يُعدَ صدور المجلد الثاني من الأعمال
الشعرية الكاملة للشاعر العراقي
المغترب أديب كمال الدين، يُعدّ فرصة
سانحة لقارئه، في تكوين صورة كلية عن
منجزه الشعري. المجلد الذي صدر هذا
العام عن منشورات ضفاف، ضم المجاميع
الشعرية التالية: النقطة ، حاء، ما
قبل الحرف..ما قبل النقطة.
عُرف الشاعر السبعيني أديب كمال الدين
باشتغاله على الحرف، وعلى قدر ما كتب
كمال الدين من قصائد حروفية استغرقت
مجاميع مجلديه الأول والثاني، فإنه
على ما يتحصّل لنا من قراءة منجزه،
مؤمن بأنه لم يستغور بعد الطاقات
الروحية والوجدانية والجمالية للحرف
العربي كلها.أوضح مثال على ذلك ما
كتبه د. حسن ناظم عن اشتغالات كمال
الدين فيقول "إن قراءة شعر أديب كمال
الدين عبر مجموعته "النقطة" تشبه إلى
حد كبير ما قاله في إحدى "محاولاته":
في
سُلّمِ الحظّ
كلّما صعدتُ درجةً هوتْ تحتَ
ناظري
وبدا
السُلّمُ عميقاً حدّ اللعنة.
إنها تشبه "سلّم الحظ" تماما، فنحن
كلما ظننا بأننا نشرف عليها، ونحيط
بتفصيلات كافية لتقديم معرفة يصددها،
بدت أكثر عمقا، وأكثر سعة، وأكثر
تناقضا أيضا": الكتاب ص 378
وإلّا ليس من المعقول إصرار الشاعر
على اشتغالاته تلك، إن لم يكن محملا
بذلك الإيمان بالبؤرة العميقة للحرف
العربي.
عديد نقاد وأكاديميين درسوا تجربته
أكدوا تلك البؤر وتمظهراتها، فالناقدة
والأكاديمية الدكتورة حياة الخياري
ترى أنه (لا يفقد الخيط الناظم بين
الماهية اللغوية للحرف باعتباره
"رابطة" والاستعمال المجازي للحرف
بمعنى "الألم المعنوي والأدبي"، لكنه
يصهر تلك المعاني الرمزية المتوارثة
بالبعد الصوفي التجريدي": ص 379
يبتدئ الشاعر عناوين عديد قصائده في
مجموعة " النقطة" بكلمة محاولة،
ويردفها بشبه جملة من جار ومجرور،
مثلا" محاولة في الرثاء"، "محاولة في
السحر"، ما يعني أن الشاعر ينفي
الاكتمال النصي في اشتغاله الشعري في
الحرف ودلالاته وتمظهراته، غير
متناسين دلالة العنوان الرئيس
للمجموعة" النقطة"، ما يعني أن كمال
الدين اشتغل في جميع جزئيات لغة
الضاد، بدءا من النقطة.
في نص " أنا النقطة" يمركز الشاعر
أناه في النقطة، تمركز يخلق له عالما
شعريا يحلق فيه بعيدا:
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلعِ البطين
أنا خرافةُ الثوراتِ وثوراتُ الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
التحليق الشعري لكمال الدين منطلقا من
حروفياته، يعبّر عنه الناقد د. فاضل
عبود التميمي بقوله: "إذا كانت نصوص
الشاعر قد اهتدت إلى ما سماه النقد
ب(الحروفية) التي نقلت الشعر، والشاعر
إلى آفاق معرفية، وأسلوبية مميزة، فإن
الحروفية نفسها أخذت برقاب نصوص
الشاعر الجديدة إلى حقل الإشارات
المطلقة تلك التي تغامر في خطاب الذات
العليا، وهي مكبلة بالمحن، والأسرار،
والحروب، والمتناقضات الضاجة بسؤال
الوجود" :380
محاولات كمال الدين لا تقتصر على
حروفياته، بل يجعلها مركز أناه
الشعرية، لكي يشعرن البحث في موضوعات
أخر، كي لا يتهم من انه قولب شعريته
في الحروفيات فقط. يقول في قصيدة له
بعنوان"محاولة في الكتابة"
:
كتبَ الشاعرُ عنوانَ قصيدته.
كانَ متعباً كرأسٍ مقطوع
ووحيداً كصحراء سقطتْ في البحر
وموحشاً كقبرٍ ينتظرُ جثّةً سرقها
اللصوص.
وإذ حاولَ كتابة قصيدته
حاصرهُ الرأس
وطوّقته الصحراء
وسخرتْ منه الجثّةُ والقبر
وألقى اللصوصُ القبض عليه فرحين
مسرورين :66
في هذا المقطع وغالبية مقاطع القصيدة
أعلاه، ثيمتها الشاعر ومعاناته مع
الآخرين، فهو المتعب الوحيد
الموحش،الحزين، الفقير، كما في
المتوالية التي مركزها الفقر ومحيطها
تأثيراته السلبية:
المرأةُ في المرآة
والمرآةُ في الحمّام
والحمّامُ في الطبل
والطبلُ في الدينار
والدينارُ في الفقر
والفقرُ صديقي
والفقرُ أحبّتي، أهلي،
شعبي وشمسي". 68
أديب كمال الدين أنسن الحرف، لمنحه
طاقة روحية مشعة عاكسة لكل الهموم
الإنسانية، كأنما الحرف مثل كل كائن
حي:
سقطت النون
وتحوّلتْ إلى
عاشقٍ أبله
وامرأةٍ أذلَّها الدهر
فسلبَ منها طيورَها الأربعة
وشبابيكها الأربعة
وتاءَ لذّتِها التي ألقت القبض عليّ
بتهمةِ التلصّص. 40
****************************************
نُشرت في ملحق (بين نهرين) الذي تصدره
جريدة الصباح البغدادية 14 كانون أول
- ديسمبر 2016
|