أضعاف الأوزان
الشعرية هي أغراض
الشعر، لأن الشعر
يرتبط بكافة
أشكال الحراك
الإنساني من فرح
وحزن وسلم وحرب
وفقر وجوع ورفاه
وضيق وحب
وكراهية. ومَن
يجيد مِن الشعراء
فناً بعينه تخذله
الموهبة أحيانا
عن إجادة غيره
بنفس درجة جودته،
فشاعر الغزل ليس
كشاعر الحماسة
وشاعر الهجاء
والمديح ليس
كغيره من
الشعراء، ولذا
كانت لكل منهم
أيقونة يوقف
عليها شعره وما
أن يتعلّق بها
حتى تصادر موهبته
وتوقفها لنفسها
فتتمرّد عليه
وتتمرّد على
إطاعته في
الأغراض الأخرى.
هكذا تعودنا أن
نجد التباين في
قراءاتنا الشعرية
منذ وعينا الأول
وإلى اليوم، ولذا
ليس غريبا أن تجد
شاعراً مجيداُ
نبيهاً يشتهر من
خلال تركيزه على
جمالية الحرف،
لدرجة أن الحرف
بالنسبة إليه
يخرج من هيئته
الرسمية التي
منحتها له
التواءاته
الصورية النحتية؛
ليتحوّل إلى
كينونة مغرقة
بالرموز الصوفية
المتنوعة
المستويات، التي
تمتد أطيافها في
كل المستويات
ابتداء من:
الدلالي، مرورا
بالترميزي،
التشكيلي،
التراثي،
الأسطوري،
الروحي، الخارقي،
السحري، الطلسمي،
القناعي،
الإيقاعي، ولا
تقف عند مستوى
الطفولي.
هذه العلاقة مع
الحرف التي
تحوّلت مرّة إلى
تجربة متجردة من
المعنى في نظر
البعض وأخرى إلى
حلقة من حلقات
الذكر الصوفي في
نظر غيرهم، بدأت
في وقت مبكر من
وعي وحياة الشاعر
العراقي أديب
كمال الدين، فهو
مع بداية تخرجه
من كلية الإدارة
والاقتصاد –
جامعة بغداد 1976
أصدر بالنجف
مجموعته الشعرية
الأولى “تفاصيل”
وكأنه أراد
التأسيس لهذا
المنهج التفصيلي
المتفرد الذي
تحوّل إلى عقيدة
بعد وقت قصير من
خوض التجربة، كما
في“ديوان عربي”
سنة 1981 و“جيم”
سنة 1989، و”نون”
سنة 1993،
و”أخبار المعنى”
سنة 1996،
و”النقطة” سنة
1999، و”حاء” سنة
2002، و”ما قبل
الحرف..ما بعد
النقطة” سنة
2006، و”شجرة
الحروف” سنة
2007، و”أربعون
قصيدة عن الحرف”
سنة 2009، و”أقول
الحرف وأعني
أصابعي” سنة
2011، و”مواقف
الألف” سنة 2012،
و”الحرف والغراب”
سنة 2013، وأخيرا
وليس آخرا
“إشارات الألف”
سنة 2014.
لذا لا غرو أن
يطلق عليه النقاد
لقب “الحروفي”
وهم يرونه غارقا
في الحروف متيما
بذكرها هائما
بعشقها، كما في:
الحروفي. الكتاب
الذي ضمّ مواضيع
ودراسات لثلاثة
وثلاثين ناقداً
كتبوا عن تجربة
أديب كمال الدين
الشعرية، عمّان –
بيروت، صدر عام
2007.
الحرف والطيف:
عالم أديب كمال
الدّين الشِعريّ
(مقاربة
تأويليّة)،
للأستاذ الدكتور
مصطفى الكيلاني،
(نشر اليكتروني)
صدر عام 2010
الاجتماعي
والمعرفي في شعر
أديب كمال الدين
للدكتور صالح
الرزوق- منشورات
ألف لحرية الكشف
في الإنسان، دمشق
صدر عام 2011
أضفْ نوناً:
قراءة في “نون”
أديب كمال الدين،
الدكتورة حياة
الخياري – الدار
العربية للعلوم
ناشرون – بيروت،
صدر عام 2012.
تجلّيات الجمال
والعشق عند أديب
كمال الدين،
الدكتورة أسماء
غريب- منشورات
ضفاف– بيروت، صدر
عام 2013.
إشكاليّة الغياب
في حروفيّة أديب
كمال الدين،
الناقد والأديب
صباح الأنباري –
منشورات ضفاف –
بيروت، صدر عام
2014.
مع هذه الحروفية
المسكونة بوجع
التصوف؛ تحوّل
أديب كمال الدين
إلى نورس مهاجر
مع الحروف
وبواسطتها،
يمتطيها
ويستنطقها
ويتعامل معها
تعامل الند للند،
يعيش في دنياها
حالة من التناسخ
الوجودي الغريب؛
حتى تشابكت
عروقهما وبات من
المستحيل التفرقة
بينهما. ومن هذا
التعلّق بالرمزية
تحوّل الحرف في
حياة أديب إلى
ارتباط وتقمّص،
إلى تبادل في
الأدوار، إلى
استعاضة مدهشة.
لمستُ ذلك وأنا
أقرأ كلمات
الإهداء التي
سطرها على الصفحة
الأولى للمجموعة
التي أهداها لي
حيث كان الحرف
شاخصا حتى فيها،
وكأنه لا يريد أن
يغادر عشق الحرف،
أو كأنه مسكون
بالحروف، حيث جاء
في الإهداء إلى:
“الإنسان النبيل
صالح الطائي،
تقبّل تحية الحرف
وسؤاله الأبدي”.
هكذا هو الحرف في
حياة أديب كمال
الدين، تحوّل إلى
دثار يمنحه
الدفء، يثير فيه
غريزة حب
الاستطلاع، يأخذه
بعيدا في دنيا
أحلام وردية، لا
يسمع فيها إلا
همس النسمات
وتغريد الأطيار،
فإذا نوى فراقها
لسعه فحيح النار
في دنيا الواقع
حيث الإفتراس
والتوحش
والعدوانية
والكراهية التي
طغت على كل
المشاعر الأخرى
في قلب الإنسان
وعقله، ولذا صنع
أديب كمال الدين
لنفسه دنيا من
حروف، وحوّلها
إلى جنة يعيش
فيها لوحده في
صومعة لا تختلف
كثيرا عن صوامع
الصوفيين
القدماء، بعيدا
عن الضوضاء
والضجيج، بعيدا
عن النفاق
والتلّون.
تمتاز هذه مجموعة
“إشارات الألف”
بتفرّد غريب، فهي
مع كونها مجموعة
شعرية؛ لكنها لا
تُقرأ كما يُقرأ
الشعر. إن طقوسية
قراءتها تتماهى
مع طريقة قراءة
مزامير داود أو
طريقة قراءة
تراتيل صوفية
يبتهل بها
المنقطعون عن
عالم المادة لرب
عالم الروح أو
تراتيل عاشق يقف
بحضرة الإله وهو
مملوء بالحيرة،
الحيرة التي بانت
بوادرها مع أول
إشارة، “إشارة
المحنة”؛ التي
يقول فيها:
إلهي،
أنا لا أشبهُ
أحداً.
أنا لا أشبهُ،
أحياناً، حتّى
نَفْسي!
وهي مرحلة من
التسامي المعرفي
الذي يتجرد عن
المصطلحات
والمسميات وأشياء
كثيرة أخرى
يجعلها تتجاوز ما
وصل إليه الشاعر
“ت. أس. إليوت”
الذي قال قبل هذا
بزمن طويل:
كل شيء في هذا
الكون غريب إلا
أنت وأنا
وحتى أنت أشد مني
غرابة.
فإليوت كان
محتارا باختلافه
عن الآخرين؛ بما
فيهم أقرب الناس
إليه، ولكن في
قوله تأكيد على
معرفة الذات، أما
أديب كمال الدين
فقد تجرد حتى عن
الذات وذهب إلى
أبعد من ذلك
حينما جعلته
الحيرة يشك أن
نفسه لا تشبه
نفسه.
ومن هنا، من هذا
العالم المركب
المعقد تبدأ
الرحلة، في درب
موحش، تحيطه
الوحدة وزوادته
بعض ما لدى
الدراويش، وهو في
مسيره ذاك كان
يبحث عن سر هذا
الاختلاف وينقّب
في الأرض لا
بمسحاة وإزميل
ورفش، وإنما
بالحرف، نعم
الحرف الذي
يتحوّل في هذه
الصورة إلى كسرة
تشبه كسرة الخبز
بيد فقير جوعان،
ولكن إذا ما كان
الخبز قوتا
للجوعان، وأملا
بالعيش والتجدد؛
فإن الحرف هنا
يصبح أداه كتابة
تبوح سرا، وتعينه
على البحث عن ما
يشعر به، وهو ما
يتضح من الإشارة
الأخرى، “إشارة
لا ولا” التي
يبدو اليأس من
خلالها وقد تجمع
في قوله:
إلهي،
أجلسُ في غرفتي
وحيداً
طوالَ عمري.
وحينَ يبلغ
السأمُ مبلغه
منّي
أفتحُ شبّاكَ
الغرفةِ لأصرخ
على المارّة
ثمَّ أعود إلى
السرير
فأتذكّر الموتى،
أصحابي الموتى،
ثمَّ أرجع فأطرق
بابَ القصيدة
ثلاثَ مرّات.
إلهي،
لا المارّة
ولا الموتى
ولا حتّى القصيدة
أنقذوني مِن
خرابي العجيب.
تشعر هنا وكأن
أديب كمال الدين
يريد أن يسير بك
عبر محطات موحشة
سببها القنوط
واليأس، وهو ما
يبدو في “إشارة
نوح” التي تمثّل
وجع البحث عن شيء
من عالم الخيال
في دنيا الواقع
ودنيا الخلود
التي تضطرب فيها
الحياة وكأن
الطوفان يتهددها:
وحينَ أتعبُ حدّ
البكاء
أرسمُ رجلاً
يشبهني تماماً
يجلسُ على الشاطئ
ليرسمَ نوحاً
وينوح!
إن البحث عن
المجهول هو السمة
الطاغية على هذه
المجموعة وعلى
أغلب أعمال
الشاعر، وتكاد
تجد الإشارة إليه
في كل منعطف وكل
زاوية، وفي جميع
فضائه، ولكنك
تشعر أن أديبا
يرى نفسه قد أدّى
ما عليه؛ ولكن
بخيبة ومرارة،
حينما يرى ويعتقد
أن حربه التي لم
تبدأ بعد قد
انتهت، مع انه
يشعر بها تقع
يوميا، وهذا ما
نجده في “إشارة
الحرب”:
إلهي،
هل أشبهُ هذا
الملك المجنون؟
أم أشبهُ هذا
الجنديّ المقتول؟
أم أشبهُ هذه
الحرب التي لم
تحدثْ أبداً،
أعني هذه الحرب
التي تحدثُ كلّ
يوم؟
إن الحرف عند
أديب كمال الدين
يرحل بعيدا عن
سكونه ليتحول إلى
حركة، والحركة
تتحول إلى فعل قد
يرافقه الصخب،
والفعل يتقمّص
روحه، فيتحد
الحرف مع الروح
ليشكل أحاديا
هجينا من نوع آخر
لم تعرفه
البشرية، يجعل
الحرف يشعر
بالوجع ويشارك
به، كما يشعر هو
بالوجع ويشاركه
مع نفسه، كما في
“إشارة لما حدث”:
فمثّلوا بجثّتي
فرحين
وبحروفي مسرورين.
ويعود الحرف يشعر
بالمعنى حينما
يأخذ معناه من
أصل باسق ليقابل
الكثير من القيم
في الضفاف الأخرى
البعيدة عنه
والتي يتصورها
بخياله الجامح
دنيا من نعيم،
كما في “إشارة
الحفلة”:
بحرفٍ محمّدي
وقلبٍ عيسوي
وسؤالٍ إبراهيمي
ودمعٍ يعقوبي
ويمتلك الحرف عند
أديب كمال الدين
مذاقا آخر، يأخذ
شكل وطعم ورائحة
الكلمة التي
يكونها، وله رمز
يمتاز به عن باقي
الحروف، ولذا لا
تستغرب إذا وجدت
السين تفاحة، كما
في “إشارة
السين”:
رأيتُ السينَ
تفّاحةَ حبّ
تبسّمتْ لي
وأشارتْ
وبل وتجد للحرف
عند أديب قدرة
عجيبة على إصابة
الشاعر بالهذيان،
كما في “إشارة
الفجر”:
لكنّي شبعتُ من
الحربِ والدمِ
والهذيان
أإلى الهذيان
إذن؟ أعني إلى
الشعر؟
هذا التعلّق
بالحرف جعل
أديباً سجينَ
دنيا الحروف
الوهمية التي
دخلها برجله
وبطوع إرادته دون
أن يدفعه أحد إلى
دخولها ثم رفض أن
يخرج منها بالرغم
من سطوة
المغريات. وهناك
فقط، في هذا
العالم الموحش
الغريب؛ شعرَ
بالغربة، شعر انه
سجين الوهم،
وأدرك أن باب هذا
السجن أكبر من أن
يقدر أن يفتحه
“إشارة من ثقب
الباب”:
كم أردتُ أن
أفتحَ الباب
لكنّي لم أقدرْ.
كانَ البابُ
كبيراً جدّاً
وثقيلاً جدّاً.
إن الشعور باليأس
يؤدي إلى ما لا
تحمد عقباه، ولذا
كانت الحيرة
تلفّه، فيخير
النفس بين أن
يبقى في هذا
السجن الذي
اختاره برضاه،
وبين أن يفتح
الأبواب وينطلق
إلى الدنيا
الواسعة التي كان
ينظر إليها من
ثقب الباب فيشعر
بالرهبة والخوف
من ذلك العالم
الموحش في الخارج
“إشارة من ثقب
الباب”
ولذا
رأيتُ الدنيا مِن
ثقبِ الباب.
كانتْ مُدهشةً
حيناً،
مُرعبةً حيناً
آخر،
قاسيةً كرصاصةِ
قنّاص.
في هذه المرحلة
من التغريب من حق
الشاعر أن يشعر
أنه أنفق العمر
كله وهو يصرخ،
ولكن لا احد يسمع
صراخه، وهنا في
الضيق والعسر
يشعر الإنسان
بالمرارة، مرارة
أن يسأل الله أن
ينقذه من نفسه
“إشارة الصراخ”:
وأخيراً
حينَ وصلتُ أو
كدتُ
إلى آخر أبواب
عمري،
صرختُ:
إلهي، أنقذْني من
نفْسي!
قد ينتصر الحرف
على السيف بيد
العقلاء، وقد
تهزم الكلمةُ
جيشا عرمرما، ففي
الدنيا غرائب
كثيرة ربما لا
تجلب انتباهنا
إلا حينما نمارس
معها الغضب، هذا
ما أراد أديب
كمال الدين قوله
من خلال توالي
الإشارات في
مجموعته: حرمان،
عذاب، حبال،
كلام، طريق،
طائر، مرآة،
وحوش، عطش، طفل،
جمر، رياح، شمعة،
شكوى، مأوى، ليل،
نار، جمر، أسرى،
سواد، سلام،
هروب، دمع، دم.
وبين إشارة
المحنة وإشارة
الكاف والنون
تقبع (100) إشارة
أخرى على مدى
(158) صفحة ترسم
التجربة الفريدة
لشاعر الصوفية
المعاصرة الحروفي
أديب كمال الدين
بشطحاتها الممتعة
التي تشبه شطحات
الصوفيين.
***********************
إشارات الألف:
شعر: أديب كمال
الدين ، منشورات
ضفاف ، بيروت،
لبنان 2014