أديب كمال الدين أمام مرآة الحرف

 

تدفّق معاني الألم  في شعريّة السيرة الذاتيّة

Image result for ‫أحمد الشيخاوي‬‎

أحمد الشيخاوي/  شاعر وناقد مغربي

 

 

تجدر الإشارة إلى أنه كان  ينبغي أن أعيش هذه الوقفة ذات النكهة الخاصة جدا، وأنتشي من خلالها بطقوس أجدد منجز ورقيّ للحروفيّ الأوّل صديقي الوفيّ أديب كمال الدين، وذلك عقب بضع أيام  وليس أكثر ،من لحظة تسلّمي نسخة مجموعة "في مرآة الحرف " القيّمة والصادرة  ــ مؤخراً ــ عن ضفاف/ بيروت .

حرص على موافاتي بها أخي المبدع الرائع، وقبلها بأسابيع قليلة،  أضمومة" رقصة الحرف الأخيرة " و" الحرف والغراب" تباعا ، وهما بدورهما، لا ريب، تشيان بلذاذة السرد  وتحجبان جملة من عناصر الإدهاش والاكتناز بمفاجآت لا يمكن إلا أن ينجذب إلى رحابها المتلقي الشغوف بكل جديد مستساغ ومؤثر فكرا وعاطفة لكن ... على نحو يجعلنا نؤجّل تناولهما تحليلا ودراسة وتقييما .

كانت تجدر بي  مباشرة ذلك في حينه، بيد أني ارتأيت ضرورة ترك الانطباعات الأولى المتولّدة جراء الاصطدام المخملي بتلكم التحفة الكلامية النادرة، تركها تختمر أكثر وآثرت خيار تعريضها لمرجل اللاوعي إذ يفرض المزيد من الانتظار، في محاولة مني للحفر والغوص أعمق ما يكون في عوالم منجز لم يحد عن سكة السهل الممتنع قط ، شأن أولى خطوات أحرف هذا الشاعر الجوهرة بحق ، الشيء الذي يمنحه فرادة ومناغاة خاصة للذائقة ورسوخا في الوعي والذاكرة.

نحن بصدد مجموعة تحوي بين دفتيها عشرات القصائد تتوزّع وتتنوّع مشدودة إلى نواة سيرة ذاتية متشبعة بآليات التحول باعتباره صبغة العصر وطابعها الطاغي ..

 تلكم هي تقنية تحويل الألم إلى أنشودة تحتفي بالإنسان وترتقي ببشريّته أقصى ما يكون  متجاوزة  ثقافة اختلاف الألسن والحدود والأعراق، إلى الكونيّة وأنسنة حتّى ما يمكث منضو تحت لواء كينونة الخدمة الرافدة في مصلحة ومآرب الإنسان بحد ذاته، بما في ذلك المكون الطبيعيّ، فضلاً عن الحرف وأهميته القصوى في تشكيل الترجمة الحقيقية والصادقة للمعاناة مع التوظيف المحكم للمعجم الثري بالمفردة الخفيفة على اللسان والمكتظّة بألوان المعنى  المجاور لعجلة التطور وإفرازاته، والمكرّس لدوال الانزياحات المقبولة والتكثيف المطلوب.

يصدح شاعرنا في أحد نصوصه الدالة بشكل أقوى على ما سبق أن فذلكنا له:

"ربعُ حرف

نصفُ نقطة

ثلاثة ُ أرباع صرخة؛

تلكَ قصيدةٌ حروفيّة

انتحرَ شاعرُها البارحة

بعد أنْ تناول جُرْعَةً زائدةً مِن الألم."

وفي مناسبة أخرى محيلة على استئذاب الإنسان ووظيفة الفم في تخليق وتفعيل فلسفة النار والدم والموت وتشويه المرايا واغتيال الحلم المشروع، يقول:

الموتُ لا يشبهُ الذئبَ ولا الأفعى،

الموتُ يشبهُ نفسهُ فقط.

ذلك هو بيتُ القصيد.

*

في زمننا المُعَولَم

توقّف الشاعرُ عن الحلم،

فتوقّفت القصيدة

عند إشارة المرور الحمراء طويلاً

حتّى قيلَ إنّها أخذتْ تتسوّلُ من العابرين.

*

بعد خراب البصرة

وخراب بغداد

وخراب روما

وخراب سدني،

جلستُ بهدوءٍ أرتّبُ حياتي.

وعن سرمدية السؤال الصوفيّ والوجوديّ المخضّب بخلطة الهذيان والشظايا والدخان، في خضمّ ترتيبات أنويّة تنشد محاكاة الآخر وتكملته دون تذويب هوية الذات أو طمس أو خدش حتى لملامح الخصوصية والاستثناء ، يهمس شاعرنا بما تطرب له جوارحنا وتهتزّ:

"لم أستطعْ ، بالطبع،

أنْ أجيبَ على هذا السؤال الذي يتّسع

كلّ يوم

ويكبرُ في كلّ ساعة.

كانَ السؤالُ طويلاً طويلاَ،

مليئَا بالهذيانِ والدخانِ والشظايا

ونقاطِ التفتيشِ والارتباكِ والممنوع.

وكان الآخَرُ يطلُبُ منّي

أن أقدّمَ الدليلَ تلو الدّليل

على صحّةِ ما أقول

أنا الذي لم يكنْ لديَّ ، أصلاً ،ما أقول.' "

ثمّ يقول وهو يقربنا من مسرح الرفض المهذب، منفقا طاقة بوح كاملة في اتهام جسد المرأة وثقله الخرافيّ في زرع مغريات من راحتيها يجني الراهن بعض ما يتخبّط ذات اليمين وذات الشمال فيه، دون أن ينزع عن المرأة، بالطبع، رداء الطفولة والبراءة وصناعة الأمل والمَخرج من مأزق  استنطاقات المكبوت إلى  بشائر كوة مستقبلية قد تبدد ضباب الحيرة الآنية وتنسف دياجي الروح:

لا تقتربْ من النار

فأنوراها خادعة كجسدِ المرأة.

ولا تذهبْ إلى مدنِ الجسورِ واللذّةِ والبواخر

فالجسورُ مُحدَّبة

واللذّةُ لغمٌ يطفو فوقَ الماء

والقبطانُ لا يكفُّ عن شُربِ الكحول

وشتمِ العابرين ليلَ نهار.

لا تلبسْ،

ولو على سبيلِ المزاح،

جناحَ الطائر

فالفجرُ قتيلٌ على عتبةِ الدار.

ولا تشاهدْ فلمَ الدموعِ والحرمانِ والمرايا السود

فقد شاهدتَه ألفَ مَرّةٍ ومَرّة

ولم تفهمْ منه

أو مِن دموعه الثقالِ شيئاً.

*

يا مَن أنفقَ العمرَ مُتأمّلاً

في الآفاق

وفي نَفْسه الضائعة،

لا تكلّم البحرَ بعدَ اليوم

فهو لا يحبُّ الحديثَ مع الغرباء،

رغمَ أنّه غريب هو الآخر.

ولا تثقْ بالأسطورة

فهي أكذوبة التاريخ،

ولا بالرواية

فهي مَهووسة بمَن لا أسماء لهم

وهم يتساقطون مِن حائطِ الذاكرة

أو مِن شبّاكِ الفندق.

لا تثقْ باللوحة

فهي خربشة ألم

ولا بالتمثال

فهو عابد جَسَد.

وأخيراً

لا تمتدح القصيدة

فهي ستنتهي بعدَ سطرٍ مِن الآن،

دونَ مغزى أو معنى،

وهي تكرّرُ: لا ولا ولا.'

وعلاوة على القصائد المفقّرة النّشطة ضمن حدود تبئير المعلومة الأم وإشباعها بخطابات حلزونية الالتفاف والتمحور على مركزية الموضوعة، حدث ترصيع جسد المجموعة بالنصّ الكتلة في تأرجحه بين شخصنة الهمّ وعالمية الرسالة ضمن قوالب رائقة جدا تضع المتلقي إزاء مرايا حروف ترسم سيرة ذاتية موغلة في  مغامرات اختلاق أسباب الصلح الذاتي ومضمّدات جراحات تتخطّى الذات الشاعرة لتغور في سيرة تدفق هذه الأحرف بدورها، مجددة للمعنى ومتقلّبة في لا محدودية أبعاد مستويات تقاطعات رؤى التصوف وانفعالات المعيشيّ.

على سبيل المثال لا الحصر" إيلان في الجنة" و" تناص مع النون" و" حرف الطاغية" و" اتصال هاتفي" و" لون لاحرف له" و" تشبّث" التي من أجوئها ترنّم شاعرنا قائلا:

إنها ليستْ حياتي،

لكنْ حدثَ أنْ مُتُّ،

متُّ منذ زمنٍ طويل،

فلما أفقتُ وجدتُ روحي

قد تشبّثتْ بهذه الحياة الغريبة

كما يتشبّث المَشنوق

بحبلِ المشنقة.'

 

************************

    في مرآة الحرف : شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home