من خلال تحليلي النصي والنقدي
للمجموعة الشعرية (حرف من ماء) للشاعر
أديب كمال الدين، والتي أشار في
غلافها، بأنها قصيدة حب طويلة، وجدتُ
أن الشاعر
قد
اتخذ من الحروف نهجاً ومساراً، وثيمة،
وبنية نصية، ومفردة شعرية حسية عميقة
تدخل ضمن السياق الفني لبناء النص
الشعري. فهو، أي أديب كمال الدين،
الشاعر المتفرّد
الذي جعل الحرف لغة شعرية
واضحة وصريحة، وهو سيد الحروف كما
يُطلق عليه نقديا، وهو كذلك من خلال
استقراء أجريته لنصوصه الشعرية التي
تتعامل بالحرف كوحدة موضوع متماسكة
ومتجانسة .
في
هذه المجموعة الشعرية يقدّم لنا
الشاعر حرفين فقط: الــ (حاء)
و(الباء) واللذين يمثلان القاسم
المشترك المساهم في صناعة الصورة
الشعرية لمجمل النصوص. حيث نرى أهمية
هذين الحرفين في انسجامهما وترابطهما
وتوحدهما الذي هو الــ (حب) ،
وتناقضهما وقسوتهما إذا افترقا أو
دخلت الــ (حاء) في كلمات أخرى مثل
الحرب ، الحرمان. ولم يكتفِ الشاعر
بالتعامل وفق هذين الحرفين على هذا
النحو فقط ، بل إنه استطاع أن يستغل
النقطة الوحيدة في الباء في رفد
البناء الشعري لنصوص شعرية
يتوقف أمامها المتلقي متأملاً
: ماذا يعني لوسقطت النقطة من الحب أي
من الباء ؟ سيكون هذا الحب بلا معنى ،
بلا وجود ، يعني الضياع ، الفقدان ،
المنفى، الغربة ، الظلام، هياج البحر
الغاضب. ويعني أيضاً اختلال النظام
وفقدان الحياة القويمة، وعموم الفوضى
والخراب. اذن نحن سوف نرحل مع نصوص
شعرية بُني أساسها على حرفين، مع
مخيلة شعرية خصبة رحبة واسعة، وفضاء
يمتد بنا إلى مالا نهاية ، وسوف نكتشف
الأسلوب الغريب والمتفرّد للشاعر وهو
يستخدم الحرفين ضمن النسق المضمر
للنصوص الشعرية. ففي قصيدة (ذات اليمن
وذات الشمال) الذي هي
مُستهل رحلتنا هذه لاكتشاف
الأنساق المضمرة والمعلنة لتلك
الحروف:
الحُبُّ أكذوبةٌ جميلة،
يتعلّمُ منها الكونُ سرَّه الوحيد.
هذا ما قالتهُ الحاء.
لكنّ الباء قالتْ:
أنا سرُّ الحاء
ولوعتها الكبرى
وبي يكتملُ لحن الوجودِ المُظلمِ
المُضيء.
لم يغفل الشاعر بحكم خبرته الطويلة أن
قصيدة النثر هي أصعب أنواع البناء
الفني للشعر كونها هي المرحلة
المتقدمة والمتطورة لحركة الشعر منذ
انطلاقته، ولا يمكن استسهالها أو
اختيار مفردات لا تشكل جزءاً من بناء
النص ، مفردات تحمل رموزها ودلالاتها
واستعاراتها، وانزياحاتها التي
تتطلبها البنية النصية للقصيدة لتكون
جزءاً مساهماً ومكملاً لوحدة الموضوع
، والثيمة. ويتجلى الجهد الفني الذي
بذله الشاعر في تناول النصوص الشعرية
، والتي رغم تشعبها وصعوبة مداخلها
ومحاورها ، بين وضوح الرؤية الشعرية
والاختيار المتقن لفضاء النص،
واستخدام الحروف ضمن سياقها دون أن
يكون
هناك أي خلل في مبنى النص ، بل العكس
، كون للحروف أهمية لا تقل عن بقية
الأدوات التي يحتاجها الشاعر في تناول
النص حتى أننا نجد انتقالة أخرى في
مسار هذا النص ، يساهم في نموها
وتصاعدها بنسق متماسك ملتزماً بوحدة
الموضوع ، لنكتشف أهمية الحب في
حياتنا بشكل جلي:
الحُبُّ ومضةُ القلب
من دونها لا ترقصُ الروح
ولا يشرقُ الفجر.
هذا ما قالهُ الصوفيّ .
ونجد أيضاً أن الشاعر قد أحسن تضمين
الحكاية والأسطورة متناصّا معهما ومع
الموروث الحضاري لتاريخنا المجيد
ليكون
كل ذلك جزءاً من فضاء النص الذي يكشف
وعي الشاعر واطلاعه التام على هذا
الكم الهائل من المعرفة ، ليكوّن نسقا
مضافاً لوعي النص ، كما أننا سوف
نكتشف الرؤية الفلسفية التي اتخذها
الشاعر جزءاً من منطلق بناء النصوص
الشعرية في نهاية هذه القصيدة :
لكنّ الشَّاعِر قال: الحُبُّ ماء
مَن لم يذقه لا يعرف القُبْلَة
ومَن لا يعرف القُبْلَةَ لا يعرف
المرأة
ومَن لا يعرف المرأةَ لا يعرف المرآة
ومن لا يعرف المرآةَ لا يعرف الشِّعْر
ومن لا يعرف الشِّعْرَ لا يعرف
الشَّوق
ومن لا يعرف الشَّوقَ لا يعرف الماء.
ثُمَّ بكى الشَّاعِرُ وقال:
كلّ شيءٍ ما عدا الحُبّ فناء.
هكذا
فأننا نتقدم بشكل واضح في اكتشاف سر
استخدام الحروف من قبل الشاعر وجعلها
من ضمن الأدوات الرئيسية والمهمة في
بناء النص الشعري ، والتي تجدها حالة
متفردة وفريدة
حيث
لم يستطع أيّ شاعر استخدامها بهذه
المرونة وبهذا الوعي .
في قصيدة (أيّ خطأ هذا؟) يقدم لنا
الشاعر تساؤلا واضحا وصريحا لأسلوبه
في بناء النص الشعري ، وهو يريد أن
يعرف هل هو على صواب أم خطأ :
مثل الذي يرمي قطعَ الخبزِ
للبطِّ السابحِ في البحيرة
أرمي حروفي مذهولاً على بياضِ الورقة.
وأسألُ بعدَ أنْ كتبتُ ألفَ قصيدة:
أهكذا تُكْتَبُ القصائد؟
وفي قصيدة ( لم أسأل عن كلمة سرّك)
يوضح لنا الشاعر أهمية هذين الحرفين –
الحاء والباء -
اللذين
اتخذهما ليكونا المسار العام للمبنى
النصي لنصوصه الشعرية :
يا لها مِن محنة!
قلبي لا يعرفُ كلمةَ السرّ
إلّا التي تخفي الحاءَ والباء
وتظهرُ الحاءَ والباءَ أيضاً.
ومثل هذه الكلمة: المعجزة
لا يعرفها إلّا الذي اكتوى حتّى صارَ
رماداً
وطيّرتهُ الريحُ حتّى صارَ ذكرى.
وفي قصيدة (حين أحببتُك فقدت نصف
ذاكرتي) يستعرض لنا الشاعر حياته
المحفوفة بالمخاطر ، ومشاركته الحروب
في البلد
ثم المنفى
ثم ضياع الذاكرة ، وهو يعيش
المِحَن بكل أنواعها : محنة
الغربة ، محنة المنفى ، محنة
الضياع ، محنة أزمة البلد التي ظلت
تتفاقم وتشتد ، وهو يوظّف الحرف في
بناء قصيدته :
قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.
وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.
وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.
أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ
ناي
فَخَفِّفوا من وطأةِ القولِ أيّها
الشُّعَراء.
وفي قصيدة (حوار مع الفرات) يستعرض
لنا الشاعر محاورة شعرية حسية فلسفية
واعية بينه وبين الفرات ، وهو يشكوه
المنفى والغربة ، وهو يريد العودة
إليه ، إلا أن البحر يقول:
مَن يصل البحرَ لا يرجع إلى النهر
.
ويوظف
أديب كمال الدين الحرف والنقطة في هذا
المبنى النصي للقصيدة ، وفي مستهلها :
سألت النقطةُ الحرفَ: كيفَ وصلتَ؟
أجابَ الحرف: ماشياً.
فهزّت النقطةُ رأسَها
واستلقتْ على فراشِها العجيب.
*
الشِّعْرُ يحتاجُ إلى الغموضِ
والترميز
والقلبُ يحتاجُ إلى البكاءِ والصراخِ
وشقِّ الثياب.
ما فائدةُ الشِّعْر إذن؟
أما في قصيدة (ماركيز يضحك)، فالشاعر
يقدّم لنا، بعد أن يستحضر شخصية
الروائي الكبير ماركيز ، صورة دلالية
ورمزية ، واستعارة موفقة، وانزياحا
واثقا عن مبنى النص الاعتيادي
والذي من خلاله ينقل لنا
احساسنا بالفرحة عند سقوط الطاغية ،
وحدوث التغيير، إلا أن تلك الفرحة لم
تدم ، وعادت خيبة الأمل تطاردنا :
ماتَ الطاغيةُ ففرحَ الناس
ولم يعرفوا أنَّ الفرحَ ممنوع
والرقصَ العلنيّ ممنوع.
فرجعَ الطاغيةُ إليهم في الفجر
بسيفٍ أغْبَر
وبوجهٍ أغْبَر
وثيابٍ غُبْر.
وفي مستهل قصيدة (نعم، لا ، ربّما)
يفصح لنا الشاعر عن أهمية النقطة في
هذين الحرفين، وبدونها لا يستقيم
المعنى
ويفقد الحب أهميته كليّاً:
الذين يقولون: إنَّ أصلَ الحرفِ نقطة،
يفهمون في الأبجديّةِ فقط
ولا يفهمون في الحُبّ.
ذلك أنّ أصلَ الحُبِّ نقطة،
أعني نقطة الباء.
ثم نرحل معه رحلة شائقة ، وهو يستعرض
لنا
المنفى ،
حيث
نرى الشاعر المخمور الذي يلاقي حتفه،
والقصائد التي يحارب من خلالها شبح
الموت، وكما هائلا من المعلومات عن
كتابة الشعر ، كما يقدم لنا صورة
مختزلة عن حياته كشاعر
وكإنسان
يكتوي
بنار الغربة.
وفي قصيدة (قصيدتي تسبح وتضحك) يقدم
لنا خطوة جديدة لسبر أغوار عالمه
الشعري الثر ، وكيف أنه جعل الحرف
سلاحاً يحارب فيه الظلام:
سأشعلُ حرفاً من حرف
حتّى أبقى مُبصراً طوال حياتي .
ثم نكون مع صورة شعرية فائقة الجمال،
في قصيدة (إذا أفاق البحر من نومه)
رغم قساوتها، وحزنها، وعمق مدلولاتها
، كون الشاعر يعيش مع جبل من الذكريات
إلا ان هذا الجبل يغطيه
الثلج، فإذا جاء الصيف
فذلك
زمن الذوبان، زمن هياج الذكريات
وانفلاتها وانطلاقها :
الذكرياتُ تشبهُ جبلاً مُغطّى بالثلج.
المشهدُ هائلُ الجمالِ دونَ شكّ،
لكنْ إذا جاءَ الصيف
وبدأَ الثلجُ يذوبُ شيئاً فشيئاً
فإنّكَ لا تستطيع إيقافَ الذكرياتِ من
الذوبان
سواءً أرقصتَ مذبوحاً من الألم
أو رقصتَ مذبوحاً من الملل
أو رقصتَ مذبوحاً من الجنون.
إن الشاعر أديب كمال الدين الذي بدأ
كتابة الشعر في السبعينات من القرن
المنصرم
قد
استطاع أن يتطوّر مع حركة الحداثة
وينتقل معها خطوة بخطوة ، ليصل بنا
إلى أرقى وأسمى ما يمكن أن يقدمه شاعر
في نصوصه الشعرية من خبرة متراكبة
متشعبة زاخرة ، موظفاً فيها الحرف
كأداة جديدة تضاف إلى البناء الفني
لقصيدة النثر بالرغم من صعوبة تدوينها
، إلا أنها تصل عنده- أي قصيدة النثر-
إلى المتلقي مرنة سهلة يمكن إدراكها
وسبر أغوارها والرحيل بعالمها دون
تعقيد . وتعتبر المجموعة الشعرية (حرف
من ماء) والذي كتب تحت عنوانها (قصيدة
حب طويلة) وهو لا يعني في ذلك ، بأنها
مطولة شعرية متصلة ، ولكنه يعني
استخدامه لحرفين هما الـ (الحاء) و
الـ (الباء) كمحور رئيسي في بناء جميع
النصوص واللذين يعنيان (الحب)،
ويعنيان نقيضهما اذا افترقا
أو إذا
سقطت النقطة منهما.
***************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.
|