http://www.adeebk.com/plaz/img24.jpg

 

 

 

 

 

 

الحرف والغراب

The Letter and the Crow

 

شعر

أديب كمال الدين

Adeeb Kamal Ad-Deen

 

 

 

 

 

 

 

منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان 2013

 

كُتِبتْ قصائد المجموعة في أستراليا في عامي 2011 و2012.

 

لوحة الغلاف للفنّان التشكيلي نور الدين أمين

والتنفيذ للفنّان سامح خلف

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قالَ ألمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لن تسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرًا.

الكهف : الآية 74 - 75

 

 

 

 

 

 

القصائد  

الغراب والحمامة   9

مُثلّثات          12

لوركا          14

دروس          17

زائر شقّة البارك رود   23

قنّينة جان دمّو    26

نوم       29

مُبادلة     32

بطاقة تهنئة   35

مطرب بغداديّ  39

ملكة؟ عارفة؟ ساحرة؟   42

تسعة عشر مقطعاً   46

حديقة     53

الليلة الأخيرة لسيلفيا بلاث   56

لافتات يوسف الصائغ      58

عفيفة اسكندر              61

ورقة بيضاء     63

عبد الحليم       65 

لقاء             67

أعشاش         70

شهرزاد        72

قال الحرف: ما معنى النقطة؟     75

مُهنّد الأنصاريّ ثانيةً             77

فتى النقد                         79

تفّاحة وهم                       82

هيّا بنا نضحك!                  84

مطار سنغافورة السعيد           86

فيروز                           89    

أخي الكافكويّ                   92

الملك المسكين                   96

دوستويفسكي                     99

شين الموت                      100

فنادق                            102

آثار أقدام                       104

حياة                            105

لغة منقرضة                    107

مائدة في بانكوك                109

كيف؟                          111

مهرجان شعريّ                113

أيّة أغنية هذه؟                  115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الغراب والحمامة

1.

حينَ طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.

وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

2.

حينَ عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون

صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.

لكنَّ الغراب سرعان ما عاد

ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:

أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟

اقترب الغرابُ منّي

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال.

3.

نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،

يتقدّمهم نوح الوقور

وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.

حاولتُ أنْ أوقفَ

شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.

فاقتربت الحمامةُ منّي

ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:

حفنةً صغيرة،

مليئةً بالغموضِ والأسرار.

4.

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال.

والحمامةُ تضعُ فوقَ جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد!

 

 

  

 

 

 

 

مُثلّثات

1.

على مائدةِ الخوف

أرى مثلثَ السُلْطة:

رأسه إلى الأعلى،

ومثلثَ الرغبة:

رأسه إلى الأسفل،

ومثلثَ القوّة:

رأسه إلى اليمين،

ومثلثَ العبثِ والسأم:

رأسه إلى اليسار.

2.

وحين أمدُّ يدي

لأرى مثلثَ السرِّ،

أعني مثلثَ الحرف،

فإنَّ المثلث يدورُ على نفْسه كالمجنون،

يدورُ، يدورُ، يدور

ليريني في الأعلى طفولتي الحافية،

وفي الأسفل صباي الغارقَ في النهر،

وفي اليمين شبابي المحاصرَ بالشظايا والدخان،

وفي اليسار شيخوختي التي تشبه

مسافراً سعيداً

في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جهنم،

القطار الطويل السريع الذي لا يتوقّف

في أيِّ محطّةٍ أبداً

رغم احتجاج الركّابِ ودموعهم وصيحاتهم!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لوركا

1.

سيقتلكَ فرانكو

أو أتباعُ فرانكو

أو رصاصُ فرانكو.

وستموت

بل ستشبعُ موتاً

أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة

مثلما الحياة

لم تشبعْ منك.

2.

سيبكي عليكَ القَتَلة

وأشباهُ القَتَلة

وأعداءُ القَتَلة.

سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك:

إخوةُ يوسف

مثلما سيبكي الشيخُ الكبير

والمرأةُ التي جُنّتْ بحبّك

والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.

حتّى الذئب سيبكي عليك!

3.

وسيبحثون عن قبرِكَ المفقود،

سيملأون الصحفَ بأخبارِ قبرِكَ المفقود

وأخبارِ عظامِكَ التي ضاعتْ وصارتْ ترابا

وسيذرفونَ الدموعَ كلّ يوم:

دموع التماسيح من دون شكّ!

4.

لكنْ لا يهمّ أيّها الغرناطيّ الجميل،

لا يهمّ يا مَن يسيرُ الدمُ العربيُّ

في عروقِه المضيئةِ بالشوق،

لا يهمّ أيّها القتيلُ دونَ قبرٍ أو شاهدة،

لا يهمّ يا مَن كانَ الهواءُ يجرحُ قلبَه،

فقصائدُكَ الملونّةُ كموعدِ حبّ

واللذيذةُ كملعقةِ عسلٍ في فمِ طفل،

قد عبرت الأزمنة

وطارتْ فوقَ القارّاتِ والأمكنة

وطارتْ فوقَ الحدودِ ونقاط ِالتفتيش

وطارتْ فوقَ غيومِ المستحيل

حتّى صارتْ تشارك أهلَ الأرضِ أحلامَهم

وتضيء لهم وحشتَهم الفسيحة

وتكفكف دموعَهم وحرمانَهم.

هكذا امتلأتَ بالحياةِ إذنْ،

يا أيقونةَ الشِعْر،

وصارت شمسُ الأنهارِ سفينتك

وقمرُ الفضّةِ دليلك

وشعراءُ الفجر في كلِّ مكان

نوافذَكَ التي تتألقُ بحروفِك

أيّها الغرناطيّ القتيل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دروس

 

درس الفرات

********

بعد أنْ لعبنا معاً

ورقصنا معاً

وأطلقتُ نقطةَ القلبِ فيه لأوّل مرّة،

بعد أنْ غرقنا معاً

وسكرنا معاً

وسفحنا دمنا الزكيّ معاً

وضعنا معاً

مثل طفلين يتيمين في السوق،

قال لي الفرات

في لحظةِ صدقٍ عجيبة:

انجُ بنفسك!

ففائي أكذوبةٌ

ورائي محضُ خيال.

رغم أنّ تائي طويلة،

أطول من سفينةِ نوح!

قالَ لي: انجُ بنفسك!

فلم تعدْ هناك

فوقَ مائي الذي يمتدُّ من أقصى الخرافة

إلى أقصى الغيمة،

ومن أقصى الشمس

إلى أقصى الحرف،

لم تعدْ هناك – صدّقني- أيُّ سفينة!

ولم يعدْ هناك – واأسفاه- أيُّ نوح!

 

درس الطائر

********

من بين جميع الكائنات

اخترتُ الطائرَ ليعلّمني الحكمة.

قلتُ له: أيّها الطائر في البرّيّة

علّمْني الحكمة!

قال: سأعلّمكَ الطيران.

قلتُ: لا أستطيع، ينقصني الريش.

قال: إذن، سأعلّمك

كيف تجعل يديكَ ترفرفان

كجناحين لتقتربَ من نفْسِكَ على الأقل!

 

درس كلكامش

*********

في السابعةِ من عمري

أضعتُ دراهمي السبعة

وأنا أنظرُ إلى تمثاله الواقف

عند باب المتحفِ العراقيّ

وهو يرعى لحيته الطويلة.

وفي السبعين من عمري

أضعتُ سبعين عاماً من عمري

وأنا أنظرُ إلى تمثاله الواقف

عند باب المتحفِ العراقيّ

وهو يرعى خيبته الكبرى!

 

درس النسيان

*********

حينَ ركبتُ غيمةَ شبابي

جاءَ مَن يسألني أنْ أبيعها له.

وحينَ رفضتُ بقوّة

جاءت الريحُ فدفعت الغيمةَ مِن تحتي

لأسقطَ إلى الأرض،

لأسقطَ كلّ يوم

دونَ أنْ أكفّ عن هذا الدرس.

أعني أنْ أكفّ عن تذكّرِ هذا الدرس المخيف،

الدرس العصيّ على نفْسه

وعليَّ

وعلى النسيان!

 

درس النون

*********

كلُّ مَن تكتبُ في النون

أو تُسمّى بها

ستركبُ مركبَ القسوةِ ذات يوم

من ميناء قلبي إلى بحرِ هلاكي.

حتّى تلك التي تماهتْ مع النون

ورسمتْ لها لوحةً من الشمسِ والماء،

لوّحتْ لي، دونما نقطةٍ أو سبب

وهي تركبُ مركبَ الليل،

 بسيفِ القطيعة

ودرعِ الجفاء!

 

درس الوهم

*********

سألني الطبيبُ بعد أن أعيتْه حالتي:

هل أنتَ مصابٌ بمرضٍ ما؟

قلتُ: نعم، أنا مصابٌ بمرضِ الشعِر!

قال: لم أسمعْ بأعراضه مِن قبل!

قلتُ: إنّه مرض الوهم:

مرضٌ يجعلني أفكّرُ ليلَ نهار

أنْ أعيدَ ترتيبَ ذاكرة الماضي

لأجعل حرفي ملكاً سعيداً

وهو المشرّد المنفيّ،

وأجعل نقطتي بهيجةً

وهي الضائعة أبداً!

 

 

زائر شقّة البارك رود 

إلى: عماد حسن

 

1.

لن يزوركَ أحدٌ في شقّةِ البارك رود

سوى الله

وصديقٌ طيّبٌ ينكرُ على الله

أنْ يقولَ للشيء: كُنْ فيكون.

بل هو ينكر أنّ اللهَ كائنٌ

أو سيكون في نبضةِ الروحِ

حرفاً من الشمس.

2.

سيزوركَ هذا الصديقُ كاللصّ

في آخر الليلِ والبرد

وهو يحملُ موتاً خَفيّاً بين أضلاعه.

ستقولُ له كلَّ نون

وستسحرُه بالحروفِ وأسرارها

وستدهشُه بكهيعص ويس وطسم وألم.

ستنتابُه الحيرةُ وقتاً طويلاً

وسيذكرُ في لحظةِ صدقٍ أثيرة

أنّه قد رأى ذاتَ يومٍ سفينةَ نوح،

وأنّه كانَ هناك

حين أرادوا أنْ يحرقوا إبراهيم،

وأنّه شاهدَ معجزات موسى وعيسى،

وأنّه شاهدَ بدراً

ورأى فعْلَ سيفِ عليّ العجيب.

وسيذكرُ في لحظةٍ غامضة

أنّه قد بكى دمعاً غزيراً في كربلاء

حينما رُفِعَ رأسُ الحسين فوق الرماح.

ثُمَّ بعد هذا جميعاً

سينهضُ في آخر الليل

وهو ينكرُ أنَّ الله

هو الذي خلقَ الكافَ والنون

وأقامَ السماءَ حتّى آخر الكون

وطوّقنا بالدهرِ والموت،

وبعثَ الريحَ والبحرَ والزلزلة.

وبعثَ نوحاً بطوفانه،

ومن بعده كانَ إبراهيم

ليسأل،

وموسى ليلقي عصاه.

سينكرُ صديقي كلَّ هذه الكاف،

بل كلّ هذه النون،

وهو يلبسُ معطفَه المطريّ

في آخر الليلِ والبرد

ليخرجَ مبتسماً

من شقّتي في البارك رود

في هدوءٍ عجيب.

 

************************************

* البارك رود شارع رئيس في ضاحية أوبرن بمدينة سدني.

 

 

 

 

 

 

 

قنّينة جان دمّو

ضميرُنا المُستتر،

ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار،

ضميرُنا الذي يصحو

كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه

وفكاهاته التي تشبهُ طيوراً ميّتة،

حتّى ينام في آخر الليل

سعيداً كيتيمٍ طُرِدَ من الملجأ

مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة،

وقنينةُ الخمرةِ قربَ رأسه

تحرسُه بشخيرِها العميقِ من الكوابيس

ومن أفاعي بغداد

وعقارب عمّان

وكناغر سدني.

ضميرُنا الذي يكتبُ الشعر

دونَ أنْ نقرأ له قصيدةً واحدة!

ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة

وشعراءَ الطغاة

والشعراءَ المرتزقة

والشعراءَ السَفَلة،

ويحقدُ على الزمانِ الذي لم يمنحْه

سوى وسام العربدة

وعصا الصراخِ بالحقيقةِ المرّةِ كالعلقم.

ضميرنا الماجن العابث الطيّب حدّ اللعنة

وجدوهُ ذاتَ يوم

ميّتاً تحتَ جسر سدني.

كانتْ قنّينةُ الخمرة

قد تعبتْ من شدّةِ صراحته

ودموعه الطفوليّة

ووحشةِ قلبه التي عجزت الملائكةُ والشياطين

عن فهمِ وجعِها اليوميّ وعذابِها السحريّ.

قنّينةُ الخمرةِ هذه

كانتْ صديقته الوحيدة،

صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه

بهدوءٍ أسْوَد

وهي تقبّله بشغفٍ أسْوَد

قُبْلةَ الحياة.

 

نوم

1.

عند نصب الحرب

رسمتُ نافورةَ الحرفِ مليئةً بالدم.

فاحتجّ الطغاةُ وشعراءُ الطغاة،

وبكتْ جثثُ الضحايا

حتّى قامتْ إحدى الجثث

من نومِها العميق

وكتبتْ في أعلى النصب:

حذارِ أنْ تغيّرَ الدمَ أو لونَ الدم!

2.

كلّما سمعتُ أغنيةَ عشقٍ

تذكّرتُ قلبي

وخفتُ أن يرتبك

في نومه الكابوسيّ السعيد!

3.

المرّة الوحيدة التي أفقتُ فيها

من النومِ سعيداً

كانَ الوقتُ عيداً.

وكانَ حذاءُ الطفولةِ الأحمر

قربَ مخدّتي

يحرسُ سعادتي!

4.

لِمَ تنام؟

النومُ عادةُ السعداء والمُهرّجين

وأصحاب الملايين أيضاً.

أما الشعراء فلا ينامون

يكفيهم النوم

وسط أحلامهم المضمّخة بالدموع والحرمان،

ووسط قصائدهم التي تكاثرتْ

ولم تعدْ تكفيها

مصاطبُ الحدائقِ العامّة.

4.

من أصعبِ الأدوارِ المسرحيّة دورُ الذيل،

خصوصاً ذيل الكلب!

هكذا قالَ مفسّرُ الأحلامِ السكران

بعد أنْ خرجَ من مسرحِ الببغاواتِ الكبير.

5.

نام الطاغيةُ منذ زمنٍ طويلٍ في القبر

ولم يزل الناس

يتناولون أحلامَه البشعة

مع الخبز والبيض والشاي

صباح كلّ يوم!

 

 

 

  

مُبادلة

 

أعطني،

أيّها الحرف،

نقطةَ باءِ بغداد

وسأعطيكَ طابعَ النسر

بمنقاره المعقوف

وذكرى حروبه البشعة.

أو أعطني

نقطةَ باءِ بابل

وسأعطيكَ طابعَ رأسِ كلكامش

وقد قُدَّ من صخرةِ الخيبةِ والخذلان

بعدما سرقت الأفعى

عُشبةَ الروحِ منه

وهو نائمٌ يتوسّدُ حلمَ الخلود،

أو سأعطيكَ

رأسَ صباي الذي كادَ أنْ

يلقي بنفْسه في لُجّةِ النهر

فألقاها بعد أربعين عاماً

وهو يتأمّلُ في البحر،

في لُجّةِ البحر.

أعطني،

إذن، أيّها الحرف،

نقطةَ نونِ سدني

وسأعطيكَ

طابعَ امرأةٍ من فتنةٍ واشتهاء

بيدها زهرة من هباء،

وطابعَ كهلٍ يهذي قصائده المتشظّية

وهو يقلّب كفّيه

على ما أنفقَ من عمرِه

في شقّتِه الضيّقة.

ولن أعطيكَ طابعَ الجسرِ المحدودب

فالجسرُ،

صدّقْني،

لا يؤدي لشيء.

ولن أعطيكَ طابعَ الأوبرا

فكلّ موسيقاها الهائلة

تسحقُها قطاراتُ المدينةِ كلّ يوم،

قطاراتُ المدينةِ التي لا تكفّ

لحظةً واحدة

عن ممارسةِ الجنسِ والليلِ والموت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بطاقة تهنئة

1.

أعطوك

– ربّما عن طريقِ الخطأ-

بطاقةَ تهنئةٍ بالعامِ الجديد:

كانتْ شجرةً مُثلّثة

بخمسِ حماماتٍ بِيض.

لم تعرفْ، بالطبعِ، مَن المرسل.

ولم تعرفْ لِمَ لم يسلّموها إليكَ باليد،

ولِمَ وضعوها قربَ عتبة الباب

ثُمَّ اختفوا

دونَ أنْ يكتبوا عليها أيَّ شيء.

2.

قبلَ أربعين عاماً،

ربّما أكثر،

وصلتْكَ مثل هذه البطاقة.

وكتبتَ عنها

قُبْلةً، قُبْلَتين.

أعني قصيدةً، اثنتين،

كتاباً، كتابين،

ربّما أربعين كتاباً.

وحلمتَ بأنّكَ الطائر

بل وقفتَ على جبلِ القصيدة

وأفردتَ ذراعيكَ كجناحين

وسقطتَ في الوادي

كما هو مُنتَظَر.

وكانَ سقوطكَ مُدوّياً

كلُّ الحروفِ سمعتْ به:

الحاءُ التي بكتْ

والراءُ التي ارتبكتْ

والتاءُ التي امتدّتْ طويلاً

كبحرٍ عظيم.

كلُّ الحروفِ سمعتْ به

إلا الألف-

الذي هو أنت-

تظاهرَ بالصمم.

3.

لا بأس.

هذه المرّة

لا تكتبْ عن الطائر.

أنتَ لستَ بطائر،

فهمتْ؟

ولا عن الجناح.

أنتَ لستَ جناحاً،

فهمتْ؟

ولا عن المنقار.

أنتَ لستَ منقاراً،

فهمتْ؟

ولا

ولا

ولا.

اكتبْ، فقط، عن الريش.

أنتَ ريشةٌ سقطتْ من جناحِ طائر.

سقطتْ فحملتْها الريح

مِن بلدٍ إلى بلد،

ومِن بحرٍ إلى بحر،

ومِن عشٍّ إلى عشّ،

ومِن حرفٍ إلى حرف،

ومِن سماءٍ إلى سماء،

ومِن عبثٍ إلى عبث،

ومِن رعبٍ إلى رعب،

ومِن موتٍ إلى موت،

ومن جحيمٍ إلى جحيم!

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

مطرب بغداديّ

1.

بجسدٍ سمين

وبوجهٍ سمين

وبعينين باسمتين،

سيذهبُ هذا الغزاليّ

جيئةً وذهاباً

أمامَ كاميرا التلفزيون

وهو يغنّي بصوتٍ رقيق:

"يَم العيون السود ما جوزن أنه

وخدّچ الگيمر أنه تريگ مِنه".

2.

وإذ لم تأبه العاشقةُ البغداديّة

لأغنيته القيمريّة

ولا لملابسه الجديدة

ولا لخدوده السمينة

فسيغنّي لها:

"واگفة بالباب تصرخ يا لطيف

لاني مجنونة ولا عقلي خفيف.

من ورة التنور تناوشني الرغيف

يا رغيف الحلوة يكفيني سنة".

وإذ لم تأبهْ له ثانيةً

فسيغّني لها ثالثةً عن النخل

ورابعةً عن العيدِ وهديّةِ العيد

وسابعةً عن الصبا

وعاشرةً مِن مقامِ الصبا.

حتّى إذ تقدّمَ به العمر

فسيصرخُ من لوعةِ العشقِ والهوى:

"عيّرتْني بالشيبِ وهو وقارُ".

لكنّه هذه المرّة

سيمسُّ وتراً

وسيطلقُ طيراً

يسمعُ تصفيقه الشرقُ والغرب.

بيدَ أنّ العاشقةَ البغداديّة

كانتْ- كعادتها- تتبغددُ من النافذة.

والمطربُ السمين

بوجهه السمين

وبعينيه الباسمتين

صارَ على موعدٍ مع الموت

حتّى إذا تعثّرَ به في صباحٍ غريب،

بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.

وخرجتْ بغداد كلّها

تودّعهُ إلى الأبد.

فيما اختفت العاشقةُ البغداديّة

من النافذة

وهي تجرُّ خيبتَها

إلى الأبد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملكة؟ عارفة؟ ساحرة؟

إلى: د. حياة الخياري

 

1.

ستنفقُ من عمرِها التونسيّ خمسَ سنين

وهي تطرقَ في هدوءٍ وصبرٍ عجيبين

بابي الأربعين.

لتسألَ أما مِن حاء؟

أما مِن باء؟

أما مِن ماء؟

أما مِن ألفٍ؟ أما مِن سين؟

لن أجيبَ على طرْقِها الذي يهدمُ

شيئاً فشيئاً

ويوماً فآخر

أسرارَ حرفي

في حنانٍ غريب،

ولن أناولها كوزَ ماء.

ألأنّي أكثر عطشاً منها

ومن عجائبها؟

أم لأنّي لا أجيدُ فَتْحَ بابِ الطلاسم؟

أم لأنّي أخاف فَتْحَ بابي الأربعين؟

2.

ذاتَ يومٍ مُقدّس،

ستفتحُ هذه الحاء التي كحّلتْ

قلبَها بسرِّ الحياة

آخرَ بابٍ: بابي الأربعين.

وستدخلُ لتكتبَ على جدران روحي

أنّها كشفتْ طاءَ الطلاسم والسحر

وتماهتْ مع حرفي الذي قاربَ الفجر

حتّى تحوّل إلى شمسٍ وبحر.

ستدخلُ لتكشفَ عن كلِّ نون

وستكون سعيدةً، دون شكٍّ، بكشوفاتِها

فلقد عرفت الحرفَ الأعظم،

وكلّمتْهُ كما تشتهي

فردَّ عليها

وردّتْ عليه

وزادتْ فزاد.

ثُمَّ أجلسها قُربه.

كيف؟

وبأيِّ صفة؟

ملكة؟

عارفة؟

ساحرة؟

لا أعرفُ لذلك جواباً أكيدا.

كلّ ما أعرفه أنني قد بنيتُ

لروحي وحرفي باباً جديدا

لا يُسمّى لكثرةِ أسمائه،

ولا يختفي لشدّةِ أسراره،

ولا يُطْرَقُ لأنّه لا يُرى،

ولن يدخله أحدٌ أبدا!

***************************************

* د. حياة الخياري: كاتبة وباحثة تونسية أنفقتْ خمس سنين لتدرس الحرفَ في الشعر العربي المعاصر عبر أعمال أدونيس، وأديب كمال الدين، وأحمد الشهاوي. ولتنال، عبر بحثها النقدي الكبير، درجةَ الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة سوسة عام 2011. وفي عام 2012 استلّتْ د. حياة بعضَ فصول بحثها وأصدرته في كتاب نقديّ عنوانه: (أضفْ نوناً: قراءة في "نون" أديب كمال الدين).

 

 

 

تسعة عشر مقطعاً

1.

حين خرجَ الحرفُ من الحربِ، دخلَ إلى الصحراء التي سلّمتْه إلى الجبلِ الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ التي سلّمتْه بدورِها إلى البحرِ الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ بدوره إلى نَفْسِه.

وهكذا عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن جديد!

 2.

الرقصةُ،

أعني الرحلة،

كانتْ كاذبة

لأنّها كانتْ مليئةً بدموعِ التماسيح

وطبولِ السحرةِ المُزَيَّفين.

3.

مَنْ سيصدّقُ أنَّ الأرضَ تمطر

والسماء تهتزُّ مما ترى!

4.

الحرفُ بكى

ثُمَّ اشتكى.

فاحتارت النقطةُ فيه

وفي دلاله الذي لا يُطاق،

وهي لا تدري أنّها سبب بكائه

وشكواه،

أنّها سبب بلواه.

5.

مِن المهمِ أنْ لا ننهار.

ولكي لا ننهار

ينبغي أنْ نرممَ أجسادَنا المنهارة

ليلَ نهار

وهي تُلّوحُ تلويحةَ الوداع.

6.

بعد أن انتهى الراقصون من رقصتِهم العنيفة

خرجوا في صفٍّ طويل

ليدخلوا في قاعةِ الموتِ الهادئةِ حدّ الرعب

ويتعرّوا

واحداً بعد الآخر.

نعم،

فالموتُ لا يحبُّ الا العُراة!

7.

خرجَ الطاغيةُ من القبرِ ثانيةً.

خرجَ ليؤدّبَ بالسوطِ مَن كانَ يشتمه

في غيابه القصير!

8.

يقولون إنَّ البلادَ جميلة.

وهم يتناسون، عن سابقِ قصدٍ وإصرار،

ذكْرَ اسمِها ومكانِها وعنوانها

أو ذكْرَ صندوقِ بريدِها الملآنِ بالوحوش.

9.

التماثيلُ أشدُّ كذباً من صانعيها.

التماثيلُ أشدُّ كذباً

من وجوهِ طغاتِها وملوكِها.

10.

المرأةُ تتلفّت

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال

مثل قلب الشاعر.

لكنّها تريدُ أنْ تلهو قليلاً فقط

بينما الشاعرُ يريدُ أنْ يبتكرَ شمساً

تشرقُ وسط ظلامِ روحه المعذَّبة

حدّ اللعنة.

11.

علاماتُ الاستفهامِ كثيرة

أراها تتراقصُ فوق الرؤوس

كلّ ليلة.

فأتوقفُ عن الكتابةِ حيناً

وعن الكلامِ المُباحِ حيناً آخر.

12.

في حربِ الحرف

ثمّة رايات لكلِّ شيء.

13.

يفاجئُ المطرُ ذاكرتي دائماً

بأكاذيبه الجميلة

فأستقبله فرحاً بدموعي.

14.

أنفقَ الحرفُ عمرَه وهو يحلمُ بمُستقرّ.

فلم يحظَ، في نهايةِ المطاف،

إلا بحقيبةِ سفر

وجواز سفرٍ وهميّ

صادرٍ عن مملكةِ النقطة،

المملكة التي لا وجود لها بالطبع

إلا خارج حدود الجغرافيا.

15.

انهارتْ المرآةُ أمامي

على الأرض

حين انهارتْ

صورةُ المرأةِ في قلبي.

16.

كي تُكملَ العدد

ينبغي أنْ يمتلكَ موتُكَ

أبواباً لا تُحصى ولا تُعَد!

17.

في بابِكِ لم أجدكِ

مثلما كانَ الوعد،

بل وجدتُ جثّتي

مطروحةً في الطريق.

فحملتُها، بهدوءٍ، فوقَ ظهري

ومضيتُ دونما هدف.

18.

حين طرقتُ بابَ حياتي التي نُحِتَتْ

من الخشبِ العتيقِ كاللعنة

خرجتْ إليَّ الشياطين من كلِّ شقّ!

19.

سيبدأُ الحرفُ الليلة

كتابةَ قصيدته الجديدة

ليكتشفَ أنَّ النقطة

لم تكتفِ ببناءِ سجنٍ كبيرٍ له

بل أعدّتْ له منصّةَ الشنقِ أيضاً!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حديقة

الحديقةُ بعيدةٌ في بلدٍ بعيد.

الحديقةُ خاليةٌ إلا من غرباء

يلوّحون بأيديهم تلويحاتٍ مُبْهَمَة.

أهي تحيّة؟

أيّ نوعٍ من التحايا؟

ولماذا يلوّحون بأيديهم والمطرُ شديداً ينهمر؟

نحن لا نعرفُ بعضنا بعضاً!

أبداً!

لماذا الإصرار، إذن، على التلويحةِ: التحيّة؟

أهي عادة في هذه الحديقة الجميلة الموحشة

أم في هذا البلد؟

أم لأنّ المطر اشتدَّ واشتدَّ؟

أنا أعرفُ المطرَ يشتدّ،

وكثيراً ما رأيتُه يشتدُّ ويشتدّ.

وفي كلِّ مرّةٍ تكادُ الأرضُ تغرق

حتّى أظنّ أنّ شيئاً ما سيحدث

في

هذه

الحديقة.

لكنْ لا!

أعني ما من جديدٍ يحدثُ أو سيحدث.

لكنْ لا!

الغرباءُ يلوّحون بأيديهم!

بعضُهم ارتدى ثياباً من النايلون فوقَ ثيابه،

وبعضُهم وضعَ صحيفةً فوق رأسه،

وبعضُهم احتمى تحتَ شجرةٍ ما

أو تحتَ سقيفةٍ ما.

بعضُهم يضحك،

وبعضُهم يُقبّلُ حبَّه أو حبيبتَه،

وبعضُهم- وهو قليلٌ- كانَ يبكي.

هل كنتُ أبكي؟

لا!

لكنّ المطر كانَ ينهمرُ بقوّة.

والحديقة تزدادُ غموضاً وغرابة.

 

 

 

الليلة الأخيرة لسيلفيا بلاث*

1.

لم تكنْ على مائدتِكِ الليلة

كأسُ النبيذ

ولا ملعقةُ العسل،

بل كانتْ على مائدتك

كأسُ الزوجِ الخائن

والطفولةِ المُحَطَّمة،

وملعقة الأملِ: العلقم.

أي كانتْ على مائدتِك

كأسُ الحلمِ القاسي

والأبِ الأكثر قسوة،

وملعقةُ الوهمِ التي لا تجيد

سوى تذوّق نفْسها.

بعبارةٍ أكثر وضوحاً،

كانت على مائدتِك

كأسُ السمّ

والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة،

وملعقةُ القلبِ الذي لوّحَ للحياة

طوالَ ثلاثين عاماً

بيدِ الغريق.

2.

وداعاً!

أشربُ نخبَكِ

أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها

إلى العشّ

فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم.

************************

* سيلفيا بلاث: شاعرة أمريكية انتحرتْ وهي في مطلع عقدها الثالث. عاشتْ طفولةً مُعذَّبةً وحياةً زوجيةً أكثر عذاباً مع زوجها الشاعر الشهير تَد هيوز.

 

 

 

 

 

 

 

 

لافتات يوسف الصائغ

1.

حاملاً على ظهرِك

جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،

واقفاً تحتَ لحية ماركس الكثّة

وشوارب ستالين الصخريّة

لتهتفَ بملء الفم

تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ

ومقارعةِ الإمبرياليّة.

حتّى إذا طارَ رفاقُ الدربِ عبر الحدود

استبدلتَ بسرعةِ البرق

لحيةَ ماركس الكثّة

بلحيةِ عفلق الحليقة

وشوارب ستالين الصخريّة

بشوارب صدّام المرعبة

لتهتفَ بملء الفمِ أيضاً

تحتَ لافتةِ الطاغية،

تحتَ لافتةِ الحربِ ضد الفرس المجوس!

2.

أيّها الشاعرُ اليوسفيّ:

لِمَ خذلتَ نفسَك؟

لِمَ خذلتَ مالكاً معك؟

لِمَ خذلتَ سيّدةَ التفّاحاتِ الأربع؟

لِمَ أيّها اليوسفيّ؟

هل كانَ مشهدُ الذهبِ لا يُحتَمل؟

أم كانَ مشهدُ الرعبِ لا يُحتَمل؟

أم أردتَ الذي كانَ فوقَ الجَمل؟

3.

ليس مهماً – بالطبعِ - ما قد حدث!

المهمّ أنْ تُنزِلَ الآن من ظهرِك

جثّةَ مالك

وتنام تحت الأرضِ مستريحاً،

هادئاً،

مُطمئنّاً،

فقد ولّى زمنُ الهتافِ أيّها اليوسفيّ.

وأولئك الذين أنفقتَ عمرَك

هاتفاً بملء الفم

تحت لحاهم وشواربهم ولافتاتهم

سبقوكَ إلى حانةِ الموت

ليشربوا مرعوبين

خمراً من تراب

في جماجم من تراب،

ليشربوا مرعوبين مذهولين إلى الأبد!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عفيفة اسكندر *

1.

ماتتْ تلك التي شكتْ لوعةَ الفراق

وأرادتْ من الله

أنْ يبيّنَ الحوبةَ في المفارقين حبيباتهم

والغائبين.

ماتتْ وهي تغنّي

من شاشةِ تلفزيونِ بغداد

مثل لُعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح

تماماً دون روح مثل بغداد:

مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،

مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،

مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.

2.

لم يستجب الله- بالطبع - لأغنيتِها الجميلة،

فلم تظهر الحوبة

على المفارقين والغائبين أبدا

وبقوا كالأشباحِ سعداء أبدا.

لكنَّ المطربةَ غنّت الأغنية

لسبعين عاماً أو تزيد

شاكيةً لوعة الفراقِ المرّ

للملكِ المسكينِ وقاتله،

ثُمَّ للزعيمِ: مُنقذِ الفقراءِ وقاتله،

ثُمَّ للطاغيةِ: مشعلِ الحروبِ وقاتله.

هكذا بقيتْ تغنّي أغنيةً عذبةً

دونَ روح

حتّى فارقتْها الروح!

************************

* عفيفة اسكندر مطربة بغدادية ذائعة الصيت. قدّمتْ عدداً كبيراً من الأغاني على امتداد عمرها الذي تجاوز التسعين عاماً، واشتهرت بأغنية (أريد الله يبيّن حوبتي بيهم. أريد الله على الفرگة يجازيهم)!

 

 

 

 

 

 

 

 

ورقة بيضاء

في الليل

كتبَ على الورقةِ البيضاء

قصيدةً عن اللقلق.

وفي الفجرِ مزّقَها

حينَ رأى اللقلقَ لا يستطيعُ الطيران.

في الليلةِ الثانية

كتبَ على الورقةِ البيضاء

قصيدةً عن الفجر.

وفي الفجرِ مزّقَها

حينَ عرفَ أنّ الفجرَ لا يحبُّ اللقلق.

وفي الليلةِ الثالثة

لم يكتبْ شيئاً.

نامَ سعيداً تماماً،

هادئاً تماماً.

لكنْ في الفجر

مزّقَ الورقةَ البيضاء.

فقط لأنّها كانتْ بيضاء

كريشِ اللقلق

وضياء الفجر.

 

 

 

 

 

 

 

 

عبد الحليم

1.

حينَ انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،

سالتْ روحُه العاشقة

وسطَ حنين الناي وأنين الكمان.

2.

كانَ مطربُ قارئة الفنجان

عبقريّاً بما يكفي

ليركبَ درّاجةَ النجومِ الهوائيّة

ويغنّي عن القمر،

قريباً جداً من القمر،

ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا

بألفِ أغنيةٍ وأغنية.

كانَ عبقرياً، إذن، ليكونَ نجم النجوم.

3.

لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ

ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ

الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان

وروّضَ الحظَّ المُمَزَّق

مثل ثياب المُهرّج

وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،

روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى

ولا تُرى!

كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة

وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة.

فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابعه العاشقة

حتّى سالتْ روحُه العذبة،

وهي في قمّةِ الحبِّ والشوق،

وسطَ دموع الناي وأنين الكمان.

 

 

 

 

 

 

 

لقاء

1.

في المشهد

كنتِ تقفينَ بجانبي

مثل طفلة بجسدِ امرأة،

بقلبٍ مُحطَّمٍ وعينين دامعتين.

وكنتُ بجانبك

مثل سجين

قرّرَ أنْ يفرَّ من السجن

لكنّ وابل الرصاص

ظلَّ يطاردهُ طوالَ حياته.

2.

عدتُ البارحة إلى المكانِ ذاته

لأحتفلَ بمرورِ أربعين عاماً

على فراقِنا الأسطوريّ.

لم أجدكِ بالطبع

ولم أجدْ عقاربَ الساعةِ التي كانتْ

تنظرُ إليكِ بريبةٍ واشتهاء.

ولم أجد قلبَكِ المُحطَّم

ولا عينيكِ الدامعتين.

الشيء الوحيد الذي وجدتُه

هو أنا

ووابل الرصاص الذي ظلّ

يطاردني طوالَ حياتي.

لكنّه تحوّلَ من رصاصٍ افتراضيّ

إلى رصاصٍ حَيّ.

3.

كنتُ سعيداً

برغم غيابكِ الأسطوريّ

وبرغم حضوري الرماديّ

وبرغم الرصاص

وأزيزه وصيحات ألمه.

كنتُ سعيداً

إذ ذهبتُ إلى المكان

فلم أجد المكان.

ليس لأنّي ضيّعتُ العنوان

بل لأنَّ المكان

قد اختفى من الأرض!

أعشاش

أحدهم طارَ فوقَ عشّ الموت

والآخرُ طارَ فوقَ عشّ الفجر

والثالثُ فوقَ عشّ الضحك.

الرابعُ طار فوقَ عشّ الدموع

والخامسُ فوقَ عشّ الممنوع

والسادسُ فوقَ عشّ السَمَكة.

السابعُ طارَ فوقَ عشّ النساء

والثامنُ فوقَ عشّ الشيطان

والتاسعُ فوق عشّ المطر.

لكنَّ العاشر لم يطرْ أبداً

بل قرّر أنْ يموتَ بهدوءٍ أُسطوريّ

على سريرِه الضيّق

ويكتب كلّ يوم

قصيدةً مليئةً برفيفِ الأجنحة

عن تلك الأعشاش المعلّقة بالسماء!

 

 

 

شهرزاد

 

ستحكين الحكاياتِ - ما أجملها! -

إلى شهريار المحدّقِ في شفتيّكِ مدهوشاً.

ستدّعين أنَّ حروباً عظيمةً نشبتْ،

وسفناً محمّلةً بالذهب

غرقتْ في أعالي البحار،

وملوكاً صُلِبوا ثُمَّ قاموا من الصلب،

وشطّاراً حكموا أزقّةَ بغداد،

وعشّاقاً جنّوا من العشقِ والحبّ،

ونساءً مارسنَ السحرَ والجنس

في النهرِ وقت المساء ووقت الشموع.

ستدّعين أنّكِ كنتِ مع السندباد

في كلِّ مركب.

وكانتْ مفتّحةً لكِ ولبناتِ جنسكِ الأبواب،

مفتّحةً لكِ ولهنّ

ولرغابتهنّ ومكائدهنّ وألاعيبهنّ.

سيذهلُ شهريار الملكُ بحكاياتِكِ الهائلة

وهو الذي يتأمّلُ كلّ ليلة

في شفتيّكِ ثُمّ في عنقِك

ليرى كيفَ يكونُ موضع السيفِ فيه!

سيذهلُ وأنتِ تقودينه مثل أعمى

إلى خارجِ مملكةِ الوهم

ثُمّ إلى داخلِ مملكةِ الوهم.

سينسى شهريار شيئاً فشيئاً

مأساتَه التي زلزلتْه

وصيّرتْه إلى محضِ رماد.

سينسى وهو منتبه إليك:

إلى كلِّ حكاية،

إلى كلِّ حلم،

إلى كلِّ كلمة،

إلى كلِّ حرف

حتّى يتحوّل في آخرِ حكاياتِكِ الساحرة

إلى طفلٍ سعيدٍ وديع،

إلى طفلٍ دونما ذاكرة!

 

 

 

قال الحرف: ما معنى النقطة؟

قالَ الطاغية: ما معنى الشعب؟

وأمرَ بعنجهيّة

بإعدامِ كلّ الذين فرّوا من المعركة.

قالَ العاشق: ما معنى القُبْلة؟

وطلبَ بمرحٍ كأساً أخرى من النبيذ.

قالَ الشحّاذ: ما معنى الرغيف؟

فهبطتْ بهدوءٍ من عينيه دمعةٌ حرّى.

قالَ الشرطيّ: ما معنى المظاهرة؟

وملأ بثقةٍ مسدسَه الكبير بالطلقات.

قالَ النهر: ما معنى الماء؟

فارتبكَ بشدّةٍ وكادَ قلبُه أنْ يتوقّف.

قالَ الغراب: ما معنى الحمامة؟

وضحكَ بخبثٍ ضحكةً صفراء.

قالَ الحرف: ما معنى النقطة؟

ومسح بألمٍ صورتَها من كتابِ الوجود.

قالَ الموت: ما معنى الحياة؟

وغسلَ بلا مبالاةٍ يديه الضخمتين من الدم!

 

مُهنّد الأنصاريّ ثانيةً *

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأم روحي

ومرآةَ حرفي؟

كيفَ تغيّبُ قلباً،

كلّ نبضةٍ فيه حاء،

وكلّ حاءٍ فيه باء،

وكلّ باءٍ فيه بَسْملَة الأنبياء؟

كيفَ تنثرُ رمادَك

فوقَ رأسه الذي كانَ من طمأنينةِ الذهب

أو من ذهبِ الطمأنينة؟

كيفَ تشقُّ قميصَه الذي كانَ بوّابة البحر،

حين كانَ البحرُ عيداً حقيقيّاً

لمهرجانَ الحروفِ السعيدة

والمرايا التي ترقصُ حولَ نفْسها

كدوران الطيورِ السعيدة؟

إذنْ،

كيفَ تُحطّمُ أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

بوّابةَ المستحيل؟

بل كيفَ تقولُ الذي لا يُقال،

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ السليطُ اللسان؟

 

*****************************************

* مُهنّد الأنصاريّ فنّان عراقيّ من الطراز الأول في حقل الإذاعة والإخراج الإذاعي، غيّبه الموت عام 2000.

 

 

 

  

 

 

 

 

فتى النقد

إلى: عبد الجبار عباس

 

1.

بعد كأسه الأولى

سيبتسمُ فتى النقدِ قليلاً

ثُمَّ يضحكُ بصوتٍ مُجلجل.

وبعد الثانية

سيغنّي أغنيةً عن حرمانِه الأزليّ

وأشواقِه الهائلة.

وبعد الثالثة

سيرقصُ مثل زوربا

أو ربّما مثل الحلاج

أو ربّما مثل طير ذبيح.

2.

أرادَ فتى النقد،

وهو يلبسُ قميصَ البياض،

في زمنِ القمصانِ الزرق والحمر،

أنْ يقولَ الذي لا يُقال:

أنْ يكونَ الطفل الذي

يصف ثيابَ الإمبراطور

كما وصفتْها الحقيقة،

حين زيّفَ الآخرون

أوصافَها حدّ الرثاء.

فما كانَ من الإمبراطور

إلا أنْ أعاده إلى بابله

مُحَطّماً مثل شظايا الهباء.

أعادهُ في زمنِ الجوعِ والقهر

كي يرتدي قميصاً من العزلة

أسودَ أسود

ويموت سريعاً

كومضةِ نجم

بقلبٍ كسير

وعينين دامعتين.

 

 

 

 

تُفّاحة وهم

1.

جئتِ إليَّ من أقصى الوهْم

أعني جئتِ بهيئةِ تُفّاحةِ حلم.

وكنتُ جائعاً،

جائعاً جِدّاً

فقضمتُك.

حسناً،

ولساني أكلَهُ العطش

فشربتُك،

فشربتُك جِدّاً.

كنتِ كريمة حدّ اللعنة

فمارستِ نفْسكِ إلى آخر حرف.

ورغم أنّكِ وهْم خالص

بل أنّكِ أنتِ الوهْم بذاته،

فإنّي ابتهجتُ بك

مجنوناً يقفزُ من الطائرة،

طاغيةً يطلقُ النارَ على حارسِه الشخصيّ،

سكّيراً يرمي زجاجتَه الفارغة

على سيّارةِ الشرطة،

مُراهقاً يُقبّلُ امرأةً لأوّل مَرّة.

2.

حسناً أيّتها التُفّاحة

كنتِ وهْمي،

كنتِ الوهْم بذاته،

كنتِ وهْماً عذباً جدّاً!

 

 

  

 

 

 

هيّا بنا نضحك!

حينَ مدحَ الملكَ، طردهُ الملك

لأنّه لم يصفه بالعاهلِ العظيم

ولا بالملكِ المغوار

ولا بالملكِ الجبّار.

وحينَ مدحَ شاعرَ الملك،

شتمه شاعرُ الملك

لأنّه لم يصفه

بالشاعرِ الذي بزَّ المُتنبّي

وزعزع أبا تمّام والبُحتريّ

وأفحمَ المعريّ.

لكنْ حينَ مدحَ كلبَ الملك،

لم يطردْه ولم يشتمْه،

بل أكرمه بنباحٍ مُرعب،

نباح متواصل ليلَ نهار

منعهُ من النومِ حتّى الموت!

 

 

 

مطار سنغافورة السعيد

سيحطُّ على أرضِكَ الملاحِدة

والكَفَرةُ الفَجَرة

وعبادُ الرحمن

والأولياءُ والصالحون

وعَبَدةُ الشيطان

وعَبَدةُ الأوثان

وعَبَدةُ الدولار

والتائهون والمُهرّجون والمُهَلْوِسون،

ومهرّبو البشر والفايروسات والمخدّرات،

ومزوّرو العُملة وجوازات السفر.

سيحطُّ على أرضِكَ السعيدة

السحرةُ وأتباعُ السحرة

والكاسياتُ العاريات

واللاجئون المرعوبون

والموتى

أو الذين هم إلى الموت

قابَ قوسين أو أدنى،

والحالمون بجزيرةِ النساء

وعُري النساء.

وستستقبلهم بنصفِ ابتسامة

أو بابتسامةٍ كاملةٍ منضبطة

وتقودوهم بهدوءٍ موزون مُقفّى

إلى أبوابِ الطائرات

بأسمائِها التي لا تنتهي

كي يذرعوا أرضَكَ الهائلة

ليلاً ونهاراً،

جيئةً وذهاباً،

فالساعاتُ ثقيلةٌ حيناً

كمطاردةٍ بالسكاكين وسط الظلام

أو خفيفةٌ كالريشِ حيناً آخر.

والطائراتُ تهبطُ على أرضِكَ الساحرة

ثُمَّ تطير:

إلى الشرقِ تطير،

إلى الغربِ تطير،

إلى الشمالِ تطير،

إلى الجنوبِ تطير.

وإلى الجحيمِ... ت....ط.....ي...........ر!

فيروز

كنتُ أسمعُها منذ الطفولة،

منذ الدشداشة اليتيمة

والسرير الوحيد،

منذ السماء البعيدة التي كانتْ

تتساءل

كلّ يومٍ عن سرِّ دموعي،

ومنذ الأرض القريبة التي أتعبتْني

خياناتُها

ونزواتُها

وشياطينها،

كنتُ أسمع:

"زوروني كلّ سنة مرّة"،

وأنتظرُ في لهفةٍ

وأنا أرتدي قميصاً من لوعةٍ وشموع.

لكنَّ السنوات كانتْ

سنوات الأيتامِ على مائدةِ اللئام،

لذا لم يصلْ

إلى بابِ روحي أحد

ولم يزرني أحد.

وكنتُ أسمع:

"شايف البحر شو كبير"،

لأرى البحرَ، بعد حين،

أقسى من خناجر النساء

وسيوفِ البرابرة.

وكنتُ أسمعُ، أسمعُ حتّى سمعتُ:

"ضاق خِلْقي يا صَبَي"،

فقلتُ بلسانٍ فصيح:

الصبيُّ صارَ قابَ قوسين

من الأربعين

أو الخمسين

أو الستين،

ولم يزلْ كلّ يوم

يسمعُ فيروز

ليتلفّتَ مثل طير تائه

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال

تحت شمس صوتِها الوارفة،

وليبادلَ أحلامَه المتشظّية

بأمطارِ صوتِها التي لا تكفّ

عن الهطول،

وليكتبَ فصول عذاباتِه

وسط شتاءاتها التي لا تتوقّف

عن ممارسةِ الحنين،

وليحدّقَ في النقطة

ساعة تشييعِ الأمل

إلى مثواه الأخير،

وليرقصَ مع الحرف

وسط الطريق الفسيحِ إلى المقصلة.

 

 

 

 

  

أخي الكافكويّ

1.

في الغرفةِ الرطبة

وفوقَ السرير ذي القوائم العالية،

كنتُ أنامُ كلّ ليلة

وكانَ أخي الكافكويّ

ينامُ تحتَ السرير كلّ ليلة.

ينامُ دونَ أنْ يسألَ عليه أحد

أو يزوره أحد.

أسنانُه كانتْ تتساقط

وشعرُه يبيضّ

وعيناه تقتربان من العمى يوماً فيوماً.

كنتُ أكلّمُه في الليل

وأطعمُه مما يتبقّى من طعامِ العائلة.

كانَ غريباً، صامتاً، راضياً

يجيدُ دورَه بصبرٍ عظيم.

وحينَ بلغَ السبعين من عمره

قالَ لي:

اليوم سأموتُ فخذْني إلى المقبرة.

أرعبني صوتُه.

نزلتُ من السرير

فوجدتُه يفترشُ البلاطَ الرطب

بجسدٍ مُتهالكٍ وعينين سَمَكيّتين.

قالَ: لا تجزعْ يا أخي

سأموتُ اليوم.

عند العصر أو المغرب سأموت

فلا ترتعبْ.

لكنّه لم يمتْ في العصر

ولا في المغرب

ولا في الليل.

فوضعتُ رأسَه في حضني

وبكيت.

كانَ يبكي هو الآخر.

كانَ طيّباً حدّ اللعنة

ومسالماً من طرازٍ عجيب.

قالَ لي: حينَ أموت

لفّ جسدَي بقطعةِ قماشٍ طيّبة

وصلِّ عليَّ

فلعلّ الذي خَلَقني يتقبّلني الليلة

بقبولٍ حَسَن.

2.

عجبتُ لأخي الذي عاشَ سبعين عاماً

دون أمل

لكنّه لم يحزنْ،

ودون شبّاك

لكنّه لم يحطّم الجدار،

ودون حلم

لكنّه لم يرتبكْ،

ودون فجر

لكنّه لم يحرق المنزل.

عجبتُ،

فحين أنزلتُ جسدَ أخي في التراب

خرجتْ حمامتان من قلبه

وحلّقتا في السماء،

فبكيتُ حتى اخضلّتْ روحي

وأنا في طريقي إلى البيت

لأقضي ليلتي للمرّةِ الأولى وحيداً،

وحيداً كتابوت.

 

 

 

 

 

 

 

الملك المسكين

1.

لأنني لا أصلح لأيّة مهنةٍ غير عشق الحروف،

لذا اختارتني الحروف

لأكون ملكاً لها.

ومع أنّ الأمرَ كانَ مُسليّاً في البدء

لكنّه لم يكنْ في النهاية.

ففي يومٍ ممطرٍ

أخبرتني الحروفُ أنني يجب

أنْ أفتتحَ متحفَها الجديد

وأنْ أستقبلَ الكثيرَ من المدعوّين

وأنْ ألبسَ الملابسَ الرسمية.

لم أستطعْ الرفض

لأنّ الدعوة جاءتْ من أحبائي،

من صميمِ قلوبِ أحبائي.

2.

كانَ المتحفُ يَغُصُّ بالحروف:

حروف عربيّة وإنكليزيّة وصينيّة وهنديّة.

مئات من الحروف:

الحيّة والمنقرضة،

الطيّبة والشرّيرة،

الطويلة والقصيرة،

السمينة والنحيفة،

ذوات الأقدام وذوات الأسنان وذوات الآذان.

لكنّ حرفي،

أعني حرف الألف،

لم يكنْ حاضراً.

وحين سألتُ عنه

وعن سرِّ غيابه،

لم أحظَ بجوابٍ يشفي الغليل.

بعضُ الحروفِ قال:

إنّ الألفَ يكرهُ المتاحف.

وقالَ الآخر: إنه يكرهُ الحروفَ الشريرة

وهي كثيرةٌ هنا للأسف.

وقالَ الثالث: البارحة

رأيتُ الألفَ يبكي في مستشفى الغرباء

ويسألُ في ألمٍ فادحٍ:

ما الذي جاءَ بهذا الملك المسكين

إلى هذه المهزلة؟

 

 

 

 

 

 

دوستويفسكي

بلحيته الطويلة،

بعينيه القلقتين،

بجريمته وعقابه،

بذكرياته المُرّة

مِن بيتِ موتاه وموتاي،

بأبلهه العجيبِ وبمقامره الأعجب،

بارتباكه الحيّ وجنونه الباذخ،

بلحظاتِ وقوفه مرعوباً

ينتظرُ حبلَ الموت

كي يلتفَّ على الرقبة،

بهَلْوَسَته الحكيمةِ وبحكمته المُهَلْوِسة،

قَتَلني رمياً بالرصاص

وأنا في سنِّ العشرين!

 

 

 

 

 

شين الموت

في ساعةِ الموت،

في لبِّ ساعةِ الموت،

تشبثت الشين

مثل طفل مرعوب بنقاطِها.

وأخذتْ بالعويلِ الطويل

والصراخِ الذي يمزّقُ القلبَ

والغيمَ والبحرَ والبيوتَ والصحراء.

النقاطُ ارتبكنَ قليلا

ثُمَّ رقصنَ في ألمٍ أسود

دورةً كاملة

ولطمنَ كما ينبغي

بل شققنَ الجيوب.

ورغم أنَّ الشينَ ماتتْ

بعد ساعة أو أقلّ قليلا،

فإنّ النقاطَ بقينَ يرقصن

في ألمٍ أسود

إلى يوم يُبْعَثون.

 

فنادق

في فندقٍ ببابِ المُعظّم

وآخر في عَمّان

وثالث في سدني

ورابع في أديلايد

وخامس في ميلانو

وسادس في أمستردام

وسابع في بانكوك،

نجلسُ - أنا والحرف-

في انسجامٍ عجيب

ناسين أو مُتناسين

ضجّةَ السوقِ في بابِ المعظّم

وضجّةَ السيّاراتِ في عَمّان

وضجّةَ عبدةِ الدولار في سدني

وضجّةَ الحشّاشين في أديلايد

وضجّةَ اللصوصِ في ميلانو

وضجّةَ الضائعين في أمستردام

وضجّةَ النساء في بانكوك.

نجلسُ - أنا والحرف -

لنبادلَ في هدوءٍ مُقدَّس

آلامَنا وخساراتنا

وشيئاً من ريشِ حمامةِ نوح

وجدناهُ ذاتَ فجر

عند صلاة الفجر.

لكنْ حينَ يرى الحرف

أنني قد ارتبكتْ

وأحاط بي الدمعُ من كلّ جانب،

ينهضُ ساحراً من الوهم

ويأخذ بالرقصِ والرقصِ والرقص

حتّى الصباح.

 

 

 

 

  

 

آثار أقدام

ليس هناك من بحر،

فالبحرُ تحوّلَ إلى شاطئ.

وليس هناك من شاطئ،

الشاطئُ تحوّلَ إلى رمل.

وليس هناك من رمل،

الرملُ تحوّلَ إلى آثارِ أقدام.

وليس هناك من آثارِ أقدام،

آثارُ الأقدامِ تحوّلتْ إلى ذكريات.

وليس هناك من ذكريات،

الذكريات تحوّلتْ إلى دموع.

وليس هناك من دموع،

الدموع تحوّلتْ إلى بحرِ سفينةِ نوح.

ونوح مرَّ مِن هنا بسفينته ومضى!

 

 

 

 

 

حياة

1.

شجرةٌ كبيرةٌ تقفُ في هدوء

وسط شارعٍ مزدحم.

خلفَ الشجرة بناية،

خلفَ البناية مقبرة،

خلفَ المقبرة نهر،

خلفَ النهر طفل،

خلفَ الطفل مرآة،

خلفَ المرآة امرأة.

2.

ماذا تفعلُ المرأةُ خلفَ المرآة؟

هل كانتْ تبكي؟

تهذي؟

تتعرّى؟

تغنّي؟

ترقص حتّى الموت؟

3.

حينَ ماتت المرأة،

ماتتْ، على الفورِ، المرآة.

ثُمَّ ماتَ الطفل

ثُمَّ النهر

ثُمَّ البناية

ثُمَّ الشجرة الكبيرة

ثُمَّ الشارع المزدحم.

4.

وحدها المقبرة

بقيتْ تتأمّلُ المشهدَ في هدوءٍ ولا مبالاة.

 

 

 

 

 

 

 

 

لغة منقرضة

1.

من نافذةِ العُزلة،

ظهرَ الحرفُ معانقاً النقطة

وبدت النقطةُ معانقةً الحرف.

وضحكا

ثمّ صاحا بصوتٍ بهيج:

صوّرْنا أيّها الشاعر!

2.

نظرتُ إلى الحرف

كانَ شاباً مليئاً بعنفوانِ العشق.

وكانت النقطة

مراهقةً مثل عاصفة من العشق.

وبقيتُ أنظر

أنظر

أنظر.

لم تكنْ لديّ آلة تصوير

لأنفذّ رغبتَهما السعيدة.

كانتْ لديَّ ورقة وقلم

فكتبتُ عنهما قصيدةَ حبّ،

قصيدة حبّ لم يقرأها

أحدٌ سواي،

لأنها – واأسفاه –

كُتِبتْ بلغةٍ قد انقرضتْ

قبلَ أنْ أولد

بألفِ عام.

 

 

 

 

 

مائدة في بانكوك

1.

في بانكوك

يضعُ الناسُ على مائدتِهم

رغيفَ بوذا

وكأسَ الإثم

وسمكَ الحظّ

وفاكهةَ القناعة.

ثُمَّ إذا ما انتهوا من قليلِ الطعام

شربوا قليلاً من شاي السعادة.

2.

لا يجيدُ أهلُ بانكوك

التلاعبَ بالكلمات

فاكتفوا بلغةِ الجسد

وإيماءةِ الجسد.

فإذا ما تكلّموا-

وقليلاً ما يتكلّمون-

استخدموا كلماتٍ من الوهم

وهم يبتسمون.

كيف؟

في مدينتكِ: مدينة الموتِ والرمالِ والذهب،

باغتني جمالُكِ الأسطوريّ

وزعزعَ حرفي

فتوجّبَ عليَّ أنْ أكتبك،

أنا علامة الاستفهام

في أوّل الكلام.

كيف؟

وأنا كلّما نظرتُ إليك سُحِرتُ

من قمّةِ رأسي حتّى أخمص قدمي،

فوضعتُ

ملعقةَ الطعامِ في أنفي

وليس في فمي

تماماً كما يحدثُ

في ألفِ ليلةٍ وليلة.

كيف؟

وأنا كلّما نظرتُ إلى صفاء عينيك

ووردِ خدّيك ارتبكتُ

كسعفةٍ في الريح،

حتّى إذا ما نظرتُ

إلى ساحةِ بيتكِ العتيق

رأيتُ على بُعد أمتار

أباكِ وأمّكِ نائمين

في قبرِهما بسلام،

فارتبكتُ

كريشةٍ في الهواء.

كيف؟

 

 

 

مهرجان شعريّ

رسمَ أحدُهم

- وكانَ مجنوناً أو مخموراً بالتأكيد -

صورةً هائلة

لعشراتِ النمورِ والذئابِ والضباعِ والدببة

وهي تتقاتل

مِن أجلِ جُثّةٍ مُلقاةٍ على الأرض.

فيما كانت القردة

تصرخُ وهي تقفز

ما بين غصون الأشجار.

والصقورُ والغربانُ تحوم.

والببغاواتُ يرددنَ ثرثرةً لا تُطاق.

سألتُ بهدوء:

جُثّة مَن كانتْ ملقاة على الأرض؟

فقيلَ لي: جُثّة صوفيّ.

وقيلَ: جُثّة زنديق.

وقيلَ: جُثّة جَلاد.

وقيلَ: جُثّة تائه.

وقيلَ: بل جُثّة مجنون.

وقيلَ: بل جُثّة كذّاب.

وقيلَ: بل جُثّة شاعر.

وقيلَ... وقيلَ.... وقيل.........

 

 

 

 

 

 

 أيّة أغنية هذه؟

تؤلمني الأغنية

وهي تشيرُ بأصابع مبتورةٍ

إلى النجمةِ المعلّقةِ في الأعالي.

فأتذكّرُ نبْضي الذي ماتَ في شارعٍ

لا يؤدّي إلا إلى الخمرِ والدمع،

وأتذكّرُ ساعةَ أنْ يسمعَ رأسي

همهمةَ الريح،

وأنظرُ إلى البدرِ قاسياً

في جمالٍ عجيب

وإلى الناسِ أشباحاً يتقافزون

من حائطِ الذاكرة.

تؤلمني الأغنية

حين سقط الحرفُ في بحرِ قلبي

وسقطتْ نقطتُه

ثُمَّ تلاشت المدن

واحدةً بعد أخرى

لتسرقَ الأفعى عشبةَ كلكامش

ويموتَ أنكيدو من المللِ والسأم

وتسقطَ الحانةُ على رأسِ صاحبةِ الحانة

ووصاياها الطيّبة.

تلاشت المدنُ وهي ترى أبناءَها

يبكون وهم يشربون

من دمِ بعضهم بعضاً،

يبكون وهم يحلفون

أنّهم كلّهم كانوا ضحايا.

مَن الجلاد، إذن، يا إلهي؟

أيّتها الأغنية:

أأنتِ حلمٌ أم زوبعة؟

أأنتِ وردةٌ أم طعنةُ سكّين؟

أنتِ مَن أنتِ؟

أأنتِ ضحيةٌ أيضاً؟

ضحيةُ مَنْ؟

أجيبي!

فأنا في آخر الأرض

أعطفُ على تأريخِكِ المرّ

وأمرُّ كعابرِ سبيل

- دائماً كعابرِ سبيل -

لأكتبَ على الماءِ اسمَكِ المرّ.

أردّدُ-

ولا معنى لقولي-

تؤلمني الأغنية!

فهي تذكّرني بسقوطِ النجمة

في حضنِ طفلٍ يتيم،

وسقوطِ طفلٍ يتيمٍ من أرجوحةِ العيد،

وسقوطِ أرجوحةِ العيد

في ساحلِ البحر،

وسقوطِ ساحلِ البحرِ في البحر،

وسقوطِ البحرِ في الليل،

وسقوطِ الليلِ في الأغنية!

سأصرخُ،

وما من مُجيب،

تؤلمني الأغنية!

أيّتها النجمة

أيّها الليل

أيّها البحر

أيّتها الهمهمة

تؤلمني الأغنية

حدّ أنْ أرى الموتَ في الليل

راقصاً قرب سريري

بشَعْرٍ طويلٍ أبيض

وعينين فسفوريتين

يحاولُ أنْ يطردَ الأغنية

من رأسي

فلا يستطيع!

 

 

 

 

 

  

 

 

سيرة ذاتية

أديب كمال الدين

 

 

 **************************************

 

 جميع الحقوق محفوظة

All rights reserved

الصفحة الرئيسية