تاريخ من دمع الحروف:

 

الأرق.. طريق العزلة.. طريق الخلاص الشعري

 

 

 

فاروق سلوم

  

  تستيقظ النقطة، وهي دلالة الحروف، ورمزيتها لتتحول عند أديب كمال الدين الى مرموزات شعرية مكثفة في كتلتها الصغيرة: النقطة.

 واذا كان للصفر كل هذا التاريخ الشرقي الباهر المختلف عليه فإن الشاعر وهو يحمل نقطته الى المنافي، قد قرر أن يحول هذه النقطة التي لاتمثل وطناً ولا وجوداً الاّ في وجدان الشاعر، لتصير وطناً في مخياله، ثم لتصير تجربة شعرية عريضة لشاعر اختار أن يعمل بهدوء مثل نحات في مشغله القصي:

 

حبيبتي أيتها النقطة

أيتها الحمامة

أيتها الصخرة الملقاة على حافة النهر

.......................

أيتها الدمعة اللؤلؤة

كيف أجدك الليلة؟

 

ولم يكن الشاعر، من بين مجايليه، غير صورة الذات الدؤوب على اجتراح طريق الشعر، حين اختار حروفيته الخاصة منكباً على معالجة الحرف بأبعاده الثلاثة، في اللغة والدلالة والمرموزات التي تحمل رسالته المعرفية.

 لقد أثار أديب كمال الدين الأسئلة الممضة حين اختلى وحيداً بالنقطة، في إثارة لكل وساوس وحدوس الشرق الشكوك القلق، مفسراً كل لحظة مع هذه المخلوقة الوئيدة التي تسببت بكل هذا الأرق لشاعر سرّاني.. ملخّص.. وكتوم مثل حدود النقطة وفضائها الخالص.

لكن أديب كمال الدين إثر مجموعاته الشعرية، التي انشغل على اضهارها كرؤية لشاعر اختص بطهرانيته الخاصة، طهرانية الحرف وعروسته النقطة، وهو يرسم  خواصه ويطلقها في بيئة صعبة من الثقافة القلقة لبلاد هاجسها اختبار الآخر الى درجة التعب المضني، ووسط موروثات ثقافية  وسياسية وفكرية ملبدة بغيوم الأسئلة لكنه خرج من مكمن الحرف الى أضيق مناطقه المعرفية.. حين أعطى النقطة كل دلالة وكل رمز في طريقه الصعب الوحيد..

 

الأرق صديق الشاعر:

 

اليوم وقد اكتملت دورة الشاعر بلغته العربية ليركب طريق الشعر الصعب، الكتابة أو الترجمة الى الإنكليزية كما في قصيدته (أرق)  التي نشرتها مجلة Meanjin)) الأسترالية في  عددها 2 لعام 2007 مجلد 66 كما تم اختيارها ضمن أفضل قصائد الشعر الأسترالي لعام 2007 حيث ظهرت في كتاب أعده وقدم له الناقد بيتر روز...

 

نمْ

فالوردةُ قد سقطتْ في البئر

وانفضَّ الأولاد

يا عيني أضحتْ عينكَ مئذنةً ورمادْ

الساعةُ قاربتِ الفجرَ ولا أحد يؤويك: فمَن يؤوينا؟

 

هذا الشجن الذي يكتب به أديب كمال الدين يعيد الى شعرنا الحديث روحه التي افتقدها جراء التجريب الفظّ.. حيث يخرج شعر جيله من  المشرحه القاحلة التي تعرضت لها القصيدة  ليجلسها وسط مخلوقاتنا الحية، وهي يثمر حواساً تعطي وجودنا الأحساس بأن العالم ما يزال شاباً :

 

كفّكَ فارغة إلاّ مِنْ رائحةِ الآسْ

إلاّ مِنْ حلمٍ

يمتدّ ليصهر دائرةَ الناسْ

ورداً وفراتاً ونخيلاً 

أتعبنا الجري وراء السنوات

قد أتعبنا حرف كالثورِ الهائجِ: كيف نروّضهُ

بأظافرنا، وأظافرنا مُلئتْ بأنينِ الدمِ وأنين الراسْ

 

لقد اختار أديب كمال الدين عزلته منذ وقت بعيد، بل اختار أن يظهر في انتقائية خاصة، هي جوهر انطوائية الشاعر وخصوصيته بعد أن رآى  كيف يستباح الشعر والشاعر بأقدار  يرسمها الآخر أو بأقدار الشعراء انفسهم، وقد اختار هو أن يسهر وحيداً يضم حروفيته في عزلات الأغتراب والوحشة حتى قبل امن يحمل حقيبته ليمضي:

 

نمْ..

يا مَنْ أسقطتَ الوردةَ في البئرْ

يا مَنْ اسقطتَ الوردةَ في بئرِ الحرّاسْ

وبقيتَ، الساعةَ، درويشاً أعمى

يبكي في الظلمةِ شمسَ الله

نمْ..

لا عاصمَ، هذي اللحظة، مِنْ أمرِ الناسْ

والناسُ نيامْ.....الناسْ. الناسْ.

 

هذه القصيدة القصيرة بكل كثافة اللغة، وقد اختيرت بين أكثر من عشرين نصاً لشعراء يكتبون أصلاً بالإنكليزية، لتوضع في كتاب سنوي يؤرخ انطولوجيا لسيرة الشعرالأسترالي،  إنما يشكل تتويجاً لبحث الشاعر في مكنونه الشعري عن فضاء اللحظة الشعرية ونقائها، حيث يستطيع الشاعر كمال الدين أن يتواصل مع ثقافات أخرى. وأرى أن الدأب الذي اشتغل عليه الشاعر، إن كان في مجموعاته الشعرية، أو دأبه الشعري  في الغربة البعيدة،  إنما يؤكد عمقه  وخصوصية تجربته وهو ينحت في فضاء النقطة.. مكاناً!!

 

**************************

نُشرت في صحيفة الزمان بتاريخ 19 تشرين الثاني- نوفمبر 2007

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home