يبدو لي أن
كتاب حياة الخياري ( أضفْ نوناً
) الذي تناول شعرية أديب كمال
الدين هو استطراد بالانطلاق من
القصائد و ليس تحليلا لها.
و هذا يضعنا
أمام المشكلة التالية: أن منهج
حياة الخياري لا يأتي من بين طيات
المدرسة التحليلية في قراءة الشعر
كما وضع أسسها الأنغلوساكسون ثم
كما طورتها المدارس الأمريكية.
منذ البداية انحازت الخياري
لللأسلوب الرومنسي الفرانكوفوني
وهذا يعني أنها ألقت على القصائد
شيئا من عاطفتها الخاصة و كثيرا
من نشاط الوجدان الذهني الذي
اعتمد عليه جاك دريدا في تحليل
الخطاب وتفكيكه.
فدريدا
يعتقد أن في بداية أي تحليل قوة
صامتة بها يبدأ الكلام. و لكن
سريعا ما تتحرك من مكانها مع حركة
البنية الخاصة بموضوع الذات و ذلك
لتمنعها من مساوئ الحضور بشكل
إشارات ( 1 ). و هذا برأيه لا
يحول الموت إلى وجود بسيط معاكس
للحياة. و لكنه يكون مدخلا للحياة
نفسها. إنه بمعنى من المعاني
تضحية غالية تهدف إلى إعادة تبرير
الحضور برمزيته ( 2 ).
و لذلك
كانت في أغلب الأحيان تضغط لقراءة
ما بين السطور أكثر من قراءة
الحمولة اللغوية المتوفرة في ظاهر
التراكيب و الصور. و هذا غير بعيد
عن جو القصائد فالشاعر أصلا كان
يحاول أن يقرأ انعكاسات الواقع
على وجدانه.. بمعنى أن القصائد هي
من نتاج المخيلة و العلاقة
الأساسية فيها علاقة مادة – ذات و
ليس مادة – مادة.
و ذلك
ينسجم أيضا مع نشاطه اللغوي الذي
ينتسب لعالم التصوف و التنسك و
الزهد و يبتعد ما أمكن عن مجال
الإسراف. لقد كانت مفردات أديب
كمال الدين بسيطة و تراكيبه نابعة
من عالم أمنياته و ليس من خلال
الفروض و لا الواجبات.
و قد استطاعت حياة الخياري أن
تضبط هذه المعادلة: المسافة
الفاصلة بين الصور الملموسة و
علاقتها مع النشاط التصوري و
الميتافيزيائي من خلال الاعتماد
على مفهوم حركي في النظرية و
مفهوم محاكاة منعكس في التشابيه.
فقد وضعت كل ثقلها بالأحرى كل
ثقتها في مفردتين أساسيتين: هما
الفُلك ( السفينة ) و الفَلَك (
الكواكب السيارة). فهما برأيها
نقطة العقل و نقطة القلب ( 3 ). و
اعتبرت أن دوران كل منهما يشبه
دورة حياة المفردة في القصيدة..
بهذا الدوران كان الشاعر يكسر
حدود اللغة و يؤكد على مفهوم
الانزياح الدال و يستنبط من نفس
المفردات و المعاني الجو الروحي
المتوسع و هو ما يسميه دريدا
بانزياح الدلالات.
حيث أن نون
الزمن – كما تقول – تصنع البعد
الوجودي للذات و نون الحرف تساند
البعد الرمزي للقصيدة ( 4 ).
و هكذا
تنشأ علاقة حوارية بين الإنسان و
أسباب وجوده فاللغة شرط أساسي
للوجود الثقافي و لوجود الإنسان
في الثقافة ( 5 ).
لقد كان
مفهوم الناقدة يسير بالتوازي مع
مفهوم الشاعر و من الواضح أن كلا
منهما اعتمد على دورة غير متناهية
حول نقطة – مركز. و هذا وضع
القصيدة في مجال دوائر دلالية غير
منغلقة و قادرة على التوسع كما
أكد دريدا في دراسته لجان جاك
روسو.
كان دريدا يقرأ في
الطبيعة غير المتناهية و ذات
الأصل الثابت كل قدرات النفس على
التجدد العمودي و التراكم في دورة
المجتمعات و في ميثاق الإنسان مع
نفسه و مع الطبيعة المنتجة له.
و هكذا هو
شأن السفينة اللغوية لأديب كمال
الدين.. كانت تدور في المحيطات و
في الغمر بالماء و على متنها كل
المفردات التي تتجاور و تتعاكس
حتى تصنع السياق. إنها سفن
هيدغرية تكتشف الوجود بالانطلاق
من نفس المربع الأصلي حيث أن
الوجود هنا له معنى يختلف عن
الموجود هناك. و حيث أن السقوط في
الحفرة هو نشاط تاريخي لأنه
يتعادل مع هزيمة الأفراد أمام
النتاج المتراكم لمجتمع النخبة.
و حتى لا نذهب بعيدا.
كانت حياة
الخياري ترى أن حركة هذه السفينة
هي التي أنقذت القصيدة من الموت و
الاختناق و حولت كل بيت شعر إلى
أسطورة لمعنى. و هي التي أضافت
للصور و الرموز قيمة ساطعة تشبه
ما لدى الروح من مخزون تجريبي.
و كذلك هو شأن رمزية النبي يوسف و
هو ثيمة متكررة في كل أعمال
الشاعر. لقد رأت الناقدة في سيرته
ملامح فنية متعددة. فهو أخ مغدور
و معشوق عفيف و سجين بريء و عارف
لديه مفاتيح الرؤية الصحيحة. إنه
على حد قولها مجموعة من الصفات
البشرية المأزومة التي لا تنحدر
لمحاربة الواقع المتدهور و لكنها
تتعالى عليه. و هذه هي ملامح
البطل الوجودي و ليس النبي ( 6).
لقد ركزت
الدراسة إذا على التنمية الذاتية
للمعاني و ليس الصور و بطريقة
بلاغية و رومنسية تكاد أن تقترب
كثيرا من خصائص الحساسية الشعرية.
بمعنى أن الناقدة كانت في نفس
الوقت شاعرة. لقد أعادت كتابة
قصائد أديب كمال الدين بطريقتها
الناعمة و العاطفية. و لئن كان
لذلك محاسنه هذا يعني أيضا أنه
توجد أطراف و فراغات لا تزال
بحاجة لمزيد من التحليل و
التفكيك.
و أول ذلك
الموقع التاريخي لفكر التصوف
باعتبار أنه مغامرة فوق لغوية.
فقد كان للتصوف جانب روحي و
اجتماعي انتبهت له السلطات في
حينه و اضطرت لمحاربته. سواء بطرق
التصفية ( كما حصل مع الحلاج و هو
رمز متكرر أيضا في شعر أديب كمال
الدين ) أو بالطرق الشهيرة الأخرى
كالحصار و الترهيب و التخويف و
ماشابه ( كما حصل مع البسطامي و
الجنيد).
و بالنظر لاعتماد أديب كمال الدين
على رموز متطرفة دخلت في تجربة
التبشير الرسولي و وضعت
ميتافيزياء الحياة مع المعاني
الحركية للموت المثمر و هو موت
الرموز التي منها تبدأ الأسطورة
بتفسير العجز الوجودي للحياة
الجامدة حياة لموجودات لا تستطيع
أن تقرأ حتمية التطور و لا حكمته
فإن القراءة التاريخية تفيد في
الكشف عن المدلول السياسي لمضمون
القصائد. بهذه الطريقة يمكن
المساواة بين مفهوم التصوف و
مفهوم الجهادية..
و بعبارة
أخرى هذا يساعد على المطابقة بين
التصوف و العمل السياسي. لقد كانت
قصائد أديب كمال الدين بعيدة عن
الجوانب النظرية للتصوف. و بعيدة
أيضا عن نشاطها الكلامي. و يمكن
أن نرى أنها أقرب لتصوف الحركات
الإصلاحية التي احتجت على الكنيسة
- الدولة و دعت لربط الإيمان مع
مبدأ العمل و لوضع الميتافيزياء
في خدمة النشاط الاجتماعي.
النقطة
الثانية..ان الكاتبة لم تضع شعرية
أديب كمال الدين في إطارها
التصوفي المعاصر. و كانت المقارنة
مع أدونيس و أحمد الشهاوي مجحفة
بحقه. فما بالك ببعض المقارنات مع
شيخ شعراء القصيدة العشقية التي
تحولت فجأة لهجائيات لاذعة ضد
النظام العربي و سيطرة العسكر
عليه. لا يوجد في شعر أديب كمال
الدين نغمة هجومية و لا أية بادرة
تدل على إطلاق النار على صف
أعدائه الإيديولوجيين. بالعكس كان
اعتزاليا و مازوشيا. يدمر نفسه
ببطء لأنه أصبح في أحضان مجتمع
مهزوم و في ظل شخصية مستلبة لا
تملك الحق في اختيار مصيرها. لقد
كانت تجربة أديب كمال الدين نسيج
وحدها.
و قد استطاع من خلال
التأكيد على القيمة الأسرارية
للرموز ( الحروف و إكسسوارات
الحروف كالنقطة و الهمزة و إشارة
السكون و ما شابه) أن يجد مظلة
يقف تحتها. و اقترب من تجارب
مماثلة لمشايخ من بدايات القرن
الماضي و حتى منتصفه ممن عملوا
على تطوير القيمة الرموزية للغة
باعتبار أنها عاقل و باعتبار أنها
درس إيمائي و كاليغرافي..
لقد
أضاف هؤلاء المشايخ إلى اللغة غير
شعريتها كل المخزون التشكيلي و
الذي هو بدوره عبر عن تطور ذهن في
مجال الاختزال و التجريد. و كان
في مقدمة هؤلاء بعض أئمة فن
الكاليغرافي و لا سيما الأتراك أو
بالأحرى العثمانيين. و بعض رواد
فن التخييل أمثال التونسي محمود
المسعدي في عمله الهام حدثنا أبو
هريرة قال. و لم لا نذكر كذلك
أيقونته و الإشارة هنا لكتابه
الضخم ( السد ) الذي يجمع فيه زهد
أبي العلاء المعري مع أخيلة و
إلهيات دانتي مؤلف الكوميديا
الإلهية. أضف لما سلف مغامرات
لبعض النحويين أمثال الشيخ
عبدالمنعم الجرجاوي و العلامة خير
الدين الأسدي.
و أخص بالذكر
الأسدي لقد كانت تجربته بما تنطوي
عليه من قراءة لأسرار النفس لغوي
و النفس كتابي تشبه ما قدمه
القديس أوغسطين في إضفاء كل القيم
الوجودية على ظواهر العقيدة. و
كأنه يحاول أن يدمج الأفكار مع
النشاط الكتابي. أو أن يضيف إلى
الله نقائص البشرية و أزماتها. و
هذا بالانطلاق من مبدأ التجسيد و
الوحدانية.
و تبقى نقطة أخيرة
ليست ضرورية و لكنها مكملة. و هي
تحديد موقع شعرية أديب كمال الدين
من مجمل اهتمامات النثر- تصوفي.
فقد ترك التصوف أثره على عدد كبير
من الأدباء المعاصرين. و كانت هذه
الآثار تتقاطع و تتباعد و تقدم
صورة عن نشاط اجتماع سياسي أو
لغوي ينم عن أزمة اللاشعور و عن
مساحة الكبت مقابل مساحة الحرية
في الأدب المعاصر. لا يمكن أن
نتكلم عن نون أو عن سفينة تحمل
نقطة خصوبتها في بحر من مياه
جرداء هي أصل الحياة و هي سبب
الفناء و الدمار من غير الحديث عن
تجربة المدينة التي أرى أنها مجرد
انعكاس لمكونات العقل البورجوازي.
أو بعبارة مكشوفة: انعكاس لمدينة
الجزيرة الفاضلة كما فعل جمعة
اللامي رائد الحداثة في القصة
العربية منذ ستينات القرن
العشرين.
و قل ذات
الشيء عن المدينة المملوكية التي
تخصص جمال الغيطاني في تصوير
أقبيتها المظلمة حيث تختلط
العبادات مع الطقوس و حيث تتحول
المدينة إلى مجرد كلمة أو لنقل
إلى وعد غير محدد و ربما إلى تصور
عن ميتافيزياء الأجل الصامت.
و
أخيرا لقد كانت السيدة الناقدة
حياة الخياري بمستوى القصائد التي
أحسنت في التعبير عن خطابها و
أعتقد أن هذه الدراسة هي عبارة عن
مدخل لا بد منه لبحث مفصل يتناول
الصور و التراكيب و النواحي
الإنسانية التي تحاول لا تخلو
قصائد أديب كمال الدين منها.
هوامش :
باللغة الإنكليزية :
1 –
Jacques Derrida
... Acts In Literature ... ed.
Derek Attridge ... Rutledge
... 1992.
p78.
2-
ibid. p.80.
باللغة
العربية:
3 - حياة
الخياري
(أضف
نوناً- قراءة في "نون" أديب كمال
الدين). الدار العربية للعلوم
ناشرون. 2012
. ص 18
4 – مصدر
سابق. ص 22 .
5 – مصدر
سابق. ص 27 .
6 – نفس
المصدر. ص 77