احتفى
بيت بابل الثقافي في محافظة بابل
بالشاعر أديب كمال الدين حيث
أقيمت أمسية خاصة للاحتفاء
بمجموعته الجديدة (في مرآة الحرف)
الصادرة
حديثا عن منشورات ضفاف
ببيروت. وقد شارك في الاحتفالية
الأدباء: عبد الأمير خليل مراد،
د. وسام حسين، مالك مسلماوي، ركن
الدين يونس، سعود بليبل، معين
جعفر محمد،
كامل
الدليمي. وقد قدّم الأمسية التي
أقيمت في 12 نيسان- أبريل
2016، الشاعر
عبد الهادي عباس.
فضاءات السياق الدلالي عند أديب كمال الدين في مجموعته (في مرآة الحرف)
عبد الأمير خليل مراد
تقترح دراسة المعجم الشعري عند
أي شاعر عملا إحصائيا لبعض المفردات
التي تستغرق معظم نتاجه الشعري،
حيث يمكن أن نتبين من خلال هذا
الإحصاء موجهات تجربته الشعرية،
والفضاءات التي تشكل في آفاقها روافد
هذه التجربة ومصادرها المتنوعة.
ويمكن
للقارئ أن يستجلي من منظور هذه
الخارطة تبديات الهموم والأفكار التي
تستحوذ على خصائص هذا المعجم.
والمعروف أن أي معجم شعري يصدر عن
البيئة التي يحيا فيها الشاعر؛
فمفرداته هي نتاج تلك الحاضنة، وما
تنتهي إليه ثقافته الذاتية في مختبر
الباطن، فالشعر الجاهلي، مثلا هو
حصيلة مؤثرات البيئة الصحراوية، تلك
البيئة التي تمجِّد القساوة، وتحتفي
بالانتماء القبلي والبطولة الفردية
وصعوبة العيش، حيث تأتي مفردات شعره
قائمة على مناخات هذه البيئة،
كالصحراء والأطلال، والناقة، والعارض،
والذميل، والخمار، والذوابل، والسيوف،
والرماح، والزبرجد، وغيرها.
كما أن هذا المعجم يتطور من عصر إلى
آخر، فمعجم شعراء العصر الإسلامي
يختلف إلى حد كبير عن مفردات شاعر
العصر العباسي، وهكذا نلاحظ أن
المفردات عند شاعر النص الحديث هي
ليست كالمفردات التي يتبناها شاعر
قصيدة العمود.
وأديب كمال الدين شاعر امتدت تجربته
منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي،
إذ اصدر مجموعته الشعرية (تفاصيل) عام
1976 م، وهي مجموعة مبكرة قياسا إلى
عمره الأدبي كونه ولد عام 1953 م، أي
أن عمره حينها قد بلغ ثلاثة وعشرين
عاما، كما أعقب هذا الإصدار بأكثر من
سبع عشرة مجموعة شعرية، توزعت بين أرض
الوطن وبلاد الغربة، حيث يبدو لنا من
خلال هذا التقصي إنه شاعر ذو تجربة
عميقة وغنية قائمة على المكابدة
الحقيقية، ومعانقة الهم الإنساني، وقد
أقام هذه التجربة على الإخلاص لفنه،
وتطوير أدواته وتحولاتها - منذ
بواكيره الأولى- من قصيدة التفعيلة
إلى قصيدة النثر، واستطاع عبر هذا
المخاض الطويل مع الكتابة أن يؤسس
منطقة خاصة به، منطقة تسمى (الحرف
والنقطة)، إذ أطلق عليه بالشاعر
الحروفي، أو شاعر الحروفية الجديدة،
وهي منطقة لا يمكن لأي شاعر آخر
تقليدها أو استنساخها، وان الاستدلال
إلى منتجها يتأتى من خلال فضاءاتها
اللصيقة بالحرف، وما يفضي إليه عالم
الحرف من تنوع وابتكار جديد.
يقول بودلير"لكي ننفذ إلى روح الأديب
علينا أن نفتش عن الكلمات التي يكثر
من استخدامها في قصائده"، ولأجل أن
تستقري معجم أديب كمال الدين الشعري
في (مرآة الحرف) لابد من التحليق في
تلك الفضاءات التي تشكل عالمه الشعري،
وتلمس تجلياتها في أكثر من إطار.
ففي الفضاء الجغرافي نرى الشاعر يعول
على المكان بوصفه متحفا ذاتيا
لذكرياته وطفولته التي ابتدأها من
الحلة إلى بغداد وعمان ودمشق في
يوميات هذه الأمكنة القريبة إلى ذاته،
وهي تتجسد كأمكنة عنقائية راسبة في
وجدانه، إنها جغرافيا التوازي التي
تهيمن في حضورها النصي على الكثير من
تجارب أديب كمال الدين الشعرية، فنراه
يكثر من استعمال مفردة الحرف والنقطة
والبحر والنار والفرات والضحك و (ليل
نهار)، وكل هذه المفردات لها دلالات
رمزية وسياقية تتجلى في تعويم
استعاراتها، وملامستها كشوفات الشاعر
الاحتجاجية.
فمفردة"النهر"التي يعني بها الفرات لا
تشير إلى الخصب والنماء، ذلك أن الماء
هو واحد من أقانيم التكوين الأولى،
إنه كالهواء والنار والتراب، غير أنه
يمنح هذه المفردة رمزية مغايرة،
فالفرات هنا يمثل سلطة التخلي
والجفاء، حيث ارتبط هذا الاسم بإقصاء
الحسين (عليه السلام) ومنعه من
الالتذاذ بشربة ماء،وهو في أقسى حالات
الظمأ. إن هذه التراتبية الرمزية
لمفردة الفرات هي تراتبية انفعالية
تتجاوز الصيغة النمطية لمفهوم الماء
في الضمير الجمعي، كرمزية التطهر
والاغتسال بفيوضات المقدس حيث يقول في
قصيدة (قال الذئب: أنا هو البحر) ص 25:
طوالَ حياتي لم أفعلْ شيئاً
سوى أنني تركتُ جسدي الجريح
ينزفُ وهو يغرقُ في الفرات،
يغرقُ أمامَ عيني
كطائرٍ ميّت.
إن بؤرة هذا المقطع تقوم على مفردتين
هما (الجسد والفرات)، غير إن هذه
البؤرة ذات رؤية تشاؤمية تتأسس على
اليأس والإحباط، فالجسد معطل يسيطر
عليه النزيف من كل جانب، بينما الفرات
لا يقوى على بعث الحياة أو مواجهة
الأفول، إنها مأساة الذات الشاعرة
التي تتمرأى في (جسد ينزف وهو يغرق في
الفرات)، حيث يرسم لنا أديب كمال
الدين صورة قلقة.. صورة محزنة لإنسان
يأخذ بهيكله إلى الانطفاء بمحض إرادته
قبل أن يدركه الموت.
إنها مفارقة الزوال والبقاء، والشاعر
هنا، رهين حتمية الاقتناع بزواله، حيث
ينتهي كجسد ميت في دوامة الضياع.
وفي نص آخر تستحيل فيه الرؤية
السوداوية القاتمة عند أديب كمال
الدين إلى رؤية عدمية، فالفرات قد
أعلن موته، وترك وصيته على الشاطئ،
تلك الوصية التي تتهجى شقاءنا نحن،
ومصائرنا التي نرمقها على لائحة
الانتظار، محاولا ترحيل موت النهر إلى
موت الإنسان الذي يلتهمه الزمن تحت
سطوة الجفاف وجدب الأرض، حيث يلجأ
الشاعر إلى تقطيع أوصال الفرات كمفردة
موحشة لا تستقيم حروفها إلا بالتفكك
والاندثار، فالفاء هي سرير تسكنه
الفوضى، إذ يتمرد هذا الحرف على صورته
النقية في المخيال الشعبي، كحرف واعد
بالعطاء، كما يرد في كلمة الألفة، أو
كلمة الفضيلة، كما تأتي بقية حروفها
بصيغة الانكسار نفسه، فالراء رعب لم
تسعه أوتاد الجبال، والألف صورة لشاعر
مرتبك، وتائه، والتاء هي مركب رخو
تتقاذفه زفرات التلاشي وحوافر
اللاجدوى، يقول في قصيدة (بعد أن...)
ص48:
بعدَ أنْ ماتَ الفرات
تركَ لي وصيّتَه على الشاطئ،
قالَ فيها:
اذهبْ إلى دجلة
وقلْ لها بما جرى،
فإنْ حدّثتكَ فهو المُراد.
وإنْ لم تحدّثكَ
فخذْ حروفَ اسمي الأربعة
واحرقْها واحترقْ بها:
في الفاءِ سترى فوضى لا حدّ لها،
وفي الراءِ سترى رُعباً بحجمِ الجبال،
وفي الألِفِ سترى شاعراً تائهاً،
وفي التاءِ سترى مركباً يغرق.
اركب المركبَ وتعال
فلا جدوى مِن كلِّ هذا المقال.
كما يؤكد هذا النص على الروح
الإبلاغية ما بين الفرات ودجلة، وحضور
الجغرافيا كاعتراف أبدي بالمصير
المشترك، والبوح بما لا تستطيعه أفواه
المتنابذين. ولعل صيغة الخطاب تومئ
إلى إنسان الرافدين الذي يستحثه
الفرات إلى التماس صنوه (اذهب إلى
دجلة وقل لها ما جرى)، أي التماس
الآخر لما فيه من رفض وانتماء لعبور
محنة الوطن، والانتصار على الظلام
ولم يقتصر هذا الفضاء عند الشاعر على
مفردة الفرات، بل تعدى ذلك إلى مفردات
أُخرى، امتاز أديب كمال الدين في
تأثيث قصائده بتوهجها ونموها الدرامي،
كالطاغية، والانتفاضة، والذئب،
والضحك، والمقابر، والخراب، والحرمان،
والمرآة، والهذيان والزنزانة،
والدخان، والطبول، والطوفان، والحاء،
والباء، والكاف، والنون، والسين،
والصاد، والياء...
وفي الفضاء الرمزي يختلط الرمز الديني
بالأسطوري، والتراثي بالأجنبي، حيث
تسم هذه المقاربات نصوص أديب كمال
الدين بالانفتاح على الثقافات الأخرى،
وتشرب مراميها ومحفزاتها في كل منحى،
إذ يميل إلى الاتكاء على هذه الرموز
بوصفها قناعا رؤيويا، ومركزية معرفية،
يتماهى فيها الخاص بالعام، ويلتحم
الجزئي بالمطلق، فنراه يلح على
استثمار الرمز الديني، وتوظيفه في
أكثر من قضية، ففي هذا المقطع الشعري
يشير إلى الموت المجاني الذي يختزل
العالم بكوارثه ومآسيه، فعزرائيل الذي
يستلب أرواح الموتى، هو عزرائيل آخر
بعد أن أصبحت صور الموت هي الصورة
المألوفة في حياتنا، وما شوارعنا
ومقابرنا إلا معرض استثنائي لهذا
الموت اليومي، حيث يؤكد ذلك في تكراره
لمفردة (وفي) كما انتهت بتنقيط يفصح
في ذلك عن هذا الامتداد و(اللانهاية)
ص24.:
في وفي وفي...
صور
الموتِ التي يعرضُها التلفزيونُ
كثيرة:
الموتى في كلِّ مكان،
في الشوارعِ والمقابرِ والشققِ
السكنيّة،
في وفي وفي...
حتّى بدأتُ أشكُّ بأنَّ هذه الصور
هي إعلان تجاريّ لشركةِ عزرائيل
الكبرى.
كما تشيع مثل هذه الرموز في الكثير من
نصوص الشاعر، كيعقوب وهو يبكي ليل
نهار، ويوسف الذي يعود بقصيدته، وقد
حملتها حمامة نوح، أو ما استأثره عند
قابيل القاتل، وهو يرتدي ملابسه
الرسمية، ولكنه لا يعي كيف يواري جثة
أخيه هابيل في التراب، كما تظهر زليخا
بمكرها ويوسف بقميصه، وكذلك نوح
وسفينته التي تعدنا بالنجاة من
الطوفان في أكثر من نص شعري.
ويأتي الرمز الأسطوري كمعطى تاريخي
يجري اقتصاره على المزاوجة بين الماضي
والحاضر، حيث تستحيل تلك العناصر
الأسطورية إلى ثنائيات ضدية في نصوص
الشاعر، فكلكامش الذي ينشد الخلود لم
يقدر على استبقاء صديقه أنكيدو. وبهذه
الثنائية بين الموت والخلود تتداخل
مرموزات هذه الأسطورة في أكثر من
مكان، فمعد الانطولوجيا لا يكتفي بأية
قصيدة عابرة للشاعر، بينما نراه ينتقي
تلك القصيدة الموشومة بدم أنكيدو،
ودموع كلكامش، كما يجعل الشاعر من
كلكامش صديقا منفيا يحمل حروفية أديب
كمال الدين من بحر إلى بحر بعد أن كتب
عليه الرحيل، كما يقول في قصيدته (حين
وضعت البحر في قلبي) ص 130:
لأنّه كُتِبَ عليَّ الرحيل:
رحلة الليلِ ورحلة النهار،
رحلة المجنونِ ورحلة الفيلسوف،
رحلة المنفيّ ورحلة المَلْهوف،
رحلة كلكامش ورحلة أنكيدو،
رحلة الحرفِ ورحلة النقطة.
كما منح المنفى أديب كمال الدين آفاقا
جديدة في تجاوز المحلية، والاقتران
بسحر الثقافة الأجنبية، واستثمار هذه
الثقافة في هضم اللغات الأخرى، واستطاع بفعل
هذه المعارف أن يلتقط الكثير من
المؤثرات التي بدت واضحة في (مرآة
الحرف)، فهناك العديد من أسماء
الأمكنة والشعراء والأعلام والروائيين
قد استقرت - بإسقاطاتها الموحية
وشفراتها الرمزية، في نبضات نصوصه
الشعرية.
والواضح أن هذه المؤثرات قد أضحت جزءا
من تكوينه الثقافي، والتي تدل على
ثرائه المعرفي وتمثله الواقعي لحياة
الغربة، وان كانت تلك الحياة قاسية في
تداعيتها وهواجسها المرعبة، فالشاعر
يذكرنا في النص التالي (ص21) بما قاله
رائد المغتربين الجواهري:
رحت ضيفاً لأمة لم تلدني
كنت
فيها الأعز أهلاً وولدا
إذ يختصر تلك المسافة بين الغربتين،
وكأنه يستعيد بهذه المداورة الزمنية
آثام الواقع المرير ونبوءاته الفاجعة
بروح المتهيب الذي لا يحتمل المكوث في
فردوس الاغتراب
في شبابي
حزمتُ حقائبي
لأسافرَ إلى بلدِ غوته وشيلر.
لكنَّ المعريّ ذكّرني بعماه وعماي،
وديك الجنّ قرأَ عليَّ سرّاً
مرثيتَه المُرعبة،
والسيّاب أربكني بجوعه وإفلاسه،
فهجاني الحُطيئة،
ويجد القارئ أن غوته وشيلر - وما
تنطوي عليه سيرهم الإبداعية - لا
تبتعد في محمولها الدلالي عما اختطه
شعراء العربية من معادلات رمزية
متقابلة، وهي تتضافر مع تلك الأسماء
التي ينتهجها النص في المواءمة
النسقية في غضارة الحياة وبهائها في
بلاد المهجر، وبين عسر الصورة وكآبتها
عند المعري وديك الجن والحطيئة
والسياب.
وفي فضاء الإحالة تطغى الحروفية كملمح
أسلوبي يهدف إلى الانحراف عن بقية
التجارب الشعرية المعاصرة، وترسيخ
شفافية الحرف العربي وتمثل ما فيه من
طاقة تعبيرية تتجلى في أوجه الاختلاف
بين مفردة وأخرى، فجيم الجنة، كما
يقرر النفري في تجلياته ليس كجيم
الجحيم، وقاف القاتل ليس كقاف العاشق،
حيث يكرس أديب كمال الدين معظم تجاربه
الشعرية لهذا المنحى الأسلوبي،
والركون إلى وظيفة الحرف كمعطى دلالي
وتشكيلي، وتنميطها في صياغة الرؤية
الشعرية.
ففي قصيدة (إذا... ص53) يعمد إلى
مفهوم الاستبدال بين الحرف والنقطة،
وتفكيك الرتابة الجاهزة والتطابق
التأويلي بينهما،فبينما يرى الشاعر أن
النقطة هي الرصاصة، فالحرف هو القناص،
إذ تتكرر مثل هذه التناظرات المتقابلة
في مقاطعها الأخرى، فالنقطة هي
الأسطورة، والحرف هو عشبة كلكامش،
والنقطة هي زليخا والحرف قميص يوسف،
أو النقطة هي البحر والحرف هو سفينة
نوح وحمامته التي دلته على انحسار
الطوفان:
إذا كانت النقطةُ هي البحر
فَمَن يكون الحرف:
أهو نوح
أم سفينة نوح
أم غراب نوح وحمامته؟
كما
تحيل بعض نصوص الشاعر إلى صورة الحاكم
الذي بسط سلطته على الجماهير بقوة
النار والحديد، وهو الفاتك، الفاتح
المسدد بالإرادة الإلهية، حيث يرصد
هذه الظاهرة من خلال الفكر السياسي
المُضلل واشتراطات تدجين الإنسان، غير
أنه يلتقط هذا المشهد الفاجع بحس
الكاريكاتيري الساخر، إذ جاءت هذه
السخرية المرة كنتيجة لويلات الحصار
والخيبة في انتظار المخلص، وهو يُنهنه
البائسين والمحبطين من تراجيديا العبث
بعد أن تحولت إلى ميراث لا يرحم.
فنراه يغوص في قيعان الشوارع الخلفية،
ويتهجى ما في حاراتها من بؤس وشقاء،
فالطاغية الذي ارتهن مصير البلاد
والعباد مولع بمداعبة الخيول والسيوف،
ومهووس بالحروب والرقص على جثث
الضحايا، وكأنه يبادل مرح الأطفال
وضحكاتهم بأزيز الطائرات، وطمأنينة
النساء والشيوخ بقنابل القتل المدمرة،
فهو يقول في قصيدة (هوايات ما بعد
الحرب) ص: 84
البارحة عُدنا مِن الحرب،
الحرب التي أعلنَها طاغيتنا المهووس
بالقصورِ والخيولِ والسيوف،
طاغيتنا السعيدُ العنيد.
عُدنا أكثر سعادةً مِن طاغيتنا:
فهوَ قد انتصرَ في الحربِ سَهواً
وركبَ الحصانَ الأبيضَ سَهواً
ونحن عُدنا نضحكُ بجيوبٍ خاوية
وأصابع مُرتجفة
ووجوهٍ كالحة
وأيامٍ ترقصُ كالجُثث.
**************************************************************
جماليات التناص في
مجموعة (في مرآة
الحرف) في ضوء التلقّي والتأويل
قراءة في قصيدة (ما قاله
الحرف للشاعر) للشاعر أديب كمال الدين
د. وسام حسين جاسم العبيدي -
بابل
لما كان الحرفُ ميدان اشتغال
الشعراء، فبه يمتازون عن سواهم،
وبحرفته صوغًا وتشكيلاً يتميّزُ بعضهم
عن بعض، كان الشاعر أديب كمال الدين
يرسمُ هويّته ويُشقّ اسمه بين عديدٍ
من أسماء الشعراء بانشغاله الأثير في
شكلانية الحرف وصوغه بطريقةٍ تلتقي
بكثيرٍ من أوجهها مع الشعراء
المتصوّفة، إذ كان انهمامهم بالحرف
واضحاً لا يحتاج إلى إثبات، ولعلَّ
الشاعر أراد أنْ يستلهم تجربتهم
الحروفية، ولكن بشيءٍ من التميّز، حين
انفتح شبّاك عالمه الشعري على كثير من
موضوعات الحياة اليومية، فكان لشعره
أنْ يستوعبها من خلال نافذة الحرف
التي عكف عليها منذ تجربته الأولى
(تفاصيل 1976م) وحتى آخر مجموعةٍ له
(في مرآة الحرف 2016م)، وبذا تحقّق
رهان الشاعرية الفذّة التي آمنَ بها
وجعلها هويّةً تُميّزه عن سائر
الشعراء.
وقد لا يختلف اثنان في صعوبة
احتواء تجربة الشاعر التي قضت مدة
أربعين عامًا في ورقةٍ أُعِدّت لأنْ
تُشارك في ندوةٍ أو أمسيةٍ تتطلّب
الاختصار في منح الوقت لآخرين، الأمر
الذي دفعني أنْ أقف مجموعته الأخيرة
(في مرآة الحرف)، لمعاينة نصّ (ما
قاله الحرف للشاعر) بوصفِها نصًّا
بحسب رأيي يختصر كلَّ تجربة الشاعر في
هذه المجموعة؛ وذلك باعتبار أنَّ
الشعرَ بوحٌ يُصرّح عن مكنون الشاعر،
وما يُخبّئه بين خوالج صدره من عواطف
وأحاسيس، فيكون النص تُرجمانًا يُفضي
بتلك الأحاسيس. وقد توفّر في نص (ما
قاله الحرف للشاعر) ص(89 - 91) بدءًا
بالعنوان وانتهاءً بآخر شطرٍ فيه تلك
الخصوصية. إلا أنَّ الشاعر ارتضى أنْ
يخرِج لنا النصَّ كائنًا سجين قمقم
صدره المعتّق بالرؤى والتجارب، فكأنَّ
عفريت حرفه جعل يتوسّل إليه أنْ
يُطلقه في فضاءات العالم؛ ليُحلّق
بعيدًا عما رآه وخبره عن الشاعر،
ويستطلع المُغيّب المحجوب عن الآخرين
بما فيهم الشاعر.
يبدأ النص بمناجاةٍ عذبةٍ
بصوت الحرف مخاطبًا الشاعر بوصفه
خالقًا له، إلا أنّ المتأمل في ذلك
الحوار الذي اختلقه الشاعر، يجده قد
تشرّب الموروث الديني، بشيءٍ من
قولبةٍ أتقنها الشاعر، حيث جعل الحرف
بمثابة الإنسان، وجعل النقطة بمثابة
المرأة التي صوّرتها تلك النقولات
الدينية بأنّها كانت في الأصل ضلعًا
في جسد آدم (ع) فخلق الله سبحانه من
ذلك الضلع حوّاء، ومن ثمَّ جاءت تلك
الخلطة السحرية التي كان منها الحرف
مُقاربةً من حيث المضمون المجازي
المغاير بما ذُكر عن وصية عليان
المجنون مخاطبًا أحدهم:
((أين أنت عن فالوذج العارفين؟ [قلت:
وما هو؟] قال: تأخذ قند الصفاء، وزيت
البهاء، وزعفران الرضا، ونشاء
المعرفة، فتذيبه بماء الحياة،...))([i])،
فقد اشتغل التناص في نصِّ كمال الدين
بين الموروث الديني ممثّلاً بالقرآن
الكريم، وبالموروث الأدبي ممثّلاً
بتلك الوصية المجنونة. ومن المعلوم
أنّ التَّناص له أهمية تتعلق بتوجيه
قراءة النص والتحكم في تأويله"([ii])
وعليه يكون التَّناص انتاجاً للتدال
والتداخل مختصاً بالقراءة التأويلية([iii]).
وتستمر المحاورة بين الشاعر والحرف
الذي لم ينشغل بأوجاع الشاعر
وانثيالات عواطفه، بمقدار ما كان
منشغلاً – أي الحرف- بمعاناة الحرف
وقلقه من مجاورة النقطة، فهي سبب
نعيمه وشقائه في آنٍ واحد، وبعبارةٍ
أخرى: إن كينونة الحرف لا تتحقق في
الوجود الذهني للمتلقي – أيًّا كان-
ما لم تكن النقطة موجودة في زاويةٍ ما
من الحرف، فالمعنى يتغير حين تصعد
أعلى حلم الحرف أو تهبط إلى أسفل
فجره، وهنا يُشير الشاعر عبر هذه
الصياغة إلى كونٍ فسيحٍ للحرف لا
يتحقق معناه إلا بوجود الحرف، وكأن
هذه النقطة التي انتُزعت من جسد الحرف
أصبح لها مفعولٌ سريٌّ، بعدمها – أي
النقطة- يجد الحرف نفسه مُستلب
المعنى، وهنا يجسد الشاعر حالة الحرف
من دون نقطة، بصورٍ ثلاثٍ لا رابط
بينها سوى حالة ضياع المعالم وانسلاخ
الهوية التي يكون التواصل عبر قنطرتها
السيميائية، فالغريب الذي يمشي تائها
لا يُرشده طريق، والمهرّج الذي يظهر
للناس من دون قناع يُخفي معالم وجهه
الحقيقية التي لا تبعث الناس على
الضحك، والطفل الذي يضيع حقيبته
المدرسية، وهي بالنسبة له تمثّل كل
شيء في حياته، فبفقدانها لا ترتسم
الفرحة على وجهه وهي الهوية التي تميز
كل الأطفال..
ثم
يقطع سيرورة الحوار بمداخلة للشاعر
بوصفه راويًا عليمًا بخواطر الحرف
وهواجسه، وبعد ذلك يرجع الحرف إلى
وتيرةٍ واحدة من الهواجس القلقة التي
انتابته بوجود النقطة وعدمها، مضفيًا
على الحوار ثنائيات متضادة بين طلبٍ
لوجود الحرف وقلق مريب من وجوده في
الوقت نفسه، ويُخيّل للقارئ أنّ
استعراض هذه الحوارية توحي بأن الحرف
طفلٌ صغير لا يقوى على مجابهة الحياة
من دون إرشاد أمه ورعايتها له، وقد
بدا على النص أن الحرف يعيش حالة قلقٍ
أكثر من حالة اطمئنان؛ نتيجة كونه
مسكونًا بهاجس افتراقه عن النقطة، على
الرغم من تصويره حال الحرف بحضور
النقطة، إلا أنّها صورةٌ تنمّ عن ثقل
ذلك الحضور الذي ينوء الحرف به كسجين
يجرّ سلاسله الحديدية، ثم يُضفي
الشاعر إمعانًا في تجسيد تلك الصورة
المعبرة عن معاناة الحرف بحضور النقطة
الثقيل، مؤثرات تُضفي رتوشًا تهيمن
على مسار التلقي، ومن ثم تُحرز وصول
تلك المعاناة إلى أكثر قدرٍ من
المتلقين، حين تبين أنّ صراخ الحراس
ينهال على ذلك السجين المكبل بسلاسله
الثقيلة، فضلاً عن هزء الناس وسخريتهم
منه. هذا هو حال الحرف الذي سرد
الشاعر أحواله لنا عبر رُؤياه
المنبثقة من صميم اشتغاله الشعري، ومن
ثم يُربّت الشاعر على كتف حرفه
الشاكي، بتلك الوصايا الأبوية التي
تلملم كل معاناته بأن يصبر الحرف على
قدره المكتوب له، فلا يتململ ولا
يتضجّر، بل بإمكانه أنْ يُدير دفّة
معاناته الأليمة إلى جهةٍ تنحو به إلى
السعادة، وذلك حين يُرسم غصن زيتون
يوحي بالبهجة والسلام والطمأنينة
فضلاً عن القداسة، وهنا تتحول النقطة
إلى حمامة سلام، كما بإمكانه أنْ يكون
جمرة نار، فلا يتوقع والحال هذه أنْ
تكون النقطة إلا غرابًا ينعب على
أغصان السطور.
إنّ
ما أراده النص عبر هذه الحوارية
المتخيلة – بحسب ما يراه الباحث-
انفتاحًا أكثر على الحياة ومشاكلها،
فبإمكان الفرد أنْ يقرأ الأشياء بحسب
موجّهاته وذائقته التي تختار له
اتّجاهًا يفسر كل ما يواجهه من قضايا،
وهنا أفلح الشاعر بتلك المحاورة بأنْ
يوصل هذه الرسالة المُرمّزة بالحرف
والنقطة كعادته التي أضحت بصمةً تميزه
عن سائر الشعراء العرب بعامة
والعراقيين بخاصة.
نصّ القصيدة :
ما
قاله الحرفُ للشاعر
شعر:
أديب كمال الدين
قالَ الحرفُ لشاعرهِ:
أعرفُ أنّكَ خلقتَ النقطة
كي تنقذني مِن سَأَمي، وحشةِ ساعاتي
ومِن موتي اليوميّ.
وأعرفُ أنّكَ خلقتَ النقطة
مِن ضلعي:
مِن طينِ الحُبّ
وعَسَلِ القُبلَة
ووميضِ العَين
ودمعِ الغيمة
ودِفءِ الشمس
وعُري المرآة
وريشِ الأحلام.
لكنَّ النقطةَ تُقْلِقُني دَوْماً،
ترقصُ لي، تُفرحني حيناً،
لكنْ ما أنْ تصعد أعلى حلمي
أو تهبط أسفل فجري
حتّى يتغيّر معناي.
وإذ تصبح، بقدرةِ قادر،
أكثرَ مِن نقطة
أصبح حرفاً مُختلفاً جدّاً.
وحينَ تخفي صورتَها السحريّةَ في الأثناء
أصبحُ غريباً من دونِ طريق
ومُهرّجاً من دونِ قِناع
وطفلاً ضَيّعَ حقيبتَه المدرسيّة.
قالَ الشاعر:
أعرفُ ذلكَ يا حرفي، أعرف.
أضافَ الحرف:
النقطةُ تُبكيني، تُربكني
وتُهَلْوِسني وتُدمدمني.
فإذا تركتْني ضعتُ
كما يضيعُ الخاتمُ في البحر.
وإذا حَضَرَتْ أصبحتُ المسجُون
يجرُّ سلاسلَه وسطَ صُراخِ الحُرّاس
وضحكِ الناس.
أجابَ الشاعرُ وهو يغالبُ دمعتَه:
قَدَركَ النقطةُ يا حرفي.
ارسمْها غُصنَ زيتونٍ
فإذا النقطةُ أضحتْ
حَمامتكَ البيضاء
أو ارسمْها جمرةَ نار
فإذا هي غُرابكَ ليلَ نهار.
([i]) عقلاء المجانين والموسوسين،
الحسن بن إسمعيل بن محمد
الضّرّاب (ت: 392هـ)، تحقيق:
إبراهيم صالح، دار البشائر،
دمشق، ط1، 2003م: 21 .
([ii]) السيمياء والتأويل ، روبرت
شولز ، ترجمة : سعيد الغانمي
، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر ،
ط 1 ، بيروت ، 1994 .
([iii]) ينظر : التناص ( دراسة في
الخطاب النقدي العربي )
، د. سعد إبراهيم عبد
المجيد ( أطروحة دكتوراه ) ،
كلية التربية / ابن رشد ،
جامعة بغداد ، 1999م: 24 .
*************************************************************
قراءة في مجموعة الشاعر أديب كمال
الدين: "في مرآة الحرف"
في مرايا الحروف
كامل حسن الدليمي
في معظم نتاجه الشعري، أصّر
أديب كمال الدين أن يستمر حروفياً من
خلال المجاميع الشعرية التي أصدرها،
ولعل آخر ما وصلنا من تلك المجاميع (
في مرآة الحرف) والتي صدرت عن دار
ضفاف في بيروت بطبعة أنيقة.
ولا غرابة على من جعل همّه
الشعر وتحمّل مسؤولية أن يكون سفيرا
للشعر العراقي الحديث في المهجر أن
تتسم أعماله الشعرية بالتميّز لتعبّر
عن حقيقة "أن الشعر عراقي" والحرف من
رحم بلاد الرافدين: منجم الإبداع
الفكري أفاد العالم منها وتخلّفت.
يعالج الشاعر أديب كمال الدين في هذه
المجموعة هموم إنسانية شتى منطلقا من
الحرف لما يشكله الحرف من أهمية بالغة
في صياغة المعنى بوصفه أصغر وحدة
لفظية تؤثث المفردة منها ويتشكل
بموجبها المعنى .
يقول (برغسون): "الكلمة مومياء... جثة
فارقتها الحياة.." (1)
ويقصد بذلك اللغة الفرنسية ولما كانت
الفرنسية هي أكثر اللغات الغربية
أناقة في الصياغة ورشاقة في التعبير،
وكان (برغسون) الفيلسوف الأديب على
رأي نقاده: هو (أعرق كتّاب أمته
وأكثرهم جلالاً في الإنشاء وأسحرهم
بياناً وإيحاء...) فإن هذا الحكم
القاسي الذي أصدره على الكلمة
الفرنسية ينسحب بالنتيجة على الكلمة
في اللغات الأجنبية بالنسبة للفرنسية
أي انها تشمل حتى العربية .
ولا شك في أن (برغسون) قد حكم بالموت
على الكلمة الفرنسية لأنه لم يعثر على
أيّ رابطة فطرية بين معانيها وبين
خصائص أحرفها، وهذا لا ينسحب مطلقا
على اللغة العربية التي أزعم أنها لغة
فطرية ومطواع.
ولقد نحا (برغسون) في حكمه هذا على
الكلمة منحى (لوك) الذي قال: "الكلمة
في اللغات الغربية هي إشارات اصطُلِح
عليها. فهي لا تنوب عن الأشياء بصورة
مباشرة، بل تنوب عن الأفكار القائمة
مقام الأشياء" (2)
أما الشعراء الرمزيون فهم على النقيض
من (برغسون ولوك) إذ يقررون: "الكلمة
هي صوت الوجدان لها سحرها ودفؤها
وعبقها، جهرها وهمسها، شدّتها ولينها،
تفخيمها وترقيقها، لها بتولة الفكر
وطهارة النفس. إنها مظهر من مظاهر
الانفعال النفسي".
وهنا نقول: الكلمة لدى الرمزيين هي
حيّة لا مومياء ولا مصطلح قد حجره
الاستعمال، ولا رمز ميت على معنى
ليخلصوا من ذلك كله إلى أن اللغة هي
"غاية وليست مجرد وسيلة للتعبير عن
المعاني، "(3)
ولكن ماذا يبقى للشعراء الرمزيين
أنفسهم من عبق الكلمة وسحرها
وانفعالها ووجدانها وإيحائها إذا هم
قرأوا الكلمة بنزاهة وحيادية، فلم
(يموسقوا) جملها الصوتية: جهراً
وهمساً، تفخيماً وترقيقاً، إلى آخر
معزوفتهم على أوتار أصوات أحرفها؟
أفلا تتحول الكلمة الفرنسية وغيرها
إلى مومياء، إلى جثّة فارقتها الحياة
إلى مصطلح، إلى رمز فتصبح لغاتهم بذلك
وسيلة لا غاية، كما قال (برغسون)؟
وعلى هذا فإن الحرف العربي وصوته ميزة
خاصة ونكهة جاءت عن فطرية اللغة
وجماليات دلالة أحرفها وقد عمد الشاعر
أديب كمال الدين في نصّه الشعري على
بثّ الحياة في الحرف واستنطاقه
ليتواشج مع الحرف اللاحق فاللاحق حتى
تؤسس مفردة مموسقة ومنسجمة بل
ومتداخلة يقول :
أحلمُ أنْ تكونَ النقطةُ
بحراً
والحرفُ سفينة
لأبحرَ في البحرِ الذي لا
رجعة فيه. ص 31
ومردّ هذا التداخل أن الحروف العربية
(بخصائصها ومعانيها) مشحونة بشتى
الأحاسيس والمشاعر الإنسانية مما جعل
الكلمة العربية بهذه الطاقة الذاتية
(تشخّص) الأحداث والمسمّيات والحالات
الوجدانية، في مخيّلات سامعيها
وأذهانهم وفقاً لمقولة ابن جني:
"سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود
والغرض المراد".
كما أزعم أن أديب كمال الدين قد حقق
علاقة جديدة بين الحرف وذاته بناءً
على حقيقة مفادها أن " أن اللغة كما
تداخلت مع أصول علم اللغة "النفسي"
بالكشف عن الخصائص (الهيجانية
والإيمائية والإيحائية) في الحروف
العربية، وكذلك بالمطابقة بين
(شخصيتي) الحرف العربي والإنسان
العربي في مكوناتهما- (الحيوية
والاجتماعية والثقافية) كما جاء في
دراسات عُنيتْ بعلاقة الحرف بالشخصية
يقول الشاعر:
الحرف الذي اخترتُه نجماً
مُضيئاً لكِ
ولصقتُه بالسماء
سقطتْ نقطتُه أمامَ عيني. ص
76
ويواصل كمال الدين في مشاغلة الحرف
وتدليله إذا صحّ التعبير فيقول:
أنْ تعيش من دونِ نقطة
يعني أنّكَ تعيش من دونِ حرف.
وما بين النقطة والحرف وشيجة تعبيرية
قصدية لا تتضح خطوطها إلا في مخيلة
الشاعر مهما بحث المتلقي تظل
استدلالاته قاصرة ما لم يغوص في كنه
الشاعر.
إن استنباط معاني اللفظة العربية من
صدى أصوات أحرفها في النفس يتطلب منا
نحن بالمقابل مستوى مماثلاً في الرقي
ولاسيما في الملكة الفنية (الذوقية)،
وطول معاناة مع أصوات الحروف
ومعانيها. وقلّما يتوافر ذلك إلا لمن
فهم الحرف واستدل على هويته وفي رأيي
المتواضع أن أديب كمال الدين قد تعرف
على ماهية الحرف وفهم مدلولاته فتعامل
بوعي كامل معها ، ولا يتهيأ ذلك إلا
لمن تمتع
برهافة
الأحاسيس، وشفافية المشاعر، مع صبر
طويل على الحرف ولنضرب لذلك مثلا: .
تتوفرخاصية الشدّة في صوت
(الدال) مثلاً، وخاصّية التحرك
والترجيع والتكرار في صوت (الراء)،
وخاصيّة الانبثاق والنفاذ والصميمية
في صوت (النون)، وخاصيّة الاهتزاز
والاضطراب والتشويه في صوت (الهاء)،
وخاصية الصلابة والصقّل والصفاء في
صوت (الصاد)، وما إلى ذلك من خصائص
أصوات الحروف، لا يستطيع القارئ أن
يعيها، ولا أنْ يعيَ العلاقة بينها
وبين معاني الألفاظ التي تشارك في
تراكيبها، إلاّ بعد تأمل هادئ عميق
ومعاناة طويلة يقول الشاعر :
قالَ الشاعر:
أعرفُ ذلكَ يا حرفي، أعرف.
أضافَ الحرف:
النقطةُ تُبكيني، تُربكني
وتُهَلْوِسني وتُدمدمني. ص 90
ولكل حرف من الحروف أعلاه
خاصية تميزه ولننظر ماذا فعل التاء
وأية ألفاظ أسى اقترنت به هكذا فان
الوعي بالحرف أنتج مفردة شفيفة معبرة
.
ولا نريد الاستغراق كثيراً في
تفصيلات محموعة (في مرآة الحرف) فهي
عمل متكامل من معظم نواحيه خصوصاً وقد
تناولها بالبحث والتحليل أساتذة في
النقد، ولسنا معبّرين إلا عن وجهة نظر
متمنين للشاعر أديب كمال الدين المزيد
من العطاء الناضج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- في فلسفة اللغة كمال حاج يوسف،
ص57.
2- محاضرات في علم النفس اللغوي د.
حنفي ابن عيسى ص31.
3- في علم النفس اللغوي ص57".
تسجيل لمقتطفات من آراء الأدباء المشاركين في الأمسية
بعدسة الفنان سرمد بليبل
https://www.youtube.com/watch?v=HByGkNDnars
|