حين تألّقَ وجهُ أبي في

الغرفة. أمسكَ بالعين السوداء فأحياها، أمسكَ بالأذن الجرداء

فأسمعها، أمسكَ بي. اشتدّ المطرُ فخفتُ على ثوبِ أبي الأبيض

أن يتسخ. وقال أبي لا تحزنْ انكَ في عيني. فبكيتُ، نظرتُ،

رأيتُ الفجرَ لأول مرّة.

ووقعتُ على كفّ أبي لأقبّلها، والغيمةُ تعصفُ عصفاً.

وبدا أنّ الأرض ستغرق. قال أبي لا تحزنْ هذا مطر الفقراء،

انظرْ فنظرتُ العشبَ بقامةِ طفل!

 – قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-

وبفهم دلالات الجيم العراقية تتكشف أمامنا دلالات (حاء) المنفى، الخلاص من ربقة الجيم وكابوس البيانات العسكرية الصادرة من رئاسة الأركان العامة/ وزارة الدفاع/ دائرة السوق العام: على جميع المشمولين بالسوق في الدفعة الأولى من مواليد (كذا) والمساقين معهم من المؤجلين لأسباب صحية أو أسباب الدراسة ودافعي البدل، مراجعة مكاتب تجانيدهم في مدة أقصاها (كذا) ومن يتخلف... أنه في لحظات معينة، في بلدان معينة، تكون الحرية أغلى من الحياة نفسها، وفي بلدان يكون الحبّ. أما عندما لا يكون ما يقلق كيان الإنسان، فانّ التعلّق بالحياة ولذائذها يكون قيمة عليا، كما في الغرب. وهذه الحاء، في اشتقاقها المباشر أو انفصامها من منظومة (ج م ح) هي عملية تفريغ لكل الترسبات والاسقاطات ومعارك النيابة والرغبات والمشاعر والأفكار والانفعالات والاحتراقات الداخلية والخارجية، إنها عملية غسيل وتطهير الذات والمخ من أدران مرحلة مظلمة. يقول برتولد بريخت: في الأوقات المظلمة/ هل ثمة غناء/ نعم ثمة غناء/ عن الأوقات المظلمة. فأغاني الخارج، غير أغاني الداخل، أنها مغسولة ومعجونة ومضمخة بمياه الحرية والاندفاع، أغاني الداخل معجونة بالخوف والكوابيس والجمل غير المكتملة. وكما أن الجثة (جزء) من كيان الجندي والجندي جانب من صورة الإنسان، والجثة والجندي مفردتان في قاموس الحرب/ الجيش. وإذا كانت جغرافيا الجيم محصورة داخل بقعة معينة فجغرافيا الحاء فضاء مطلق يتجاوز الكرة الأرضية إلى الوجود الأوسع، الذي لا يمكن تقدير تجلياته بسرعة. لكن تحرير الجثة من [حيز/ مساحة] الجندي، لا يعني خلاصاً من حالة الحرب التي تبقى، أو بقيت مستمرة منذ أيلول 1980، تحولت من الشرق إلى الجنوب، تغيّرت صور ودخل لاعبون جدد وفصول غرائبية جديدة، أصبحت (الرقعة) أوسع حسب التعبير العراقي الدارج، أصبح لها أسماء مثل حرب الخليج الأولى والثانية. ولم تتوقف:

كنتُ ساذجاً

لأنني منذ أن تعرّفتُ إلى الوحشة

نبتتْ لي ذوائب وأنياب

ونبتَ لي تاريخ دمويّ وجغرافيا زرقاء

ونبتَ لي غناء سريّ عميق كالفرات

وزعيق رغبات وحشية

تحاصرني كما تحاصر الدبابة

أعمى في البرّية

ونبتَ لي أنين

طوله مليون سنة.

  - قصيدة "جيم شين" (مجموعة حاء)-

  الحرب ليس لها تذكرة. وليس غريباً أن تكون العلاقة الزمنية بين [جيم/ حاء] رقم النحس (13) لتجسيد دلالات النحس والدمار التي حملها غراب الحرب الأسود إلى أرض السواد. وإذ تحددت دلالة الجيم (جثة)/ موت، فأنّ دلالات (حاء) لا نهاية لها عبرها تدرجها اللوني في [ج(ح)يم] إلى حياة وحب وحرب وحرية. وكما أن المسافة بين الحياة والموت، بين النور والظلام، الوجود والغيب شعرة، فأن العلاقة بين الجيم والحاء، نقطة:

بمسمارٍ طويل

ثقبتِ قلبي

لاهيةً، ضاحكةً، عارية

كشمسٍ تشرقُ فوق البحر

وحين بدأ قلبي ينزف

جمعتِ قطرات قلبي

وكتبتِ بها

كتبتِ بإصبعكِ على صدري:

"الحقد".

فاستمرّ قلبي ينزف

ثم كتبتِ:

"الحرية".

فاستمرّ قلبي ينزف

ثم تعرّيتِ تماماً

وكتبتِ:

"الحبّ".

فتوقف قلبي عن النزيف

وتوقفتْ شفتاكِ عن الهذيان.

  - قصيدة "3 حاءات"- (مجموعة ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)

 هنا تجدر الاشارة إلى أمرين أو ظاهرتين: الأولى: ظاهرة لغوية بنيوية ممثلة في أسلوب التعبير باللغة العربية القائم على استخدام الفعل في -صيغة الغائب- بدون ذكر الفاعل (وتقديره على أنه ضمير مستتر)، أو استخدام الفعل -في صيغة المخاطب- دون وجود ما يؤكد أو يشخص طبيعة هذا الضمير وهويته. مما يمنح التأويل الشعري مديات غير متناهية، وكما يتجلى في فعل الخطاب المؤنث [ثقبتِ/ جمعتِ/ كتبتِ]. أما الظاهرة الثانية فيمثلها حضور المرأة الطاغي في التعبير اللغوي بالعربية. ما إن يستتر الفاعل أو المفعول به وتكون الدالة أنثوية [تاء التانيث، نون النسوة، التاء المربوطة] حتّى ترتسم صورة المرأة وراء المعنى. ففي المقطع السابق، القائم على مخاطب مؤنث، [لاهية ضاحكة عارية] لا يترك مجالاً للشك مدعوماً بكسر تاء المخاطبة، لدى القراءة السريعة أو المسطحة. بينما يمكن تمعّن صورة أخرى خلال ذلك ممثلة في عملية التحول من جمهورية (الجندي/ الجثة/ الجحيم) إلى مملكة الحاء، والدالة هنا هي الحرب التي ثقبت قلب الجندي/ الشاعر بمسمار طويل طوله ثمان سنوات أو خمسة آلاف سنة، هذه الحرب كانت هائلة وطاغية ولاهبة (كشمس فوق بحر) وهي صورة حسية عميقة لا يتصورها من لم يعشها  سواء في الحرب أو البحر. والحرب بطبعها وطبيعتها لم تكن خلال ذلك غير (لاهية ضاحكة عارية). وهي التي جعلت قلب الشاعر ينزف شعراً وألماً، حتّى تشبع ساديتها الهوجاء، متدرجة من الحقد إلى الحبّ إلى الحرية. ونجد هنا الوصف (ثم تعرّيتِ تماماً)، دلالة على انكشاف الغاية واستنفاد الوسائل أو استكمالها، فإذا تعرّت لم يبقَ لها ما تفعله أو تستتر به [غير أن] (توقفت شفتاكِ عن الهذيان) والهذيان هو رحى الموت والدمار أو الكارثة. والحرية بالتالي هي المرحلة التي أعقبت الجثامين والجحيمات. وإزاء أهمية وحضور هذه الأسئلة الوجودية المحيرة، تضمنت مجموعته (حاء) الصادرة بعد مغادرته العراق قصائد بيوغرافية واسترجاعات جميلة من زمان الطفولة والصبا. ففي ظروف مغادرته لوطنه، كانت أسئلة الحياة والموت والحرية والسجن والحبّ والكراهية شاغلة حيزه الوجودي والشعوري والفكري، ظهرت الحاء التي تترقرق في الحنجرة عندما تكون عوامل الخارج أعتى من عوامل الداخل. وهذه "الحاء"، تولد عبرة، دمعة، شهقة، نغرة أو نغزة، حرقة في الحلق، انها تختلج هناك وتمكث مدة، حتّى ليحسب السامع أن صاحبها مات أو شهق أو كاد، قبل أن تسمح بمرور العبارة/ الكلمة، عندها يلمس السامع حرارة الحححححياة، وحيوية الحححححبّ، وحلميّة الحححححريّة، وحرقة الحححلق. الحلق هو قنطرة الحياة، منه يمرّ الهواء والماء والغذاء فتنتشر الروح في الجسد وبدونه لا تكون.  هكذا، فالحاء قنطرة بين الحياة والروح والحرية إلى (الجانب الآخر من عدن). وسنجد أن هذه -الحاء- استحالة رجعية عن فكرة -الجيم- التي واطنت الشاعر في فترة الحرب/الثمانينيات، بعد الغاء النقطة. فهل النقطة هي الموت بالمعنى الدلالي لدى الشاعر، لتكون الحاء انتصاراً للحياة والحرية والحب: (.. فلقد عبرتُ حاجزَ الخوف/ وعبرتُ حاجزَ الحرمان/ إذن ، لم يبقَ سوى حاجز الموت!).

 وبقدر ما تمثل مجموعة (حاء) تجاوزاً لمرحلة الخوف والحرمان والحرب والحصار، فقد تضمنت رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة من ظلمات الجحيم. فكانت أكثر نزوعاً بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها وأكثر انفتاحاً للحبّ:

هذي المرّة

لن تكوني مثل كلّ مرّة

امرأة من لحمٍ ودم

فلقد تعبتُ من دمكِ العاري وجحودكِ الأسطوري

من خيانتكِ التي تشبه مشنقةً دون حبل

وتعبتُ أكثر

من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب

ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين

ولذا

هذي المرّة

ستكونين امرأةً من حرف

أخرجكِ متى أشاء

أمام جمع الوحوش

بيضاء من غير سوء

بيضاء لذة للناظرين.

   قصيدة "غزل حروفي" - مجموعة (حاء).

 

يتبع  ق2

 

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home