في
قصائد أديب كمال
الدين المتصوف
والعاشق، الذي
يتحدث كثيرا عن
مصادر الخداع و
الغش و الندم،
محطات أساسية هي
الفرق الجوهري
بين وسط بداياته
و نهاياته.
وأقصد
بوسط البداية
مرحلة النضج
الفني و التبلور
ابتداء من (
أخبار المعنى )
التي صدرت عام
١٩٩٦.
أما
نهاياته فهي
قصيدة النثر التي
تسيل منها الدموع
وتصمت فيها
القوافي. فالدمعة
التي تتضمن معنى
الحزن والأسف هي
الصوت المجلجل
الوحيد في قصائده
المهموسة و
متوسطة الطول و
التي يغلب عليها
طابع التذكر و
التجربة الشخصية.
أهم صفة
للمحطة الأولى هو
الانتقال من
الظاهر إلى
الباطن، و من
المشكلة
الاجتماعية
للمشكلة
المعرفية. و هذا
يتضح بأجلى صوره
لو قارنّا بين
(مواقف الألف) و
(إشارات الألف).
لقد حاول
أديب كمال الدين
في المواقف أن
يستمع لصوت الله
المؤنب و الناصح.
و لم يدخر وسعا
كي يسير على خطا
النفري و
الأحاديث
القدسية. بمعنى
أنه جمع الولاية
مع النبوة، أو
وحي الذات مع وحي
الموضوع.
و تستطيع
أن تلمس ذلك لمس
اليد لو أنك وضعت
افتتاحيات قصائده
بجوار افتتاحيات
النفري. فكلاهما
يستهل القصيدة
بخطاب إلهي موجه
من أعلى إلى
أسفل، وكلاهما
ينص على مباشرة
التواصل من غير
وساطة الوحي. و
ذلك بعد المثول
بين يدي الذات
الكلية التي هي
فيض من الخالق
على الموجودات.
و لنضع
خطا تحت الأخيرة.
فالشاعر و الشيخ
المتصوف، لا
ينظران للمخلوقات
على أنها من فعل
الخالق. و لكنها
جزء منه. أو
تعبير صوري عن
روح لا صورة لها.
وهذا لا
يمنع أن أديب
كمال الدين لم
يكن فعليا يعيد
إنتاج النفري و
لا تصوراته عن
رحلة العذاب و
الشك. و هي نفسها
رحلة الانتقال من
الإيمان لضرورته.
إن أي
جرد لنوع
المفردات و
ماهيتها في
التجربتين، الشعر
و الابتهالات،
يبين مقدار
التباين إلى درجة
التنافي أو
التعارض. فأديب
كمال الدين
يستعمل حوادث
ميتافيزيائية
معروفة لها دلالة
الرموز و العبر
للوصول إلى شرح
معاناته مع
الحياة و شؤون
الدهر.. ابتداء
من تجربة الألم و
القهر و الفاقة
والحرمان ( و هو
حرمان مصدره
السلطات ) و
انتهاء بعذاب
المنفى و الغربة.
و حديثه
في ( موقف السجن
) عن صنوف و
ألوان العذاب
يغلفه الشكوى و
التبرم و
هذه لهجة بعيدة
عن تفكير النفري.
إن أديب
كمال الدين يفكر
بسجن الشهوة و
الرغيف و الماء.
و كل لعنات حياة
أبناء الطبقة
المتوسطة و
الدنيا.
فهو
ينتقل: من سجن
الرغيف إلى سجن
الماء،
و من سجن
الفقر إلى سجن
الدينار ( ص 78).
بينما
يهتم النفري
بالكبرياء و معنى
الكون و لحظة
الأجل و
الرحمانية.
لقد كان
الشاعر في تجاربه
كلها يتحدث من
قلبه و وجدانه عن
مصاعب الحياة و
ليس عن النار
المستعرة لفكرة
التعالي و
التفكير بالولاية
تمهيدا للنبوة
كما هو شأن
النفري و أمثاله.
وكان يبكي على
سقوط الإنسان بين
براثن المغويات و
على مشكلته
الفردية أيضا و
لا سيما مشكلة
الانفصال (
إشكالية الغياب
بتعبير صباح
الأنباري).
و لئن
كان الأنباري
يعني بالغياب
الموت و الانتقال
من عالم الشهود
لعالم الثبات،
فان أديب كمال
الدين يضيف لذلك
المعضلة النفسية
و صراع الأهواء و
الواجب، و يتحدث
بصوت متألم عن
رحيل الأصدقاء و
خيانة بعضهم
للعهود و
المواثيق، و موت
المعنى و دخوله
في إثم النفعية.
و لا يغيب عن
ذهني هنا هجاؤه
المرير للنقاد
الذين لم يفهموا
سحر كلماته و لا
مغزى قصائده. لقد
كانوا غائبين
بدلالة حضورهم
النفعي ( محبتهم
القاسية و شرور
أنانياتهم كما
قال بالحرف
الواحد). ثم إنه
تحدث عن رحيل
الأسماء و الوجوه
اللامعة التي
تركت وراءها
فراغا وجوديا
مميتا. و لا تنس
إشاراته المتكررة
للحرمان العاطفي
الذي تحولت فيه
حياته من جنة
خضراء إلى خراب.
إن
قصائده بكل
المقاييس لا تخلو
من العتاب الذي
يصل لدرجة السخط.
و هو شيء لا يألو
النفري جهدا
للابتعاد عنه.
فالنفري
لم يكن مهموما
بعرض الدنيا و لا
بأثقال الجسد.
وكان طوال الوقت
يعيش بقوة
الأفكار و
المخيلة بعيدا عن
كل الروابط مع
الواقع. و لذلك
عاش وراء ما نقول
عنه الحجاب أو
الستار. و هو
طبعا الموت. إن
تجربة النفري ذات
أبعاد تسترية.
كانت تتطور و
تنضج في حدود
الماهيات و خلف
حدود الصور.
إنه لا
يرى في ابتهالاته
و أناشيده البيت.
و لا يرى الفرق
بين الأعداد و
الحروف. بالعكس
هو يشتق المعنى
من المعاني. و لا
يتوقف عند
المرئيات. و هذا
أول مصدر
للاختلاف.
و كما
أرى إن المواقف
كما هي في تجربة
أديب كمال الدين
تحمل في طياتها
النذر اليسير من
اتجاه ( الفتوحات
المكية ) لابن
عربي. و بالأخص
المقتطفات التي
أجازها الوقف
السني و نشرها
تحت عنوان
(الوصايا). فهي
تعكس خلاصة حكمة
ما قبل التصوف
التي تهيّئ
الإنسان للانفصال
عن ماهيته ولا
شعوره استعدادا
للدخول في ما تحت
الشعور أو منطقة
الانتباه و
الملاحظة.
و
بالعودة للنسخة
التي حققها محمد
علي البلطجي
تستطيع أن تجد
النغمة النفسية و
الدنيوية التي
تختلف تماما عن
أسرارية فكر ابن
عربي. و كأن
الوصايا هي من
نتاج المحقق. و
لا شك أنه لا
يفوت على القارئ
القطيعة المعرفية
بين هذه
المختارات و
السياق. و في هذه
المساحة كان أديب
كمال الدين
يتجاوب مع
توجيهات إلهه و
كأنه الأب
المعبود.
لقد شخصن
كل أفكاره و
هواجسه. و حول
نشاطه النفسي
لأحكام تصادر على
حرية الذات، و
تعتقلها و تحد من
سريتها للاقتراب
قليلا من بذور
الفكر الواقعي.
غير أنه
سرعان ما تخطى
تلك المرحلة في
مجموعته المتميزة
والمتألقة (
إشارات الألف ).
فقد ترك في هذه
القصائد علامة من
عذاب الروح ليدل
بها على قنوط
الجسد و
استسلامه. و هذا
يعني أنه سنّ
لنفسه طريقا يراه
بعين نفسه و
يؤوله بما يفيض
عليه من إشارات و
طلاسم تفسيرها
يكون بالاجتهاد و
انكشاف الحجاب.
وقد
اختار في النهاية
أن يكون مثل معنى
الماء و ليس مثل
معنى المطر أو
البحر. لقد انحاز
للدلالة على حساب
الدال و مضمونه.
و للمحمول على
حساب الحامل.
و هذه
إشارة للتخلي عن
فكرة التصادم و
الانهماك بفكرة
التطهير و الخلاص
أو الصعود. و لم
تكن هذه الأفكار
تخلو من نكوص
مرضي أعتقد أن
أصله هو الحنين
لمرحلة التشكل في
الرحم أو للمهد
أو ربما للفردوس
قبل خطيئة
التفاحة و عقوبة
التنزيل.
فقد أكد
في عدة مناسبات
رغبته بالعودة
لأصله أو لمصادره
( و لا سيما
الرماد باعتبار
أنه يرتبط
بالمعاناة و
الاحتراق بعكس
العودة للتراب
الذي يرتبط
بمرحلة ما قبل
التشكل و الخلق).
يقول :
إلهي،
في عشقِك
كتبَ
القلبُ كتابَ
العمر.
لكنَّ
حاء الحرمانِ
ذرّتْه رماداً
في فراتِ
اليُتم
ودجلة
المجهول
ثُمَّ
عادتْ فذرّتْه
رماداً
في بحرِ
النقطة. ( إشارات
الألف – إشارة
حاء الحرمان ص 38
).
و لا
يغيب على أحد كيف
أن التصعيد هنا
من ثلاثة أطوار:
عذاب التجربة و
الاحتراق بنارها.
اختصار المعاناة
في ناتج الاحتراق
و ضياع الأشكال و
الصور. و أخيرا
العودة إلى الماء
أصل كل شيء حي.
لقد كان
انتماء الشاعر
للثقافة المائية
من أهم
اختياراته. حتى
أن بداية فن
الشعر برأيه
يتصادف مع كتابة
القصيدة فوق
الماء.
يقول:
ضعْ
إصبعك على شفتيكَ
علامة السكوت
وابدأ
كتابة القصيدة
فوق الماء. ( ص
35 – أقول الحرف
و أعني أصابعي).
و يقول:
لقد كنتُ
سعيداً كغيمة
لأنني
احتفظتُ في قلبي
بلغةِ الماء. (
إشارات الألف –
إشارة الطريق – ص
50 ).
***
المحطة
الثانية و هي
خاصة بلقبه:
الحروفي أو شاعر
الحروف.
لقد كان
في بداياته يلعب
بالحروف و
يستعملها لأنها
ذات قيمة رمزية
مطلقة و غير
محددة. و هو لم
يحاول أبدا أن
يخترع نمطا أو
نسقا له معنى. و
لو أنك فحصت
الحروف المتتالية
التي يذكرها في
قصائده لما خرجت
بنتيجة. لا إن
قرأتها بالترتيب
و لا إن حاولت أن
تعيد ترتيبها.
وزد على ذلك
عناوين بعض
القصائد مثل دال
المعنى و راء
المعنى و باء
المعنى التي لم
أجد فيها فرقا عن
عناوين أخرى مثل
زمن المعنى و
رومانسية المعنى،
إلخ....
إنها
حروف بلا مضمون
محدد و مباشر .
كما هو الحال في
مطلع بعض السور
في القرآن
الكريم. ماذا
تعني : كهيعص؟ (
سورة مريم ). و
ماذا تعني: ألف
لام ميم ( سورة
البقرة و
سورة آل عمران )
أو طس ( سورة
النمل)؟.
إن
الحكمة الإلهية
أو رسالة الوحي
تدل على القيمة
غير المباشرة
للحرف. و لم تقصد
أبدا توجيه رسالة
يمكن ترجمتها
حرفا بحرف. و هذا
هو شأن معظم رواد
الحداثة الذين
ظهروا في ستينات
القرن العشرين. و
لنذكر وليد
إخلاصي كمثال.
فهو في
مجموعته
التجريبية ( يا
شجرة ، يا ) يلعب
بالحروف ربما
ليشير إلى
المضمون الغامض
للطبيعة و النفس.
فالإنسان لا
يستطيع أن يقدم
تبريرا منطقيا
لكل ما يلاحظه أو
يمر به في حياته.
ناهيك عن معجزات
و غوامض العلم
الحديث الذي غير
من نظرتنا
لأنفسنا قبل أن
يغير من تفسير
الحوادث.
نحن نفهم
معنى: كانت الحاء
و الباء ( حب)، و
نفهم الميمواوتاء
( موت) ص ٢٨. و
لكن ما معنى:
كانت التاء و
الواو. أو ما
معنى: نقطة
السين، ص ١٨.
لقد
اعتبر وليد
إخلاصي أن
المدينة هي لغة
النظام القمعي، و
لذلك كان لا بد
من تفكيك
الأبجدية للدخول
في طور التبشير
بتحطيم قيود
المعنى الثابت.
و كان
مثل هذا السلوك
يغلب على مجموعات
أديب كمال الدين
الأولى و قد بلغ
الذروة في (
أخبار المعنى) ثم
( مواقف الألف).
و لكنه في
(الإشارات) بدأ
باختيار الحروف
التي لها معنى.
مثلا يقول: الياء
و السين. و هذا
مطلع سورة قرآنية
و هو ( يسن) . و
هو قسم و وعيد من
الله تعالى.
و أستطيع
أن أستنتج من ذلك
أن حداثة أديب
كمال الدين خرجت
من طور التجريب و
دخلت في طور
الإيمانيات.
و لا
يختلف وليد
إخلاصي كثيرا عن
هذه النتيجة. فهو
بعد مرحلة
التلاعب بالحروف
( حروف الجر و ال
التعريف مثلا في
الدهشة في العيون
القاسية ) ينتقل
و نهائيا لنوع
هادئ من الخيال
الفني الذي يعيد
إنتاج بديهيات
وطنية منها
المقاومة و
التحرير. و هذا
شعار إيماني أيضا
و لكن فيه تصعيد
للمكبوت و
الغرائز بصور و
استراتيجيات
سياسية .
***
المحطة
الثالثة و
الأخيرة هي تحويل
الوحدات الشعرية
القصيرة إلى
قصائد طويلة تارة
بالتوازي و
أحيانا بالتتابع.
و هذا هو
ديدن الحداثة
التي جاءت بعد
مرحلة تفكيك
القصيدة
التراجيدية التي
لم تفهم مشروع و
لا حساسية
الشعرية العربية.
و أرى أن السبب
هو في استبدال
بعض المقومات و
المصادر. فالغنى
الوجداني لعلاقة
الشاعر العربي مع
الطبيعة المحدودة
لبيئته، و هي
طبيعة رمال
متحركة تشبه
نفسها، قاده
لتبني الوحدة
العضوية للقصيدة
و التي تتألف من
لحظات نفسية هي
عمود الشعر.
بعكس
الحال عند
الإغريق. فقد أثر
تنوع البيئة (
الجبل و البحر و
الغابة ) على
بنية القصيدة حتى
أنها كانت أقرب
لشكل السيرة
الشعبية. و لكنها
ازدهرت بشكل سيرة
للنخبة.
إنها مثل
السير العربية
التي لا تخلو من
الحب العفيف و من
الرغبة المكبوتة
و البطولات. قارن
بين سيرة أبي
الفوارس و
الإلياذة.
كلتاهما منشؤه حب
أو غرام ممنوع
تقف حياله
العقبات و
بالتالي يتطلب
منا لحله توسيع
الذهن و إطلاق
العنان للخيال
الذي يجد الحل
بأدوات من فوق
الواقع.
و قد
طوّر أديب كمال
الدين في هذا
الفضاء الغريب
وحداته التي عملت
بالتتابع في
(المواقف ) و
بالتوازي في (
الإشارات) لصياغة
سيرة نفسية
لرحلته من الوطن
إلى المنفى في
المجموعة الأولى
و لصياغة صورة
نهائية عن منفاه
في المجموعة
الأخيرة.
لقد خاض
أديب كمال الدين
في هذه القصائد
معركته ضد
التشابه الذي هو
عمود الشعر
العربي و إطاره (
القافية و الروي
) و ضد التكرار (
الذي هو أهم صفات
السير الملحمية
حيث أن كل حدث
يتكرر عشرات
المرات و بصيغ
متقاربة )، و فعل
ذلك من خلال
التعبير عن
الحاضر بصيغة
الماضي. بعبارة
أخرى: إنه نظر
للرواسب و
الخبرات القديمة
من خلال أثرها
النفسي المستمر.
فطوفان نوح مثلا
هو مجرد حلم لا
يستطيع أن يستيقظ
منه.
و لذلك
لا تخلو منه و لو
مجموعة واحدة. و
قد اختار أن يكون
شاهدا على
الطوفان و ليس
مجرد واحد من
الرواة أو
المفسرين. و كما
أرى هذه إحدى أهم
عناصر المخيلة
الفنية.
*******************
- إشارات
الألف : شعر:
أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف،
بيروت، لبنان
2014
- مواقف
الألف : شعر:
أديب كمال الدين،
الدار العربية
للعلوم ناشرون،
بيروت، لبنان
2012