نصّ القصيدة
1.
وسطَ غيمةٍ صفراء وزرقاء وبرتقاليّة،
أجلسُ وأنظرُ من زمنٍ إلى زمن
ومن عمرٍ إلى آخر.
توقّفت الغيمة
كانَ هناك صوت ناي جميل،
صوت ناي عذب
كنافورةِ ماءٍ وسطَ الصيف.
توقّفت الغيمة
فنظرتُ مِن عَلٍ كي أرى العازف.
كنتُ أتصوّره أبي.
(لم يكن).
كنتُ أتصوّره ابني.
(لم يكن).
ربّما أكون أنا.
(لم أكن).
لم يكنْ أحداً أبداً،
كانَ صوتاً جميلاً مُذهلاً
يملأُ كلَّ شيء بهجةً وذهباً.
2.
تعبت الغيمة.
فنظرتُ وجدتُ أبي
يستلقي وسطَ غيمةٍ أمامي
وابني يمتطي غيمةً تسيرُ في أثري.
تعبت الغيمةُ من الوقوف
فتحرّكتْ بهدوءٍ إلى النهاية.
لكنّ غيومنا،
وا أسفاه،
أخذتْ تفقدُ ألوانَها البهيجة
وتسودُّ شيئاً فشيئاً.
العنوان: العازف لفظة مفردة معرفة
تحمل في طياتها القوة والقدرة على
التأثير في الآخر، لأن العزف هو
اجتياح لجميع الحواس من خلال بوابة
السمع والتسرب إلى سراديب الأعماق،
فالعازف موجه وساحر وكأنه يمسك بأرواح
المستمعين في قبضة إحساسه كما يمسك
الساحر بحبال عرائس الغرغوز يوجهها
كيف ما شاء
.
إضافة إلى أن لفظة العازف اختصرت
مضمون القصيدة إذ بدأت بحرف العين وهو
أقصى الحروف الجوفية وأعمقها عند
الخليل، وانتهت بحرف الفاء وهو حرف
شفوي انفجاري، فهي تعكس البداية
والنهاية وكأنها اختصار للحروف
الهجائية، بل كأنها بداية المرء من
أعماق بطن الأم الصامت إلى أن يخرج في
صرخة إلى الوجود.
كما أن كلمة العازف فيها ما فيها من
العزوف و الانسلاخ عن ملذات الدنيا
والخروج من عالمنا إلى عالم الصمت
والتجرد من الإغواءات المادية و
التفرغ إلى التبصر والتأمل
.
كذلك المفارقة بين العازف والعارف هي
النقطة، وهي سر الوجود، منها بدأ
العالم وفيها ينتهي، فالحرف مبهم لا
تدري إلى أين يقودك غموضه إلى أن
ينقط، إضافة إلى أن العارف بكل الأمور
المدرك لشموليتها المتبصر فيها هو
الله عز وجل، فهو وحده العارف، إضافة
إلى ذلك فالعزف له ما له من دلالات
روحانية لا يدركها إلا المتبحّر
والمتلذّذ بالروحانية الصوفية
.
تلك النظرة الصوفية تحيلنا على التأمل
والاستبصار والمقاربة بين الموسيقى
والإلهام ، و كأنه يعرض فكرة تجلي
الذات الإلهية في العازف، فالعازف له
تلك القدرة على مخاطبة الأرواح
والتأثير فيها والتحكم في حركاتها
وتوجيهها، بل أبعد من ذلك تخذيرها
وإخضاعها وجعلها تتمرد، تتحمس، تحزن،
وتفرح، وكأنها قدرة إلهية. ثم إن
العازف يتعامل مع المستمعين بإشارات،
ويسيطر على آلته بوقار وكأنه قائد
أوركسترا كاملة، يكون الآمر الناهي،
والبادئ الخاتم، يضبط إيقاع موسيقاه
فلا يكون النشاز، وكأنه يتحكم بكل
أسباب الوجود من حوله ، فهو المسيطر
.
وسطَ غيمةٍ صفراء وزرقاء وبرتقاليّة،
أجلسُ وأنظرُ من زمنٍ إلى زمن
ومن عمرٍ إلى آخر.
توقّفت الغيمة
كانَ هناك صوت ناي جميل،
صوت ناي عذب
كنافورةِ ماءٍ وسطَ الصيف.
ثم إن فكرة النفخ في الناي لها دلالة
واضحة على نفخ الروح والتحكم في مدى
قوتها و ضعفها، فنفخ الروح في أبينا
آدم هي البداية، ونفخ إسرافيل في
البوق يعني النهاية . ثم إن إغلاق
العازف لعدد من الثقوب في نايه و فتحه
لثقوب أخرى مقاربة غريبة، و كأن الله
يغلق بابا ليفتح عشرة، لأن تعسر النفخ
في الناي يتبعه يسر، كأنّها الآية
الكريمة (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا)، إضافة إلى كل ذلك ورود فكرة
العزف في القٍرآن الكريم في سورة سبأ
الآية 9 ( وَلَقَدْ
آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ).
هذه السورة تتحدث في بدايتها على
الأرض والسماء والوجود وهو ما جاء
عموما في قصيدة العازف والتي ربط فيها
الشاعر بين عالمين، عالم علوي روحي
وعالم سفلي مادي، فقد انطلق الشاعر من
فلسفة الغيمة، وهي عميقة الأبعاد، فهي
رمز للسمو بالأفكار ولارتقاء قصد
التأمل والتطهر من الأدران، فكلما
تطهر الجسد سمت الروح فوق الغيوم
للوصول إلى نطاق خارج عن المألوف،
بغية السكون المطلق
.
توقّفت الغيمة
فنظرتُ مِن عَلٍ كي أرى العازف.
كنتُ أتصوّره أبي.
(لم يكن).
كنتُ أتصوّره ابني.
(لم يكن).
ربّما أكون أنا.
(لم أكن).
لم يكنْ أحداً أبداً،
لكل واحد منا غيمته وعالمه ، فإن أحسن
عصرها نزل الغيث فأنبتت الأرض وكان
الفلاح، و إن أساء عصرها نزل البرَد
وعمّ الخراب. وقد لا يصل المرء أبدا
إلى عصرها فيعيش طوال عمره تحت وطأة
الظمأ، يبحث عن الماء والماء في
غيمته، بمعنى أن سعادة كل واحد منا
توجد في داخله ونحن فقط نتوه في البحث
عنها. ثم إن الشاعر عرض صورة نافورة
الماء، و هي إيحاء بفكرة الإيمان الذي
يمثل مرام كل روح عطشى، فإن كان الماء
سر وجود الأجساد الفانية فالإيمان سر
وجود الأرواح الخالدة
.
تتجلّى فكرة بحث الشاعر الدائم في
الوجود للوصول إلى سر العالم وسر
الكينونة والبحث عن الحقيقة المغيبة
في الغيوم وما تحمله في أحشائها من
أجنة رحمة أو أجنة عقاب، وكأن النفوس
الزاهدة في الدنيا وحدها تصل إلى عالم
الغيبيات وسر الأرواح.
والشاعر يعبّر لنا عن ضياعه بين
الألوان المختلفة وهي إحالة على ثقافة
الشاعر الواسعة ووقوعه بين تجاذبات
فلسفية ودينية و سياسية تفرض وجودها
كسؤال دائم يظل في أذهاننا مغيبا ، لن
نعرف الإجابة عنه إلا عندما يتحد
اللون وتختزل الأبعاد و تجمع العوالم
في العالم الآخر
.
ثم يتحدث الشاعر عن منبع العزف أهو
الأب أم هو الابن أم هو الشاعر ذاته،
وهي إحالة إلى الحب الخالص المتعلق
بالأرواح، أهو حب للآباء أم حب
للأبناء أم حب لأنفسنا، و يخلص الشاعر
إلا أن لا أحد يستحق الحب الكامل
الخالص إلا الخالق عز و جل
.
ثم إنه يعطي للإنسان الأسبقية على
الزمن والأسبقية على العمر، ويتجلّى
ذلك في تعالي الأنا وتضخمها على حساب
الآخر في قوله: (أنظرُ من علٍ)،
ولعلّها إحالة على القدر الرفيع
للإنسان وسموه على باقي المخلوقات،
مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَم وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرّ وَالْبَحْر وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنْ الطَّيِّبَات وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلًا)، وقد أتى الشاعر بما يشبه
هذا التكريم في قصيدته، وذلك برفعه
الإنسان في الغيوم، فقد ذكر الألوان:
الأزرق دلالة على الرفعة، فروح
الإنسان تنزل من السماء الزقاء لتدخل
في الجسد الأصفر، فتتداخل الألوان
لتصبح برتقالية حين تمتزج بلون الدم،
وكأنه امتزاج صفاء الروح بحمرة الدم.
في النهاية تغرق كل الألوان في اللون
الأسود، وهو القبر، أي الموت
.
وقصيدة "العازف" لغز يظل مستعصيا في
الأذهان، لذلك كان الشاعر في هذه
القصيدة دائم السؤال و الحيرة.
******************************
الأعمال
الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، حاء،
شعر: أديب كمال الدين، ص 188،
منشورات
ضفاف، بيروت 2016
|