الشعراء
يحملون ذكرياتهم دائما حتى لا يشعرون بالوحشة في
غربتهم، فيودعونها المرايا لكن ذاكرة المرايا سراب
و السراب حجاب لما بعده.
تصوّر أن القصيدة مرآة و أنكَ تدخل في تلك المرآة
تجتاز هذا الانعكاس الهلامي للضوء على سطح المرايا
وتنفذ عبر هيولة الزمن: أنت الآن داخل القصيدة،
عين الشاعر المتأملة في ذاتها أولاً وفي الأشياء
من حولها تماهي لغة المرايا
التي هي ذاتها تبدأ من نقطة لا محددة لتنتهي
بذاتها مرة أخرى.
استغرقْ واهماً في هذا الخيال الإبداعي وتأمّلْ
هذا
المدى اللانهائي،
وتسأل: هل يمكن الإحاطة بهذا الأفق المطلق؟
إن تتعدد مرايا القصيدة ومساقط الضوء عليها يؤول
المعاني، و الرؤى، في سرها الأبدي، وزمنها المطلق
في هذا الفيض الأخاذ والاستقصاء الآسر
للحظتها العلوية بانتشائها الميتافيزيقي وإشراقها
الصوفي مرددة تلك الإيقاعات كنشيد أزلي حتى يقول
الشاعر أنا القصيدة.
فيصبح الشاعر شفيفا رائقا كالضوء، كما لو أنه يذوب
شيئا فشيئا خلف كلماته؛ يبحث عن تأييد لخياله
الإبداعي وهو يتشكّل عبر انثيالات المعاني وما
تقترحه الانزياحات من دهشة وانبهار بانعكاساتها
المباغتة والمتناغمة مع غبطة الضوء ومساقطه تقودنا
باتجاه احتمالات رؤاها ودلالاتها وتأويلاتها التي
لا سقف لها، ونحن دائما نرتقّب دائما أن تحقق
وعودها وتمنحنا ما نحلم به؛ وتجيبنا على
شجن الأسئلة الوجودية.
فالقصيدة أوسع من رغبة
المرآة في اظهار حقيقتها.
الشاعر أديب كمال الدين مسحورا بالحروف يفتح نوافذ
القصيدة على سلافة الأماني والأحلام ، ويدعونا
لندخل إلى عالم الحروف المقدسة تلك الحروف التي
تستوحش وحدتها فتشتاق إلى المعاني في الكلمات
والكلمات هي القصيدة والقصيدة هي مرآة ذات الشاعر
فالشاعر الحقيقي هو ذات قصيدته.
إن
بعض سجايا
القصيدة
هي استقصاءات لأحلامنا والاستغراق في تكوين
الأسطورة
لإقامة يوتوبيا أرضية متخيّلة وسط ركام الصور
والمعاني ونثار الأحلام والتحصن داخل عالم القصيدة
المفترض والذي أنشأه خياله الأبداعي.
هكذا تولد القصيدة مرّة أخرى
ظليلة بأفقها الذي يتسع
رمزا وتأويلا وإيحاءا منتشيا بدهشة الانزياحات
والإيقاعات بدلالتها المفتوحة بقصدية
تحفيز الرؤية
لدى المتلقي، فهي قصيدة ولوحة شعرية في آن واحد،
لا تقل أهمية عن الفكرة التي تعبر عنها من حيث
الجمال والدلالة الرمزية، تكاد الحروف وكذلك
الكلمات تكون حرة في الارتقاء وبانتسابها
إلى أصلها المطلق المكتمل
وتجاوزها القصيدة
نحو التأويل (الميتاقصيدة) ومن تجاوز
المحسوس نحو صوفيتها؛
من خلال شاعريتها التي تنعم بالمطلق وحركتها
وانسيابيتها خلال المجازات، و الإيقاعات، وتناغمها،
بما يجعل المعاني
بانزياحاتها تؤول نفسها وتعيد إنتاجها مرّة إثر
أُخرى
كالموجات
بينما راحت القصيدة تتسلل إلى قلبك كالضوء عبر
عتمة الليل.
هكذا ستتمدد الكلمات
والأحلام فوق رصيف القصيدة
وسيعلق في ذكرتنا الكثير منها،
وسنجد أن الحياة متحقق الوجود فيها.
أغنية إلى الإنسان
وسنقدم
في هذه القراءة ثلاث قصائد من الديوان :
ففي قصيدة "أغنية إلى الإنسان" حوّل الكلمات إلى
موسيقى وأفكار ووضعنا بافتراضاته باتجاه أنفسنا
كأننا أمام المرآة. يقول أديب كمال الدين:
هذه أغنية أعددتُها لكَ،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّثُ
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتُحاولُ
بإصرارٍ كبير
أنْ ترسمَ لها جَناحين
وعشّاً في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ
لا اسمَ له
ولا عنوان.
إن لغته رغم مرتباتها الذهنية والتأملية هي لغة
مرئية
تعبر عن هواجس الشاعر المفترضة
والتي صارت قصيدة دوّن فيها الحلم، لتصبح القصيدة
خلاص لأرواحنا،
وجعلنا نرى الأشياء كأننا نراها لأول مرّة أو لا
نستطيع أن نراها الا من خلال القصيدة.
نهر سحريّ
وفي قصيدة "نهر سحري" حوّل الكلمات إلى نهر
سحري، احتوى الحياة كما يراها الشاعر:
كنتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً
كي لا أغرق.
في الحقيقة،
أنا غرقتُ فيه أكثر مِن مَرّة.
فانتَشَلَني حبّي السحريّ لمنظرِ السمك
وهو يلبطُ في ماءِ النهرِ الشفّاف،
كما انتَشَلَتني بقايا مخلوقاتٍ آدميّة.
لابدَّ أنْ أعترفَ:
كانَ هناك بعض المخلوقاتِ الآدميّة
قربَ هذا النهر السحريّ
لكنَّ هذه المخلوقات قد تبخّرتْ
أو انتحرتْ أو احترقتْ
في الحروبِ التي حاصرت النهر،
في الحرائقِ الهائلةِ التي أعقبتْ هذه الحروب،
في أعمالِ السلبِ والنهبِ المُذهلة
التي أعقبت الحرائق
وشاركَ فيها الجميعُ بسعادةٍ لا تُوصَف.
قال الذئب: أنا هو البحر!
وفي قصيدة "قال الذئب: أنا
هو البحر!"
نجد أن اللغة مشعّة ومتموجة وعاكسة للمعاني
كالمرايا في تكوينها الأول ؛ فذاكرة المرايا سراب
تخفي خلفها حجب ، تحتوي الصورة وضدها فلدينا هنا
البحر بزرقته اللامعة تحت الشمس وأمواجه المفتونة
بزبدها الأبيض ورذاذ الماء؛ والصورة المقابلة له
ذئب يبتسم بعوائه الملتوي كالخطيئة أو كذنب لا
يُغتفر، وبين الصورتين يبدو الشاعر الغريق بين
لجّة البحر وعواء الذئب يطلب من الذئب أن ينقذه
فيجيبه الذئب: أنا هو البحر، فتتحول الأمواج إلى
ذئاب تعوي ويتحول هذا العواء إلى ليل طويل. الشاعر
يتحول إلى رسام يذكرنا بفان كوخ لكن بشخصية
سلفادور دالي، ولغته تذكرنا بالشاعر ريلكه لكن
بشخصية المعري، فنذهب معه إلى مطلق الفكرة تاركين
خلفنا لجّة البحر وعواء الذئب ولجّة الوقت. يقول
أديب كمال الدين:
كانَ الذئبُ يمشي على شاطئ البحر
حينَ استغاثَ به الغريق.
ضحكَ الذئبُ ممّا يرى.
لكنَّ الغريق صرخ:
أنقذني من البحر!
ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال:
أنا هو البحر!
الشاعر شكّل فضاءَه
الشعري بلغة تشكيلية
دينامكية اعتمدت على حركة الأشياء و
طاقة الاتصال بينها
فهو يقترب
كل الاقتراب من الإمساك بكلّ ما هو عابر وزائل في
لحظته الشعرية و يعيد إنتاجه من جديد، بلغة مزج
فيها الظل والضوء والصوت والصدى الصورة وانعكاس
صورتها في القصيدة وفي ذات المتلقي جعلنا أمام
المرآة وخلفها في آن واحد،
فقدّم ابتكاراً
جمالياً خاصاً فهو صهر الكلمات والحروف، وصنع مرآة
لحروفه؛ وهي القصيدة نفسها التي حملت قلق اللحظة
الأولى، وانعكاسها على ذات الشاعر، هذا
القلق الذي رافقه طويلا، فتحوّل إلى جماليات
ومفردات شعرية واسترسالات لغوية تحفل بها نصوصه
والتي تتلألأت في فضاء تناغم في سعته بين التأمل
والتأويل.
***************************
في مرآة
الحرف، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف،
بيروت
، لبنان2016
*
نُشرت
في جريدة الصباح البغدادية 4 تشرين أول-
أكتوبر 2016
|