ـ 1 ـ
حين
يبلغ ولعك ووجدك بنص ما، أو
مجموعة نصوص، الدرجة اللطيفة
والنقية والسامية فإنّ عين الرضا
تجعل ذلك النص يزدهر عند تخوم
النقد، لا في أعماقه وأقاصيه..
هنا يكون للكتابة- عن النص-
بهاؤها الخاص وجماليتها الفريدة..
أسمّي هذا اللون بـ (الكتابة
العاشقة؛ أنْ تكتب بمحبّة).. هذه
المحبّة ليست موجّهة لشخص كاتب
النص - بحكم علاقة صداقة طويلة
مثلاً - بل إلى النص ذاته، حيث
الحكم عليه يأتي بعد قراءته
وتذوّقه وتمثّله والانبهار به،
ومن ثم تقويمه.
أنْ تكتب بمحبّة،
هذا لا يعني أن تعمى، تهمل،
تتجاوز، تغفل عن الأخطاء، وتتقبّل
كلّ شيء على علاته. بل على العكس
ـ وهذا ما يجب أن يحصل ـ فمحبّتك
تقودك إلى الحرص، وإلى تنبيه مَن
تحب إلى زلاته واختلالات نصه، كي
لا يكررها أو دعوته إلى عدم
إظهارها للآخرين
قبل
إيجاد الحلول- التقنية والبنائية-
لها. وهي الكتابة كما أفترض التي
تجنِّب من تكتب عن نصِّه الشطط
والحكم المسبق وتدخّل الأهواء
السلبية. ولكن كيف نتأكد أن
الكتابة العاشقة المُحِبّة لن
توقعك تحت هيمنة أهواء من نوع
مختلف، وهذه المرّة إيجابية؟!
صباح الأنباري
يتقن هذا النمط المشع والجذّاب من
الكتابة. وهو إذ يشتغل على نصوص
الشاعر أديب كمال الدين فإنه يكتب
قصيدته الشخصية التي ألهمتها إياه
قصائد أديب؛ قصيدة في لبوس كتابة
نثرية جادة لها بعدها النقدي، غير
أنه ليس النقد المدرسي الجاف وليس
النقد الصحافي الأخواني..
فالأنباري في هذا الكتاب يمنحنا
تجربة استمتاع بقراءة كتاب نقدي
كما لو أنك تقرأ نصاً إبداعياً..
وإذن كيف نصف هذا الجنس من
الكتابة التي هي قراءة لنص آخر
والكتابة عنه؛ أنطلق عليها تسمية؛
النص الموازي للنص الإبداعي، أم
النص المجاور له، أم النص
المكمِّل الذي يرتاد فراغات النص
الأصل ويبرقشه؟
هذا الكتاب ليس
نصاً اعتباطياً شاحباً عن نص آخر،
ولا حتى نصاً على نص.. إنه نص
متولِّد من نص آخر ـ هو نص أديب
كمال الدين ـ يقرأه ويضيئه، يكشف
معانيه وظلال معانيه.. يصل إلى
قيعانه، وإلى عتماته، ويستنطق ما
أخفاه، ما أضمره وحجبه، ما سكت
عنه.. نص يحفّ بالنص المقروء
ويحتضنه أكثر مما يتقدم عليه أو
يعقبه.. يتماهى معه، يعكسه وينعكس
فيه.
هذا الكتاب لا
يمكن عدّه محض قراءة انطباعية
لقصائد شاعر.. إنه أوسع أفقاً
وامتداداً من ذلك على الرغم من
الحضور النسبي للرؤية الانطباعية
فيه أيضاً. وهو ليس نقيصة على أية
حال.. فأن تجعل من كتاب نقدي دعوة
حقيقية لقراءة تجربة مبدع ما
فلابد من لمسات انطباعية تمنح
الكتاب رونقاً وطراوة ودفئاً وقوة
إغراء.
صحيح أن الأنباري
لم يلتزم بمنهج نقدي معيّن من
المناهج الشائعة التي نعرفها.
لكنه بالمقابل لم يكن يحتطب حطب
ليل.. كانت له استراتيجيته
المنهجية الخاصة التي تستمد
فاعليتها من معرفته بمفاهيم
وآليات عمل المناهج، لاسيما
الحديثة منها، ولكن من غير
التقيّد الصارم بمعاييرها الحدّية
وطرق اشتغالها.
ـ 2 ـ
تقرر ندرة الشيء
قيمته ـ هذا ما يقوله لنا علم
الاقتصاد السياسي . والبحث عمّا
هو نادر تحرِّكه، غالباً، الرغبة
في الحصول على ثروة. بيد أن هناك
ندرة من نوع مغاير؛ النادر الذي
لا يمكن امتلاكه وتسليعه، وبيعه
في السوق.. النادر الذي يثوي بين
الأشياء وفي الأشياء وليس من أحد
بمقدوره اكتشافه غير الشاعر ـ
ومنْ ينطوي على روح شاعر ـ والذي
يحوِّله في مصنع الإبداع بمادة
الكلمات وكيمياء المخيّلة إلى صور
مدهشة.. ما يرمي إليه الشاعر هو
صناعة الدهشة، لا الثروة
المادية.. يلتقط الشاعر النادر؛
النادر الذي قد يكون شاخصاً
أمامنا ولا نراه بحكم اعتياد
نظرنا على رؤية الأشياء
المألوفة.. ولنتأمل- مثالاً - كيف
خلقت رؤية بدر شاكر السيّاب إلى
ساقية نحيلة اسمها "بويب"، وإلى
قرية صغيرة وفقيرة اسمها "جيكور"
تلك الأعاجيب الشعرية المذهلة.
كان السيّاب يعكس جمال دخيلته
وفائض محبّته ونقاء حزنه على نهره
وموطنه فيحيلهما إلى فراديس، وإلى
أسطورة.
أديب كمال الدين
لم يذهب إلى رؤية العالم خالي
الوفاض. ذهب وفي كنانته قبضة من
حروف. كانت الحروف مادة خيميائه
وتميمته ونافذته ومفتاحه.
عرف أديب
أن الحرف مفتاح باب الوجود،
ومفتاح القلب.. مفتاح الجسد
والعقل والروح.. الحرف مفتاح،
والحرف عالم مغلق يحرِّض العاشق
الرائي على فتحه.. الحروف مفاتيح
بعضها لبعض، وعوالم تتداخل بعضها
في بعض.. لكل حرف جسد، ولكل حرف
روح. وفيهما ما فيهما من أغوار
ومسالك وثراء وغموض جسد الإنسان
وروحه. ولكأنّ الحرف صنو الإنسان
ومرآته. ولكأنّ الإنسان يتكشف كما
البحر في قطرة، وكما الكون في
إنسان، في صورة حرف وروحه. وإذن
كم من الأسرار والألغاز والأحجيات
تختبئ في الحرف الواحد. ذلك أننا
نتشكل وعياً ووجوداً بالحرف، بضوء
الحرف وسحره.
الحرف دال، إنه
الدال الأول، الدال البكر، الدال
ما قبل الخليقة، الدال الذي يرهص
للوجود، الدال الذي ينبئ بالمسار
والنهايات، الدال الذي يفصح عن
الكينونة وقوة حضور الإنسان في
العالم. الدال المُعين في إدراك
الذات والآخرين، الدال الذي إن
انكشف عنه الحجاب غمر العالم بنور
المعارف.
وإذ راح أديب كمال
الدين يحاكي رؤى وتجارب أعظم
متصوفة تاريخنا وهو يقيم أبراج
قصائده على أسرار الحروف، استعار
صباح الأنباري منه بلاغة المتصوفة
ومسالك معارفهم وطرقاتهم في فيافي
اللغة ليكتب نصه الذي يصل بنص
أديب كمال الدين بوشائج سرّية
وقويمة. ذلك النص المفعم بالطراوة
والجمال،
والضاجّ
بالتأويلات.
قد نتفق مع
تأويلات الأنباري أو نختلف معها،
لكنها التأويلات الذكية التي تثير
انتباهنا وتجعلنا نقف لوهلة....
ونفكِّر.
ـ 3 ـ
في منظور الروائي؛
العالم رواية كبيرة، معقدة، بخطوط
سردية متشعبة، لا تُحصى.
في منظور الشاعر؛
العالم مكان لإثارة دهشة دائمة،
ومنبع لصور يجري احتواءها
بالكلمات.
في منظور المسرحي؛
العالم خشبة مسرح هائلة تُؤدّى
فوقها دراما الحياة.
في منظور الناقد؛
العالم نص مفتوح لقراءات وتأويلات
لا نهاية لها.
يجمع صباح
الأنباري في هذا الكتاب بين
منظوري الأخيرين؛ الفنان/ المخرج
المسرحي والناقد.. فحتى وهو يرتدي
قناع الناقد فإنه لا يستطيع أن
ينسلخ عن جلده المسرحي، وحتماً لا
نريده أن يفعل، فهو في هذه الحالة
يعطينا رؤية استثنائية لعالم أديب
كمال الدين الشعري. فنراه يستدعي
مفردات من قاموسه المسرحي؛
الشخوص، الذروة الدرامية، اللبوس
الدرامي، النهايات.... الخ.
وإذ ذاك
يريد أن يشخصن، لا الحروف وحدها-
محور قصائد أديب ومادته ولعبته-
ولا الكلمات وحدها، بل فضاء
القصائد أيضاً، ويؤنسنها.. إنه
يتحرّى عن الفعل الذي هو روح كل
عمل مسرحي، في القصائد حتى وإن لم
يخبرنا بهذا. إن الفعل هو في
حقيقته صراع نقيضين أو أكثر..
تتبارى الأضداد وتتشاكس وتقاتل
لكنها تتحد أيضاً في معادلة
الوجود حسب ديالكتيكها الخاص..
ولأنّ الشاعر ينحاز للحياة فإنه
لا يقدر أن يتجاهل شبح الموت
المهدِّد، المترصد، والواقف خلف
النافذة. وبهذا يختار الأنباري
الموت ثيمة رئيسة في قراءاته
لمنجز أديب كمال الدين.. الموت
الذي هو شكل من أشكال الغياب، أو
هو أكثر تلك الأشكال تراجيدية
وغموضاً.. الموت الذي من غير
التمعن فيه فلسفياً وشعرياً لن
نستطيع أن نفهم الحياة.
نحن نعيش في عالم
متنوع، متلوِّن، متحوِّل،
ومتناقض.. هذا هو قدرنا وعلّة
مجدنا وعاقبة بقائنا أحياء.. فيما
مأساة الوجود تكمن في أنك تدافع
عن حياة لم تخترها؛ لم تختر أن
تولد، ولم تختر زمن ولادتك
وموطنك، ولا الأسرة التي تنتمي
إليها. كما أنك تقاوم احتمال
الموت الذي ليس بمقدورك - إنْ لم
تقدم على الانتحار- أن تقرر
توقيته وشكله وطقسه ومكانه. وفي
هذه المنطقة الشائكة والملتبسة
يخوض الشاعر تجربة الكتابة..
الشحنة التراجيدية
في قصائد أديب عالية.. ليس هناك
من كوميديا أو سخرية واضحة، وإنْ
لم تعدم قصائده قدراً من التهكّم
الخفي.. التهكّم الذي مصدره
الإحساس بالإحباط والعجز أمام هول
الأحداث وفجائعية القدر. ولهذا
يفاجئنا أديب كمال الدين، على
الدوام، في المتن بمعترضات تواجه
خط القصيدة في لحظة ما، أو موضع
ما، من النص. وهي معترضات تمنح
القصيدة سمة طباقية ومن ثم بُعداً
حوارياً.. إن الصراع المحتدم على
مسرح القصيدة يشي بحوار ساخن،
معلن أو خفي، أو مسكوت عنه، في
زاوية خفيّة منها. نقرأ مثلاً؛
"في الطريق إلى
الموت:
الموت القديم
المقدّس
فاجأني موتٌ جديد،
موتٌ لذيذٌ بطعمِ
السمّ،
موتٌ لم أحجزْ له
موعداً أو مقعداً".
المفارقة ثمة
جليّة وصادمة، لا على الصعيد
البلاغي وحسب، بل على صعيد
الدلالة والمعنى كذلك. وهي تعبير
عن مأزق الكينونة الإنسانية في
مواجهتها لمصيرها.
هذا ما يرصده أديب
ويحيله إلى نص يستمد تعقيده
وإبهامه وتقاطعاته وسحره من
العالم الذي يصوِّره. عالمٌ يعيد
صياغته ويُومئ إليه.. أما
الأنباري في قراءاته لقصائد أديب
فإنه يصل متون النصوص بخارجها،
بحياة مبدعها، وبالحياة في صورتها
الكلّية، المحتدمة والمتناقضة.
فهو لا يكتفي في محاولاته بسبر
جوانيّة
القصائد
والوقوع على أبنيتها الداخلية
وأنساقها المضمرة بل يعمد إلى
اكتشاف روح الشاعر وشذرات من
سيرته، تلك التي بعثرها في
قصائده. فما يبغيه الأنباري في
النهاية هو قراءة سيرة الشاعر
الوجودية والذهنية والعاطفية في
نصوصه. فإذ يقرأ القصيدة عبر نسق
بنائها وما تخزن من معاني ودلالات
فإنه يلجأ أيضاً إلى حياة الشاعر؛
إلى طفولته الفقيرة وأحلام شبابه
الآخذة بالتبدد، ومنفاه، وغربته؛
غربته الواقعية، وغربته الوجودية
في الآن معاً.
يماهي الأنباري ما
بين الشاعر وشخوص قصائده. لكأنّ
الشاعر يتحدث، ها هنا، على
ألسنتهم وعبرهم، ويرى في محنتهم
محنته. وربما كانت رغباته الخبيئة
المكبوتة تجد متنفسها في بعض
فعالهم ومواقفهم. ويُعْلمنا
الأنباري أنّ قصيدة أديب ما هي
إلا تمثيل فني لواقع عاشه الشاعر
وخبره وتمثله، وها هو يؤدي دور
الرائي الشاهد من خلال استثمار
ممكنات اللغة، والقدرة السحرية
الموّارة للحروف.
كان يمكن
للأنباري، لو أنه تقمّص وظيفة
الناقد السردي الكاشف عن البنى
السردية للقصائد أن يتحدث عن
الرواة
داخلها
لا فقط عن الشاعر المبدع خارجها.
ففي سبيل المثال لو أخذنا قصيدة
(حارس الفنار قتيلاً) فإنه
بقراءتها في بعدها السردي كان
يمكن لتأويله أن يغطي مناطق أشد
غوراً في أعماق القصيدة. فالقصيدة
على الرغم من ارتكازها على حدث
واقعي (مقتل الشاعر المعروف محمود
البريكان غدراً) إلا أنها تنطوي
على شحنة رمزية وجودية عالية، وهي
تحكي عن تراجيديا الحياة
الإنسانية في هذا العصر الشائن
والمضطرب. فالقصيدة تمثيل
بالكلمات والصور لتلك التراجيديا.
وأظن أن هذا يوافق كذلك توجّه
الأنباري كما في رؤيته لفضاءات
القصائد بوصفها مسرح حياة صاخبة
تتشح بهالة مأساوية.. ولابد من أن
أنوّه إلى أن الأنباري نجح في
تطبيق قراءة تناصية للقصيدة وهو
يضعها في مواجهة قصيدة البريكان
(حارس الفنار).
ـ 4 ـ
كل كتابة جيدة هي
اختراق، هي إزاحة عن مركز وسياق
وتقاليد، وتخطي عتبة إلى منطقة
بكر، وقارة وجودية لم يسبق لأحد
ولوجها. ولقد أراد أديب كمال
الدين، بطريقته الخاصة، أن يحقق
هذا مطلاً على مديات الإبداع من
نافذة الحرف، لتصبح قصائده تجربة
ذات ملمح صوفي عرفاني بطاقة شعرية
خلاقة.. وصحيح أنه ليس الوحيد
الذي فعل ذلك، من بين الشعراء،
لكن فرادة تلك التجربة وسعتها
والتي غطّت معظم مساحة منجزه
أسّست لمشروع إبداعي ثري ومميّز..
فما كتبه ليس كشوفات مجردة في
عالم الحرف، أو تقليداً مفتعلاً
لبعض نصوص المتصوفة التي جعلت من
الحروف مفاتيح لفكّ ألغاز الخلق،
وإنما مغامرة دخول على صهوة
الحروف إلى متون العالم واستجلاء
قوة الحروف وجمالياتها في علاقتها
بالكائن والماوراء والزمان
والمكان والجسد والروح والحرية
والحب والموت.
هذا الكتاب
احتفالية سارّة يقيمها مبدع اسمه
صباح الأنباري على شرف نصوص مبدع
آخر اسمه أديب كمال الدين.