صدرت عن منشورات "ضفاف" ببيروت
مجموعة شعرية جديدة للشاعر
العراقي أديب كمال الدين المقيم
في أستراليا حاليا. تضمّ المجموعة
أربعين قصيدة لما تزل وفيّة للحرف
ومُخلصة للنقطة. فقد بدأ كمال
الدين مشروعه "الحرفنقطوي" منذ
أربعة عقود ويزيد ولا يزال ينهل
من هذا المَعين الذي لا ينضب.
فالحرفُ ملاذهُ أو مَنجَمهُ
الشعري، والنقطة مفتاح أسراره،
ومِفكُّ طلاسمه التي لا تتكشّف
إلاّ بهذه العلامة المُضيئة التي
تنطوي على سحر غامض.
تحتفي غالبية قصائد كمال الدين
بالحُب وتتأجج بعواطفه المتقدّة
دائمًا، فما من قصيدة تخلو من وهج
التوقّد العاطفي حتى وإن لم تدُر
في فلَك الحُب، فثمة عاطفة لغوية
يستشعرها القارئ الذي يقرأ نصوص
كمال الدين أو يتلقاها، عاطفة
جميلة تكمن في عذوبة المفردة،
وسلاسة الصورة، وانسياب الأبيات
الشعرية التي تتدفق من منبع النهر
حتى مصبّه.
تبدأ أشعار كمال الدين في الأعم
الأغلب بأساطير الحب القديمة التي
عاشها آدم وحوّاء وتنتهي بأسطورة
حُب الشاعر لمحبوبته التي تمدّه
بكل هذا الزخم العاطفي لأنه مٌوقن
تمامًا بأن "كل شيء ماعدا الحُب
فناء"(ص15). وما بين الأزل والأبد
ثمة أحداث كبيرة مستقرة في
الذاكرة الجمعية يستنهضها الشاعر
في قصائده مثل طوفان نوح،
وحمامته، وغصن الزيتون، والناجين
الذين يتكاثرون على مرّ الأزمنة
من الحروب والجوائح والطغاة
فيقطعون البحار والمحيطات التي
تمنعهم من العودة إلى الأنهار
التي أحبّوها، وتعلقوا بسحرها
الأخّاذ، فما من شاعر عراقي صحيح
النسب إلاّ ويعترف بأمومة دجلة
وأبوّة الفرات، وكلما ابتعد
الشعراء العراقيون عن ضفاف دجلة
والفرات شعروا باليُتم، ومضاضة
الغربة، وقسوة الاغتراب.
لو وضعنا "حروفية" كمال الدين
جانبًا لتألق فيه الجانب الصوفي،
ولو نحّينا صوفيته لتوهجّ فيه
الرسّام، أو الفوتوغراف، أو
القاص، أو السينارست، أو المصوِّر
السينمائي الذي يصوِّر بعين
الطائر المُحلِّق أو بعين القط
المتسلل أو بعين السمكة المدهوشة.
فقصائده لم تعد حكرًا على
"الشِعر" كنوع أدبي وإنما امتدت
إلى مجمل الفنون القولية وغير
القولية. فكل قصيدة من قصائده
تسرد قصة محبوكة أو حكاية في أضعف
الأحوال. فقصيدة "ذات اليمين وذات
الشمال" التي استهلّ بها ديوانه
المعنون "حرف من ماء" هي قصيدة
مائية، إن صحّ التعبير، مثل سائر
قصائد هذا الديوان لكنها لم تتبخر
ولم تحترق ولم تذُب لأن الحُب
الحقيقي غير قابل للفناء. توقفنا
في مقالات سابقة عند بعض التقنيات
التي يستعملها كمال الدين في
قصائده مثل التناص، والسرد
القصصي، والبنية السينمائية وما
إلى ذلك. أما في ديوانه الجديد
فثمة احتفاء باللون، وتكريس
للبنية التشكيلية التي يمكن أن
يصادفها القارئ في قصائد عديدة
مبثوثة بين دفتيّ الديوان لكننا
سنكتفي بالإشارة إلى مقطع من
القصيدة الاستهلالية التي تؤكد
صحة ما نذهب إليه حيث يقول:
"لكثرةِ ما كتبتُ عنكِ
بالأبيضِ الثلجيّ
والأحمرِ الناريّ
والأزرقِ الخفيفِ أو المُوَسوِس
والأسْوَدِ الغُرابيّ
والأصفرِ الملآن بالآهاتِ
والقُبُلات
والرماديّ الذي لا يكفُّ عن
ملاحقةِ حروفي
ومحاصرةِ عناوين قصائدي،
ارتبكَ القُرّاء
وصاروا يقرأون قصيدتي
ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال".
ص 12
يوظِّف كمال الدين
بعض الأسماء الأدبية المشهورة
ويصنع من حيواتها مادة كافية لنسج
قصائدة كما هو الحال في قصيدة
"ماركيز يضحك"، فحينما بلغ عامه
الثمانين اكتشف سلسة أخطائه
المرّة وصار يضحكُ منها جميعًا
كالشُهرة الفارغة، وخياله
الأسطوري الجامح، لكنه لم يضحك من
المرأة التي كتب عنها ثمانين
كتابًا لأنه أيقن "أنها نبعُ
الضحكِ في ذاكرةِ الإنسان"(ص50).
في أكثر من قصيدة يلتقي الشاعر
برجلٍ يشبههُ تمامًا! تُرى، هل هو
ظِلّه، أم شَبحهُ، أم قرينه؟
مفاجآت من هذا النوع توفِّر
الدهشة للمتلقين الذين يلِجون هذه
الغابة الشعرية المسحورة التي
تتلاقح فيها الحقيقة مع الحُلُم،
ويتماهى الواقع مع الأساطير التي
يستدعيها كمال الدين إلى نصوصه
الشعرية التي تتمحور على ثيمات
محلية أو عالمية ذات نَفَس كوني.
لنتأمل هذا المقطع الشعري من
قصيدة "هذيان" التي يقول فيها
الشاعر كمال الدين:
" في القاعةِ كنتُ لوحدي أقرأُ
شِعْري،
إذ حضرَ رجلٌ يشبهني
وجلسَ في الصفِّ الأوّل
وأخذَ يُبدي حركاتِ الإعجابِ
بشِعْري.
قلتُ له: مَن أنت؟
قال: أنا ظِلّك!
قلتُ له : لا ظِلّ لي فأنا شبحٌ!
بل أنا شبحٌ ميّت!
هل سمعتَ بظِلٍّ لشبحٍ ميّت؟".
ص 66
يتكرر حضور هذا الشخص الذي يشبههُ
تمامًا في قصيدة "الدرج الطويل"
لكنه لا يشتبك معه في حوار عميق،
وإنما يبادلهُ بذات الابتسامة
الساخرة التي تظهر على شفتي
الشبيه كلما تلاقيا على "الدرج
الطويل"!
لنفترض أن المنفى ليس خلاصًا
فرديًا وإنما "خُدْعةٌ إضافية من
خُدَعِ الوطن التي لا تنتهي"(106)
فلاغرابة أن يعود إلى الوطن كلما
شدّه الحنين إلى ملاعب الطفولة
ومراتع الصبا على الرغم من قسوة
الطغاة، وفظاظة الجلادين. لنقرأ
هذا المقطع "الدموي" من قصيدة
"المطر يُغرقُ سريري الموحش"
وكأنَّ الدمَ ظلٌّ للإنسان
العراقي أو قرين لنهر الفرات.
"على شاطئ الفرات
يتناوبُ القتَلَةُ على دورِ
الجلّادِ ودورِ الضحيّة.
ولم يكن الفراتُ يأبه كثيراً لما
يحصل
لأنَّ مجرى الدمِ فيه
كانَ يسيرُ إلى جانبِ مجرى الماء
منذ الأزل."
ص100
يعتمد الشاعر أديب كمال الدين
على مقاطع أو وَمَضات شِعرية تقوم
على المفارقة
Paradox
التي تنطوي على نوع من التناقض
الظاهري كما هو الحال في هذا
المقطع الذي يقول فيه الشاعر:
"في
السِّجن
كانَ الشّرطيُّ يُغرقُ رأسَ
السّجينِ في الماء
ليعترف.
أمّا أنا،
ففي كلِّ قصيدةٍ كتبتُها،
كنتُ أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء
لتتوقّفَ عن الاعتراف."
ص 107
ينهل كمال الدين بعض الأفكار
والثيمات من أساطير بلاد الرافدين
وربما تأتي أسطورة "كَلكَامش" في
المقدمة لما تتضمنهُ من خلاصات،
وعِبَر، وأسئلة فلسفية لعلها
تتكدّس في الذاكرة الجمعية لأبناء
الرافدين منذ آلاف السنين.
ينتمي الشاعر أديب كمال الدين إلى
جيل السبعينات من القرن الماضي
فقد أصدر مجموعته الشعرية الأولى
"تفاصيل" عن مطبعة الغري الحديثة
بالنجف عام 1976 ثم توالت
مجموعاته الشعرية الأخرى التي
أخذت تعزِّز مشروعه "الحرفنقطوي"
الذي أصبح علامة فارقة تحمل اسمه
وتوقيعه الشعري. وإذا كان بعض
مجايليه من جيل السبعينات تحديدًا
أو الذين جاؤوا بعدهم من جيل
الثمانينات قد توقّف نموهم عند
حدٍ معين لأسباب عديدة لسنا
بصددها الآن فإن مشروع كمال الدين
لم يتوقف، كما أنَّ نموّه الشعري
ظل مستمرًا ويمكن إثبات هذا القول
بالعودة إلى أي مجموعة من
مجموعاته الشعرية الأخيرة مثل "في
مرآة الحرف" أو "إشارات الألف" أو
"شجرة الحروف" أو المجموعة
الشعرية التي نحن بصددها الآن
ليتأكد من صحة ما ندعّيه ويكتشف
بنفسه من شعريّة كمال الدين
الفاذّة، وشاعريته الرقيقة، ولغته
المموسقة الناعمة التي تشبه رقرقة
الماء. ثمة خصلة حسنة أخرى يتمتع
بها شعر كمال الدين وهي البنية
المعمارية التي تتميّز بها جُلّ
قصائدة، فما من بيتٍ شعري فائض عن
الحاجة، وما من جملة زائدة تُثقل
كاهن النص الشعري، وكل كلمة تسبح
في الفلك المُخصص لها لتكوِّن في
خاتمة المطاف عقدًا فريدًا يُغبَط
عليها شاعرنا المتعبِّد في صومعة
الحرف ومحراب النقطة.
*******************************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال
الدين، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان 2017.
********************************
نُشرت في جريدة الصباح الجديد
بتأريخ 15 تشرين أول- أكتوبر 2017
|