دراسة نقدية في ديوانه الموسوم ب "أربعون قصيدة عن الحرف"
خالص مسور- سوريا
ستموت الآن. أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن. لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة تتحمّل كلّ هذا العذاب السحريّ والكمائن وسط الظلام والوحدة ذات السياط السبعة. لم تعد، أيّها البسيط مثلي والضائع مثلي والساذج مثلي،
............... جاءَ نوح ومضى! لوحّنا له طويلاً
.............. وبشمسنا الصغيرة التي تغيّر طعمها وأصبحتْ بحجمِ ليمونةٍ ذابلة. ............. وكنّا لا نطلب شيئاً سوى النجدة!
النجدة! دعنا نصرخ الآن: ال........ن............ج.............دة!
...................... رغم أنها بحجمِ حبّةِ قمح.
............
أرجوك فالشاعر وجد نفسه متغرباً مع شعره وصديقه الحرف على حين غرة حيث لم يألف الغربة ولم يحسب لها حسابها، فكانت الغربة عليهما قاسية عنيفة، عبّر عنها بالعبارات الشعرية الموحية– لم تعد تتحمّل العذاب السحري- الكمائن وسط الظلام- الضائع- الساذج- لكن الشاعر لم يقطع الأمل وبدا ينتظر مع حرفه سفينةَ نوح ليتنقذهما من الغرق في طوفان غربة الروح والجسد. لكن سفينة نوح كما جاءت مضت ولم تنقذهما من المصير المجهول فصارت صرخته المدوية تتردد في كل سهل وواد، يستنجد ولكن ما من مغيث- النجدة..النجدة...النجدة... يا سفينة نوح لكن لاتزال هناك بقية من تفاؤل – أنا لم أفقد الأمل بعد! هكذا يشدّك الشاعر كمال الدين إلى عالم غربته لتشاركه اللحظات الهاربة من أعماق الزمن العراقي المديد، فليل العراق طال والشعب ينتظر الخلاص ومعاناة الغربة تنخر في بنيان الروح والجسد، كل هذا في مشهد تراجيدي رائع وبسطور بالغة الشاعرية والدلالة. والسطر الشعري- لوّحنا لها طويلاً- يدل على استمرار عذابات الشاعر ووجده فيبدو كأحد شخصيات الملاحم السومرية وهو يصارع من أجل حياة تليق بالإنسان العراقي وكرامته، حيث استطاع الشاعر بحنكته الشعرية البالغة الثراء أن يستأثر بفضول المتلقي في حركة انجذابية طائفاً به في محطات حياته الصعبة التي تلفّها الغربة والموت والضياع، لكنها الغربة الممزوجة بالأمل والتفاؤل بالمستقبل وسقوط الطغاة، لتتواصل هنا قصيدته في تواشج وحدة عضوية متناسقة ترتكز على الرابط "حرف الواو" مع إيقاع شاعري متناغم يتمثل في تكرار كلمتي- سنموت- مثلي- وتكرار حرف الحاء في- نوح- لوّحنا- وإيقاع التاء المهتوتة في - النجدة – الطيبة- مما يتوفر على مهرجان شعري طافح بصور الإنزياحات اللغوية وتقنيات الأنسنة والتشخيص، مرصعة في عبارات تشي بالإيحائية والإثارة وجمالية التعبير وصدقه كما في – طفولتنا العارية- شمسنا الصغيرة التي تغيّر طعمها. وفي الحقيقة تتوفر سطوره الشعرية هكذا على لوحات رمزية متتابعة في قصيدة واحدة شديدة التعبير والتماسك الداخلي، حيث نأت اللوحة بنفسها عن التقريرية والمباشرة موحية للمتلقي بغموض شفاف عميق المحتوى ولكن دون المعقد. وهي سمة التجربة الشعرية الثرية التي لمستها لدى أديب كمال الدين في قصائده المثيرة دوماً للمشاعر والأحاسيس الإنسانية. فمن مشهد– الموت- إلى مشهد التعذيب والعذاب- إلى الكمائن وسط الظلام والجلد - إلى الضياع – والغربة والرحيل- إلى سفينة نوح والتلويح لها إلى- الشمس الصغيرة الذابلة...الخ، كلها صور طافحة بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية وتؤكد وتوحي بما ذهبنا إليه آنفاً. وفي قصيدته (دراهم كلكامش) يقول الشاعر: في حديقةٍ أصغر مما ينبغي قدّام لحية كلكامش في المتحفِ العراقي وفوق عشبٍ أكله الحنينُ الرطب ومزّقه الدمع وتحت غروبٍ أثقل من الحجر ضيّع الطفلُ دراهمه السبعة،
فبكى.
كما جاء تحديد المكان بلفتة ذكية جداً تماهى الحدث فيه بين الماضي والحاضر، لتأتي القصيدة معبرةً بدقة متناهية عما تحمله عبارة– قدّام لحية كلمكامش- وحيث اللحية بالمفهوم التراثي القديم رمز الفحولة والأصالة والجلال وأثمن شيء لدى سكان المنطقة وأشرافه. ونجد الشاعر وقد أضفى خياله الجامح على اللغة التعبيرية لقصيدته فأنتج منها لغةً تجمع بين الرؤيا النافذة والشاعرية الفذّة، من خلال عبارات انزياحية ثرية طافحة بالأنسنة والتشخيص كما في- عشب أكله الحنينُ الرطب- مزّقه الدمع- غروب أثقل من الحجر- وصورعاطفية مثيرة ماتعة بالأحاسيس والمشاعر يتداخل فيها الذهني والبصري بما هو حسي ومعنوي في سطر واحد، وهو ما يدل على تجربة شاعرية فريدة لدى أديب كمال الدين. فالشاعر هنا يتمنى ألا يأتي الغروب وأن تبقى شمسُ الحرية ساطعةً فوق سماء بلده والذي يأسف لطفل لا يزال فيه يبكي، ثم حالة اقتران البكاء باندهاش الشاعر واستغرابه – يا إلهي، لِمَ يبكي هذا الطفل؟- جاء لتوصيف حالة نفسية يسودها الكثير من القلق والتوتر موظفاً الرمز في الإشارة إلى التراث العراقي الموغل في الزمن بشكل إبداعي مثير!! حيث تم إسقاط ملحمة كلكامش على الحالة الراهنة لوطنه العراق الذي كان يوماً ما مهد الحضارة والرخاء في العالم، ولكن ملأه الطغاة بالفقر، والتعاسة، والبكاء، والشقاء. كل هذا قد تمّ من خلال إيقاع موسيقي متناسق، وصياغة شعرية فنية محكمة الأواصر للسطور الشعرية. ولهذا يمكننا الذهاب إلى أن شعر أديب كمال الدين نضح شاعري عذب ينهل من أجود ينابيع الشعر العربي وأكثرها ثراءً، ومن أبدع ما فاضت بها قريحة الشعر العراقي المعاصر من صور شاعرية مبتكرة بعيداً عن الإبتذال التقليدي الممل:
قدّام لحية كلكامش فوق عشبٍ أكله الحنين الرطب ومزّقه الدمع وتحت غروبٍ أثقل من الحجر،
أبحثُ في حياةٍ عابرة كملمسِ الأفعى العابرة، كلحيةِ كلكامش العابرة هي الأخرى نحو غروبٍ أثقل من الحجر.
كان من الممكن أن تكوني أكثر ثراءً أكثر بهجةً وجمالاً لو سمحتِ للطائرِ المحلّقِ خلف النافذة بعينين دامعتين وجناحين بريئين بالطيران قليلاً فوق سريركِ العاري.
سقطَ الماضي فاحتجَّ الحاضر وخرجَ المستقبلُ في مظاهرةٍ حاشدة.
.................... فاختفت الشمس وبكى العشّاقُ جميعاً بدموعٍ من لوعةٍ وندم طوال ذلك اليوم المشؤوم.
............... فبكى كرسيّه الذهبي وبكتْ كلابه الشرسة وبكتْ بوّاباتُ سجنه العظيم. هنا كان الشاعر في سباق مع حروفه الأثيرة فيبالغ في عشقه لها، وبها استطاع إيصال مفهوم النص بكفاءة عالية وبومضات ايحائية بالغة الدلالة والثراء، فكانت الأطياف ألواناً ربيعيةً شفيفةً تبدو من خلالها ومضةُ التأمل واللحظة المثيرة وصعود الإبتهالات الصوفية مخترقة حجب السموات الإلهية. والملفت في الأمر هو هذه النظرة التفاؤلية وسقوط طاغية العراق في لوحة تراجيدية في غاية الجمال والتعبير، حيث الطاغية سقط وتشتت كلابه وانفتحت أبواب سجونه الرهيبة وتحرر العراق، نعم تحرر من قيود العبودية وبات يحلق في فضاءات الحرية والخلاص.
ويرينا المشهد الشعري وبشكل واضح تمرد الشاعر على نمطية الصورة الشعرية
والتعبير اللغوي فيعيد خلقها من جدبد مفجراً الطاقات التعبيرية للألفاظ في
ارتكازه على زخم البنى الإيحائية العميقة والتي تجمع أواصر النسيج الشعري إلى
البؤرة المركزية للنص، مما أضفى على الدلالات رموزاً إيحائيةً في منتهى
الشاعرية والإيحاء. **************************************** أربعون قصيدة عن الحرف- شعر: أديب كمال الدين- دار أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان 2009 نُشرت في مواقع دروب وأدب وفن وعروس الاهوار والنور بتاريخ 9- 10- 2009
|