تحت عنوان «النخلة» يكتب الشاعر أديب كمال الدين هذا
النص:
لم نكنْ أذكياء بما ينبغي
لنقدّم ولاءنا المطلق
إلى النخلة.
انشغلنا بأدويةِ ضغطِ الدم
ومُسكّناتِ الألم.
لم نكنْ أذكياء، إذن،
رغم أننا نعرفُ بهدوءٍ لا
يسبقُ العاصفة
أنّ النخلةَ رمز الله
بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.
وهي صورة حرفه
وبوّابة نقطته
وبيت نبيّه
وسكينة مريمه.
انشغلنا بأخبارِ الفيضان
وأسماءِ مدنِ الزلازل
والنكبات
وأسعارِ العملاتِ وعُري
النساء العجيب.
وحدّقنا كثيراً في تيجان
الملوكِ الظَلَمة
وقصورِ شعرائهم السَفَلة.
كنّا أرضيين تماماً،
واأسفاه,
ولم نرفعْ الرأس
لنرى النخلة
ببهائها السحريّ
ولطفِها الإلهيّ
وبركتِها الأموميّة
وحنانها الأخضر
ورطبِها الذهبيّ
إلا في آخر لحظة
يحتفي أديب كمال الدين بجوهر الشعر وماهيته
الحقيقية التي تومض من خلال
الموقف الحياتي، ومن خلال
المشاهدة والتأمل، ومن خلال اللغة
الأليفة الدانية التي تعبر عن هذا
الموقف وتلك المشاهدة. فليس في
أسلوب الشاعر معاظلة أو التواء،
أو تحايل بياني أو بديعي في
الصياغة، بقدر ما فيه من
الانسيابية والصدق والإشراقة
اللطيفة. وعليه فإن الشاعر
يشتغل أكثر على المعنى الكلي الذي
يسكن في بنية النص ويتشكل عبر
رحلة الكتابة. والشاعرية في نصوصه
كامنة في الإيحاءات العامة التي
تطّرد بتؤدة أثناء فعل القراءة
وتترسخ لدى المتلقى وتجعله يلاحق
تدفق النص واطراده إلى منتهاه.
ففي النهايات دائماً هناك لون من
الوصول الأخير الذي يشبع توق
القارئ ويملأه بالغبطة والفهم.
وبسبب تلك التلقائية في التعامل
مع شعرية الحياة، نجد الشاعر يكرس
مجموعته: «أقول الحرف وأعني
أصابعي» بكاملها لقصيدة النثر،
حيث يصافح النص عصب الوجود في
أكثر صياغاته طفولة ووضوحاً. لكأن
موسيقى الوزن بقصديتها الفاقعة
تعوق تدفق البراءة وتحاصر عري
الحروف. والشاعر يريدها لغة برية،
ضالة، (خارجة عن القطيع) كما
يعبّر. وقد كرّس الشاعر الكثير من
النصوص التي يعقد فيها حواراً
مباشراً مع (الحروف) كجواهر أولى،
متمنياً عليها ألا تفقد بكارتها
وبياضها. يقول في نص «وصية
حروفية»:
حين يجلس الحرفُ قبالتك
لا تتكلمْ قبل أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حين ينطق
وابكِ حين يئنّ
وقبّلْه في جبينه المضيء
حين يقبّلك
في جبينكَ الذي أكله التراب.
وحين يغنّي
قمْ فارقصْ
فسيكون الحرفُ نايك
بل سيكون طائركَ الأبيض
محلّقاً في السماءِ الزرقاء.
وحين يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحبّ
(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحبّ)
ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوق الماء!
ولعل الشاعر استطاع من خلال لغته النثرية أن
يقنعنا بمدى شعرية هذه النصوص،
سواءً ببنائها الأسلوبي أو
بصياغتها لقضايا الإنسان وهو
يحاور هشاشته وغربته ووحدته
النفسية في عالم ملغز وعصيّ،
ومناوئ لأحلامه المشروعة.
ورغم المقاربة الشعرية التي تحتفي باللغة الطيعة
الأليفة، إلا أنها لم تخلُ من عمق
المعنى ومن الحوارات الفكرية
والنفسية الموغلة في التفاصيل
والمنعطفات. يستعين الشاعر على
ذلك بالتناص مع القصص الديني
والشخصيات التراثية والأدبية
المؤثرة مثل نبي الله يوسف
وجلجامش والحلاج وزوربا .
كذلك نقع على
أمثلة من الإسقاطات الذكية
والانزياحات المدروسة فيما يتعامل
معه من مرجعيات التاريخ والتراث.
يفتح الشاعر في الكثير من نصوصه
فضاء التواصل مع غيره من الشعراء
والفنانين والمبدعين، يرثيهم أو
يفتقدهم أو يحاورهم، وكأنهم
امتداد لذاته ولشجرة الذاكرة
والهمّ الجمعي.
*****************************************
* أقول الحرف وأعني أصابعي – شعر: أديب كمال الدين. الدار
العربية للعلوم ناشرون، لبنان –
بيروت 2011
* نُشرت في جريدة الجريدة الكويتية العدد 1800 المؤرخ
في 27 نوفمبر- تشرين الثاني 2012
|